مونتسكيو
مرسل: الثلاثاء إبريل 10, 2012 11:31 am
إن أهم ما ميز مرحلة القرن السادس عشر هو الحروب الدينية التي رسمت خطوطها العريضة ، و التي هي حسب "لوثر":( سوف تملأ العالم بالدماء).
فقد جعلت في ألمانيا تقسيمات الأراضي نضالا بين الأمراء مما ترتب عليهعدم ضرورة التشديد على المشكلة الأساسية المتعلقة بالحرية الدينية، و في الأراضي الواطئة les pays bas إتخذ النضال صورة ثورة ضد سيد اجنبي و انجلترا كما في اسبانيا أيضا خال تفوق السلطة الملكية دون نشوب الحرب الأهلية خلال القرن السادس عشر، و لكنه قد نشأ في فرنسا و اسكتلندا نضال طائفي هدد استقرار الشعبين و بهذا نشب في فرنسا في ما بين عامين 1562-1598 ما لا يقل عن ثماني حروب أهلية، تميزت بفضائع مثل: سانت بارتي لوميو و غيرها من الحروب الأهلية الأخرى، و جراء ذلك لم يتوقف الحكم المنظم فقط ، بل و تعرضت الحضارة نفسها في أوروبا إلى الخطر، و مع ذلك ففي القرن السادس عشر كانت فرنسا هي التي كتبت فيها أهم فصل في الفلسفة السياسية، و هنا ظهرت الاتجاهات الرئيسية المتعارضة في الفكر و التي طورت في الحروب الأهلية الانجليزية في القرن التالي.
فنظرية "حق الشعب" كدفاع عن الحق في المقاومة ، و "نظرية حق الملوك الإلاهي" كدعامة للوحدة الوطنية، كلتا النظريتين بدأت تاريخها كنظريات حديثة في فرنسا .
ومن خلال ما سبق ذكره فإن مركز ثقل الفكر السياسي في عصر التنوير انقلب لصالح فرنسا بواسطة كوكبة من المفكرين السياسيين الذين تفاعلوا من جراء تلك الأحداث و استطاعت آرائهم و تفكيرهم من بعث الوضع السياسي خاصة والحضاري عامة إلى مسار غير الذي كان عليه من قبل. و من بوثقة هؤلاء المفكرين نجد "مونتسكيو" المشهور بنظريته في الحرية و الفصل بين السلطات.
كل هذا و ذاك يدفعنا إلى طرح الاشكال التالي:
إلى أي مدى ساهم فكر مونتسكيو في إضفاء الديمقراطية السياسية و مشروعية نظام الحكم ؟؟؟ و إلى ما كان يهدف من نظرية احرية و الفصل بين السلطات ؟؟؟ و ما هو الجديد الذي أطرأه عليها ؟؟؟
و عليه نفرض أن حالة فرنسا السياسية أي وضعها المتميز بالفساد السياسي في تحول النظام الملكي إلى نظام استبدادي مطلق (مرض النظام) أو ربما للحد من السلطة السلطة التي كانت تمارس الحكم ، ومحاولة تشتيت الدولة الاستبدادية و اضعاف قواها من خلال تقسيم سلطتها.
لقد تطرقنا لموضوع الفكر السياسي عند مونتسكيو من خلال بحث تضمن فصلين يضم كل واحد منهما ثلاثة مباحث.
جاء قبل الفصل الأول مقمة تم التطرق من خلالها إلى حالة أوروبا في عصر التنوير و جاء بعد ذلك عنوان الفصل الأول تحت "البيئة و السيرة الذاتية لمونستكيو" و الذي تضمن ثلاث مباحث، حوى المبحث الأول واقع فرنسا في عصر التنوير ثم المبحث الثاني حياة مونتسكيو و أهم مؤلفاته، و المبحث الثالث تضمن كتاب روح القوانين و منهجه. و بتعريجنا للفصل الثاني الذي كان تحت عنوان "أفكاره و أهم آرائه السياسية". الذي تطرقنا من خلاله بالدراسة لفكرة القانون عند مونتسكيو كمبحث أول، تلاه بعد ذلك أشكال الحكومات و نظم الحكم عنده في المبحث الثاني، لننتهي إلى نظرية الحرية و الفصل بين السلطات في المبحث الثالث.
و في الأخير تأتي الخاتمة التي حاولنا من خلالها الإجابة على الاشكال المطروح ، و كذا إعطاء صورة تقييمية و حوصلة للموضوع.
كما تم الاعتماد في البحث على المنهج الوصفي التحليلي في جل البحث، أين قمنا بوصف و تحليل أهم أفكار و ةراء مونتسكيو السياسية.
"البيئة و السيرة الذاتية لمونتسكيو"
" سوف نتطرق من خلال هذا الفصل إلى الواقع الذي كانت عليه فرنسا في عصر التنوير و البيئة التي دفعت بمونتسكيو إلى كتابة أفكاره كما سوف نتطرق إلى حياته و نشأته و كذا إلى كتاب روح القوانين الذي يعد نتاج لتجربته الفكرية. "
مبحث أول : " واقع فرنسا في عصر التنوير"
كان لاتجهات التفكير السياسي الفرنسي في عصر لويس الرابع عشر أسباب سياسية تكاد تدور كلها حول تصرفات هذا الملك ، التي أدت إلى تطور الحالة السياسية في فرنسا تطورا ترك أثرا كطبيرلا في التفكير السياسي ، فقدحكم حكما يقوم على الملكية المطلقة المستبدة و كان طموحا يرمي إلى توسيع ملكه، و بعمل على تكوين امبراطورية كبيرة، و في سبيل ذلك قام بمغالامرات و حروب انتصر فيها في بادئ الأمر و كان لهذا الانتصار أثران هام أولهما ، انه صار محبوبا لدى الشعب مسموع الكلمة في أمته وثانيهما أن ملوك أوروبا و حكامها تكتلو ضده ليقفوا في وجه مطامعه. و ترتب على هذا التكتل أن توالم هزائمه و أخذ الشعب بتذمر و كانت في مقدمة هذا التذمر انتقاد الملكية المطلقة. إذ بدا الشعب يضيق ذرعا بتصرف الملكو أخذ الكتاب السياسيون يهتمون باعادة النظام السياسي القديم و طالبوا باعادة تكرين البلرمان الفرنسي.(1)
ولقد كانت الثورة الانجليزية 1688، و نشر مؤلفات جون لوك يشكلان خاتمة الفترة التي شهدتها الفلسفة السياسية الخلاقة في انجلترا و تبع ذلك فترة من الهدوء و الركود و أصبح الفكر السياسي الانجليزي ذا طابع محافظ و راضي بشكل عام عن الأوضاع القائمة في البلاد، و بناءا على هذا فقد انتقل مركز الثقل في مجال النظرية السياسية إلى فرنسا. منذ أواخر القرن السابع عشر إلى ما قبيل الثورة الفرنسية و كان هذا نتيجة من جراء سياسة لويس الرابع عشر. التي أثرت إلى الاذلال الخارجي و عن التدهور الخارجي حتى شارفغت البلاد على الافلاس، يضاف إلى ذلك طغيان أفكار لوك التي تعد الأساس التي تبنى عليه حركة التنوير الفرنسية في القرن الثامن عشر، كما يمكن القول عموما أن حركة الفكر السياسي الفرنسية شددت على فكرة القانون الطبيعي و الحقوق الطبيعية و المصلحة الذاتية المستنيرة، و عليه يجوز القول أن النظرية السياسية في القرن الثامن عشر بدأت تأخذ مركزها في فرنسا و التي بلغت ذروتها نتيجة سياسة لويس الرابع عشر القائمة على الملكية المطلقة و الحق الالاهي(2)
(1). غالي بطرس بطرس.عيسى محمود خيري. المدخل في علم السياسة.(القاهرة : المكتبة الأنجلو مصرية.ط7. ) 1989ص 100.
(2) محفوظ مهدي. اتجاهات الفكر السياسي في العصر الحديث.(لبنان: المؤسسة الجامعية للدراساتن و النشر و التوزيع.)1990.ص ص.101-02.
التاريخي ، فبعد فترة من المجد الذي عرفته فرنسا عسكريا فجاء لويس الرابع عشر و قابله بخطيئة الفشل الرئيسية نتيجة الفشل السياسي الذي ولده نظامه الذي لم يقتصر على المواطن العادي بل تعدى إلى طبقة النبلاء و الطبقة الوسطى التي بدات ترى في النظام القائم عدوا و عائقا في تطورها(1).
و من أهم مظاهر الفساد الذي عرفه نظام لويس 14 ، يمكن أن نجملها في الآتي:
• نظام لامتيازات المجحف الذي كان من خلاله الأشراف يستأثرون بأرفع مناصب الدولة المدنية منها و العسكرية.
• الكنيسة التي كانت لها ثروة طائلة من دخل الاراضي الموقوفة التي تمثل خمس أراضي فرنسا التي كان يسرفها كبار الكنيسة لمصالحهم الخاصة.
• حرمان النبلاء من السلطة السياسية بالرغم من كل الامتيازات التي كانت لهم إلا أن الملوك حاولوا الوقوف دون حصول هذه الطبقة على أية زعامة سياسية.
• تعغسف النظام الزراعي الذي لم يكن يهيأ للمزارعين الفرنسيين تكوين رؤوس أموال تجارية على عكس الحال في انجلترا.
• نظام الضرائب المجحف الذي كان يرهق المواطنين و تعنت الجباة في توزيع الضريبة، و كانت الضرائب تزاد تبعا بتزايد حالة الحكم لها.
• نظرة الاحتقار التي كانت تكنها الطبقة الوسطى المنتشرة في المدن الفرنسية إلى النبلاء و رجال الدين.
و ضمن هذه الظروف المتعددة من المظاهر الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية. ظهرت في فرنسا طائفة من الكتاب الذين وجدوا ضرورة في إزالة الدعائم التي يقوم عليها النظام المبني على الحكم المطلق و اللامساواة الاجتماعية و عدم التسامح في أمور الدين و الحماية و في أمور الاقتصاد. و الجدير بالذكر أيضا أن لكتابات جون لوك أثر كبير في المجتمع الفرنسي التي تبناها الكتاب الفرنسيين و وجدوا فيها الدعم و السند و أرضية خصبة في دعوتهم إلى القضاء.
و لعل من أهم المفكرين الذين تأثروا بهاته الأوضاع نجد "مونتسيكيو" الذي نحن بصدد دراسة آراءه و نتاجه الفكر.(2)
(1) نفس المرجع السابق ، نفس الصفحة.
(2) محفوظ ممهدي، مرجع سابق. ص ص.102-04.
مبحث ثاني: "حياة مونتسكيو و أهم مؤلفاته"
ولد مونتسكيو عام 1689م، من أسرة غنية تنتمي إلى أسرة غنية تنتمي إلى طبقة النبلاء البرلمانية في مقاطعة بوردو الفرنسية ، بعد اتمامه دراسته الثانوية انصرف إلى الدراسات القانونية ، وعند بلوغه السابعة و العشرين من العمر احتل مركز رئيس برلمان مدينة بوردو، الذي بقي فيه حوالي عشرة سنوات. خلال انشغاله بهذا المركز البرلماني أظهر مونتسكيو اهتماما خاصا بدراية الفيزياء و الفلسفة الأخلاقية و التاريخ و اعداد الابحاث العلمية.
و في عام 1721 صد مؤلفه الأول (الرسائل الفارسية) الذي لاقى نجاحا واسعا و كان له صدى كبير، أين فتح باب الشهرة أمام منتسكيو، و بعد تخليه عن منصبه كبرلماني قام منتسكيو بجولة طريلة استغرقت ثلاثة أعوام زار خلالها إيطاليا و النمسا و المجر، و سويسرا و البلدان الواطئة و انجلترا. حاول خلالها دراسة أشكال الحكم المختلفة و عادات الشعوب تقاليدها، و تاثير البيئة على عادات و تقاليد السكان. و بعد عودته إلى فرنسا بدا يستخلص العبر لملاحظاته التي كونها خلال جولته الطويلة و بالفعل و في عام 1734. نشر مؤلفه الثاني "أسباب عظمة الرومان و سقوطهم" و في عام 1748 نشر كتابه المشهور "روح القوانين" الذي يتضمن معظم الخطوط الرئيسية في فلسفة مونتسكيو السياسية.
و الذي قال في مطلعه :" عندما تركت المدرسة وضع انسان بين يدي كتبا عن القانون لأبحث فيها عن روح القوانين"و بالفعل هذا ما أثر اهتمامه في البحث في روح القوانين و وضع كتابه الشهير.(1)
(1) محفوظ مهدي. مرجع سابق. ص ص 106-07.
مبحث ثالث: "كتاب روح القوانين و منهجه"
بعد أن توصل مونتسكيو إلى نهاية جهده الشاق و اعتر ف و كان قد بلغ الستين من العمر و اضاف "أريد ان أرتاح و لن أعمل بعد الآن" .و يجب القول بأن افتخارا محقا بالنفس كان يراوده امام النتيجة. أمام هذا الولد المخلوق بدون أم حسب بعض العبر. و لقد كان مشروعه هذا ضخما و كان هو يعي ذلك(1).
و ما يظهر جليا في هذا المؤلف أن مونتسكيو حاتول نتيجة الجولة الطويلة التي قام بها في دول عديدجة أن يستنتج الخلاصة التالية و هي أن المجتمعات لا يمكن أن تتكون و تظهر بصورتها العفوية أو العتباطية بالعكس فإن تكونها و تظهورها يخضع قوانين ثابتة لا تتغير ذلك أن تاريخ أن أية أمة من الأمم لا يعكس إلا حالة من حالات تأثير هذه القوانين الثابتة عليها. و من هنا حاول مونتسكيو أن يشرح و يفسر طبيعة الأنظمة السياسية و مؤسساتها الاجتماعية لدى مختلف الأمم من خلال تأثير القوانين العامة عليها.(2).
و لقد كان مشروع مونتسكيو فعلا ضخما لأنه يتطرق لكل المؤسسات التي عرفها البشر و ينكب على دراسة القوانين و الأعراف المختلفة لكل شعوب الأرض من أجل أن يبين سببها و يكشف روحها. أما الروح فقد ركز عليها في عدة مناسبات فهو لمك يكن يبحث عن اسم القوانين و إنها عن روحها. و لم يكن يعتزم تدريس القوانين انما تدريس (طريقة تدريسها).
كما يشرح مونتسكيو موقفه في مقدمته المأثورة بعبارة جوهرية حيث قال :" لقد تفحصت أولا البشر و اعتقدت أنه في هذا التنوع الإنهائي للقوانين و العادات لم يكونوا فقط مسيرين بواسطة أهوائهم .لقد وضعت المبادئ و رأيت الحالات الخاصة تخضع لها من ذاتها. إن تواريخ كل الأمم ليست إلا توابع لهذه المبادئ و إن كل قانون خاص يرتبط بقانون آخر أو يخضع لقانون آخر أعم". و من خلال هذه المقولة نجد إيمان تا ملات بالعقل التاريخي في النظام ، بتسلسل الأسباب و بالسياق الرئيسي،و لكن قبل الوصول إلى هذا الاكتشاف كم من صعوبات و مشاكل من(3).
(1) جون جاك شوفالييه. تر: محمد عرب صاصيلا .تاريخ الفكر السياسي.(لبنان: المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع. ط4)1998.ص 406
(2) محفوط مهدي. مرجع سابق ذكره.ص 107.
(3)شوفالييه .مرجع سابق ذكره.ص 406-07.
شأنها تثبط عزيمة أكثر العاملين عنادا. على الأقل طالما أن مونتسيكيو لم يمتلك بعد مبادئه
حيث قال: " لقد بدات هذا العمل و تخليت عنه عدة مرات و رميت ألف مرة في الهواء الأوراق التي كنت قد كتبتها و كنت أشعر في كل الأيام أن الأيدي الرحيمة تسقط و كنت أتابع موضوعي دون تكوين هدف. و كنت لا أعرف لا القواعد و لا الاستثناءات. و لم أمن لأجد الحقيقة إلا لأفقدها. و لكن عندما اكتشفت مبادئي أتى إلي كل ما كنت أبحث عنه. و خلال عشرين سنة رأيت عملي يبدأ و ينموا و يتقدم و ينتهي". (1)
منهج مونتسكيو:
مونتسكيو من حيث الفلسفة دستوري و ليبرالي مثله مثل جون لوك، و يدين له بالشيء الكثير و لكنه من حيث المنهج لا ينطلق من مبادئ أولى كالمبادئ الرياضية و الهندسية بل من ملاحظة الواقع، كما أن ملاحظته لهذا الواقع أشمل من ملاحظة أي مفكر سياسي من قبله بما في ذلك أرسطو و ابن خلدون و ميكيافيلي و جون بودان. كون أرسطوا درس الدساتير اليونانية وحدها، و ابن خلدون اعتمد في استقرائه للتاريخ اكثر ما اعتمد التاريخ الاسلامي ، استقى ميكيافيلي أكثر معلوماته من التاريخ الروماني و كذلك فعل بودان. غير أن منتسكيو حاول أن يمد نظره للمنتظمات السياسية و القوانين لكل زمان و مكان و كان واثقا من أن هذه الملاحظة الشاملة سوف تمكنه من معرفة القوانين "كعلاقة ظرورية تستمد من طبيعة الأشياء"، و يصف D’ALEMBERT جهد مونتسيكيو في هذا السبيل فيقول: " إن مونتيسكيو لم ينتج في هذا الكتاب الهام على منوال الذين سبقوها فلم يسترسل في مناقشات ميتافيزيقية كتلك التي يسترسل فيها الذين يتصورون الانسان تصورا تجريديا. و لم يقتصر كسواه على تناول بعض الشعوب في أحوال خاصة ، لكنه تناول جميع سكان العالم و تطرق لأحوالهم الحقيقية و درس كل ما يقوم بينهم من علاقات" (2).
(1) نفس المرجع السابق .نفس الصفحة.
(2) صعب حسن. علم السياسة .(بيروت: دار العلم للملايين. ط7 )1981. ص ص 100-01.
" أفكاره و آرائه السياسية "
"نتطرق من خلال هذا الفصل إلى ابراز آراء و أفكار مونتسكيو من خلال تقديم نظرته للقانون و كذا أشكال الحكومات و نظم الحكم لنعرج إلى أهم نتاج فكري جاء به و اشتهر من خلاله ألا وهو نظرية الحرية و الفصل بين السلطات"
مبحث أول: " رؤيته إلى القانون"
اعتبر مونتسكيو نفسه مشرعا، و كغيره من مفكري عصره نظر إلى الطبيعة على أنها معيار القانون يقول مونتسكيو: دع الناس يتبعون الطبيعة و يستخدمون بذكاء ما تقدمه الطبيعة لهم. فإنهم سوف يرون الحقائق و يجدون الطريق الملائم لتأسيس النظام الاجتماعي الأحسن. و لكنه كان يرى أن تعاليم الطبيعة لا يجب أن تستقي من الاستنباطات العقلية المجردة.بل لابد من تلمسها خلال الوقائق و الحوادث التي وقعت و تقع في الحياة.و من ثم فلقد اصطبغ تفسيره للظاهرة الاجتماعية و للقانون الذي يحكمها بصبغة تاريخية موضوعية محسوسة.(1)
و على هذا النحو ينبثق القانون من حقائق اجتماعية و من علاقات تقوم بين هذه الحقائق. يقول مونتسكيو في افتتاحية الفصل الأول من كتابه روح القوانين "إن القوانين عبارة عن علاقات ضرورية تنبثق من طبيعة الأشياء ".
و الحق أن هذا التعريف قد قوبل بكثير من النقد و التهكم. لقد عرف القانون ابتداءا من أفلاطون حتى لوك بتعريفات مختلفة من أرجع القانون إلى العقل و منها من أرجعه إلى أوامر الصفوة أو الحكام. و لكن أحدا منهم لم يخاطر بتعريف القانون على أنه مجرد مجموعة من العلاقات. و أيا ما كان من فهمنا لتعريف مونتسكيو للقانون فإن أهم نقطة يمكن استخلاصها هي أن مونتسكيو يستبعد صفة القهرية أو الإلزامية عن القانون، و يرى أن كل ما يوجد يتضمن علاقة مزدوجة من العلة و المعلول و أن هذه العلاقة تفصح عن قانون وجود الشيء.
و لكن لما كان القانون ليس قهريا على هذا النحو .و لا يرتبط بقوة قهرية تجبر الناس على تنفيذه. فإنه لمن الواضح أنه هذا التعريف غير كاف.و من ثم فإن مونتسكيو يقدم صيغة يراها مناسبة و كافية لتغطية هذا النقص. و ينبغي أن نلاحظ منذ البداية أن روح القوانين و ليست القوانين ذاتها هي يغية هدف مونتسكيو. ذلك أنه يرى أنك إذا أردت أن تعلم الحقائق عن شعب ما فعليك أن تعرف روح القوانين المؤسسة لجوهر لا أن تتوقف عند أوامر الصفوة أو المشرعين.عليك أن تعرف كيف قامت القوانين.(2)
(1)محمد علي عبد المعطي. الفكر السياسي الغربي.( دار المعرفة الجامعية. )ص ص272-273.
(2) المرجع نفسه. ص274.
و أن تتعمق بداياتها و أن تعرف صلات العلة و المعلول فيها سواء في أصلها أو في تطورها و أن تكشف الوظائف المنوطة بها، و المبادئ التي تنطوي عليها.
إن تعريف مونتسكيو للقانون على النحو السابق هو تعريف عام ينطبق على المخلوقات العاقلة و غير العاقلة يقول مونتسكيو: " إن كل الموجودات لها قوانينها: الله له قوانيننه(حاشى لله).و العالم له قوانينه.و الانسان الكائن العاقل له قوانينه و للحيوانات أيضا لها قوانينها".و بالاضافة لذلك فإن هناك قوانين تعبر عن العلاقات التي تقوم بين هذه الموجودات.و يقرر مونتسكيو أن أعقد القوانين هي تلك التي تتصل بالإنسان.و أن الانسان وجد قبل أن توجد القوانين.يقول مونتسكيو و قبل أن توجد القوانين المنظمة لحياة الانسان كان هناك وجود إنساني يخضع لقوانين الطبيعة و تميز هذا الوجود الإنساني الأول بأن الإنسان فيه كان قريبا من الحيوان.
لم يتمتع الإنسان في الحالة الطبيعية الأولى بالمعرفة، كانت لديه فقط إمكانية المعرفة أو القدرة عليها. كان أول ما فكر فيه هو حفظ بقاء نفسه.و كان عليه أن يكيف جميع ظروفه لكي يحقق هذه الغاية. كانت دوافعه الأولى تتجه نحو تحقيق الأمن لنفسه.و لذلك سرعان ما كان ينقلب إلى وحش كاسر إذا ما أصابه جوع أو أحاط به خطر خارجي. و ما دام القانون يعبر عن علاقة قائمة بين حقائق موجودة في الواقع لذا كان أول قانون من قوانين الطبيعة هو قانون السلام .(1)و بعد تحقق حفظ بقاء النفس كان على الانسان الأول أو يحاوزل إرضاء رغباته و شهواته عن طريق الاتصال بالآخرين و التزاوج. و من ثم ظهر القانون الطبيعي الثاني و هو قانون السعادة الناتجة عن الاحتكاك و الاتصال بالآخرين.
و لقد نتج عن الاجتماع بالآخرين و عن التزاوج و التناسل قانون ثالث هو قانون حب الحياة الاجتماعية.و حينما بدا العقل في النضوج ظهر علة المسرح قانون طبيعي رابع هو قانون الرغبة العاقلة في الحياة في المجتمعات.
و حينما دخل الإنسان في دولة المجتمع فقد إحساسه بضعفه.و زالت المساواة بين الناس.و من ثم بدأت حالة الحرب. و تنتج حالة الحرب هذه عن طريقتين: طريق الأفراد من جهة، وطريق المجتمعات من جهة أخرى. (2)
(1) محمد علي عبد المعطي. مرجع سابق. ص 274.
(2) المرجع نفسه. ص 275.
فحينما يشعر الفرد بالأمن و السلام.و تنتهي عنده حالة الخوف و الجبن الأولى فإنه يبدأ في تقوية نفسه.و يحاول الاستفادة ما أمكنه و بقدر طاقته و قوته من مميزات حياته في المجتمع الذي ينتمي إليه.و تتعارض أهدافه بطبيعة الحال مع أهداف الآخرين. و من ثم تنشأ حالة الحرب بين الأفراد.و كذالك الأمر بالنسبة إلى المجتمعات ذلك أن كل مجتمع يحاول تقوية ذاته.و يتناسى خوف حالة الطبيعة الأولى.و يتخذ السمة العدوانية.و ها هنا تقوم حالة الحرب بين المجتمعات.
و يلزم نتيجة لحالة الحرب هذه سواء بين الأفراد أو المجتمعات أن يقوم القانون الوضعي الذي يحتوي ثلاثة أقسام:
1/ قانون الأمم: الذي يضبط العلاقات بين المجتمعات و الأمم. (1)
2/ القانون السياسي: الذي يضبط العلاقات بين الفرد و الآخر أو بين المواطن و المواطن داخل المجتمع الواحد.
3/ القانون المتحضر.
و واضح كما يقول maxey أن هذه الأنواع الثلاثة من القوانين ترتكز على العلاقات.و واضح أيضا أن قانون الأمم قانون عام يطبق على كل المجتمعات و يؤسس على المبدأ القائل بأن على كل أمة تفعل الخير في حالة السلام و أقل ضرر في حال الحرب.في حين أن القوانين السياسية و المتحضرة تختلف من دولة على أخرى. و تنتج عن تفاعل العقل الانساني مع الظروف الخاصة بكل دولة على حدة.
و يرى مونتسكيو أن القانون ىيرتبط ارتباطا علائقيا بنظام الحكومة، و بالأحوال الجوية .و بأحوال التربة و بالعادات و التقاليد و بالعرف و التجارة و المال.و بالدين ،يقول ابنستاين: " إن القوانين لها علاقات بالأحوال الجوية لكل مجتمع و بالدين و بالميول و بالأعداد و بالعادات و التقاليد.(2)
(1) محمد علي عبد المعطي. مرجع سابق. ص275.
(2) نفس المرجع. ص 276.
مبحث ثاني: "الحكومات و أشكالها عند مونتسكيو"
تخلى مونتسكيو عن التصنيف التقليدي للحكومات-ديمقراطية،أرستقراطية،موناركية- و قم هو الحكومات إلى : جمهورية، موناركية، استبدادية.إلا أن هذا التقسيم الثلاثي أصبح رباعيا عندما يقسم مونتسكيو الجمهورية إلى قسمين: ديمقراطية و أرستقراطية.و فيما يلي يمكن التعرض لكل نوع من هذه الأنواع:
1. الحكومة الجمهورية : republic
و يرى مونتسكيو أنها هي التي يكون للشعب فيها القدرة السيادية و تنقسم إلى :
أ) الجمهورية الديمقراطية: Democracy
يعرفها مونتسكيو بأنها: ذلك النظام الذي تتركز فيه السلطة في يد الشعب بكامل فئاته.فهو الذي يقوم باختيار الحكام الذين يصبحون مجرد وكلاء أو مندوبين في حكم البلاد.
و ريى في الاتجاه أن الذي يتحكم في كيان الجمهورية الديمقراطية و في تكوينها و في طبيعتها التي تتمثل في تقسيم الشعب إلى مظهرين متكاملين و متعارضين.ففي أحد هذين المظهرين يكون الشعب حاكما و في الآخر يكون محكوما.
و يكون الشعب حاكما بواسطة الانتخابات التي يعبر عن إرادته العامة.و لذلك تكون قوانين الانتخابات حجرا أساسا في شكل النظام الجمهوري الديمقراطي.(1)
وقد كان مونتسكيو من أنصار توسيع القاعدة الانتخابية كي يتمكن أفراد الشعب من المشاركة في إدارة شؤون بلادهم.فيجب أن تسود الحكم الديمقراطي المساواة التامة بين جميع أفراد الشعب حتى يتمتع الشعب كله بما يتمتع به أولائك الذين اختارهم لتولي مقاليد الحكم. و تسود المجتمع روح العدالة.
و يوصفه صاحب السيادة يقوم الشعب بنفسه بإنجاز كل المهام التي يستطيع القيام بها و يترك تنفيذ الأمور التي لا يستطيع القيام بها إلى وزراء و موظفين يقوم هو باختيارهم .(2)
(1) إسماعيل محمد فضل الله. رواد الفكر السياسي الحديث.(السكندرية: مكتبة بستان المعرفة.) 2005. ص 56.
(2) نفس المرجع. ص 57.
و تلعب مساحة الدولة دورا كبيرا-في عملية الحكم- عند مونتيسكيو فمن طبيعة الحكم الديمقراطي أن تكون مساحة أرضه صغيرة و إلا لما استطاع الشعب القيام بالحكم.
كما أن الصالح العام الذي يضحي به باستمرار في الجمهورية الكبيرة يكون في جمهورية ضغيرة صغيرة أكثر صلابة و أسهل في التعرف عليه و أقرب إلى الوطن. و هذه هي الشروط المفيدة للاحتفاظ بالحجر الأساسي للديمقراطية و يبدوا هنا تأثر مونتسكيو بما كان مطبقا في المدن اليونانية القديمة.
أما المبدأ الذي تقوم عليه الديمقراطية و الذي يقوم بتحريكها فهو في الواقع القوة الخلقية أو الفضيلة.و المقصود هنا الفضيلة السياسية التي تتطلب من الانسان التضحية المستمرة بنفسه و بأنانيته و فوضويته و رغباته و كل ما يميل إليه في سبيل الدولة و الصالح العام.
و بما أن الدولة لا يمكنها الاستغناء عن الفضيلة لذا يجب على الحكومة الديمقراطية العناية بالتربية حتى يمكن تعليم الأطفال حب القانون (1) و الوطن مما يجعلهم يفضلون الصالح العام على مصلحتهم الشخصية، و يجب على الإنسان أن يحب الحكومة لكي يعمل على بقائها.
و يجب على القوانين أن تحرم البذخ و الترف بما في ذلك توزيع الملكية فالترف يقود الإنسان إلى السعي لتحقيق رغبات لا حد لها، و ينحرف بل و ينحدر نظام الحكم إذا انتفت روح المساواة كلية أو حتى إذا ما بولغ فيها، و بالتالي تفقد الفضيلة قيمتها.
ب) الجمهورية الأرستقراطية: Aristocracy
و هي الحكومة التي تكون السلطة فيها في يد جماعة من أفراد الشعب هو الأشراف أو النبلاء.و كلما كان عدد الجماعة كبيرا كلما كانت الحكومة أقرب إلى الديمقراطية و بالتالي كانت أكمل.
فالأرستقراطية عند مونتسكيو نوع محدود و مركز يتناول فيه السلطة أشخاص بحكم مولدهم و تربيتهم. (2)
(1) إسماعيل محمدفضل الله . مرجع سابق. ص57.
(2) اتلمرجع نفسه. ص 58.
أما مبدأ الأرستقراطية فهو ليس الفضيلة. فهناك حيث تتفاوت الملكية الفردية تفاوتا كبيرا. تنعدم الفضيلة و لذلك يجب على القوانين أن تنادي بروح الاعتدال هذه الروح التي يجب أن تسود في الطبقة الحاكمة طبقة الأمراء حتى تحد من سلطان هذه الطبقة.
هذان هما النوعان اللذان تنقسم إليهما الحكومة الجمهورية عند مونتسكيو و من الجدير بالذكر أن مونتسكيو لم يناد بإقامة الحكومة (1) .الجمهورية لأن الحكم الجمهوري في رأيه حكم مضى حيث أنه لا يصلح إلى في دويلات صغيرة مثل الدويلات اليونانية و الرومانية القديمة. و لأن الدولة في عصره اتسعت و زاد حجمها و من هنا يصعب إقامة مثل هذه الحكومة هذا من ناحية و من ناحية أخرى فقد رأى هذا الأخير أن الجمهورية الديمقراطية تقوم على مبدأ الفضيلة، و الناس في عصره تتكالب إلى طلب الرفاهية مما أدى إلى القضاء على الفضيلة.
2. الحكومة الموناركية أو الملكية: monarchy
و هذه الحكومة التي تكون السلطة فيها لفرد واحد و لكنه يحكم بقوانين ثابتة و مقامة،و هي عين أسس المملكة، قوانين أساسية يكون ثباتها عقبة أمام إرادة الملك المؤقتة و ذات النزوات.
و يرى مونتسكيو أنه في ظل نظام الحكم الملكي توجد جماعات ولكل جماعة فضائلها و شرفها و روحها الخاصة. و كل من هذه الجماعات تسمو بنفسها على الأخرى أو تنافسها، و من هنا تولد الامتيازات التي ينفرد بها فريق دون فريق فكل من هذه الجماعات تعمل من أجل الحفاظ على بقائها و الدفاع عن امتيازاتها.
من شأن هذا الاتجاه أن يحد من السيادة في جميع وجوهها و يجعل من الملكية المطلقة –في أصلها- ملكية مختلطة تضم إلى جانب الملك طبقة النبلاء التي بغيرها تتحول إلى استبداد. و طبقة رجال الدين التي لا تلتقي في مصالحها مع الجمهورية و لكن مع الملكية.و المجالس النيابية التي تسهر على رعاية القوانين الأساسية. أضف إلى ذلك المدن بامتيازتها المتباينة و الجماعات و الهيئات بما تتضمنه من أوجه اختلاف في ما بينها.
و بقاء الملكية رهين ببقاء هؤلاء الوسطاء،و هذه الامتيازات المختلفة لأنها تقوم على التوفيق(2)
(1) محمد إسماعيل فضل الله. مرجع سابق. ص 58.
(2) نفس المرجع. ص 59.
بين هذه المصالح المتعارضة المتضاربة و خضوع الحاكم المطلق لقوانينها الأساسية. أما إذا ما ألغيت هذه الامتيازات آلت الملكية إلى دولة شعبية أو استبدادية.
و الفضيلة السياسية التي يرتكز عليها النظام الملكي و التي تزيد من قوة القوانين هي الشرف أو المركز لكل شخص و لكل طبقة.
و من هنا يتضح أن المقصود من الشرف ليس هو القيمة الأخلاقية العامة و لكن معنى خاص أقرب إلى شيء شريف منه إلى الشرف نفسه، و هي الرغبة في الحصول على وسامات و تشريفات.
و لكن هذا الحكومة التي ترتبط بمثل هذا المبدأ الحساس سرعان ما تكون معرضة لخطر الانحراف عندما تسلب سلطات الوساطة من واجباتها بحيث لا يستطيعون الوقوف أمام السلطة المطلقة للملك. عندئذ تنقلب الملكية إلى حكم فردي.
فالملكية تذهب و تتلاشى عندما يعتدى الملك على امتيازات الهيئات، و امتيازات المدن "فيرد كل شيء إلى نفسه . يرد الدولة إلى عاصمته.و يرد العاصمة إلى بلاطه،و يرد البلاد إلى شخصه".
و يبدو أن مونتسكيو كان يقصد بذلك لويس الرابع عشر و ما جمعه بين يديه من تركيز هائل للسلطات. (1)
3. الحكومة الاستبدادية: Despotism
و هي الحكومة التي تعتمد على شخص واحد دون قواعد و قوانين.و هذا الشخص يعتمد في إدارته للدولة على إرادته.
و يرى مونتسكيو أن مبدأ هذا الشكل هو الخوف حيث يقوم الحاكم الطاغية بالبطش و التنكيل و العنف و الإرهاب ضد كل من يبدي ٍرأيا، أو يبتكر عملا، أو يتفوه بقول و بديهي أن الحاكم هنا يخاف الجماهير كما تخاف الجماهير الحاكم.
إن النظام الاستبدادي يهدف فقط إل السيطرة على مقدرات الدولة و ليس إلا تحقيق الخير للأفرادو هوفي ذلك لا يشعر بما تعانيه الرعية من ظلم و آلام كما أن القرارات التي تصدر(2)
(1) محمد إسماعيل فضل الله .مرجع سباق.ص70.
(2) نفس المرجع ص 71.
عن الحاكم تتسم بأنها غير مبنية على أساس سليم. حيث أنها قرارات حماسية تصدر عن انفعالات جامحة و ليس عن ترو و حسن إدراك لحالة الشعب و مطالبه.
ففي الوقت الذي كان النظام الموناركي يوفر الحماية للنبلاء و الأشراف و رجال الدين فإن النظام الاستبدادي لا يوفر الحماية لأحد انطلاقا من أن الكل متساوون و الكل يخضعون خضوعا تاما للحاكم.
إلا أن هذه المساواة التي تسود الشعب في ظل النظام الاستبدادي يختلف مفهومها عن مفهوم المساواة في ظل النظام الديمقراطي،فالنظام الديمقراطي ينظر إلى الناس على أنهم متساوون من حيث هم أفراد ينتمون إلى شعب واحد، فيهم و من أجلهم قامت الدولة، و الشعب هو الحاكم و الرعية في نفس الوقت. (1)
أما المساواة في النظام الاستبدادي فتعني تساوي الجميع من حيث أنهم لا يعنون شيئا، فالجميع تافهون لا يساوون شيئا،و هو يتساوون في العبودية و الخضوع لإرادة الحاكم المستبد، و ليس لهم أي إرادة في حكم البلاد.
إن مونتسكيو قد أقام تقسيمه لأشكال الحكومات على أساس طبيعة النظام من جهة و على أساس المبدأ من جهة أخرى.
كذلك يرى أن القوانين و التشريعات تختلف من شكل إلى آخر. فالقوانين في الدمقراطيات يجب أن تتجه إلى تأكيد حب المساواة و ممارسة الأمور الاقتصادية ممارسة سليمة و متوازنة .و الأرستقراطيات يجب أن تتجه نحو الحد من اتجاه الطبقة الارستقراطية نحو الثراء و الغنى على حساب المحكومين.و في الموناركيات يجب أن تتجه القوانين نحو حماية و تمجيد سمات النبالة.أما الحاكم المستبد فلا يستند إلى قانون و لا يرتبط بأي تشريع.
و من ناحية حجم الدولة يرى مونتسكيو أن كل نوع من أنواع هذه الحكومات يكون ملائما لحجم خاص من أحجام الدول.فالحكومة الجمهورية -ديمقراطية و أرستقراطية- تلائم شعبا محدود لعدد.و الحكومة الملكية تلائم شعبا متوسطا، أما الاستبدادية تناسب شعبا كبير العدد. (2)
(1) محمد إسماعيل فضل الله. مرجع سابق. ص 71.
(2) نفس المرجع ص 72.
ما هو نظام الحكم الأمثل و المفضل عند مونتسكيو ؟؟؟
إن مونتسكيو لا يرى في الديمقراطية المحضة نظاما يطفأ ظمأه و يحقق حلمه، ذلك لأنها قد تنزلق إلى الاستبداد حينما تستبد الأغلبية بآرائها، لذا يتجه صاحب "روح القوانين" إلى الأرستقراطية ليرى فيها نظاما معتدلا ينشد فيه غايته، إلا أن كراهيته للاستبداد جعلته يرى في أن الارستقراطية ما يجعلها تنزلق هي الأخرى إلى الاستبداد إذا ما حاول الملك القضاء على القوانين التي يحكم بمقتضاها و إذا ما حاول أن يقضي على الهيئات التي تعاونه في حكم البلاد من نبلاء و رجال الدين.
لقد وجد مونتسكيو ضالته في الحكومة المختلطة( الملكية الأرستقراطية المحاطة ببعض النظم الديمقراطية) ، في حكومة لديها مزايا أشكال الحكومات المختلفة فتوفق بينها، في حكومة تتجمع فيها كل القوى لتقف بالمرصاد لذلك الفناء الذي يهدد الدول على الدوام ألا وهو الاستبداد. (1)
(1) محمد إسماعيل فضل الله. مرجع سابق. ص73.
مبحث ثالث: "الحرية و الفصل بين السلطات"
إن نظرية مونتسكيو عن الحرية هي أعظم نتاجاته .و أكثر أفكاره خصوبة و ثراء.و من ثم فقد احتلت مكانة سامية في نسقه السياسي و الفلسفي.
و لعل السبب في ذلك هو ما كانت تعانيه فرنسا في هذا الوقت من الخضوع تحت نير الحكم الاستبدادي المطلق، فكان مونتسيو يريد أن يخلص بلاده من هذا الاستبداد الذي كان يعتبره مرض النظم السياسية الذي يهددها بالفناء.
و قد رأى مونتسكيو أن الحريات السياسية توجد في الحكومات إلا أن ذلك ليس بقاعدة عامة .فقد لا توجد هذه الحريات في بعض الحكومات المعتدلة، و يقترب من الحكومة المعتدلة كل نظم الحكم ما عدا الحكم الفردي المبنى على القوة، و مع ذلك فقليل من الحكومات يصل إلى درجة الحكومات المعتدلة.(1)
و يتسائل مونتسكيو عن مفهوم الحرية السياسية لأنها كلمة الحرية تحتوي على معان كثيرة فقد أطلق كل فرد على نظام الحكم الذي يتفق و عاداته و ميوله لفظ حرية، و ليست الحرية السياسية أن يفعل الانسان ما يريد و لكن أن يستطيع الفرد أن يفعل ما يريد في حدود ما يسمح به القانون، و لا يجبر على فعل ما لا يرغب و ما هو ممنوع.
فالحرية عند مونتسكيو مستمدة من سلطة القانون.و التي تعني حرية الشعب، و لان الرحية هي الحق في ان يفعل الانسان كل شيء ما حدود ما تسمح به القوانين. فإنه إذا ما استطاع أي مواطن أن يفعل ما ترحمه القوانين فإنه يفقد بذلك حريته.لأن الآخرين يتمتعون بنفس الحرية .و لكي يحصل الانسان على الحرية السياسية يجب أن تتخذ الحكومة شكلا خاصا لا يخاف في ظله المواطن الحر.
و لكن كيف يمكن المحافظة على هذذه الحرية ؟؟. إن السبيل الوحيد الذي يضمن المحافظة على الحرية هو ضرورة الفصل بين السلطات. و قد كان مونتسكيو متأثرا بالفكر و الواقع الانجليزي .فلقد ميز لوك كما سبق الذكر بين السلطات و جاب مونتسكيو فخرج فكرة لوك عن التمييز بين السلطات تخريجا جديدا.(2)
(1) محمد ابراهيم فضل الله. مرجع سابق.ص 64.
(2) المرجع نفسه. ص65.
جاعلا منها مبدأ من مبادئ المذهب الحر. ثم أخذ يستعين بالنظام البرلماني الانجليزي.كما كان قائما في زمنه كنظام مثالي في نظره لأنه نظام مختلط. قوامه ملك و هيئات تتوسط بينه و بين الشعب.و برلمان يتولى التشريع بينما يتولى الملك التنفيذ.
و مونتسيكيو إذ يطيل في كتاب "روح القوانين" الكلام عن ذلك النظام الانجليزي يريد أن يجهل منه مثالا لحكومته المختلطة التي لا تدع مجالا للاستبداد.و يأمن في ظلها المواطن على حريته بفضل فصل بين سلطاتها. (1)
و لقد أكد مونتسكيو على فكرة الفصل اقتناعا منه بأنه ما من فرد يتمتع بسلطة إلا و يميل إلى التعسف في استعمالها، و هو بلا شك مستمر في تعسفه مصر عليه حتى يصدم بمن يوقفه.و لا يوقف السلطة إلا السلطة و لا سبيل لوقف السلطة إذا تولى مباشرة السلطات الثلاث-تشريع القوانين،و تنفيذها، الفصل في منازعات الأفراد- رجل واحد أو هيئة واحدة سواء أكانت من النبلاء أو من الشعب.و أنه لا حرية في ظل اجتماع السلطتين التشريعية و التنفيذية في شخص واحد أو في هيئة واحدة، ذلك لأن هذا الوضع يمكن ذلك الفرد أو الهيئة من تشريع القوانين جائزة و تنفيذها بطرق جائرة أيضا.
كذلك لا حرية البتة إذا لم تنفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية و التنفيذية، ذلك لأن اجتماعها مع التشريع لشخص أو هيئة واحدة من شأنه أن يجعل السلطة على حياة المواطنين و حرياتهم تحكيمية لأن القاضي سيصبح في هذه الحالة مشرع أيضا.
و إذا اجتمعت السلطة القضائية مع السلطة التنفيذية استطاع أن يكون له جبروت مطلق، أما إذا اجتمعت السلطات الثلاث لشخص واحد أو لهيئة واحدة فتلك هي مأساة الحرية و طامتها الكبرى.
هكذا فقد ميز مونتسكيو بين ثلاث سلطات تقوم في الدولة هي :
1. السلطة التشريعية:
و هي التي تصدر القواعد العامة التي تحدد سلوك الأفراد داخل المجتمع، هذه القواعد التي تتمثل في شكل نصوص عامة أو قوانين تسري على كافة المواطنين. (2)
(1) محمد اسماعيل فضل الله. مرجع سابق. ص65.
(2) نفس المرجع.ص 66.
2. السلطة النفيذية:
و هي التي تقوم بتنفيذ القوانين. تنفيذا يوميا كما تسهر على استقلال الوطن و سلامة أراضيه و حمايته من الاعتداء الخارجي.و تنشر الأمن و الطمأنينة لكل المقيمين به.
3. السلطة القضائية:
و هي التي تقوم بالفصل في الخصومات التي يمكن أن تنشأ بين الأفراد و تعاقب على الجرائم التي يمكن أن يرتكبوها.
و على الرغم من أن مونتسكيو لم يمن أول من قال بهذه الفكرة فانه يظل صاحب الفضل الأول في نشرها بما خلعه عليها من عمق و فكر و أصالة.
لقد كانت نظريته في الفصل بين السلطات متكونة من شقين:
الشق الأول: أنه يجب التمييز بين السلطات الثلاث: التشريعية ،التنفيذية،القضائية فوضع كل منها في يد مستقلة ،فالتمييز أو الفصل بين السلطات هو تمييز موضوعي و عضوي في نفس الوقت.(1)
فكل سلطة لها نشاطاتها الخاصة.و كل سلطة تقوم عليها هيئة أو عضو لا يقوم على الهيئات الأخرى.
الشق الثاني: أن هذا الفصل بين السلطات يجب أن يكون محققا للغاية التي قام من أجلها و هذه الغاية تتمثل في عبارة مونتسكيو " يجب أن توقف السلطة السلطة".
و لكي تتحقق هذه الغاية يجب أن تكون لها القدرة على الاعتراض على لاقوانين التي تتعارض مع مصلحة المجتمع، و السلطة القضائية يجب أن تكون لها هي أيضا القدرة على الوقوف في وجه أعمال السلطة التنفيذية المخالفة للقانون.
و تحقيق هذه الغاية يحتم بالضرورة ألا يكون الفصل تاما. فخير وسيلة لأن توقف السلطة السلطة أن يكون لكل منها "القدرة على المنع" أي القدرة على منع السلطات الأخرى من المضي في طغيانها،و هذا يتطلب بالضرورة أن يكون هناك حد أدنى من الصلة بين السلطات الثلاث،و من ثم فإن ذلك يعني الإشارة إلى تنسيق الجهود و التعاون مما يؤكد أن الفصل بين السلطات ليس جامدا أو مطلقا و إنما هو فصل مرن.(2)
(1) محمد اسماعيل فضل الله. مرجع سابق.ص 66.
(2) نفس المرجع. 68.
خـاتمة:
مما سبق يتضح أنه كان للتشكيلة الفريدة في فكر مونتسكيو و المكونة من التاريخ والعقل و الدراية التامة و الاهتمام بالمستقبل و الملاحظة الموضوعية و الرغبة في الاصلاح أثرها في أن جعلت منه أحدا من أكثر المفكرين السياسيين البارزين في العصر الحديث.
و كان مبدأ الفصل بين السلطات من أهم ما جاء به هذا الأخير من فكر. فلم يقتصر أثر هذا المبدأ على الصعيد المحلي بل أنه صار معتقدا عالميا فالمادة السادسة عشرة من اعلان حقوق الإنسان تقضي بأن " كل مجتمع لا تتأمن فيه ضمان حقوق الإنسان و لا يتكرس فيه مبدأ الفصل بين السلطات. ليس له دستور ".
كذلك كان لفكرة مونتسكيو عن الحرية و لأسلوبه في حمايتها أثر كبير في نفوس رجال الثورة1789 الفرنسية مما كان له صداه في وثائق هذه الثورة و دساتيرها.و كان له أثره أيضا في دستور الولايات المتحدة الأمريكية من قبل.
كان مونتسكيو متأثرا بأحداث عصره و ثقافة حضارته شأنه شأن أي مفكر، و لكن جوهر أعماله اتسمت بطابع العالمية و الدوام.
فلم يترك وراءه قطعا أدبية خالدة و لم يترك خلفه فلسفة سياسية عميقة بقدر ما ترك لنا منهجا للفكر و السياسة على السواء، و منهجه هذا يذكرنا دائما بعقل ناضج و قواعد أبدية و حقائق خالدة. حيث يقول في هذا الشأن "داننج" إن مكانة مونتسكيو كفيلسوف سياسي ترجع إلى مجال بحثه و إلى منهجه الدقيق و كذلك إلى نظريته في الحرية.
فقد جعلت في ألمانيا تقسيمات الأراضي نضالا بين الأمراء مما ترتب عليهعدم ضرورة التشديد على المشكلة الأساسية المتعلقة بالحرية الدينية، و في الأراضي الواطئة les pays bas إتخذ النضال صورة ثورة ضد سيد اجنبي و انجلترا كما في اسبانيا أيضا خال تفوق السلطة الملكية دون نشوب الحرب الأهلية خلال القرن السادس عشر، و لكنه قد نشأ في فرنسا و اسكتلندا نضال طائفي هدد استقرار الشعبين و بهذا نشب في فرنسا في ما بين عامين 1562-1598 ما لا يقل عن ثماني حروب أهلية، تميزت بفضائع مثل: سانت بارتي لوميو و غيرها من الحروب الأهلية الأخرى، و جراء ذلك لم يتوقف الحكم المنظم فقط ، بل و تعرضت الحضارة نفسها في أوروبا إلى الخطر، و مع ذلك ففي القرن السادس عشر كانت فرنسا هي التي كتبت فيها أهم فصل في الفلسفة السياسية، و هنا ظهرت الاتجاهات الرئيسية المتعارضة في الفكر و التي طورت في الحروب الأهلية الانجليزية في القرن التالي.
فنظرية "حق الشعب" كدفاع عن الحق في المقاومة ، و "نظرية حق الملوك الإلاهي" كدعامة للوحدة الوطنية، كلتا النظريتين بدأت تاريخها كنظريات حديثة في فرنسا .
ومن خلال ما سبق ذكره فإن مركز ثقل الفكر السياسي في عصر التنوير انقلب لصالح فرنسا بواسطة كوكبة من المفكرين السياسيين الذين تفاعلوا من جراء تلك الأحداث و استطاعت آرائهم و تفكيرهم من بعث الوضع السياسي خاصة والحضاري عامة إلى مسار غير الذي كان عليه من قبل. و من بوثقة هؤلاء المفكرين نجد "مونتسكيو" المشهور بنظريته في الحرية و الفصل بين السلطات.
كل هذا و ذاك يدفعنا إلى طرح الاشكال التالي:
إلى أي مدى ساهم فكر مونتسكيو في إضفاء الديمقراطية السياسية و مشروعية نظام الحكم ؟؟؟ و إلى ما كان يهدف من نظرية احرية و الفصل بين السلطات ؟؟؟ و ما هو الجديد الذي أطرأه عليها ؟؟؟
و عليه نفرض أن حالة فرنسا السياسية أي وضعها المتميز بالفساد السياسي في تحول النظام الملكي إلى نظام استبدادي مطلق (مرض النظام) أو ربما للحد من السلطة السلطة التي كانت تمارس الحكم ، ومحاولة تشتيت الدولة الاستبدادية و اضعاف قواها من خلال تقسيم سلطتها.
لقد تطرقنا لموضوع الفكر السياسي عند مونتسكيو من خلال بحث تضمن فصلين يضم كل واحد منهما ثلاثة مباحث.
جاء قبل الفصل الأول مقمة تم التطرق من خلالها إلى حالة أوروبا في عصر التنوير و جاء بعد ذلك عنوان الفصل الأول تحت "البيئة و السيرة الذاتية لمونستكيو" و الذي تضمن ثلاث مباحث، حوى المبحث الأول واقع فرنسا في عصر التنوير ثم المبحث الثاني حياة مونتسكيو و أهم مؤلفاته، و المبحث الثالث تضمن كتاب روح القوانين و منهجه. و بتعريجنا للفصل الثاني الذي كان تحت عنوان "أفكاره و أهم آرائه السياسية". الذي تطرقنا من خلاله بالدراسة لفكرة القانون عند مونتسكيو كمبحث أول، تلاه بعد ذلك أشكال الحكومات و نظم الحكم عنده في المبحث الثاني، لننتهي إلى نظرية الحرية و الفصل بين السلطات في المبحث الثالث.
و في الأخير تأتي الخاتمة التي حاولنا من خلالها الإجابة على الاشكال المطروح ، و كذا إعطاء صورة تقييمية و حوصلة للموضوع.
كما تم الاعتماد في البحث على المنهج الوصفي التحليلي في جل البحث، أين قمنا بوصف و تحليل أهم أفكار و ةراء مونتسكيو السياسية.
"البيئة و السيرة الذاتية لمونتسكيو"
" سوف نتطرق من خلال هذا الفصل إلى الواقع الذي كانت عليه فرنسا في عصر التنوير و البيئة التي دفعت بمونتسكيو إلى كتابة أفكاره كما سوف نتطرق إلى حياته و نشأته و كذا إلى كتاب روح القوانين الذي يعد نتاج لتجربته الفكرية. "
مبحث أول : " واقع فرنسا في عصر التنوير"
كان لاتجهات التفكير السياسي الفرنسي في عصر لويس الرابع عشر أسباب سياسية تكاد تدور كلها حول تصرفات هذا الملك ، التي أدت إلى تطور الحالة السياسية في فرنسا تطورا ترك أثرا كطبيرلا في التفكير السياسي ، فقدحكم حكما يقوم على الملكية المطلقة المستبدة و كان طموحا يرمي إلى توسيع ملكه، و بعمل على تكوين امبراطورية كبيرة، و في سبيل ذلك قام بمغالامرات و حروب انتصر فيها في بادئ الأمر و كان لهذا الانتصار أثران هام أولهما ، انه صار محبوبا لدى الشعب مسموع الكلمة في أمته وثانيهما أن ملوك أوروبا و حكامها تكتلو ضده ليقفوا في وجه مطامعه. و ترتب على هذا التكتل أن توالم هزائمه و أخذ الشعب بتذمر و كانت في مقدمة هذا التذمر انتقاد الملكية المطلقة. إذ بدا الشعب يضيق ذرعا بتصرف الملكو أخذ الكتاب السياسيون يهتمون باعادة النظام السياسي القديم و طالبوا باعادة تكرين البلرمان الفرنسي.(1)
ولقد كانت الثورة الانجليزية 1688، و نشر مؤلفات جون لوك يشكلان خاتمة الفترة التي شهدتها الفلسفة السياسية الخلاقة في انجلترا و تبع ذلك فترة من الهدوء و الركود و أصبح الفكر السياسي الانجليزي ذا طابع محافظ و راضي بشكل عام عن الأوضاع القائمة في البلاد، و بناءا على هذا فقد انتقل مركز الثقل في مجال النظرية السياسية إلى فرنسا. منذ أواخر القرن السابع عشر إلى ما قبيل الثورة الفرنسية و كان هذا نتيجة من جراء سياسة لويس الرابع عشر. التي أثرت إلى الاذلال الخارجي و عن التدهور الخارجي حتى شارفغت البلاد على الافلاس، يضاف إلى ذلك طغيان أفكار لوك التي تعد الأساس التي تبنى عليه حركة التنوير الفرنسية في القرن الثامن عشر، كما يمكن القول عموما أن حركة الفكر السياسي الفرنسية شددت على فكرة القانون الطبيعي و الحقوق الطبيعية و المصلحة الذاتية المستنيرة، و عليه يجوز القول أن النظرية السياسية في القرن الثامن عشر بدأت تأخذ مركزها في فرنسا و التي بلغت ذروتها نتيجة سياسة لويس الرابع عشر القائمة على الملكية المطلقة و الحق الالاهي(2)
(1). غالي بطرس بطرس.عيسى محمود خيري. المدخل في علم السياسة.(القاهرة : المكتبة الأنجلو مصرية.ط7. ) 1989ص 100.
(2) محفوظ مهدي. اتجاهات الفكر السياسي في العصر الحديث.(لبنان: المؤسسة الجامعية للدراساتن و النشر و التوزيع.)1990.ص ص.101-02.
التاريخي ، فبعد فترة من المجد الذي عرفته فرنسا عسكريا فجاء لويس الرابع عشر و قابله بخطيئة الفشل الرئيسية نتيجة الفشل السياسي الذي ولده نظامه الذي لم يقتصر على المواطن العادي بل تعدى إلى طبقة النبلاء و الطبقة الوسطى التي بدات ترى في النظام القائم عدوا و عائقا في تطورها(1).
و من أهم مظاهر الفساد الذي عرفه نظام لويس 14 ، يمكن أن نجملها في الآتي:
• نظام لامتيازات المجحف الذي كان من خلاله الأشراف يستأثرون بأرفع مناصب الدولة المدنية منها و العسكرية.
• الكنيسة التي كانت لها ثروة طائلة من دخل الاراضي الموقوفة التي تمثل خمس أراضي فرنسا التي كان يسرفها كبار الكنيسة لمصالحهم الخاصة.
• حرمان النبلاء من السلطة السياسية بالرغم من كل الامتيازات التي كانت لهم إلا أن الملوك حاولوا الوقوف دون حصول هذه الطبقة على أية زعامة سياسية.
• تعغسف النظام الزراعي الذي لم يكن يهيأ للمزارعين الفرنسيين تكوين رؤوس أموال تجارية على عكس الحال في انجلترا.
• نظام الضرائب المجحف الذي كان يرهق المواطنين و تعنت الجباة في توزيع الضريبة، و كانت الضرائب تزاد تبعا بتزايد حالة الحكم لها.
• نظرة الاحتقار التي كانت تكنها الطبقة الوسطى المنتشرة في المدن الفرنسية إلى النبلاء و رجال الدين.
و ضمن هذه الظروف المتعددة من المظاهر الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية. ظهرت في فرنسا طائفة من الكتاب الذين وجدوا ضرورة في إزالة الدعائم التي يقوم عليها النظام المبني على الحكم المطلق و اللامساواة الاجتماعية و عدم التسامح في أمور الدين و الحماية و في أمور الاقتصاد. و الجدير بالذكر أيضا أن لكتابات جون لوك أثر كبير في المجتمع الفرنسي التي تبناها الكتاب الفرنسيين و وجدوا فيها الدعم و السند و أرضية خصبة في دعوتهم إلى القضاء.
و لعل من أهم المفكرين الذين تأثروا بهاته الأوضاع نجد "مونتسيكيو" الذي نحن بصدد دراسة آراءه و نتاجه الفكر.(2)
(1) نفس المرجع السابق ، نفس الصفحة.
(2) محفوظ ممهدي، مرجع سابق. ص ص.102-04.
مبحث ثاني: "حياة مونتسكيو و أهم مؤلفاته"
ولد مونتسكيو عام 1689م، من أسرة غنية تنتمي إلى أسرة غنية تنتمي إلى طبقة النبلاء البرلمانية في مقاطعة بوردو الفرنسية ، بعد اتمامه دراسته الثانوية انصرف إلى الدراسات القانونية ، وعند بلوغه السابعة و العشرين من العمر احتل مركز رئيس برلمان مدينة بوردو، الذي بقي فيه حوالي عشرة سنوات. خلال انشغاله بهذا المركز البرلماني أظهر مونتسكيو اهتماما خاصا بدراية الفيزياء و الفلسفة الأخلاقية و التاريخ و اعداد الابحاث العلمية.
و في عام 1721 صد مؤلفه الأول (الرسائل الفارسية) الذي لاقى نجاحا واسعا و كان له صدى كبير، أين فتح باب الشهرة أمام منتسكيو، و بعد تخليه عن منصبه كبرلماني قام منتسكيو بجولة طريلة استغرقت ثلاثة أعوام زار خلالها إيطاليا و النمسا و المجر، و سويسرا و البلدان الواطئة و انجلترا. حاول خلالها دراسة أشكال الحكم المختلفة و عادات الشعوب تقاليدها، و تاثير البيئة على عادات و تقاليد السكان. و بعد عودته إلى فرنسا بدا يستخلص العبر لملاحظاته التي كونها خلال جولته الطويلة و بالفعل و في عام 1734. نشر مؤلفه الثاني "أسباب عظمة الرومان و سقوطهم" و في عام 1748 نشر كتابه المشهور "روح القوانين" الذي يتضمن معظم الخطوط الرئيسية في فلسفة مونتسكيو السياسية.
و الذي قال في مطلعه :" عندما تركت المدرسة وضع انسان بين يدي كتبا عن القانون لأبحث فيها عن روح القوانين"و بالفعل هذا ما أثر اهتمامه في البحث في روح القوانين و وضع كتابه الشهير.(1)
(1) محفوظ مهدي. مرجع سابق. ص ص 106-07.
مبحث ثالث: "كتاب روح القوانين و منهجه"
بعد أن توصل مونتسكيو إلى نهاية جهده الشاق و اعتر ف و كان قد بلغ الستين من العمر و اضاف "أريد ان أرتاح و لن أعمل بعد الآن" .و يجب القول بأن افتخارا محقا بالنفس كان يراوده امام النتيجة. أمام هذا الولد المخلوق بدون أم حسب بعض العبر. و لقد كان مشروعه هذا ضخما و كان هو يعي ذلك(1).
و ما يظهر جليا في هذا المؤلف أن مونتسكيو حاتول نتيجة الجولة الطويلة التي قام بها في دول عديدجة أن يستنتج الخلاصة التالية و هي أن المجتمعات لا يمكن أن تتكون و تظهر بصورتها العفوية أو العتباطية بالعكس فإن تكونها و تظهورها يخضع قوانين ثابتة لا تتغير ذلك أن تاريخ أن أية أمة من الأمم لا يعكس إلا حالة من حالات تأثير هذه القوانين الثابتة عليها. و من هنا حاول مونتسكيو أن يشرح و يفسر طبيعة الأنظمة السياسية و مؤسساتها الاجتماعية لدى مختلف الأمم من خلال تأثير القوانين العامة عليها.(2).
و لقد كان مشروع مونتسكيو فعلا ضخما لأنه يتطرق لكل المؤسسات التي عرفها البشر و ينكب على دراسة القوانين و الأعراف المختلفة لكل شعوب الأرض من أجل أن يبين سببها و يكشف روحها. أما الروح فقد ركز عليها في عدة مناسبات فهو لمك يكن يبحث عن اسم القوانين و إنها عن روحها. و لم يكن يعتزم تدريس القوانين انما تدريس (طريقة تدريسها).
كما يشرح مونتسكيو موقفه في مقدمته المأثورة بعبارة جوهرية حيث قال :" لقد تفحصت أولا البشر و اعتقدت أنه في هذا التنوع الإنهائي للقوانين و العادات لم يكونوا فقط مسيرين بواسطة أهوائهم .لقد وضعت المبادئ و رأيت الحالات الخاصة تخضع لها من ذاتها. إن تواريخ كل الأمم ليست إلا توابع لهذه المبادئ و إن كل قانون خاص يرتبط بقانون آخر أو يخضع لقانون آخر أعم". و من خلال هذه المقولة نجد إيمان تا ملات بالعقل التاريخي في النظام ، بتسلسل الأسباب و بالسياق الرئيسي،و لكن قبل الوصول إلى هذا الاكتشاف كم من صعوبات و مشاكل من(3).
(1) جون جاك شوفالييه. تر: محمد عرب صاصيلا .تاريخ الفكر السياسي.(لبنان: المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع. ط4)1998.ص 406
(2) محفوط مهدي. مرجع سابق ذكره.ص 107.
(3)شوفالييه .مرجع سابق ذكره.ص 406-07.
شأنها تثبط عزيمة أكثر العاملين عنادا. على الأقل طالما أن مونتسيكيو لم يمتلك بعد مبادئه
حيث قال: " لقد بدات هذا العمل و تخليت عنه عدة مرات و رميت ألف مرة في الهواء الأوراق التي كنت قد كتبتها و كنت أشعر في كل الأيام أن الأيدي الرحيمة تسقط و كنت أتابع موضوعي دون تكوين هدف. و كنت لا أعرف لا القواعد و لا الاستثناءات. و لم أمن لأجد الحقيقة إلا لأفقدها. و لكن عندما اكتشفت مبادئي أتى إلي كل ما كنت أبحث عنه. و خلال عشرين سنة رأيت عملي يبدأ و ينموا و يتقدم و ينتهي". (1)
منهج مونتسكيو:
مونتسكيو من حيث الفلسفة دستوري و ليبرالي مثله مثل جون لوك، و يدين له بالشيء الكثير و لكنه من حيث المنهج لا ينطلق من مبادئ أولى كالمبادئ الرياضية و الهندسية بل من ملاحظة الواقع، كما أن ملاحظته لهذا الواقع أشمل من ملاحظة أي مفكر سياسي من قبله بما في ذلك أرسطو و ابن خلدون و ميكيافيلي و جون بودان. كون أرسطوا درس الدساتير اليونانية وحدها، و ابن خلدون اعتمد في استقرائه للتاريخ اكثر ما اعتمد التاريخ الاسلامي ، استقى ميكيافيلي أكثر معلوماته من التاريخ الروماني و كذلك فعل بودان. غير أن منتسكيو حاول أن يمد نظره للمنتظمات السياسية و القوانين لكل زمان و مكان و كان واثقا من أن هذه الملاحظة الشاملة سوف تمكنه من معرفة القوانين "كعلاقة ظرورية تستمد من طبيعة الأشياء"، و يصف D’ALEMBERT جهد مونتسيكيو في هذا السبيل فيقول: " إن مونتيسكيو لم ينتج في هذا الكتاب الهام على منوال الذين سبقوها فلم يسترسل في مناقشات ميتافيزيقية كتلك التي يسترسل فيها الذين يتصورون الانسان تصورا تجريديا. و لم يقتصر كسواه على تناول بعض الشعوب في أحوال خاصة ، لكنه تناول جميع سكان العالم و تطرق لأحوالهم الحقيقية و درس كل ما يقوم بينهم من علاقات" (2).
(1) نفس المرجع السابق .نفس الصفحة.
(2) صعب حسن. علم السياسة .(بيروت: دار العلم للملايين. ط7 )1981. ص ص 100-01.
" أفكاره و آرائه السياسية "
"نتطرق من خلال هذا الفصل إلى ابراز آراء و أفكار مونتسكيو من خلال تقديم نظرته للقانون و كذا أشكال الحكومات و نظم الحكم لنعرج إلى أهم نتاج فكري جاء به و اشتهر من خلاله ألا وهو نظرية الحرية و الفصل بين السلطات"
مبحث أول: " رؤيته إلى القانون"
اعتبر مونتسكيو نفسه مشرعا، و كغيره من مفكري عصره نظر إلى الطبيعة على أنها معيار القانون يقول مونتسكيو: دع الناس يتبعون الطبيعة و يستخدمون بذكاء ما تقدمه الطبيعة لهم. فإنهم سوف يرون الحقائق و يجدون الطريق الملائم لتأسيس النظام الاجتماعي الأحسن. و لكنه كان يرى أن تعاليم الطبيعة لا يجب أن تستقي من الاستنباطات العقلية المجردة.بل لابد من تلمسها خلال الوقائق و الحوادث التي وقعت و تقع في الحياة.و من ثم فلقد اصطبغ تفسيره للظاهرة الاجتماعية و للقانون الذي يحكمها بصبغة تاريخية موضوعية محسوسة.(1)
و على هذا النحو ينبثق القانون من حقائق اجتماعية و من علاقات تقوم بين هذه الحقائق. يقول مونتسكيو في افتتاحية الفصل الأول من كتابه روح القوانين "إن القوانين عبارة عن علاقات ضرورية تنبثق من طبيعة الأشياء ".
و الحق أن هذا التعريف قد قوبل بكثير من النقد و التهكم. لقد عرف القانون ابتداءا من أفلاطون حتى لوك بتعريفات مختلفة من أرجع القانون إلى العقل و منها من أرجعه إلى أوامر الصفوة أو الحكام. و لكن أحدا منهم لم يخاطر بتعريف القانون على أنه مجرد مجموعة من العلاقات. و أيا ما كان من فهمنا لتعريف مونتسكيو للقانون فإن أهم نقطة يمكن استخلاصها هي أن مونتسكيو يستبعد صفة القهرية أو الإلزامية عن القانون، و يرى أن كل ما يوجد يتضمن علاقة مزدوجة من العلة و المعلول و أن هذه العلاقة تفصح عن قانون وجود الشيء.
و لكن لما كان القانون ليس قهريا على هذا النحو .و لا يرتبط بقوة قهرية تجبر الناس على تنفيذه. فإنه لمن الواضح أنه هذا التعريف غير كاف.و من ثم فإن مونتسكيو يقدم صيغة يراها مناسبة و كافية لتغطية هذا النقص. و ينبغي أن نلاحظ منذ البداية أن روح القوانين و ليست القوانين ذاتها هي يغية هدف مونتسكيو. ذلك أنه يرى أنك إذا أردت أن تعلم الحقائق عن شعب ما فعليك أن تعرف روح القوانين المؤسسة لجوهر لا أن تتوقف عند أوامر الصفوة أو المشرعين.عليك أن تعرف كيف قامت القوانين.(2)
(1)محمد علي عبد المعطي. الفكر السياسي الغربي.( دار المعرفة الجامعية. )ص ص272-273.
(2) المرجع نفسه. ص274.
و أن تتعمق بداياتها و أن تعرف صلات العلة و المعلول فيها سواء في أصلها أو في تطورها و أن تكشف الوظائف المنوطة بها، و المبادئ التي تنطوي عليها.
إن تعريف مونتسكيو للقانون على النحو السابق هو تعريف عام ينطبق على المخلوقات العاقلة و غير العاقلة يقول مونتسكيو: " إن كل الموجودات لها قوانينها: الله له قوانيننه(حاشى لله).و العالم له قوانينه.و الانسان الكائن العاقل له قوانينه و للحيوانات أيضا لها قوانينها".و بالاضافة لذلك فإن هناك قوانين تعبر عن العلاقات التي تقوم بين هذه الموجودات.و يقرر مونتسكيو أن أعقد القوانين هي تلك التي تتصل بالإنسان.و أن الانسان وجد قبل أن توجد القوانين.يقول مونتسكيو و قبل أن توجد القوانين المنظمة لحياة الانسان كان هناك وجود إنساني يخضع لقوانين الطبيعة و تميز هذا الوجود الإنساني الأول بأن الإنسان فيه كان قريبا من الحيوان.
لم يتمتع الإنسان في الحالة الطبيعية الأولى بالمعرفة، كانت لديه فقط إمكانية المعرفة أو القدرة عليها. كان أول ما فكر فيه هو حفظ بقاء نفسه.و كان عليه أن يكيف جميع ظروفه لكي يحقق هذه الغاية. كانت دوافعه الأولى تتجه نحو تحقيق الأمن لنفسه.و لذلك سرعان ما كان ينقلب إلى وحش كاسر إذا ما أصابه جوع أو أحاط به خطر خارجي. و ما دام القانون يعبر عن علاقة قائمة بين حقائق موجودة في الواقع لذا كان أول قانون من قوانين الطبيعة هو قانون السلام .(1)و بعد تحقق حفظ بقاء النفس كان على الانسان الأول أو يحاوزل إرضاء رغباته و شهواته عن طريق الاتصال بالآخرين و التزاوج. و من ثم ظهر القانون الطبيعي الثاني و هو قانون السعادة الناتجة عن الاحتكاك و الاتصال بالآخرين.
و لقد نتج عن الاجتماع بالآخرين و عن التزاوج و التناسل قانون ثالث هو قانون حب الحياة الاجتماعية.و حينما بدا العقل في النضوج ظهر علة المسرح قانون طبيعي رابع هو قانون الرغبة العاقلة في الحياة في المجتمعات.
و حينما دخل الإنسان في دولة المجتمع فقد إحساسه بضعفه.و زالت المساواة بين الناس.و من ثم بدأت حالة الحرب. و تنتج حالة الحرب هذه عن طريقتين: طريق الأفراد من جهة، وطريق المجتمعات من جهة أخرى. (2)
(1) محمد علي عبد المعطي. مرجع سابق. ص 274.
(2) المرجع نفسه. ص 275.
فحينما يشعر الفرد بالأمن و السلام.و تنتهي عنده حالة الخوف و الجبن الأولى فإنه يبدأ في تقوية نفسه.و يحاول الاستفادة ما أمكنه و بقدر طاقته و قوته من مميزات حياته في المجتمع الذي ينتمي إليه.و تتعارض أهدافه بطبيعة الحال مع أهداف الآخرين. و من ثم تنشأ حالة الحرب بين الأفراد.و كذالك الأمر بالنسبة إلى المجتمعات ذلك أن كل مجتمع يحاول تقوية ذاته.و يتناسى خوف حالة الطبيعة الأولى.و يتخذ السمة العدوانية.و ها هنا تقوم حالة الحرب بين المجتمعات.
و يلزم نتيجة لحالة الحرب هذه سواء بين الأفراد أو المجتمعات أن يقوم القانون الوضعي الذي يحتوي ثلاثة أقسام:
1/ قانون الأمم: الذي يضبط العلاقات بين المجتمعات و الأمم. (1)
2/ القانون السياسي: الذي يضبط العلاقات بين الفرد و الآخر أو بين المواطن و المواطن داخل المجتمع الواحد.
3/ القانون المتحضر.
و واضح كما يقول maxey أن هذه الأنواع الثلاثة من القوانين ترتكز على العلاقات.و واضح أيضا أن قانون الأمم قانون عام يطبق على كل المجتمعات و يؤسس على المبدأ القائل بأن على كل أمة تفعل الخير في حالة السلام و أقل ضرر في حال الحرب.في حين أن القوانين السياسية و المتحضرة تختلف من دولة على أخرى. و تنتج عن تفاعل العقل الانساني مع الظروف الخاصة بكل دولة على حدة.
و يرى مونتسكيو أن القانون ىيرتبط ارتباطا علائقيا بنظام الحكومة، و بالأحوال الجوية .و بأحوال التربة و بالعادات و التقاليد و بالعرف و التجارة و المال.و بالدين ،يقول ابنستاين: " إن القوانين لها علاقات بالأحوال الجوية لكل مجتمع و بالدين و بالميول و بالأعداد و بالعادات و التقاليد.(2)
(1) محمد علي عبد المعطي. مرجع سابق. ص275.
(2) نفس المرجع. ص 276.
مبحث ثاني: "الحكومات و أشكالها عند مونتسكيو"
تخلى مونتسكيو عن التصنيف التقليدي للحكومات-ديمقراطية،أرستقراطية،موناركية- و قم هو الحكومات إلى : جمهورية، موناركية، استبدادية.إلا أن هذا التقسيم الثلاثي أصبح رباعيا عندما يقسم مونتسكيو الجمهورية إلى قسمين: ديمقراطية و أرستقراطية.و فيما يلي يمكن التعرض لكل نوع من هذه الأنواع:
1. الحكومة الجمهورية : republic
و يرى مونتسكيو أنها هي التي يكون للشعب فيها القدرة السيادية و تنقسم إلى :
أ) الجمهورية الديمقراطية: Democracy
يعرفها مونتسكيو بأنها: ذلك النظام الذي تتركز فيه السلطة في يد الشعب بكامل فئاته.فهو الذي يقوم باختيار الحكام الذين يصبحون مجرد وكلاء أو مندوبين في حكم البلاد.
و ريى في الاتجاه أن الذي يتحكم في كيان الجمهورية الديمقراطية و في تكوينها و في طبيعتها التي تتمثل في تقسيم الشعب إلى مظهرين متكاملين و متعارضين.ففي أحد هذين المظهرين يكون الشعب حاكما و في الآخر يكون محكوما.
و يكون الشعب حاكما بواسطة الانتخابات التي يعبر عن إرادته العامة.و لذلك تكون قوانين الانتخابات حجرا أساسا في شكل النظام الجمهوري الديمقراطي.(1)
وقد كان مونتسكيو من أنصار توسيع القاعدة الانتخابية كي يتمكن أفراد الشعب من المشاركة في إدارة شؤون بلادهم.فيجب أن تسود الحكم الديمقراطي المساواة التامة بين جميع أفراد الشعب حتى يتمتع الشعب كله بما يتمتع به أولائك الذين اختارهم لتولي مقاليد الحكم. و تسود المجتمع روح العدالة.
و يوصفه صاحب السيادة يقوم الشعب بنفسه بإنجاز كل المهام التي يستطيع القيام بها و يترك تنفيذ الأمور التي لا يستطيع القيام بها إلى وزراء و موظفين يقوم هو باختيارهم .(2)
(1) إسماعيل محمد فضل الله. رواد الفكر السياسي الحديث.(السكندرية: مكتبة بستان المعرفة.) 2005. ص 56.
(2) نفس المرجع. ص 57.
و تلعب مساحة الدولة دورا كبيرا-في عملية الحكم- عند مونتيسكيو فمن طبيعة الحكم الديمقراطي أن تكون مساحة أرضه صغيرة و إلا لما استطاع الشعب القيام بالحكم.
كما أن الصالح العام الذي يضحي به باستمرار في الجمهورية الكبيرة يكون في جمهورية ضغيرة صغيرة أكثر صلابة و أسهل في التعرف عليه و أقرب إلى الوطن. و هذه هي الشروط المفيدة للاحتفاظ بالحجر الأساسي للديمقراطية و يبدوا هنا تأثر مونتسكيو بما كان مطبقا في المدن اليونانية القديمة.
أما المبدأ الذي تقوم عليه الديمقراطية و الذي يقوم بتحريكها فهو في الواقع القوة الخلقية أو الفضيلة.و المقصود هنا الفضيلة السياسية التي تتطلب من الانسان التضحية المستمرة بنفسه و بأنانيته و فوضويته و رغباته و كل ما يميل إليه في سبيل الدولة و الصالح العام.
و بما أن الدولة لا يمكنها الاستغناء عن الفضيلة لذا يجب على الحكومة الديمقراطية العناية بالتربية حتى يمكن تعليم الأطفال حب القانون (1) و الوطن مما يجعلهم يفضلون الصالح العام على مصلحتهم الشخصية، و يجب على الإنسان أن يحب الحكومة لكي يعمل على بقائها.
و يجب على القوانين أن تحرم البذخ و الترف بما في ذلك توزيع الملكية فالترف يقود الإنسان إلى السعي لتحقيق رغبات لا حد لها، و ينحرف بل و ينحدر نظام الحكم إذا انتفت روح المساواة كلية أو حتى إذا ما بولغ فيها، و بالتالي تفقد الفضيلة قيمتها.
ب) الجمهورية الأرستقراطية: Aristocracy
و هي الحكومة التي تكون السلطة فيها في يد جماعة من أفراد الشعب هو الأشراف أو النبلاء.و كلما كان عدد الجماعة كبيرا كلما كانت الحكومة أقرب إلى الديمقراطية و بالتالي كانت أكمل.
فالأرستقراطية عند مونتسكيو نوع محدود و مركز يتناول فيه السلطة أشخاص بحكم مولدهم و تربيتهم. (2)
(1) إسماعيل محمدفضل الله . مرجع سابق. ص57.
(2) اتلمرجع نفسه. ص 58.
أما مبدأ الأرستقراطية فهو ليس الفضيلة. فهناك حيث تتفاوت الملكية الفردية تفاوتا كبيرا. تنعدم الفضيلة و لذلك يجب على القوانين أن تنادي بروح الاعتدال هذه الروح التي يجب أن تسود في الطبقة الحاكمة طبقة الأمراء حتى تحد من سلطان هذه الطبقة.
هذان هما النوعان اللذان تنقسم إليهما الحكومة الجمهورية عند مونتسكيو و من الجدير بالذكر أن مونتسكيو لم يناد بإقامة الحكومة (1) .الجمهورية لأن الحكم الجمهوري في رأيه حكم مضى حيث أنه لا يصلح إلى في دويلات صغيرة مثل الدويلات اليونانية و الرومانية القديمة. و لأن الدولة في عصره اتسعت و زاد حجمها و من هنا يصعب إقامة مثل هذه الحكومة هذا من ناحية و من ناحية أخرى فقد رأى هذا الأخير أن الجمهورية الديمقراطية تقوم على مبدأ الفضيلة، و الناس في عصره تتكالب إلى طلب الرفاهية مما أدى إلى القضاء على الفضيلة.
2. الحكومة الموناركية أو الملكية: monarchy
و هذه الحكومة التي تكون السلطة فيها لفرد واحد و لكنه يحكم بقوانين ثابتة و مقامة،و هي عين أسس المملكة، قوانين أساسية يكون ثباتها عقبة أمام إرادة الملك المؤقتة و ذات النزوات.
و يرى مونتسكيو أنه في ظل نظام الحكم الملكي توجد جماعات ولكل جماعة فضائلها و شرفها و روحها الخاصة. و كل من هذه الجماعات تسمو بنفسها على الأخرى أو تنافسها، و من هنا تولد الامتيازات التي ينفرد بها فريق دون فريق فكل من هذه الجماعات تعمل من أجل الحفاظ على بقائها و الدفاع عن امتيازاتها.
من شأن هذا الاتجاه أن يحد من السيادة في جميع وجوهها و يجعل من الملكية المطلقة –في أصلها- ملكية مختلطة تضم إلى جانب الملك طبقة النبلاء التي بغيرها تتحول إلى استبداد. و طبقة رجال الدين التي لا تلتقي في مصالحها مع الجمهورية و لكن مع الملكية.و المجالس النيابية التي تسهر على رعاية القوانين الأساسية. أضف إلى ذلك المدن بامتيازتها المتباينة و الجماعات و الهيئات بما تتضمنه من أوجه اختلاف في ما بينها.
و بقاء الملكية رهين ببقاء هؤلاء الوسطاء،و هذه الامتيازات المختلفة لأنها تقوم على التوفيق(2)
(1) محمد إسماعيل فضل الله. مرجع سابق. ص 58.
(2) نفس المرجع. ص 59.
بين هذه المصالح المتعارضة المتضاربة و خضوع الحاكم المطلق لقوانينها الأساسية. أما إذا ما ألغيت هذه الامتيازات آلت الملكية إلى دولة شعبية أو استبدادية.
و الفضيلة السياسية التي يرتكز عليها النظام الملكي و التي تزيد من قوة القوانين هي الشرف أو المركز لكل شخص و لكل طبقة.
و من هنا يتضح أن المقصود من الشرف ليس هو القيمة الأخلاقية العامة و لكن معنى خاص أقرب إلى شيء شريف منه إلى الشرف نفسه، و هي الرغبة في الحصول على وسامات و تشريفات.
و لكن هذا الحكومة التي ترتبط بمثل هذا المبدأ الحساس سرعان ما تكون معرضة لخطر الانحراف عندما تسلب سلطات الوساطة من واجباتها بحيث لا يستطيعون الوقوف أمام السلطة المطلقة للملك. عندئذ تنقلب الملكية إلى حكم فردي.
فالملكية تذهب و تتلاشى عندما يعتدى الملك على امتيازات الهيئات، و امتيازات المدن "فيرد كل شيء إلى نفسه . يرد الدولة إلى عاصمته.و يرد العاصمة إلى بلاطه،و يرد البلاد إلى شخصه".
و يبدو أن مونتسكيو كان يقصد بذلك لويس الرابع عشر و ما جمعه بين يديه من تركيز هائل للسلطات. (1)
3. الحكومة الاستبدادية: Despotism
و هي الحكومة التي تعتمد على شخص واحد دون قواعد و قوانين.و هذا الشخص يعتمد في إدارته للدولة على إرادته.
و يرى مونتسكيو أن مبدأ هذا الشكل هو الخوف حيث يقوم الحاكم الطاغية بالبطش و التنكيل و العنف و الإرهاب ضد كل من يبدي ٍرأيا، أو يبتكر عملا، أو يتفوه بقول و بديهي أن الحاكم هنا يخاف الجماهير كما تخاف الجماهير الحاكم.
إن النظام الاستبدادي يهدف فقط إل السيطرة على مقدرات الدولة و ليس إلا تحقيق الخير للأفرادو هوفي ذلك لا يشعر بما تعانيه الرعية من ظلم و آلام كما أن القرارات التي تصدر(2)
(1) محمد إسماعيل فضل الله .مرجع سباق.ص70.
(2) نفس المرجع ص 71.
عن الحاكم تتسم بأنها غير مبنية على أساس سليم. حيث أنها قرارات حماسية تصدر عن انفعالات جامحة و ليس عن ترو و حسن إدراك لحالة الشعب و مطالبه.
ففي الوقت الذي كان النظام الموناركي يوفر الحماية للنبلاء و الأشراف و رجال الدين فإن النظام الاستبدادي لا يوفر الحماية لأحد انطلاقا من أن الكل متساوون و الكل يخضعون خضوعا تاما للحاكم.
إلا أن هذه المساواة التي تسود الشعب في ظل النظام الاستبدادي يختلف مفهومها عن مفهوم المساواة في ظل النظام الديمقراطي،فالنظام الديمقراطي ينظر إلى الناس على أنهم متساوون من حيث هم أفراد ينتمون إلى شعب واحد، فيهم و من أجلهم قامت الدولة، و الشعب هو الحاكم و الرعية في نفس الوقت. (1)
أما المساواة في النظام الاستبدادي فتعني تساوي الجميع من حيث أنهم لا يعنون شيئا، فالجميع تافهون لا يساوون شيئا،و هو يتساوون في العبودية و الخضوع لإرادة الحاكم المستبد، و ليس لهم أي إرادة في حكم البلاد.
إن مونتسكيو قد أقام تقسيمه لأشكال الحكومات على أساس طبيعة النظام من جهة و على أساس المبدأ من جهة أخرى.
كذلك يرى أن القوانين و التشريعات تختلف من شكل إلى آخر. فالقوانين في الدمقراطيات يجب أن تتجه إلى تأكيد حب المساواة و ممارسة الأمور الاقتصادية ممارسة سليمة و متوازنة .و الأرستقراطيات يجب أن تتجه نحو الحد من اتجاه الطبقة الارستقراطية نحو الثراء و الغنى على حساب المحكومين.و في الموناركيات يجب أن تتجه القوانين نحو حماية و تمجيد سمات النبالة.أما الحاكم المستبد فلا يستند إلى قانون و لا يرتبط بأي تشريع.
و من ناحية حجم الدولة يرى مونتسكيو أن كل نوع من أنواع هذه الحكومات يكون ملائما لحجم خاص من أحجام الدول.فالحكومة الجمهورية -ديمقراطية و أرستقراطية- تلائم شعبا محدود لعدد.و الحكومة الملكية تلائم شعبا متوسطا، أما الاستبدادية تناسب شعبا كبير العدد. (2)
(1) محمد إسماعيل فضل الله. مرجع سابق. ص 71.
(2) نفس المرجع ص 72.
ما هو نظام الحكم الأمثل و المفضل عند مونتسكيو ؟؟؟
إن مونتسكيو لا يرى في الديمقراطية المحضة نظاما يطفأ ظمأه و يحقق حلمه، ذلك لأنها قد تنزلق إلى الاستبداد حينما تستبد الأغلبية بآرائها، لذا يتجه صاحب "روح القوانين" إلى الأرستقراطية ليرى فيها نظاما معتدلا ينشد فيه غايته، إلا أن كراهيته للاستبداد جعلته يرى في أن الارستقراطية ما يجعلها تنزلق هي الأخرى إلى الاستبداد إذا ما حاول الملك القضاء على القوانين التي يحكم بمقتضاها و إذا ما حاول أن يقضي على الهيئات التي تعاونه في حكم البلاد من نبلاء و رجال الدين.
لقد وجد مونتسكيو ضالته في الحكومة المختلطة( الملكية الأرستقراطية المحاطة ببعض النظم الديمقراطية) ، في حكومة لديها مزايا أشكال الحكومات المختلفة فتوفق بينها، في حكومة تتجمع فيها كل القوى لتقف بالمرصاد لذلك الفناء الذي يهدد الدول على الدوام ألا وهو الاستبداد. (1)
(1) محمد إسماعيل فضل الله. مرجع سابق. ص73.
مبحث ثالث: "الحرية و الفصل بين السلطات"
إن نظرية مونتسكيو عن الحرية هي أعظم نتاجاته .و أكثر أفكاره خصوبة و ثراء.و من ثم فقد احتلت مكانة سامية في نسقه السياسي و الفلسفي.
و لعل السبب في ذلك هو ما كانت تعانيه فرنسا في هذا الوقت من الخضوع تحت نير الحكم الاستبدادي المطلق، فكان مونتسيو يريد أن يخلص بلاده من هذا الاستبداد الذي كان يعتبره مرض النظم السياسية الذي يهددها بالفناء.
و قد رأى مونتسكيو أن الحريات السياسية توجد في الحكومات إلا أن ذلك ليس بقاعدة عامة .فقد لا توجد هذه الحريات في بعض الحكومات المعتدلة، و يقترب من الحكومة المعتدلة كل نظم الحكم ما عدا الحكم الفردي المبنى على القوة، و مع ذلك فقليل من الحكومات يصل إلى درجة الحكومات المعتدلة.(1)
و يتسائل مونتسكيو عن مفهوم الحرية السياسية لأنها كلمة الحرية تحتوي على معان كثيرة فقد أطلق كل فرد على نظام الحكم الذي يتفق و عاداته و ميوله لفظ حرية، و ليست الحرية السياسية أن يفعل الانسان ما يريد و لكن أن يستطيع الفرد أن يفعل ما يريد في حدود ما يسمح به القانون، و لا يجبر على فعل ما لا يرغب و ما هو ممنوع.
فالحرية عند مونتسكيو مستمدة من سلطة القانون.و التي تعني حرية الشعب، و لان الرحية هي الحق في ان يفعل الانسان كل شيء ما حدود ما تسمح به القوانين. فإنه إذا ما استطاع أي مواطن أن يفعل ما ترحمه القوانين فإنه يفقد بذلك حريته.لأن الآخرين يتمتعون بنفس الحرية .و لكي يحصل الانسان على الحرية السياسية يجب أن تتخذ الحكومة شكلا خاصا لا يخاف في ظله المواطن الحر.
و لكن كيف يمكن المحافظة على هذذه الحرية ؟؟. إن السبيل الوحيد الذي يضمن المحافظة على الحرية هو ضرورة الفصل بين السلطات. و قد كان مونتسكيو متأثرا بالفكر و الواقع الانجليزي .فلقد ميز لوك كما سبق الذكر بين السلطات و جاب مونتسكيو فخرج فكرة لوك عن التمييز بين السلطات تخريجا جديدا.(2)
(1) محمد ابراهيم فضل الله. مرجع سابق.ص 64.
(2) المرجع نفسه. ص65.
جاعلا منها مبدأ من مبادئ المذهب الحر. ثم أخذ يستعين بالنظام البرلماني الانجليزي.كما كان قائما في زمنه كنظام مثالي في نظره لأنه نظام مختلط. قوامه ملك و هيئات تتوسط بينه و بين الشعب.و برلمان يتولى التشريع بينما يتولى الملك التنفيذ.
و مونتسيكيو إذ يطيل في كتاب "روح القوانين" الكلام عن ذلك النظام الانجليزي يريد أن يجهل منه مثالا لحكومته المختلطة التي لا تدع مجالا للاستبداد.و يأمن في ظلها المواطن على حريته بفضل فصل بين سلطاتها. (1)
و لقد أكد مونتسكيو على فكرة الفصل اقتناعا منه بأنه ما من فرد يتمتع بسلطة إلا و يميل إلى التعسف في استعمالها، و هو بلا شك مستمر في تعسفه مصر عليه حتى يصدم بمن يوقفه.و لا يوقف السلطة إلا السلطة و لا سبيل لوقف السلطة إذا تولى مباشرة السلطات الثلاث-تشريع القوانين،و تنفيذها، الفصل في منازعات الأفراد- رجل واحد أو هيئة واحدة سواء أكانت من النبلاء أو من الشعب.و أنه لا حرية في ظل اجتماع السلطتين التشريعية و التنفيذية في شخص واحد أو في هيئة واحدة، ذلك لأن هذا الوضع يمكن ذلك الفرد أو الهيئة من تشريع القوانين جائزة و تنفيذها بطرق جائرة أيضا.
كذلك لا حرية البتة إذا لم تنفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية و التنفيذية، ذلك لأن اجتماعها مع التشريع لشخص أو هيئة واحدة من شأنه أن يجعل السلطة على حياة المواطنين و حرياتهم تحكيمية لأن القاضي سيصبح في هذه الحالة مشرع أيضا.
و إذا اجتمعت السلطة القضائية مع السلطة التنفيذية استطاع أن يكون له جبروت مطلق، أما إذا اجتمعت السلطات الثلاث لشخص واحد أو لهيئة واحدة فتلك هي مأساة الحرية و طامتها الكبرى.
هكذا فقد ميز مونتسكيو بين ثلاث سلطات تقوم في الدولة هي :
1. السلطة التشريعية:
و هي التي تصدر القواعد العامة التي تحدد سلوك الأفراد داخل المجتمع، هذه القواعد التي تتمثل في شكل نصوص عامة أو قوانين تسري على كافة المواطنين. (2)
(1) محمد اسماعيل فضل الله. مرجع سابق. ص65.
(2) نفس المرجع.ص 66.
2. السلطة النفيذية:
و هي التي تقوم بتنفيذ القوانين. تنفيذا يوميا كما تسهر على استقلال الوطن و سلامة أراضيه و حمايته من الاعتداء الخارجي.و تنشر الأمن و الطمأنينة لكل المقيمين به.
3. السلطة القضائية:
و هي التي تقوم بالفصل في الخصومات التي يمكن أن تنشأ بين الأفراد و تعاقب على الجرائم التي يمكن أن يرتكبوها.
و على الرغم من أن مونتسكيو لم يمن أول من قال بهذه الفكرة فانه يظل صاحب الفضل الأول في نشرها بما خلعه عليها من عمق و فكر و أصالة.
لقد كانت نظريته في الفصل بين السلطات متكونة من شقين:
الشق الأول: أنه يجب التمييز بين السلطات الثلاث: التشريعية ،التنفيذية،القضائية فوضع كل منها في يد مستقلة ،فالتمييز أو الفصل بين السلطات هو تمييز موضوعي و عضوي في نفس الوقت.(1)
فكل سلطة لها نشاطاتها الخاصة.و كل سلطة تقوم عليها هيئة أو عضو لا يقوم على الهيئات الأخرى.
الشق الثاني: أن هذا الفصل بين السلطات يجب أن يكون محققا للغاية التي قام من أجلها و هذه الغاية تتمثل في عبارة مونتسكيو " يجب أن توقف السلطة السلطة".
و لكي تتحقق هذه الغاية يجب أن تكون لها القدرة على الاعتراض على لاقوانين التي تتعارض مع مصلحة المجتمع، و السلطة القضائية يجب أن تكون لها هي أيضا القدرة على الوقوف في وجه أعمال السلطة التنفيذية المخالفة للقانون.
و تحقيق هذه الغاية يحتم بالضرورة ألا يكون الفصل تاما. فخير وسيلة لأن توقف السلطة السلطة أن يكون لكل منها "القدرة على المنع" أي القدرة على منع السلطات الأخرى من المضي في طغيانها،و هذا يتطلب بالضرورة أن يكون هناك حد أدنى من الصلة بين السلطات الثلاث،و من ثم فإن ذلك يعني الإشارة إلى تنسيق الجهود و التعاون مما يؤكد أن الفصل بين السلطات ليس جامدا أو مطلقا و إنما هو فصل مرن.(2)
(1) محمد اسماعيل فضل الله. مرجع سابق.ص 66.
(2) نفس المرجع. 68.
خـاتمة:
مما سبق يتضح أنه كان للتشكيلة الفريدة في فكر مونتسكيو و المكونة من التاريخ والعقل و الدراية التامة و الاهتمام بالمستقبل و الملاحظة الموضوعية و الرغبة في الاصلاح أثرها في أن جعلت منه أحدا من أكثر المفكرين السياسيين البارزين في العصر الحديث.
و كان مبدأ الفصل بين السلطات من أهم ما جاء به هذا الأخير من فكر. فلم يقتصر أثر هذا المبدأ على الصعيد المحلي بل أنه صار معتقدا عالميا فالمادة السادسة عشرة من اعلان حقوق الإنسان تقضي بأن " كل مجتمع لا تتأمن فيه ضمان حقوق الإنسان و لا يتكرس فيه مبدأ الفصل بين السلطات. ليس له دستور ".
كذلك كان لفكرة مونتسكيو عن الحرية و لأسلوبه في حمايتها أثر كبير في نفوس رجال الثورة1789 الفرنسية مما كان له صداه في وثائق هذه الثورة و دساتيرها.و كان له أثره أيضا في دستور الولايات المتحدة الأمريكية من قبل.
كان مونتسكيو متأثرا بأحداث عصره و ثقافة حضارته شأنه شأن أي مفكر، و لكن جوهر أعماله اتسمت بطابع العالمية و الدوام.
فلم يترك وراءه قطعا أدبية خالدة و لم يترك خلفه فلسفة سياسية عميقة بقدر ما ترك لنا منهجا للفكر و السياسة على السواء، و منهجه هذا يذكرنا دائما بعقل ناضج و قواعد أبدية و حقائق خالدة. حيث يقول في هذا الشأن "داننج" إن مكانة مونتسكيو كفيلسوف سياسي ترجع إلى مجال بحثه و إلى منهجه الدقيق و كذلك إلى نظريته في الحرية.