منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#48661
الفصل السادس والثلاثون

عشية الثورة

1774-1789

1- الدين والثورة

كانت الكنيسة الكاثوليكية من الناحية المالية أسلم مؤسسة في البلاد، تملك نحو 6% من الأرض، وأملاكاً أخرى تقدر قيمتها في مجموعها بمبلغ يتفاوت بين بليوني جنيه وأربعة بلايين، وتغل دخلاً سنوياً قدره 120.000.000 جنيه(1). يضاف إلى هذا 123.000.000 جنيه من العشور التي تجبى على غلات الأرض وماشيتها(2). وكانت هذه الدخول في نظر الكنيسة لازمة لأداء مختلف وظائفها-وهي دعم الحياة الأسرية، وتنظيم التعليم (قبل 1762)، وتربية الأخلاق، وتأييد النظام الاجتماعي، وتوزيع الصدقات، ورعاية المرضى، وتوفير الأديرة ملاذاً للنفوس النزاعة للتامل أو العازفة عن السياسة يحميها من الفوضى الزحام واستبداد الدولة، وغرس مزيج حكيم من الخوف، والرجاء، والتسليم، في نفوس ضرب عليها الفقر أو المشقة أو الحزن نتيجة لعد المساواة الطبيعية بين البشر.

كل أولئك زعمت أنها تفعله بواسطة أكليروسها الذي كان قوامه نحو نصف في المائة من السكان. وكان عدد رجاله قد تقلص منذ عام 1779(3)، وأصاب الأديرة اضمحلال خطير. ويروون إن "رهبان كثيرون كانوا يحبذون الأفكار الجديدة، ويقرأون مؤلفات الفلاسفة"(4). وهجر مئات الرهبان حياة الرهبنة ولم يحل محلها جدد، وتقلص عددهم في فرنسا بين 1766 و1789 من 26.000 إلى 17.000، وفي أحد الأديرة من ثمانين إلى تسعة عشر، وفي آخر من خمسين إلى أربعة(5). وقد أغلق مرسوم ملكي صادر عام 1766 جميع الأديرة التي تضم أقل من تسعة نزلاء، ورفع السن المسموح بها لنذر الرهبنة من ست عشرة سنة إلى إحدى وعشرين سنة للرجال، وإلى ثماني عشرة للنساء. وكانت أخلاق الرهبان منحلة. كتب رئيس أساقفة تور في 1778: "أن الأخوة الرماديين (الفرنسسكان) في حالة انحطاط في هذا الإقليم، ويشكو الأساقفة من خلاعتهم وما في حياتهم من فوضى"(6). أما أديرة الراهبات فكانت في حالة طيبة. وكان هناك 37.000 راهبة يضمهن 1.500 دير في فرنسا عام 1774(7)، وكانت أخلاقهن فاضلة، وقد نشطن لمهامهن في تعليم الفتيات، والخدمة في المستشفيات، وتقديم المأوى للأرامل، والعوانس، والنساء اللائي تحطمن في معركة الحياة.

وحسن حال الأكليروس من غير الرهبان مادياً في مقار الأسقفيات وساء في الأبرشيات. وقد كان هناك الكثير من الأساقفة المخلصين المجتهدين، وبعض الكسالى المتشبثين بمتع الحياة الدنيا. وقد وجد بيرك أثناء زيارته لفرنسا عام 1773 بعض الأساقفة ممن يعيبهم الجشع، ولكن السواد الأعظم منهم وقعوا من نفسه خير الموقع بعلمهم ونزاهتهم(8). وقد خلص مؤرخ ألم بكتب الفصائح إلى هذا الحكم "يمكن القول بصفة عامة أن الرذائل التي استشرت في جسم الأكليروس كله خلال القرن السادس عشر قد اختفت في القرن الثامن عشر. وكان قساوسة الريف عادة رجالاً ذوي أخلاق كريمة، متقشفين، فضلاء(9)رغم قانون التبتل"، وقد شكا كهنة الأبرشيات هؤلاء من الكبرياء الطبقية في الأساقفة، كانوا كلهم نبلاء، ومن إلزامهم بتحويل الجزء الأكبر من العشور إلى الأسقف، وما ترتب على ذلك من فقر ألجأ القساوسة إلى أن يفلحوا الأرض كما يخدمون الكنيسة. وقد تأثر لويس السادس عشر من احتجاجاتهم، وأمر برفع رواتبهم من خمسمائة جنيه في العام إلى سبعمائة. فلما أقبلت الثورة أيد كثيرون من صغار الكهنة الطبقة الثالثة. كذلك ظاهر بعض الأساقفة الإصلاح السياسي والاقتصادي، ولكن أكثرهم ظل صلباً لا يلين في عدائه لأي تغييرات في الكنيسة أو الدولة(10).

وحين أشرفت خزانة فرنسا على الإفلاس ظهر ثراء الكنيسة مناقضاً لفقر الدولة تناقضاً مغرياً بالعدوان عليه، وبدأ أصحاب الصكوك الذين تشككوا في قدرة الحكومة على دفع فائدة قروضهم أو أصولها يرون في نزاع أكلاك الكنيسة السبيل الأوحد لإصلاح مالية البلاد. والتقى رفض العقيدة المسيحية المنتشر مع هذا الدافع الاقتصادية.

وزكا الإيمان الديني في القرى، وخبا في المدن؛ وفي المدن احتفظت نساء الطبقتين الوسطى والدنيا بتدينهن التقليدي. قالت مدام فيجيه-ليرون مسترجعة ذكرى ماضيها "كانت أمي تقية جداً. وكنت أنا أيضاً تقية في قرارة نفسي. وقد ألفنا دائماً أن نستمع إلى القداس المطول ونختلف إلى خدمات الكنيسة"(11). وكانت الكنائس تكتظ بالمصلين في الآحاد والأعياد الدينية(12). ولكن عدم الإيمان بين الرجال كان قد تسلط على نصف العقول القائدة. وفي أوساط النبلاء أصبحت الشكوكية المرحة زياً راج حتى بين النساء. كتب مرسييه في كتابه "صورة باريس" في 1783 يقول: "ولم يحضر أفراد المجتمع العصري القداس طوال السنوات العشر الماضية، فإذا حضروا فلكيلا يصدموا شعور أتباعهم الذين يعرفون أنهم يفعلون هذا إرضاء لهم"(13)، وحذا القطاع الأعلى من الطبقة الوسطى حذو الأرستقراطيين. أما في المدارس "فإن مدرسين كثيرين سرت إليهم عدوى الإلحاد بعد عام 1771"(14)، وأهمل كثير من الطلاب حضور القداس وقرأوا كتب الفلاسفة. وفي 1789 صرح الأب بونفاكس بأن "أخطر فضيحة، والفضيحة التي ستجر أوخم العواقب، هي الهجر التام تقريباً للتعليم الديني في المدارس العامة"(15). وقد قيل عن إحدى الكليات أن "ثلاثة من البلهاء فقط" هم الذين يؤمنون بالله(16).

أما بين الأكليروس فقد اختلف الإيمان عكسياً باختلاف الدخول. فالأساقفة "قبلوا المبادئ النفعية التي قال بها جماعة الفلاسفة، واحتفظوا بالمسيح واجهة ساترة فقط"(17). وكان مئات من رؤساء الأديرة مثل مابليه، وكوندياك، وموريلليه، ورينال، هم أنفسهم "فلاسفة"، أو معتنقين للشكوك السارية. ثم أساقفة كتاليران لم يتظاهروا بالإيمان المسيحي إلا قليلاً؛ ورؤساء أساقفة مثل لومنيه دبريين، شكا لويس السادس عشر من عدم أيمانهم بالله(18). وقد رفض لويس أن يكلف قسيساً بتعليم ولده مخافة أن يفقد الغلام إيمانه الديني(19).

وواصلت الكنيسة مطالبتها بالرقابة على المطبوعات. ففي عام 1770 أرسل الأساقفة إلى الملك مذكرة تناولت "العواقب الخطيرة لحرية التفكير والنشر"(20). وكانت الحكومة في عهد لويس الخامس عشر قد تساهلت في تطبيق القوانين التي منعت دخول البروتستانتي إلى فرنسا، فكان منهم الآن مئات في المملكة، يحيون في ظل قيود سياسية، وفي زيجات لا تعترف بها لدولة، وفي خوف كل يوم من أن تطبق عليهم في أي لحظة قوانين لويس الرابع عشر القديمة. وفي يوليو 1775 التمس مؤتمر من رجال الدين الكاثوليك من الملك أن يحظر اجتماعات البروتستانت، وزيجاتهم، وتعليمهم، وأن يحرم البروتستانت من جميع المناصب العامة؛ كذلك طلب خفض السن التي يسمح فيها بنذر الرهبنة إلى السادسة عشرة(21). وناشد طورجو لويس السادس عشر أن يغفل هذه المقترحات، وأن يخفف إن البروتستانت قيودهم، فشارك الكهنة في الحملة لإقصائه. وفي 1781 أحرقت الطبعة الثانية من كتاب رينال "التاريخ الفلسفي لجزر الهند الشرقية والغربية" بأمر من برلمان باريس، ونفي المؤلف من فرنسا. وهاجمت السوربون بوفون لأنه وصف تطوراً طبيعياً للحياة. وفي 1785 طالب الأكليروس بالحكم بالسجن المؤبد على الأشخاص الذين يدانون ثلاث مرات بالإلحاد(22).

غير أن الكنيسة التي أوهن بأسها قرن من الهجمات لم تعد قادرة على الهيمنة على الرأي العام، ولا على الاعتماد على "الذراع العلمانية" في تنفيذ أوامرها. فبعد أن ظل لويس السادس عشر شديد القلق بسبب يمين التتويج التي اقسمها لمحق الهرطقة، أذعن لضغط الأفكار اللبرالية وأصدر في 1787 مرسوماً للتسامح أعده ماليرب: "أن عدالتنا لا تسمح لنا بأن نحرم بعد اليوم من حقوق الدولة المتحضرة رعايانا الذين لا يعترفون بالكاثوليكية"(23). وقد أبقى المرسوم على حرمان غير الكاثوليك من المناصب العامة، ولكنه أعطاهم جميع الحقوق المهنية الأخرى، وسمح لهم بالمهن الحرة، وأضفى الشرعية على زيجاتهم الماضية والمستقبلية، وأباح لهم الاحتفال بخدماتهم الدينية في لمنازل الخاصة. ويجب أن نضيف أن أسقفاً كاثوليكياً هو لالوزرن أيد بقوة تحرير البروتستانت وإطلاق الحرية الكاملة للعبادة الدينية"(24).

ولم تكن هناك طبقة في مدن فرنسا أبغض إلى أقلية الذكور المتعلمة من الأكليروس الكاثوليك. يقول توكفيل أن الكنيسة كانت مكروهة "لا لأن القساوسة زعموا أنهم ينظمون شئون العالم الآخر، لا لأنهم كانوا ملاكاً للأرض، وأصحاب ضياع وعشور وحكاماً في هذا العالم"(25)وكتب فلاح إلى نكير في 1788 يقول: "إن الفقراء يقاسون البرد والجوع بينما يرتع كهنة الكاتدرائيات في رغد من العيش ولا يفكرون إلا في تسمين أنفسهم كأنهم خنازير ستذبح للفصح"(26). وغاظ الطبقات الوسطى إعفاء ثروة الكنيسة من الضرائب.

ولقد كانت معظم الثورات السابقة ثورات أما على الدولة وإما على الكنيسة، وندر أن نشبت ضدهما معاً في وقت واحد. فالقبائل الهمجية أطاحت بروما، ولكنها قبلت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. والسوفسطائيون في اليونان القديمة ودعاة الإصلاح البروتستانتي في أوربا القرن السادس عشر، رفضوا الدين السائد، ولكنهم قبلوا الحكومة القائمة. أما الثورة الفرنسية فإنها هاجمت الملكية والكنيسة جميعاً، واضطلعت بمهمة ومخاطرة مزدوجة، هي مهمة الإطاحة بالركيزتين الدينية والدنيوية للنظام الاجتماعي القائم. فهل من عجب أن يركب فرنسا الجنون عقداً من الزمان؟