صفحة 1 من 1

النظام الدولي الجديد

مرسل: السبت إبريل 14, 2012 11:30 am
بواسطة خالد المطيري 5
النظام الدولى الجديد: النشأة والخصائص
أولا: النظام الدولى الجديد: المفهوم والنشأة
فى إطاره العام، يستخدم مصطلح "النظام الدولى الجديد" فى سياق الإشارة إلى محصلة التطورات التى أحدثها فى بنية واهتمامات النظام الدولى إنتهاء الحرب الباردة؛ وتحللُ واختفاء الاتحاد السوفيتى، ومن ثم التحول عن نظام القطبية الثنائية إلى نظام جديد ما زال، وعلى حد وصف جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، "نظاماً يبحث عن هوية" .حيث تتعدد فى توصيفه الرؤى والتوجهات ما بين النظر إليه باعتباره نظام "القطب الواحد المهيمن"، أو إدراكه كنظام "تعدد القوى"، أو التسليم بأنه "نظام ما زال فى طور التكوين". وفى كل الأحوال، تظل أبرز سماته ممثلة بصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة ومهيمنة فى بنية نظام وعالم ما بعد الحرب الباردة. وإزاء التنوع الذى يميز تناول الأدبيات السياسية لنشأة النظام الدولى الجديد، وتحديد مقوماته وخصائصه، فإنه يمكن التمييز فيها بين تيارات عامة ثلاثة: أولها يقول بوجود نظام دولى جديد، والثانى يرى أنه لا يوجد نظام دولى جديد، بل تعددية القوى فى إطار من التواصل العام للقواعد العامة للنظام الدولى السائد منذ نهاية الحرب الثانية، وبينما يؤمن التيار الثالث بحدوث تغييرات جذرية فى النظام الدولى، إلا أنه يرى هذا النظام الدولى الجديد مازال فى طور التكوين، ولم تستقر دعاماته أو تتضح خصائصه فى شكل نظام متكامل المعالم ومحدد القواعد بعد. رؤية ومضمون كل تيار يمكن بلورتها على النحو التالى:
الأول: تيار النظام الدولى الجديد:
ويقطع القائلون به بوجود نظام دولى جديد أحادى القطبية، تتربع الولايات المتحدة على قمته دونما منافسة أو تحد، ويدعم مكانتها هذه تأييد حلفائها الغربيين من جانب، وقدرتها على استخدام قوتها العسكرية لحسم أى صراع تقرر الاشتراك فيه، ولممارسة مسئولياتها فى المحافظة على الاستقرار الدولى وتوجيه الحركة العالمية باتجاه الديموقراطية. منطق هذه الرؤية يستند إلى أن إنهيار الاتحاد السوفيتى قد أفسح المجال أمام الولايات المتحدة لترقى إلى مرتبة القوة العظمى الوحيدة، وأن تصبح، وبما تمتلكه من قوة ومكانة، مركزا للقوة العالمية، قادرة على استخدام وتوظيف ما تمتلكه من عناصر للقوة لتحقيق وفائها بمسئولياتها فى تنظيم وإدارة الشئون الدولية دونما منافسة حقيقية أو تحد جوهرى من جانب أى قوة دولية أخرى. يضاف إلى ذلك أيضاً أن انتصار الأيديولوجية االليبرالية فى الحرب الباردة إنما يضيف لقدرات الولايات المتحدة، باعتبارها "القطب المهيمن"، مصدراً إضافيا يتمثل فى " جاذبية أفكار الدولة" دلالة على قدرتها على التأثير الثقافى والأيديولوجى على وحدات النظام الأخرى. هذا فضلا عن تمتع الولايات المتحدة بقدر كبير من التفوق فى عديد من مقومات وعناصر القوة كتفوق التكنولوجيا العسكرية، والانتشار الأيديولوجى، ونطاق الدبلوماسية الدولية وشبكة العلاقات السياسية.
الثانى: التحول من النظام الثنائى إلى نظام تعدد القوى:
أنصار هذا التيار، وعلى العكس من سابقه، يرون أن التغيرات التى طرأت على هيكل النظام الدولى نتيجة لتفكك الاتحاد السوفيتى وانتهاء الحرب الباردة لم تؤد إلى إقامة نظام دولى جديد، لكنها تمثل انتقالاً إلى حالة "تعدد القوى"، وليس إلى "نظام القطب الواحد"، وأن هذه التعددية تختلف عن نظام تعدد القوى الذى ساد فى القرن التاسع عشر. منطق هذه الرؤية يستمد قوته من أوجه القصور فى اتجاه القطبية الأحادية. فمن جانب، فإن الولايات المتحدة وإن تمتعت بتفوق قوتها العسكرية بما جعل منها القوة الأولى فى العالم، إلا أن الاعتماد على تلك القوة ليس كافيا بذاته، - وبسبب الحدود التى تواجهها القوة العسكرية فى توجيه التفاعلات الدولية-، لتمكين الولايات المتحدة من الوفاء بمسئوليات قيادة النظام الدولى. وهناك أيضا القيود التى يواجهها استخدام القوة العسكرية نتيجة للتزايد المستمر فى ظاهرة الاعتماد المتبادل فى العلاقات الدولية، الأمر الذى يمثل بذاته قيداً على إمكانيات ونطاق فرص توظيف القوة العسكرية الأمريكية فى قيادة النظام الدولى. إضافة إلى ما سبق، فإن مراجعة عناصر القوة فى كل من الولايات المتحدة وأوربا واليابان باعتبارها وحدات القوة الرئيسية للنظام الدولى إنما توضح افتقار كل منها منفردة إلى التمتع بالتفوق فى كل عناصر القوة، مما دفع البعض لتشخيص حالة هذا النظام الدولى بأنه "نظام تغيب فيه فئة القوى العظمى". وهناك رابعاً طبيعة وحجم المشكلات الاقتصادية التى تواجهها الولايات المتحدة، مقارنة بغيرها من القوى الغربية، والتى تؤدى فى مجملها إلى الحد من تأثير المكون الاقتصادى فى القوة الأمريكية.
الثالث: نظام دولى جديد فى مرحلة انتقالية:
على نحو ما سبقت الإشارة إليه من قبل، فإن التيار الثالث وإن كان يؤمن بحدوث تغييرات جذرية فى النظام الدولى، إلا أنه يرى أن هذا النظام الدولى الجديد مازال فى طور التكوين، لم تستقر دعاماته أو تتضح خصائصه فى شكل نظام متكامل المعالم ومحدد القواعد بعد، ومن هنا جاء ارتباطه بأوصاف شاع استخدامها لما لها من دلالات كالسيولة، والفوضى الدولية، وما شابهها، وذلك للتعبير عن طبيعة هذه المرحلة فى تكوين النظام الدولى الجديد. وعلى ذلك، يصبح من المبكر نسبيا الحديث عن نظام دولى جديد بالمعنى العلمى والدقيق للمفهوم، فهو مازال قيد التكوين فى مرحلته الانتقالية؛ يمارس فيها اختياراته بالانتقاء والاستبعاد من تراث نظام القطبية الثنائية والإضافة إليه، ويبذل محاولاته باتجاه استكمال شكله وبنيته، وصياغة قواعده ومنطلقاته الذاتية كنظام دولى جديد، واستيفاء لمسات إخراجها فى صورة نهائية، وبلورة قواعده فى صياغة قوية معبرة تتفق ومتطلبات استقرار النظام والتعبير عن خصائصه، خاصة وأن ما ينادى به هذا النظام من قيم ومبادىء لا يخرج فى مجمله عن كونه متعلقا بإجراءات وأفعال ترتبط بتحقيق السلام للعديد من مشكلات العالم ومناطقه المضطربة، وإجراءات وأفعال تستهدف حفظ أو استرداد القانون والنظام، وردع وإيقاف ومعاقبة الحرب، والعدوان، والقهر، وإنقاذ وإغاثة المدنيين وتوفير مجهودات الإغاثة للشعوب إغاثة وحماية حقوق الإنسان، ودعم وتشجيع الحقوق المدنية.
ثانيا: النظام الدولى الجديد والدور الأمريكى:
نشأة النظام الدولى الجديد وتطورات مساره توضح، وعلى ضوء ما سبق، أنه إنما جاء وبالدرجة الأولى، وعلى نحو ما يذكر شرودر، نتيجة لإجماع قوى بين عدد محدود من الدول الرئيسية (الولايات المتحدة)، ومجموعة من القوى الأصغر (بعض من حلفائها الأوربيين)، -والتى كانت في غالبيتها دولاً وقوى أوربية غربية، متقدمة سياسياً ومتطورة اقتصادياً-، على مجموعة من القواعد المنظمة لعمل وعلاقات هذه الدول فيما بينها وفى مواجهة الغير. ومن ثم، فهذا النظام نظام دولى تتصرف فيه الولايات المتحدة وأصدقاؤها وحلفاؤها معاً، كما أنهم يفضلون وبالدرجة الأولى أن يتم ذلك تحت مظلة الأمم المتحدة، من أجل حفظ أو إقامة السلم، ومن خلال تطبيق القانون الدولى والنظام، واستخدام الوسائل السلمية كالتفاوض والإقناع والوساطة والتوفيق، وغيرها. ومع ذلك، فهم يؤكدون وبشكل لا يحتمل اللبس أو التأويل أن المجتمع الدولى سوف يضطر فى بعض الحالات لأن يذهب إلى ما وراء تلك الوسائل السلمية، ويتخذ الإجراءات التى يتضمن الردع والفرض أو الإجبار أى استخدام القوة لإجبار بعض الفاعلين الخارجين على القانون والنظام الدوليين على إيقاف بعض التصرفات والتصرف بشكل أخر.
فى هذا السياق، يبرز دور الخصوصية المميزة للنظام الدولى الجديد من حيث ارتباطه وتأثره الشديدين بالدور المهيمن والمؤثر للولايات المتحدة، والذى يعكسه قدر من التداخل فى الجدل النظرى بين توجهات دراسة النظام الدولى الجديد وتلك الخاصة بالسياسة الخارجية الأمريكية، والتى يمكن بلورتها فى توجهين أساسيين: الأول يتعلق بدور الولايات المتحدة كمنتج للنظام الدولى، والآخر يترتب على الأول ويعكس امتداد له، حيث يختص بطبيعة النظام الدولى الجديد، أو ما يحلو أن يصفه البعض بكونه نظاماً امبريالياً. أبعاد هذه العلاقة يمكن إلقاء الضوء عليها فيما يلى:
1- دور الولايات المتحدة كمنتج للنظام العالمى:
فى مجمله، يقصد بذلك دور الولايات المتحدة فى قيادة وصياغة قواعد حركة، وضبط تفاعلات العلاقات والتطورات الدولية على طريق ليس فقط إنشاء النظام الدولى الجديد، بل وفى تزويده بمقومات الاستمرار ومتطلبات الاستقرار وثبات قواعده وتطورها. وبدوره، فإن هذا الدور يضرب بجذوره فيما يُطلقُ عليه "القوة العالمية الأمريكية- عسكريا، واقتصاديا، وتكنولوجيا، وثقافيا، وسياسياً، والتى تعد إحدى الحقائق العظمى لعصرنا". من هنا كانت مكانة الولايات المتحدة وخصوصيتها وتفردها فى علاقتها بالنظام الدولى الجديد ومحورية دورها فيه، والتى تستمد تأثيرها وفعاليتها من تعاظم القوة الأمريكية وتفرد قدراتها العسكرية والاقتصادية، والسياسية، والدبلوماسية، بالإضافة إلى ما تمتلكه من جاذبية حضارية وأيديولوجية، مما يجعل منها وفى مجملها قوة استثنائية عملاقة. يـعزز من تلك الرؤية ويعضد دعاماتها، انتصار الولايات فى حرب الخليج، وبروزها كعملاق منتصر من غمار الحرب الباردة، وما ارتبط بذلك، وترتب عليه، من تفوق لمذهبها الاقتصادى وأيديولوجيتها الليبرالية السياسية على نظيريهما الشيوعيين.
وتأسيساً على ذلك، تصبح الولايات المتحدة، وبصفتها كقطب أوحد، القوة الوحيدة القادرة على مواجهة وهزيمة أى تهديد محتمل. كما أنها لا تحتاج لأن تخشى أية قوة جديدة، خاصة وأنها تجتمع لديها، وبشكل منفرد لا يتوافر لدى غيرها من الدول، أبعاد أربعة للقوة تتضمن: أ) قوة عسكرية قادرة على الوصول إلى أى مكان فى العالم؛ ب) تأثير اقتصادى عالمى، ج) جاذبية ثقافية وأيديولوجية؛ د) قوة سياسية عالمية كنتيجة لتضافر هذه العناصر مجتمعة.
2- النظام الدولى الجديد تعبير عن نظام امبريالى:
وجهة نظر تستند إلى تشخيص البعض للنظام الدولى الجديد بأنه "نظام إمبريالى" تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى فرضه على باقى دول العالم، مستهدفة تقوية قبضتها على مقدرات دول الجنوب واستكمال حلقات سيطرتها وإحكام هيمنتها على مصائر تلك الدول، ومستغلة فى الوقت ذاته، زخم انتصارها فى حرب الخليج، وفراغ الساحة الدولية من الأقطاب المنافسة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وتواضع قدرات وإمكانيات وريثه ممثلا بالدولة الروسية.
وفى هذا السياق، يستمد هذا البعد الإمبريالى وجوده ودلالاته من ارتباطه الوثيق بالدور الأمريكى الفاعل والمؤثر فى إنشاء النظام الدولى الجديد، واستمساكه بالاسترشاد بالمبادىء والقيم والمصالح الأمريكية، واستهدافه تحقيقها وحمايتها والعمل على نشرها كأولوية أولى على سواها. من هنا، جاء الارتباط بين وجهة النظر هذه وسابقتها وترتبها عليها فى الوقت ذاته. فمن جانب يرى القائلون بها أن إطلاق صفة "الجديد" على هذا النظام تستمد من أسلوب صياغة قواعده، وتصميم هياكل بنيته. وهذه بدورها قد تمت فى ظل قيادة أمريكية مهيمنة. وفى المقابل، جاءت المشاركة الأوربية ممثلة بقلة من الدول الأوربية الحليفة، والتى استهدفت بدورها الحفاظ على، وتأمين الحماية والخدمة الواجبة لمصالحها الدولية.
3- الجدل الفكرى حول استخدام القوة المسلحة:
امتداداً لسياق الدور الأمريكى المنتج للنظام الدولى وبُعدهِ الإمبريالى، يأتى اعتماد النظام الدولى الجديد على استخدام القوة المسلحة كأداة رئيسية لفرض إرادته ولتصحيح مسار الخارجين على قواعد الشرعية الدولية، ليعيد إحياء جدل الدوائر الفكرية والسياسية الأمريكية بين مؤيدى الدور الفاعل والنشط للولايات المتحدة فى السياسة الخارجية والشئون الدولية، وبما يعنيه ذلك ويترتب عليه، من تبعات، واحتمالات بتزايد التورط العسكرى الأمريكى فى الخارج، وبين مؤيدى تيار العزلة التقليدى، والذى وصفه جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكى الأسبق فى منتصف السبعينيات، بأنه "أقوى مما كان عليه منذ دخول الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية" وأن "دعاة العزلة يمكن سماع أصواتهم عبر المسرح السياسى، وفى الحزبين معا، كما أن هناك تياراً مماثلاً للإنكفاء على الداخل يمكن رؤيته بين القوى الرئيسيةً" . خطورة هذا التيار تتمثل فى معارضته القوية لأى أدوار قد يكون من نتيجتها توريط الولايات المتحدة بشكل أو آخر فى التزامات عسكرية فى الخارج. مبعـث الارتباط بين إعادة إحياء هذا الجدل وبين النظام الدولى الجديد يستمد وجوده من الدور القيادى والمهيمن للولايات المتحدة الأمريكية فى هذا النظام، وما يترتب عليه من تبعات على نحو ما أظهرته خبرة أزمة الخليج الثانية، وما تلاها من حرب تحرير الكويت، وما تلى ذلك من أزمات بدءً من إفريقيا ومروراً بأوربا ووصولاً إلى التورط الأمريكى الحالى فى العراق. ومن المثير للدهشة، وعلى حد تعليق بيكر، أن تتنامى هذه التيارات الداعية إلى العزلة والإنكفاء على الداخل "فى الوقت الذى يتحرك فيه العالم، وغالبا بعنف خلال فترة جديدة فى طبيعتها وتفاعلاتها لدرجة أنها لم تستقر لنفسها على اسم بعد..".