حرب السودان وتداعياتها
مرسل: الأحد إبريل 22, 2012 10:17 am
حرب السودان وتداعياتهاخليل حسينربما الاستنتاج الأسرع والأوضح الذي يمكن التوصل إليه في وضع السودان الحالي، أنه خسر جنوبه، ولم يربح السلام . والمفارقة فيما يمر به السودان حالياً، لا يعدو كونه سلسلة من النزاعات التي طبعت تاريخه السياسي المعاصر كما الحديث، فالتدقيق في الوقائع والأحداث التي مر بها، توضح جملة من الأسباب التي أسهمت في تأجيج الخلافات الداخلية، ودوام استثمارها خارجياً لمصلحة أو أخرى .
فالسودان كغيره من الدول العربية والإفريقية، الذي رُتب وضعه على عجل، فلم يراع فيه لا حدوده السياسية ولا تجمعاته القومية والإثنية . فهو تاريخياً اعتبر الحديقة الخلفية لمن حكم مصر، وهو أيضاً ورقة المساومة والضغط على مصر في أدائها السياسي إبان حكم العثمانيين والبريطانيين والفرنسيين في ما بعد، علاوة على مجموعة من الفواعل الإقليمية الصغيرة المجاورة . وبذلك تجمّعت كل أدوات ووسائل النزاعات لتعطيه ميزة بلد الحروب الدائمة، الذي يختصر بشكل أو بآخر الكثير من الكيانات السياسية الإفريقية .
فمشكلة السودان ليست حديثة العهد، ولا هي وليدة انفصال جنوبه، بقدر ما هي تقاطع عناصر التاريخ والجغرافيا في منطقة هي الأشد حساسية في تركيبتها الإثنولوجية وتداعياتها الجيوبولتيكية، والأغرب في كل ذلك سرعة انجرار أطرافها في لعبة أكبر من أن يديروها أو يكونوا مؤثرين حقيقيين فيها .
فاتفاق السلام الموقع عام ،2005 فتح المجال كما كان يُصوّر إلى مشروع سلام أهلي داخلي، من خلال الاتفاق على استفتاء بشأن الجنوب بعد اثنين وعشرين عاماً من النزاعات والحروب ارتكب فيها ما ارتكب من فظائع . أتى الاستفتاء عام 2011 وبموجبه انفصل الجنوب في يوليو/ تموز ،2011 بمواصفات دولة هجينة تحمل بذور الصراع مع الشمال، وببعد تاريخي يعود إلى العام ،1956 تاريخ ترسيم الحدود السياسية والإدارية الداخلية والخارجية . الذي يستند الصراع الحالي عليه . إذ كان السودان في عهد الاستعمار البريطاني مقسماً إدارياً إلى منطقتين شمالية وجنوبية مختلفتين .
إلا أن العديد من الخرائط التي تركتها بريطانيا ذخيرة للنزاع الداخلي، لم تكن واضحة ولم يتم الاتفاق على تعديلها أو إعادة النظر بها لاحقاً، ولذلك ثار النزاع مجدداً بين الخرطوم وجوبا على مساحات ممتدة على 1800 كلم من الحدود المشتركة، التي تضم أراضي زراعية خصبة وموارد طبيعية نفطية وغيرها . ومن بين تلك المناطق أيضاً، منطقتا آبيي وهجليج اللتان تشكلان بُعداً عاطفياً في الذاكرة الجماعية للشمال والجنوب، حيث ينتمي قادة كل من المنطقتين إلى قبائل تعود أصولها وجذورها التاريخية والجغرافية إليهما . إن منطقة هجليج التي شكلت شرارة النزاع القائم والتي احتلتها قوات جنوبية، هي في الواقع إحدى رئتي الخرطوم المالية، إذ تنتج نصف موارده النفطية، وتُعد من المناطق الاستراتيجية التي تستند الخرطوم إليها بعدما فقدت في يوليو/ تموز 2011 ثلاثة أرباع احتياطها من النفط الذي كانت تملكه قبل انفصال الجنوب .
والبعد الآخر لمنطقة هجليج أنها تتبع منطقة آبيي التي تتمتع بوضع خاص وفقاً لاتفاق السلام عام ،2005 التي تشمل أيضاً هجليج، لكن محكمة التحكيم الدولي في لاهاي حدّت من مساحتها في 2009 وفصلت عنها هجليج .
إلا أن الأمر لم يحسم، إذ ما زال الطرفان يتنازعان على هجليج، حيث تؤكد جوبا أن المنطقة وحقولها النفطية كانت في الجنوب حسب خرائط 1956 . كما لم تحسم المحكمة مسألة ضم آبيي إلى شمال أو جنوب السودان .
علاوة على ذلك كان من المفترض أن يتم استفتاء في يناير/ كانون الثاني 2011 حول المنطقة، لكن الخلاف على من يحق له الاقتراع أجهض العملية برمتها، وفي مايو/ أيار 2011 استولت قوات الخرطوم على المنطقة، وباتت سبباً رئيساً من أسباب النزاع القائم حالياً . كما وضعت جوبا الانسحاب من منطقة هجليج شرطاً لانسحاب الخرطوم من آبيي .
ثمة لائحة طويلة من أسباب النزاع القائم التي يبدو أنها مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر في المستقبل القريب، لكن الأمر لن يقتصر على ذلك بفعل التداعيات المحتملة في المنطقة التي تعج أيضاً بخلفيات كثيرة، من بينها التداخل الاثني والقبلي والمذهبي في دول المنطقة، التي تعاني جميعها من غليان التغييرات الحاصلة عربياً . فهل ستقف الحرب بين السودانيين عند هذا الحد أم ستمتد الأمور إلى الصومال وغيره أيضا؟ .
لقد اتحد اليمنان في العقد الأخير من القرن الماضي، لكن قُسم السودان إلى سودانين في العقد الثاني من القرن الحالي، وثمة الكثير من المؤشرات التي تنذر بمزيد من الانقسامات في غير بلد عربي، فما العمل؟ ثمة حاجة ملحة لقراءة واقعنا العربي الذي يستلزم حلولاً استثنائية لمشاكل وأزمات عمرها من عمر كيانات المنطقة وأنظمتها، فهل نحن واعون لما يجري لنا وحولنا وعلينا، يبدو أننا نحن العرب نعيش في كوكب آخر!
----------------------
* نقلا عن دار الخليج، بتاريخ 2012-04-19.
فالسودان كغيره من الدول العربية والإفريقية، الذي رُتب وضعه على عجل، فلم يراع فيه لا حدوده السياسية ولا تجمعاته القومية والإثنية . فهو تاريخياً اعتبر الحديقة الخلفية لمن حكم مصر، وهو أيضاً ورقة المساومة والضغط على مصر في أدائها السياسي إبان حكم العثمانيين والبريطانيين والفرنسيين في ما بعد، علاوة على مجموعة من الفواعل الإقليمية الصغيرة المجاورة . وبذلك تجمّعت كل أدوات ووسائل النزاعات لتعطيه ميزة بلد الحروب الدائمة، الذي يختصر بشكل أو بآخر الكثير من الكيانات السياسية الإفريقية .
فمشكلة السودان ليست حديثة العهد، ولا هي وليدة انفصال جنوبه، بقدر ما هي تقاطع عناصر التاريخ والجغرافيا في منطقة هي الأشد حساسية في تركيبتها الإثنولوجية وتداعياتها الجيوبولتيكية، والأغرب في كل ذلك سرعة انجرار أطرافها في لعبة أكبر من أن يديروها أو يكونوا مؤثرين حقيقيين فيها .
فاتفاق السلام الموقع عام ،2005 فتح المجال كما كان يُصوّر إلى مشروع سلام أهلي داخلي، من خلال الاتفاق على استفتاء بشأن الجنوب بعد اثنين وعشرين عاماً من النزاعات والحروب ارتكب فيها ما ارتكب من فظائع . أتى الاستفتاء عام 2011 وبموجبه انفصل الجنوب في يوليو/ تموز ،2011 بمواصفات دولة هجينة تحمل بذور الصراع مع الشمال، وببعد تاريخي يعود إلى العام ،1956 تاريخ ترسيم الحدود السياسية والإدارية الداخلية والخارجية . الذي يستند الصراع الحالي عليه . إذ كان السودان في عهد الاستعمار البريطاني مقسماً إدارياً إلى منطقتين شمالية وجنوبية مختلفتين .
إلا أن العديد من الخرائط التي تركتها بريطانيا ذخيرة للنزاع الداخلي، لم تكن واضحة ولم يتم الاتفاق على تعديلها أو إعادة النظر بها لاحقاً، ولذلك ثار النزاع مجدداً بين الخرطوم وجوبا على مساحات ممتدة على 1800 كلم من الحدود المشتركة، التي تضم أراضي زراعية خصبة وموارد طبيعية نفطية وغيرها . ومن بين تلك المناطق أيضاً، منطقتا آبيي وهجليج اللتان تشكلان بُعداً عاطفياً في الذاكرة الجماعية للشمال والجنوب، حيث ينتمي قادة كل من المنطقتين إلى قبائل تعود أصولها وجذورها التاريخية والجغرافية إليهما . إن منطقة هجليج التي شكلت شرارة النزاع القائم والتي احتلتها قوات جنوبية، هي في الواقع إحدى رئتي الخرطوم المالية، إذ تنتج نصف موارده النفطية، وتُعد من المناطق الاستراتيجية التي تستند الخرطوم إليها بعدما فقدت في يوليو/ تموز 2011 ثلاثة أرباع احتياطها من النفط الذي كانت تملكه قبل انفصال الجنوب .
والبعد الآخر لمنطقة هجليج أنها تتبع منطقة آبيي التي تتمتع بوضع خاص وفقاً لاتفاق السلام عام ،2005 التي تشمل أيضاً هجليج، لكن محكمة التحكيم الدولي في لاهاي حدّت من مساحتها في 2009 وفصلت عنها هجليج .
إلا أن الأمر لم يحسم، إذ ما زال الطرفان يتنازعان على هجليج، حيث تؤكد جوبا أن المنطقة وحقولها النفطية كانت في الجنوب حسب خرائط 1956 . كما لم تحسم المحكمة مسألة ضم آبيي إلى شمال أو جنوب السودان .
علاوة على ذلك كان من المفترض أن يتم استفتاء في يناير/ كانون الثاني 2011 حول المنطقة، لكن الخلاف على من يحق له الاقتراع أجهض العملية برمتها، وفي مايو/ أيار 2011 استولت قوات الخرطوم على المنطقة، وباتت سبباً رئيساً من أسباب النزاع القائم حالياً . كما وضعت جوبا الانسحاب من منطقة هجليج شرطاً لانسحاب الخرطوم من آبيي .
ثمة لائحة طويلة من أسباب النزاع القائم التي يبدو أنها مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر في المستقبل القريب، لكن الأمر لن يقتصر على ذلك بفعل التداعيات المحتملة في المنطقة التي تعج أيضاً بخلفيات كثيرة، من بينها التداخل الاثني والقبلي والمذهبي في دول المنطقة، التي تعاني جميعها من غليان التغييرات الحاصلة عربياً . فهل ستقف الحرب بين السودانيين عند هذا الحد أم ستمتد الأمور إلى الصومال وغيره أيضا؟ .
لقد اتحد اليمنان في العقد الأخير من القرن الماضي، لكن قُسم السودان إلى سودانين في العقد الثاني من القرن الحالي، وثمة الكثير من المؤشرات التي تنذر بمزيد من الانقسامات في غير بلد عربي، فما العمل؟ ثمة حاجة ملحة لقراءة واقعنا العربي الذي يستلزم حلولاً استثنائية لمشاكل وأزمات عمرها من عمر كيانات المنطقة وأنظمتها، فهل نحن واعون لما يجري لنا وحولنا وعلينا، يبدو أننا نحن العرب نعيش في كوكب آخر!
----------------------
* نقلا عن دار الخليج، بتاريخ 2012-04-19.