منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#48523
يفند كاجان مقولة يعتمد عليها الاتجاه الذي يقول بتراجع القوة الأمريكية، وهي أنه كان هناك وقت ما كانت الولايات المتحدة قادرة فيه على تشكيل العالم ليتوافق مع إرادتها، وأن تجعل الأمم الأخرى تفعل ما تريد، وأنها كانت تقوم "بإدارة ترتيبات الأمن والاقتصاد والسياسة في كل العالم".

يقول كاجان إن مثل هذا الاعتقاد ليس إلا وهمًا رومانسيًّا، فمثل هذا الوقت لم يوجد قط، وإنما تشكلت الهيمنة الأمريكية في العالم عبر سلسلة من تواكب النجاحات والإخفاقات. وإذا نظرنا للسنوات الأولى من الحرب الباردة، حيث استطاعت أمريكا أن تحقق هيمنة كاملة على شئون العالم، فسنجد أنها استطاعت تحقيق العديد الإنجازات الفائقة، مثل مشروع مارشال، وتأسيس الناتو، وإنشاء الأمم المتحدة، وتأسيس نظام بريتون وودز الاقتصادي، وهو ما يشكل العالم كما نعرفه حاليًّا.

إلا أنه بالمقابل كانت هناك لحظات من الانتكاس، ففي عام 1949، نجحت الثورة الشيوعية في الصين، وكسر الاتحاد السوفيتي الاحتكار الأمريكي للسلاح النووي، ثم تورطت الولايات المتحدة في الحرب الكورية، وفقدت 35 ألفا من جنودها. وفي الخمسينيات، اجتاح الأمريكيين القلق من التدهور النسبي لقوتهم إزاء صعود قوة المعسكر الاشتراكي، كما أنها فشلت في إقناع حلفائها الغربيين بعدم الاعتراف بحكومة الصين الشعبية.

أما القوة الناعمة الأمريكية، فلم يكن هناك دائمًا هذا الإعجاب المتخيل بالنموذج الأمريكي ، وليس من الصحيح أن بقية العالم حاولت أن تحاكي هذا النموذج. فآلة الإعلام الأمريكية- رغم أنها أسهمت في انتشار الثقافة الأمريكية- إلا أنها لم تنجح سوى في تصدير صورة سيئة لأمريكا. فقد بث التليفزيون الأمريكي في الخمسينيات صور جلسات ماكارثي لصيد الشيوعيين، ثم غلبت صور ممارسات العنصرية البيضاء على شاشاته، ثم غلبت مشاهد العنف والاغتيالات.
والسياسة الخارجية الأمريكية لم تكن دائمًا محل ترحيب بقية العالم، خاصة العالم الثالث، ولم يساعد سجل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على تحسين صورة أمريكا. كما أن حرب فيتنام ساعدت على جعل أمريكا قوة استعمارية عاتية تريد أن تخضع بلدًا صغيرًا مقاومًا. وفي العقود الأولى من الحرب الباردة، كان العالم الثالث أكثر إعجابًا بالنظام الاقتصادي السوفيتي، "رأسمالية الدولة"، لا بالنموذج الأمريكي الحر.

وواجهت الولايات المتحدة في عقد السبعينيات العديد من الأزمات التي جعلت هنري كيسنجر يتحدث عن أن أمريكا تجاوزت نقطة الذروة التي تبلغها كل حضارة قبل انهيارها. فقد أدى الارتفاع المذهل لأسعار البترول، بالإضافة إلى السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة الأمريكة في حرب فيتنام، إلى دخول الاقتصاد الأمريكي في أزمة حادة. وقد هبط معدل الإنتاج القومي بمقدار 6% بين عامي 1973 و1975، وتضاعف معدل البطالة من 4.5% ليصبح 9%.

وفي العقد التالي، تنبأ بول كيندي في كتابه "سقوط وصعود القوى العظمى" بأن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يعانيان الترهل الاستراتيجي، وأن الولايات المتحدة ستكون أول المنهارين بسبب هذا الترهل. غير أن الانهيار لحق بالاتحاد السوفيتي في نهاية العقد، لتصبح أمريكا وحدها في العقد التالي القوة العظمى الوحيدة. ومع ذلك، فشلت في التعامل مع العديد من القضايا، رغم أن الأمريكيين فازوا في حرب الخليج، ووسعوا حلف الناتو شرقًا، وأحلوا السلام في البلقان، بعد سفك الكثير من الدماء، ودفعوا العالم ليتبنى "إجماع واشنطن" حول الاقتصاد.

غير أن هذه النجاحات صاحبتها إخفاقات مماثلة. فقد بدأ إجماع واشنطن في الانهيار مع الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، حيث عُدت الوصفات والحلول الأمريكية خاطئة، وربما مدمرة. وتأخرت واشنطن في منع كوريا الشمالية وإيران من تطوير برامج أسلحة نووية، وتقاعست عن منع الإبادة العرقية في رواندا. ورغم أنها دعمت التحول الديمقراطي في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، فإنها لم تستطع أن تتحكم في مسار الأمور بعد ذلك.

ويقر كاجان بأن الولايات المتحدة اليوم غير قادرة على فرض إرادتها في العديد من الملفات، ومع ذلك فقد سجلت العديد من النجاحات في العراق، وفي الحفاظ على شبكة فعالة لمنع الانتشار النووي، وفي تدمير القاعدة، وفي تطوير الأسلحة، وفي تمتين شبكة تحالفاتها مع أوروبا، ومع العديد من القوى الآسيوية الصاعدة.

ومن هذا التحليل التاريخي، يؤكد كاجان أن سجل القوة الأمريكية ممتزج بالنجاح والإخفاق، فالفكرة ليست في أن أمريكا كانت تفتقد دائمًا النفوذ العالمي. فمن الحرب العالمية الثانية حتى الآن، والولايات المتحدة هي في حقيقة الأمر القوة العالمية المهيمنة التي اكتسبت المزيد من النفوذ منذ روما القديمة، بل وتفوقت في هذا الصدد. غير أنها لم تكن القوة القاهرة القادرة على فعل كل شىء.

وإذا ما أردنا التحقق من كون الولايات المتحدة في حالة تراجع أم لا، فنحن بحاجة إلى معايير معقولة يجب الاحتكام إليها. أما إذا قارنا نفوذ الولايات المتحدة اليوم بهيمنتها الشاملة الخرافية كما تبين، فإن هذا سيضللنا