- السبت إبريل 14, 2012 8:23 am
#48416
طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية.
طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكلية، وإلى دفع المفاسد، ولو لم يكن في القرآن من هذا النوع إلا قوله تعالى: {{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}} [آل عمران: 159] وإخباره عن المؤمنين أن (أمرهم شورى بينهم) فالأمر مفرد مضاف إلى المؤمنين، وفي الآية الأولى قد دخلت عليه «أل» المفيدة للعموم والاستغراق، يعني: أن جميع أمور المؤمنين، وشؤونهم، واستجلاب مصالحهم، واستدفاع مضارهم، معلق بالشورى، والتراود على تعيين الأمر الذي يجرون عليه، وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى، فالمسلمون قد أرشدهم الله إلى أن يهتدوا إلى مصالحهم وكيفية الوصول إليها بإعمال أفكارهم مجتمعة، فإذا تعيَّنت المصلحة في طريق سلكوه، وإذا تعيَّنت المضرَّة في طريق تركوه، وإذا كان في ذلك مصلحة ومضرَّة نظروا أيها أقوى، وأولى، وأحسن عاقبة، وإذا رأوا أمراً من الأمور هو المصلحة ولكن ليست أسبابه عتيدة عندهم ولا لهم قدرة عليها نظروا بأي شيء تُدرك تلك الأسباب، وبأي حالة تُنال على وجه لا يضر، وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة، والاختراعات الباهرة، سعوا لذلك بحسب اقتدارهم، ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيرهم الملقي إلى التهلكة، وإذا عرفوا ـ وقد عرفوا ـ أن السعي لاتفاق الكلمة، وتوحيد الأمة، هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية، جدُّوا في هذا واجتهدوا، وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة، أو في المسالمة والمدافعة بحسب الإمكان، سلكوا ما تعيَّنت مصلحته، فَيُقْدمون في موضع الإقدام، ويُحْجِمون في موضع الإحجام، وبالجملة لا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية، دقيقة ولا جليلة، إلا تشاوروا فيها، وفي طريق تحصيلها وتنميتها، ودفع ما يضادها وينقصها، فهذا النظام العجيب الذي أرشد إليه القرآن هو النظام الذي يصلح في كل زمان ومكان، وفي كل أمة ضعيفة أو قوية.
ومن ذلك قوله تعالى: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] فهذه الآية نص صريح بوجوب الاستعداد للأعداء بما استطاعه المسلمون من قوة عقلية، ومعنوية، ومادية، مما لا يمكن حصر أفراده، وفي كل وقت يتعين سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه، ومن ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}} [النساء: 71] ونحوها من الآيات التي أرشد الله فيها إلى التحرز من الأعداء، فكل طريق وسبب يُتحرَّز به من الأعداء فإنه داخل في هذا، ولكل وقت لَبُوسُه.
ومن عجيب ما نبَّه عليه القرآن من النظام الوحيد: أن الله عاتب المؤمنين بقوله: {{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}} [آل عمران: 144] فأرشد عباده إلى أنه ينبغي أن يكونوا بحالة من جريان الأمور على طرقها، لا يزعزعهم عنها فقد رئيس وإن عظم، وما ذاك إلا بأن يستعدوا لكل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية بعدة أُناس إذا فُقد أحدهم قام به غيره، وأن تكون الأمة متوحِّدة في إرادتها، وعزمها، ومقاصدها، وجميع شؤونها، قصدهم جميعاً أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تقوم جميع الأمور بحسب قدرتهم.
وقال تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] أي: اتقوا غضبه وعقابه بالقيام بما أمر به من كل ما فيه الخير والصلاح لكم جماعة ومنفردين، فكل مصلحة أمر الله بها وهي متوقفة في حصولها أو في كمالها على أمر من الأمور السابقة أو اللاحقة فإنه يجب تحصيلها بحسب الاستطاعة، فلا يكلفهم الله ما لا يطيقون، وكذلك كل مفسدة ومضرَّة
لا يمكن اجتنابها إلا بسلوك بعض الطرق السابقة أو اللاحقة فإنها داخلة
في تقوى الله تعالى؛ وذلك أن لازم الحق حق، والوسائل لها أحكام
المقاصد.
ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}} الآية [النساء: 58] والآية التي بعدها. فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أَجَلِّها الولايات الكبيرة، والصغيرة، والمتوسطة، الدينية، والدنيوية، فقد أمر الله أن تُؤدى إلى أهلها بأن يُجعل فيها الأكفاء لها، وكل ولاية لها أكْفاء مخصوصون، فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها، والمدبِّرين لها، والعاملين لها، ويجب تولية الأمثل فالأمثل {{إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة، وضده بضده، ثم أرشدهم إلى الحكم بين الناس بالعدل، الذي ما قامت السموات والأرض إلا به، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور، والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور، فإذا كان المتولون للولايات هم الكُمَّل من الرجال، والأكفاء للأعمال، وجرت تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنِّبين للظلم والفساد، ترقَّت الأمة وصلحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور، فهل يوجد أكمل وأعلى من هذه السياسة الحكيمة التي عواقبها أحمد العواقب؟
ومن الآيات المتعلقة بالسياسة الشرعية: جميع ما شرعه الله من الحدود على الجرائم، والعقوبات على المتجرئين على حقوقه وحقوق عباده، وهي في غاية العدالة والحُسن، وردع المجرمين، والنكال والتخويف لأهل الشر والفساد، وفيها صيانة لدماء الخلق، وأموالهم، وأعراضهم، والآيات التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكلم بالحق مع من كان، وفي أي حال من الأحوال، وكذلك ما فيه من النهي عن الظلم فيه إرشاد للحرية النافعة، التي معناها التكلم بالحق، وفي الأمور التي لا محذور فيها، كما أن الحدود والعقوبات، والنهي عن الكلام القبيح، والفعل القبيح، فيها رد الحرية الباطلة؛ فإن ميزان الحرية الصحيحة النافعة: هو ما أرشد إليه القرآن، وأما إطلاق عنان الجهل والظلم، والأقوال الضارة للمجتمع، المحلِّلة للأخلاق؛ فإنها من أكبر أسباب الشر والفساد، وانحلال الأمور، والفوضوية المحضة، فنتائج الحرية الصحيحة أحسن النتائج، ونتائج الحرية الفاسدة أقبح النتائج، فالشارع فتح الباب للأولى، وأغلقه عن الثانية، تحصيلاً للمصالح، ودفعاً للمضار والمفاسد، والله أعلم.
من كتاب: القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن
تأليف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدى
طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكلية، وإلى دفع المفاسد، ولو لم يكن في القرآن من هذا النوع إلا قوله تعالى: {{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}} [آل عمران: 159] وإخباره عن المؤمنين أن (أمرهم شورى بينهم) فالأمر مفرد مضاف إلى المؤمنين، وفي الآية الأولى قد دخلت عليه «أل» المفيدة للعموم والاستغراق، يعني: أن جميع أمور المؤمنين، وشؤونهم، واستجلاب مصالحهم، واستدفاع مضارهم، معلق بالشورى، والتراود على تعيين الأمر الذي يجرون عليه، وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى، فالمسلمون قد أرشدهم الله إلى أن يهتدوا إلى مصالحهم وكيفية الوصول إليها بإعمال أفكارهم مجتمعة، فإذا تعيَّنت المصلحة في طريق سلكوه، وإذا تعيَّنت المضرَّة في طريق تركوه، وإذا كان في ذلك مصلحة ومضرَّة نظروا أيها أقوى، وأولى، وأحسن عاقبة، وإذا رأوا أمراً من الأمور هو المصلحة ولكن ليست أسبابه عتيدة عندهم ولا لهم قدرة عليها نظروا بأي شيء تُدرك تلك الأسباب، وبأي حالة تُنال على وجه لا يضر، وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة، والاختراعات الباهرة، سعوا لذلك بحسب اقتدارهم، ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيرهم الملقي إلى التهلكة، وإذا عرفوا ـ وقد عرفوا ـ أن السعي لاتفاق الكلمة، وتوحيد الأمة، هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية، جدُّوا في هذا واجتهدوا، وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة، أو في المسالمة والمدافعة بحسب الإمكان، سلكوا ما تعيَّنت مصلحته، فَيُقْدمون في موضع الإقدام، ويُحْجِمون في موضع الإحجام، وبالجملة لا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية، دقيقة ولا جليلة، إلا تشاوروا فيها، وفي طريق تحصيلها وتنميتها، ودفع ما يضادها وينقصها، فهذا النظام العجيب الذي أرشد إليه القرآن هو النظام الذي يصلح في كل زمان ومكان، وفي كل أمة ضعيفة أو قوية.
ومن ذلك قوله تعالى: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] فهذه الآية نص صريح بوجوب الاستعداد للأعداء بما استطاعه المسلمون من قوة عقلية، ومعنوية، ومادية، مما لا يمكن حصر أفراده، وفي كل وقت يتعين سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه، ومن ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}} [النساء: 71] ونحوها من الآيات التي أرشد الله فيها إلى التحرز من الأعداء، فكل طريق وسبب يُتحرَّز به من الأعداء فإنه داخل في هذا، ولكل وقت لَبُوسُه.
ومن عجيب ما نبَّه عليه القرآن من النظام الوحيد: أن الله عاتب المؤمنين بقوله: {{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}} [آل عمران: 144] فأرشد عباده إلى أنه ينبغي أن يكونوا بحالة من جريان الأمور على طرقها، لا يزعزعهم عنها فقد رئيس وإن عظم، وما ذاك إلا بأن يستعدوا لكل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية بعدة أُناس إذا فُقد أحدهم قام به غيره، وأن تكون الأمة متوحِّدة في إرادتها، وعزمها، ومقاصدها، وجميع شؤونها، قصدهم جميعاً أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تقوم جميع الأمور بحسب قدرتهم.
وقال تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] أي: اتقوا غضبه وعقابه بالقيام بما أمر به من كل ما فيه الخير والصلاح لكم جماعة ومنفردين، فكل مصلحة أمر الله بها وهي متوقفة في حصولها أو في كمالها على أمر من الأمور السابقة أو اللاحقة فإنه يجب تحصيلها بحسب الاستطاعة، فلا يكلفهم الله ما لا يطيقون، وكذلك كل مفسدة ومضرَّة
لا يمكن اجتنابها إلا بسلوك بعض الطرق السابقة أو اللاحقة فإنها داخلة
في تقوى الله تعالى؛ وذلك أن لازم الحق حق، والوسائل لها أحكام
المقاصد.
ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}} الآية [النساء: 58] والآية التي بعدها. فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أَجَلِّها الولايات الكبيرة، والصغيرة، والمتوسطة، الدينية، والدنيوية، فقد أمر الله أن تُؤدى إلى أهلها بأن يُجعل فيها الأكفاء لها، وكل ولاية لها أكْفاء مخصوصون، فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها، والمدبِّرين لها، والعاملين لها، ويجب تولية الأمثل فالأمثل {{إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة، وضده بضده، ثم أرشدهم إلى الحكم بين الناس بالعدل، الذي ما قامت السموات والأرض إلا به، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور، والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور، فإذا كان المتولون للولايات هم الكُمَّل من الرجال، والأكفاء للأعمال، وجرت تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنِّبين للظلم والفساد، ترقَّت الأمة وصلحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور، فهل يوجد أكمل وأعلى من هذه السياسة الحكيمة التي عواقبها أحمد العواقب؟
ومن الآيات المتعلقة بالسياسة الشرعية: جميع ما شرعه الله من الحدود على الجرائم، والعقوبات على المتجرئين على حقوقه وحقوق عباده، وهي في غاية العدالة والحُسن، وردع المجرمين، والنكال والتخويف لأهل الشر والفساد، وفيها صيانة لدماء الخلق، وأموالهم، وأعراضهم، والآيات التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكلم بالحق مع من كان، وفي أي حال من الأحوال، وكذلك ما فيه من النهي عن الظلم فيه إرشاد للحرية النافعة، التي معناها التكلم بالحق، وفي الأمور التي لا محذور فيها، كما أن الحدود والعقوبات، والنهي عن الكلام القبيح، والفعل القبيح، فيها رد الحرية الباطلة؛ فإن ميزان الحرية الصحيحة النافعة: هو ما أرشد إليه القرآن، وأما إطلاق عنان الجهل والظلم، والأقوال الضارة للمجتمع، المحلِّلة للأخلاق؛ فإنها من أكبر أسباب الشر والفساد، وانحلال الأمور، والفوضوية المحضة، فنتائج الحرية الصحيحة أحسن النتائج، ونتائج الحرية الفاسدة أقبح النتائج، فالشارع فتح الباب للأولى، وأغلقه عن الثانية، تحصيلاً للمصالح، ودفعاً للمضار والمفاسد، والله أعلم.
من كتاب: القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن
تأليف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدى