By خليل القحطاني 3 - الأحد إبريل 15, 2012 10:03 pm
- الأحد إبريل 15, 2012 10:03 pm
#48481
أيمن حسونة
وجهت عمليات القتل الإرهابية في جنوب غرب فرنسا على مدى الأيام العشر الماضية وخاصة تلك التي وقعت مدينة تولوز عدة صدمات للمجتمع الفرنسي وللدوائر السياسية والأمنية.أهم هذه الصدمات أنها كسرت "الجدار الأمني العازل" في نفوس الفرنسيين؛ حيث باتت باريس اليوم في مرمى هجمات التنظيمات الإسلامية المتطرفة بعد أن كانت على مدار أكثر من 15 عاما في منأى من الهجمات والتفجيرات الإرهابية. ففرنسا لم تشهد أي اعتداء إرهابي منذ 1996، في حين وقعت هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، وتفجيرات مدريد 2004، واعتداءات لندن 2007 .
والصدمة الأخرى أن منفذ تلك الاعتداءات شاب يحمل الجنسية الفرنسية، وولد على أرض الجمهورية العلمانية، وهو ما يطرح تساؤلات تتعلق بمدى قوة واختراق تنظيم القاعدة للشباب الفرنسي، والبيئة الحاضنة التي تفرخ المتطرفين، وعن العلاقة بين التنظيمات السلفية التي تنتشر في فرنسا وبين الحركات "الجهادية" التي تتبنى العنف منهجا.
ورغم الإجماع بأن الشاب محمد مراح منفذ هجمات تولوز ومونتوبان جنوب فرنسا لم يكن عضوا في تنظيم القاعدة أو في إحدى الجماعات المتطرفة المنضوية تحت لوائها رغم إعلانه ذلك؛ إلا أن الطريقة التي قام بتنفيذ تلك الهجمات بها عبر استخدام دراجة بخارية مسروقة وانتقاء أهدافه بطريقة ارتجالية لتنتهي مطاردته بمقتل منفذها منتحرا بالقفز من نافذة الحمام بعد معركة دامت 32 ساعة داخل شقته تكشف عن وجه جديد للقاعدة في أوروبا.
من هم " الذئاب المنفردة" للقاعدة؟
فالشاب مراح يُصنف ضمن فئة "الجنود التائهة" أو ما يطلق عليها أيضا ظاهرة "الذئاب المنفردة" لتنظيم القاعدة، وهم الشباب الأوروبيون الذين سافروا لأسباب مختلفة إلى المناطق القبلية على الحدود الأفغانية الباكستانية، وتُقدر أجهزة الاستخبارات الفرنسية عددهم ببضعة عشرات يخضعون لمراقبة مشددة .
وأغلب "الذئاب المنفردة" من المجرمين الصغار الذين ينتقلون إلى السلفية المتشددة، عبر مفرخة السجون الفرنسية التي باتت المكان الآمن لمدرسة تحويل المجرمين إلى "مجاهدين".
فالشاب مراح تم حبسه بجنح بسيطة تتضمن النشل وأعمال عنف عندما كان عمره 20 عاما، وبعد أقل من عام بعد الإفراج عنه كان قد وصل إلى أفغانستان، ثم انتقل إلى معسكر تدريب للقاعدة في باكستان.واشتكت العديد من المنظمات الحقوقية الفرنسية من أن السجون الفرنسية باتت وكرا لنشر الأفكار السلفية المتشددة بين الشباب الفرنسي.
ويشكل المسلمون نحو 40% من نزلاء السجون في فرنسا، في حين تقدر الشرطة الفرنسية أعداد السلفيين الفرنسيين من 12 إلى 15 ألف شخص، والسلفيون الجهاديون بينهم أقلية صغيرة، وهم يستهدفون المهمشين في الضواحي الفرنسية الفقيرة التي تعتبر هشة اجتماعيا وشهدت أعمال شغب وعنف في عام 2005 استمرت ثلاثة أسابيع .
و"اللصوص المجاهدون" يقومون بعد الخروج من السجن بالسهر مع الفتيات، والمنافسة على سرقة السيارات الفارهة وجني المال عبر بيع المخدرات ويمارسون بجانب ذلك قيم التشدد الإسلامي، وهذا ما يفسر عزوف الأجهزة الأمنية الفرنسية عن القبض عليهم؛ حيث أكدت الداخلية الفرنسية أنه لم يوجد أي مبرر للقبض على مراح وأمثاله رغم خضوعهم لمراقبة مشددة، مؤكدة أن نمط سلوكهم لم يشر إلى جنوحهم نحو الإرهاب .
ويصنف الشبان القادمون من أوروبا إلى المناطق القبلية على الحدود بين أفغانستان وباكستان إلى ثلاث فئات: الأولى المهمشون الباحثون عن مغامرة، والذين يسارعون للعودة إلى ديارهم لعدم العثور على من يتكفل بهم.
والفئة الثانية وهم الذين يتدربون على القتال في أفغانستان، غير أنهم يعودون دون الانخراط في شبكة منظمة، وهؤلاء قد يتحولون إلى جنود تائهين.والفئة الأخيرة وتضم الذين يتدربون في صفوف القاعدة وحركة طالبان الباكستانية ويصبحون مقاتلين حقيقيين جاهزين لتنفيذ عمليات وهم من يطلق عليهم "الخلايا النائمة".
اللافت أن جميع الاعتداءات أو محاولات الاعتداء التي وقعت منذ عام 2001 في دول غربية، من مدريد إلى لندن مرورا بفرانكفورت وساحة تايمز سكوير في نيويورك، تعود جذورها إلى هذه المناطق القبلية الواقعة على الحدود الباكستانية الأفغانية، وعملية تولوز هي أحدث هذه الحلقات حيث زارها القاتل الفرنسي الشاب ذو الأصول الجزائرية تحت مرأى أجهزة الأمن والاستخبارات الفرنسية.
ويبرر سمير أمغر، أستاذ علوم الاجتماع بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسي عدم تصدي الأجهزة الأمنية للشباب الفرنسي الذي يزور المناطق القبلية بأن مثل هذا النوع من الرحلات إلى أفغانستان "كان شائعا جدا في تسعينيات القرن الماضي" في غمار الفرحة بانتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفيتي سابقا .
ولكن البعض يرى أن فرنسا تجني بعمليات تولوز جزءا مما زرعته يداها؛ حيث كانت تسمح للحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها ومشاربها للسفر إلى أفغانستان للمشاركة في قتال الشيوعيين السوفيت إبان الحرب الباردة .ومن الدوافع الأخرى لـ"السياحة الجهادية" الفرنسية إلى أفغانستان هي نقص الوازع الديني لدى الشباب، وتعترف جمعيات إسلامية بأن التكوين الديني لا يزال ضعيفا في فرنسا، بل يفسر البعض رغبة بعض الشباب في السفر إلى باكستان وأفغانستان وغيرها من الدول المسلمة بحرصهم على تعلم الدين بتكاليف أدنى من التي تطلب منهم في فرنسا .
وبذلك تحولت المناطق القبلية في البشتونية على الحدود بين باكستان وأفغانستان إلى قبلة للمجندين الشباب القادمين من أوروبا والمغرب وآسيا الوسطى وحتى الولايات المتحدة، وهي تبقى اليوم "أكبر مركز للإرهاب الدولي"، ويطلق عليها بعض الخبراء الأمنيين جامعة "إف- باك" (الأحرف الأولى من أفغانستان وباكستان.
المتطوعون الأجانب بعد مقتل بن لادن
ولكن في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة والخطر المتواصل الذي تشكله الطائرات الأمريكية بدون طيار على التنظيم والصعوبات المالية التي يواجهها تقلص من عدد المتطوعين الأجانب الراغبين في الانخراط في العمليات الجهادية وباتت الحركات المتطرفة تبحث عن تجنيد اللصوص.
كما أن مقتل بن لادن أدى أيضا إلى تغيير قواعد اللعبة كما يرى ماتيو جودير الباحث الفرنسي المتخصص في شئون الإرهاب، مما دفع عددا ممن ينتمون للقاعدة إلى العودة إلى أوطانهم، وخاصة مع تغير الوضع الجيوسياسي وزعزعة الاستقرار بالنسبة لهم ولكن كل هذا أدى إلى ردود فعل متطرفة جدا لديهم، واصفا هؤلاء الشباب الفرنسيين بأنهم "أيتام بن لادن". ومن الصعب تحديد المكان الذي ينحدر منه أتباع بن لادن في فرنسا وأين يتركزون بسبب عدم وجود دراسات محددة عن جذورهم الاجتماعية، خاصة وأنهم مواطنون فرنسيون مقيمون في فرنسا لفترة طويلة، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة للكشف عنهم .
ويرى جان بيار فيليو، الدبلوماسي والأستاذ المشارك في معهد الدراسات السياسية ، في كرسيّ الشرق الأوسط، في دراسته لأيديولوجيا الجهاديين في كتابه "حيوات القاعدة التسع" أن القاعدة خلال مراحل نموها وتفكيكها مرت بتسعة مراحل ولكنها لم تختف أو تنهار كليا.ويبرهن المؤلّف كيف جدّدت القاعدة المعركة مع العالم في الحيّز الافتراضي (شبكة الإنترنت) مع خسارتها ارتكازها في الحيّز الجغرافي الحقيقيّ؛ إذ إنّها عاجزة عن التجذّر في أيّ مكانٍ آخر غير مناطق الباشتون.
وهذه التحولات رصدها تقرير لمركز "بيو للدين والحياة العامة" الأمريكي عن الحركات الإسلامية في غرب أوروبا؛ حيث أصبح الإنترنت المنبر الإعلامي لهذه الحركات، وأصبحت القاعدة حاضرة بشكل ملحوظ في مواقع الشبكات الاجتماعية كالفيس بوك وتويتر، وتعمل على الاستفادة من أدوات التدوين والوسائط المعلوماتية للوصول لمزيد من الأعضاء. وهذا ما يفسر حرص الشاب مراح على تصوير كل الاعتداءات التي نفذها حيث كان يضع كاميرا في السترة الواقية من الرصاص التي يرتديها لوضعها على الإنترنت.
وترى صحيفة "لوفيجارو" أن هؤلاء الشباب الأوروبيين والأمريكيين المسلمين هم الذين تبحث عنهم مجلة "انسباير" والتي ينشرها تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية على شبكة الإنترنت ومتوفرة باللغة الإنجليزية. وتوفر هذه المجلة تفاصيل عن تصميم القنبلة وطرق إخفائها أو الفرار من مطاردة الشرطة. فهذه المجلة تقدم إلى حد ما تدريبا عن بعد تعطيه معسكرات القاعدة للجهاديين، وذلك قبل تفكيكها في بداية عام 2000.
وعلى الرغم من تعدد الدوافع والأسباب لنمو ظاهرة "الذئاب المنفردة للقاعدة " في فرنسا وبعيدا عن الخداع الذي تعرضت له الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الفرنسية في تقدير خطورتها، فإن هذه التفجيرات ستفتح ملف الحركات الإسلامية في فرنسا، وتعيد طرح تحديات الاندماج في المجتمع الفرنسي مرة أخرى، كما ستوجه أصابع الاتهام إلى الرئيس نيكولا ساركوزي الذي كان يتولى هذا الملف عندما كان وزيرا للداخلية.ويتعرض ساركوزي لانتقادات بسبب المعايير المزدوجة التي اتبعها؛ حيث تصدى بصرامة في إنشاء "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي" بعدما فشل سابقوه وقال: "لن أترك الأصولية تجلس على مائدة الجمهورية".
وعالج هذا الأمر بقبضة نابليونية (نسبة إلى نابليون بونابرت الذي استدعى ممثلي الجالية اليهودية لاجتماع تاريخي في عام 1807 وفرض عليهم تنظيما كانت له انعكاسات ملموسة إلى اليوم) حيث قام ساركوزي بفرض رئيس غير منتخب هو دليل أبو بكر إمام مسجد باريس الذي عين رأس "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي" دون اقتراع .
ودليل أبو بكر يتعرض لانتقادات شديدة حيث يعتبره البعض ممثل الجزائر في فرنسا على الصعيد الديني ويؤمن بالمقاربة الأمنية للإسلام بفرنسا.وعلى الرغم من أن الأغلبية الساحقة من الفرنسيين ذوي الثقافة الإسلامية هم مواطنون فرنسيون حاصلون على الجنسية الفرنسية، فإن فرنسا تستمر في تشجيع تدخل الدول العربية الأصلية التي انحدر منها المسلمون الفرنسيون في شؤونهم، وبهذا تمارس فرنسا ذاتها خطابا مزدوجا، إذ تنادي ببزوغ "إسلام فرنسي"، ثم تسمح في الآن نفسه للأنظمة العربية بمشاكلها المعروفة بالتدخل في الشؤون الداخلية لمسلمي فرنسا .
وفي فرنسا أكبر أقلية مسلمة في أوروبا حيث يعتبر الإسلام الدين الثاني في فرنسا، ويفوق عدد أتباعه الخمسة ملايين، بنسبة 8% أو تزيد. وهذه الأرقام ليست رسمية أو حكومية، فقانون الإعلام والحريات يمنع تعداد المواطنين حسب انتمائهم العرقي أو الديني أو الفلسفي. فطبيعة هذه الأرقام لا تتجاوز كونها استقراءات علماء الاجتماع واستطلاعات مختصّة للرأي.
تداعيات عملية تولوز على الانتخابات
وعن مدى تأثير اعتداء تولوز على الماراثون نحو الإليزيه ، فلا شك أن أحزاب اليمين هي التي ستجني دون شك الأرباح السياسية؛ حيث يرى إريك بوني مدير الدراسات في معهد "بي في أي" لاستطلاعات الرأي في فرنسا أنه في حال عادت مشكلة الأمن لتحتل طليعة اهتمامات الفرنسيين خلال هذه الحملة، فمن دون مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف سيستفيد من ذلك. وبخلاف انتخابات 2007، فالفرنسيون لا يهتمون هذه المرة كثيرا بمشكلة الأمن، بل ما يهمهم هو تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وخاصة بعد الأزمات الاقتصادية ولكن أحداث تولوز ستعيد قضية الأمن إلى الواجهة.
أحداث تولوز خلطت الأوراق السياسية والانتخابية من جديد ولكنها ليست هي التي ستحسم نتائج الانتخابات في مايو المقبل لأن الفرنسيين يعانون من مشاكل معقدة أخرى، أبرزها انخفاض قدرتهم الشرائية وتنامي البطالة والأزمة الاقتصادية.
وجهت عمليات القتل الإرهابية في جنوب غرب فرنسا على مدى الأيام العشر الماضية وخاصة تلك التي وقعت مدينة تولوز عدة صدمات للمجتمع الفرنسي وللدوائر السياسية والأمنية.أهم هذه الصدمات أنها كسرت "الجدار الأمني العازل" في نفوس الفرنسيين؛ حيث باتت باريس اليوم في مرمى هجمات التنظيمات الإسلامية المتطرفة بعد أن كانت على مدار أكثر من 15 عاما في منأى من الهجمات والتفجيرات الإرهابية. ففرنسا لم تشهد أي اعتداء إرهابي منذ 1996، في حين وقعت هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، وتفجيرات مدريد 2004، واعتداءات لندن 2007 .
والصدمة الأخرى أن منفذ تلك الاعتداءات شاب يحمل الجنسية الفرنسية، وولد على أرض الجمهورية العلمانية، وهو ما يطرح تساؤلات تتعلق بمدى قوة واختراق تنظيم القاعدة للشباب الفرنسي، والبيئة الحاضنة التي تفرخ المتطرفين، وعن العلاقة بين التنظيمات السلفية التي تنتشر في فرنسا وبين الحركات "الجهادية" التي تتبنى العنف منهجا.
ورغم الإجماع بأن الشاب محمد مراح منفذ هجمات تولوز ومونتوبان جنوب فرنسا لم يكن عضوا في تنظيم القاعدة أو في إحدى الجماعات المتطرفة المنضوية تحت لوائها رغم إعلانه ذلك؛ إلا أن الطريقة التي قام بتنفيذ تلك الهجمات بها عبر استخدام دراجة بخارية مسروقة وانتقاء أهدافه بطريقة ارتجالية لتنتهي مطاردته بمقتل منفذها منتحرا بالقفز من نافذة الحمام بعد معركة دامت 32 ساعة داخل شقته تكشف عن وجه جديد للقاعدة في أوروبا.
من هم " الذئاب المنفردة" للقاعدة؟
فالشاب مراح يُصنف ضمن فئة "الجنود التائهة" أو ما يطلق عليها أيضا ظاهرة "الذئاب المنفردة" لتنظيم القاعدة، وهم الشباب الأوروبيون الذين سافروا لأسباب مختلفة إلى المناطق القبلية على الحدود الأفغانية الباكستانية، وتُقدر أجهزة الاستخبارات الفرنسية عددهم ببضعة عشرات يخضعون لمراقبة مشددة .
وأغلب "الذئاب المنفردة" من المجرمين الصغار الذين ينتقلون إلى السلفية المتشددة، عبر مفرخة السجون الفرنسية التي باتت المكان الآمن لمدرسة تحويل المجرمين إلى "مجاهدين".
فالشاب مراح تم حبسه بجنح بسيطة تتضمن النشل وأعمال عنف عندما كان عمره 20 عاما، وبعد أقل من عام بعد الإفراج عنه كان قد وصل إلى أفغانستان، ثم انتقل إلى معسكر تدريب للقاعدة في باكستان.واشتكت العديد من المنظمات الحقوقية الفرنسية من أن السجون الفرنسية باتت وكرا لنشر الأفكار السلفية المتشددة بين الشباب الفرنسي.
ويشكل المسلمون نحو 40% من نزلاء السجون في فرنسا، في حين تقدر الشرطة الفرنسية أعداد السلفيين الفرنسيين من 12 إلى 15 ألف شخص، والسلفيون الجهاديون بينهم أقلية صغيرة، وهم يستهدفون المهمشين في الضواحي الفرنسية الفقيرة التي تعتبر هشة اجتماعيا وشهدت أعمال شغب وعنف في عام 2005 استمرت ثلاثة أسابيع .
و"اللصوص المجاهدون" يقومون بعد الخروج من السجن بالسهر مع الفتيات، والمنافسة على سرقة السيارات الفارهة وجني المال عبر بيع المخدرات ويمارسون بجانب ذلك قيم التشدد الإسلامي، وهذا ما يفسر عزوف الأجهزة الأمنية الفرنسية عن القبض عليهم؛ حيث أكدت الداخلية الفرنسية أنه لم يوجد أي مبرر للقبض على مراح وأمثاله رغم خضوعهم لمراقبة مشددة، مؤكدة أن نمط سلوكهم لم يشر إلى جنوحهم نحو الإرهاب .
ويصنف الشبان القادمون من أوروبا إلى المناطق القبلية على الحدود بين أفغانستان وباكستان إلى ثلاث فئات: الأولى المهمشون الباحثون عن مغامرة، والذين يسارعون للعودة إلى ديارهم لعدم العثور على من يتكفل بهم.
والفئة الثانية وهم الذين يتدربون على القتال في أفغانستان، غير أنهم يعودون دون الانخراط في شبكة منظمة، وهؤلاء قد يتحولون إلى جنود تائهين.والفئة الأخيرة وتضم الذين يتدربون في صفوف القاعدة وحركة طالبان الباكستانية ويصبحون مقاتلين حقيقيين جاهزين لتنفيذ عمليات وهم من يطلق عليهم "الخلايا النائمة".
اللافت أن جميع الاعتداءات أو محاولات الاعتداء التي وقعت منذ عام 2001 في دول غربية، من مدريد إلى لندن مرورا بفرانكفورت وساحة تايمز سكوير في نيويورك، تعود جذورها إلى هذه المناطق القبلية الواقعة على الحدود الباكستانية الأفغانية، وعملية تولوز هي أحدث هذه الحلقات حيث زارها القاتل الفرنسي الشاب ذو الأصول الجزائرية تحت مرأى أجهزة الأمن والاستخبارات الفرنسية.
ويبرر سمير أمغر، أستاذ علوم الاجتماع بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسي عدم تصدي الأجهزة الأمنية للشباب الفرنسي الذي يزور المناطق القبلية بأن مثل هذا النوع من الرحلات إلى أفغانستان "كان شائعا جدا في تسعينيات القرن الماضي" في غمار الفرحة بانتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفيتي سابقا .
ولكن البعض يرى أن فرنسا تجني بعمليات تولوز جزءا مما زرعته يداها؛ حيث كانت تسمح للحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها ومشاربها للسفر إلى أفغانستان للمشاركة في قتال الشيوعيين السوفيت إبان الحرب الباردة .ومن الدوافع الأخرى لـ"السياحة الجهادية" الفرنسية إلى أفغانستان هي نقص الوازع الديني لدى الشباب، وتعترف جمعيات إسلامية بأن التكوين الديني لا يزال ضعيفا في فرنسا، بل يفسر البعض رغبة بعض الشباب في السفر إلى باكستان وأفغانستان وغيرها من الدول المسلمة بحرصهم على تعلم الدين بتكاليف أدنى من التي تطلب منهم في فرنسا .
وبذلك تحولت المناطق القبلية في البشتونية على الحدود بين باكستان وأفغانستان إلى قبلة للمجندين الشباب القادمين من أوروبا والمغرب وآسيا الوسطى وحتى الولايات المتحدة، وهي تبقى اليوم "أكبر مركز للإرهاب الدولي"، ويطلق عليها بعض الخبراء الأمنيين جامعة "إف- باك" (الأحرف الأولى من أفغانستان وباكستان.
المتطوعون الأجانب بعد مقتل بن لادن
ولكن في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة والخطر المتواصل الذي تشكله الطائرات الأمريكية بدون طيار على التنظيم والصعوبات المالية التي يواجهها تقلص من عدد المتطوعين الأجانب الراغبين في الانخراط في العمليات الجهادية وباتت الحركات المتطرفة تبحث عن تجنيد اللصوص.
كما أن مقتل بن لادن أدى أيضا إلى تغيير قواعد اللعبة كما يرى ماتيو جودير الباحث الفرنسي المتخصص في شئون الإرهاب، مما دفع عددا ممن ينتمون للقاعدة إلى العودة إلى أوطانهم، وخاصة مع تغير الوضع الجيوسياسي وزعزعة الاستقرار بالنسبة لهم ولكن كل هذا أدى إلى ردود فعل متطرفة جدا لديهم، واصفا هؤلاء الشباب الفرنسيين بأنهم "أيتام بن لادن". ومن الصعب تحديد المكان الذي ينحدر منه أتباع بن لادن في فرنسا وأين يتركزون بسبب عدم وجود دراسات محددة عن جذورهم الاجتماعية، خاصة وأنهم مواطنون فرنسيون مقيمون في فرنسا لفترة طويلة، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة للكشف عنهم .
ويرى جان بيار فيليو، الدبلوماسي والأستاذ المشارك في معهد الدراسات السياسية ، في كرسيّ الشرق الأوسط، في دراسته لأيديولوجيا الجهاديين في كتابه "حيوات القاعدة التسع" أن القاعدة خلال مراحل نموها وتفكيكها مرت بتسعة مراحل ولكنها لم تختف أو تنهار كليا.ويبرهن المؤلّف كيف جدّدت القاعدة المعركة مع العالم في الحيّز الافتراضي (شبكة الإنترنت) مع خسارتها ارتكازها في الحيّز الجغرافي الحقيقيّ؛ إذ إنّها عاجزة عن التجذّر في أيّ مكانٍ آخر غير مناطق الباشتون.
وهذه التحولات رصدها تقرير لمركز "بيو للدين والحياة العامة" الأمريكي عن الحركات الإسلامية في غرب أوروبا؛ حيث أصبح الإنترنت المنبر الإعلامي لهذه الحركات، وأصبحت القاعدة حاضرة بشكل ملحوظ في مواقع الشبكات الاجتماعية كالفيس بوك وتويتر، وتعمل على الاستفادة من أدوات التدوين والوسائط المعلوماتية للوصول لمزيد من الأعضاء. وهذا ما يفسر حرص الشاب مراح على تصوير كل الاعتداءات التي نفذها حيث كان يضع كاميرا في السترة الواقية من الرصاص التي يرتديها لوضعها على الإنترنت.
وترى صحيفة "لوفيجارو" أن هؤلاء الشباب الأوروبيين والأمريكيين المسلمين هم الذين تبحث عنهم مجلة "انسباير" والتي ينشرها تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية على شبكة الإنترنت ومتوفرة باللغة الإنجليزية. وتوفر هذه المجلة تفاصيل عن تصميم القنبلة وطرق إخفائها أو الفرار من مطاردة الشرطة. فهذه المجلة تقدم إلى حد ما تدريبا عن بعد تعطيه معسكرات القاعدة للجهاديين، وذلك قبل تفكيكها في بداية عام 2000.
وعلى الرغم من تعدد الدوافع والأسباب لنمو ظاهرة "الذئاب المنفردة للقاعدة " في فرنسا وبعيدا عن الخداع الذي تعرضت له الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الفرنسية في تقدير خطورتها، فإن هذه التفجيرات ستفتح ملف الحركات الإسلامية في فرنسا، وتعيد طرح تحديات الاندماج في المجتمع الفرنسي مرة أخرى، كما ستوجه أصابع الاتهام إلى الرئيس نيكولا ساركوزي الذي كان يتولى هذا الملف عندما كان وزيرا للداخلية.ويتعرض ساركوزي لانتقادات بسبب المعايير المزدوجة التي اتبعها؛ حيث تصدى بصرامة في إنشاء "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي" بعدما فشل سابقوه وقال: "لن أترك الأصولية تجلس على مائدة الجمهورية".
وعالج هذا الأمر بقبضة نابليونية (نسبة إلى نابليون بونابرت الذي استدعى ممثلي الجالية اليهودية لاجتماع تاريخي في عام 1807 وفرض عليهم تنظيما كانت له انعكاسات ملموسة إلى اليوم) حيث قام ساركوزي بفرض رئيس غير منتخب هو دليل أبو بكر إمام مسجد باريس الذي عين رأس "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي" دون اقتراع .
ودليل أبو بكر يتعرض لانتقادات شديدة حيث يعتبره البعض ممثل الجزائر في فرنسا على الصعيد الديني ويؤمن بالمقاربة الأمنية للإسلام بفرنسا.وعلى الرغم من أن الأغلبية الساحقة من الفرنسيين ذوي الثقافة الإسلامية هم مواطنون فرنسيون حاصلون على الجنسية الفرنسية، فإن فرنسا تستمر في تشجيع تدخل الدول العربية الأصلية التي انحدر منها المسلمون الفرنسيون في شؤونهم، وبهذا تمارس فرنسا ذاتها خطابا مزدوجا، إذ تنادي ببزوغ "إسلام فرنسي"، ثم تسمح في الآن نفسه للأنظمة العربية بمشاكلها المعروفة بالتدخل في الشؤون الداخلية لمسلمي فرنسا .
وفي فرنسا أكبر أقلية مسلمة في أوروبا حيث يعتبر الإسلام الدين الثاني في فرنسا، ويفوق عدد أتباعه الخمسة ملايين، بنسبة 8% أو تزيد. وهذه الأرقام ليست رسمية أو حكومية، فقانون الإعلام والحريات يمنع تعداد المواطنين حسب انتمائهم العرقي أو الديني أو الفلسفي. فطبيعة هذه الأرقام لا تتجاوز كونها استقراءات علماء الاجتماع واستطلاعات مختصّة للرأي.
تداعيات عملية تولوز على الانتخابات
وعن مدى تأثير اعتداء تولوز على الماراثون نحو الإليزيه ، فلا شك أن أحزاب اليمين هي التي ستجني دون شك الأرباح السياسية؛ حيث يرى إريك بوني مدير الدراسات في معهد "بي في أي" لاستطلاعات الرأي في فرنسا أنه في حال عادت مشكلة الأمن لتحتل طليعة اهتمامات الفرنسيين خلال هذه الحملة، فمن دون مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف سيستفيد من ذلك. وبخلاف انتخابات 2007، فالفرنسيون لا يهتمون هذه المرة كثيرا بمشكلة الأمن، بل ما يهمهم هو تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وخاصة بعد الأزمات الاقتصادية ولكن أحداث تولوز ستعيد قضية الأمن إلى الواجهة.
أحداث تولوز خلطت الأوراق السياسية والانتخابية من جديد ولكنها ليست هي التي ستحسم نتائج الانتخابات في مايو المقبل لأن الفرنسيين يعانون من مشاكل معقدة أخرى، أبرزها انخفاض قدرتهم الشرائية وتنامي البطالة والأزمة الاقتصادية.