منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#48861
ترشح إلى مجلس الأمة في بلدتنا في ستينيات القرن الميلادي الماضي أحد أساتذة الأدب في كلية الآداب بجامعة القاهرة، يوم أن كان أساتذة الجامعة من النوادر في المجتمعات العربية المتقدمة، وكانت الكليات عزيزة ونادرة، ترشح هذا الأستاذ وكان يدور على الدائرة ليلا سيرا على الأقدام لمسافات طويلة في ضوء مصابيح الكيروسين المسماة (بالكلوبات)، وكان يسير معه جميع طلاب جامعة القاهرة وأولياء أمورهم وأقربائهم، وعندما زار إحدى القرى وقف إليه مؤيدو الخصم وظلوا يسألونه عن شهادة الدكتوراه التي حصل عليها من دولة أجنبية، وتطرق الجهال إلى موضوعها , واحتدم النقاش بين طلاب الجامعة ومعهم أستاذهم وهؤلاء الجهال الذين تطاولوا على الأستاذ، وتحول الموقف إلى فتنة واقتتال وإراقة دماء وزهق أرواح وفي اليوم التالي جمعتنا أمنا وجلست معنا لمناقشة ما حدث لأستاذ الجامعة من إهانة من سفلة القوم، وفي النهاية أوصتنا أمنا وأخذت علينا العهد والميثاق بعدم الترشح في يوم من الأيام حفاظا على هيبتنا وكرامتنا وحتى لا نكون كلأ مباحا لكل من هب ودب من الناخبين والمنافسين.
تذكرت هذه الواقعة عندما حضرت بعض المجالس هذه الأيام ورأيت المترشحين المحتملين وكيف يستجدون ود الجماهير، يتوددون إليهم ويغيرون من مبادئهم التي طالما دافعوا عنها سنين طويلة وهذبوها وشذبوها حتى يتقبلها جمهور الناخبين، ورأينا وسمعنا العَلماني (بفتح العين) كيف يحاول تجميل صورة العَلْمانية (بفتح العين) ليجعلها متلائمة مع الدين ويذكر الناخبين بأنه نشأ في بيت متدين ووالده كان من أئمة المسجد الفلاني ويطلب إلى بعض معارفه أن يذكروا الجماهير بأيام طفولته، ولكن الجماهير لا تنسى له كيف عاش سنين طويلة يبشرهم بالشيوعية والحتمية التاريخية لسيادتها، وكيف أنها ستجعل حياتهم منا وسلوى وسمنا وعسلا ويعلمون أنه قفز مؤخرا من قطار الشيوعية المحترق إلى قطار العَلمانية (بفتح العين) توأم قطار الشيوعية.
وآخر من الليبراليين يحاول أن يثبت للجماهير أن الليبرالية لا تتنافى مع الإسلام، وكيف أن الليبرالية تقبل بالاختلاف وإدارته , ونسي هذا أنه لا يكف ولا يمل عن وصف المخالفين له بالظلامية والرجعية والطالبانية والهمجية والجهل والتخلف، فتقول الجماهير له أين تقبل الليبراليين للمخالفين معهم في المنهج في هذا السلوك العجيب؟
المشكلة الحقيقية الآن أن الانتخابات والترشيحات جعلت الجماهير تقود المثقفين، وفي هذا تدمير لرسالة المثقف، فالمهمة الأساسية للمثقف قيادة الجماهير نحو التغيير الواعي المتناغم مع العقيدة الإسلامية والسلوك الإسلامي، فجماهيرنا لها هوية عامة إسلامية، وهي لا تقبل كل من يقلل من شأن العقيدة والدين، ولذلك يعمد هؤلاء إلى التنازل المرحلي عن بعض مبادئهم الليبرالية والعَلمانية (بفتح العين) التي تؤلب الجماهير عليهم وهي سبب نفورها منهم.
أتمنى على كل مترشح أن يُعلن هويته التي ألفتها الجماهير منه سنين طويلة, وألا يُحاول خداع الجماهير وإخفاء التعريفات والهويات والماهيات الأصلية للعَلمانية (بفتح العين) والليبرالية.
الليبرالية التي تجعل للفرد مطلق الحرية في بدنه وهو ملك له وبذلك تتنافى مع العقيدة الإسلامية في طاعة الجوارح وخضوعها لخالقها سبحانه وتعالى , فالأعضاء كلها توصي اللسان بالتلطف بها ولا يهلك البدن ويخلده في النار إلا بعض أعضائه، وهذا يتنافى تماما مع الليبرالية وحرية الفرد في التصرف في بدنه كيفما شاء.
والليبرالية التي تجعل من الارتداد عن الإسلام حرية مكفولة للفرد هي ليبرالية من وجهة نظر الإسلام منافية للأحاديث النبوية الصحيحة في عقاب المرتد عن دينه ومحاسبته إن فرق جمع المسلمين وأشاع الفتنة والشقاق بينهم.
والليبرالية التي تسمح للمسلم بالصلاة والصيام والزكاة والحج، ولا تسمح له بالحكم بما أنزل الله هي ليبرالية متنافية مع الإيمان والإسلام ولو استحلت الليبرالية هذا الاتجاه كانت في اتجاه والإسلام في اتجاه. قال تعالى: "وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ" (المائدة/49).
الليبرالية التي تجعل قضية المسلم في الأرض وليست في السماء (كما قال أحد الليبراليين) تتنافى مع العقيدة الإسلامية التي تجعل من في السماء هو خالق الأرض والسماء، وهو المتصرف فيهما وفق منهاجه وهو سبحانه القائل: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) (طه/6)، وله الخلق كله والأمر كله في الأرض وفي السماء كما قال تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ{54}) الأعراف (54).
فالخلق كله لله، والأمر كله لله، قال تعالى: "أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ{16}") الملك /16).
والليبرالية التي تجعل الخطاب الديني فقط للشعائر وللوعظ والرقائق هي ليبرالية معطلة لدور المسجد والخطاب الديني المستنير وتؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض.
الليبرالية التي لا تضع اعتبارا للنقل الصحيح والآيات قطعية الدلالة والأحاديث النبوية الصحيحة وتقدم العقل عليها ولا توازن بين صحيح المنقول وصريح المعقول هي ليبرالية مناقضة للإسلام.
أما إذا كانت الليبرالية هي الحرية المسئولة المذعنة لأمر الله كله فهي ليبرالية إيمانية وقد جسد ربعي بن عامر هذا المنحى عندما قال لرستم: (الله ابتعثنا والله أمرنا أن نخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها).
إذا كانت الليبرالية هي الاختيار الحر المباشر لنواب الأمة فقد أمر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم المهاجرين والأنصار في بيعة العقبة الثانية باختيار اثني عشر نقيبا منهم بالانتخاب الحر المباشر وتم انتخابهم ووافق المصطفى على اختيارهم ولم يغير فيه أو يعين أحدا نائبا عنهم.
إذا كانت الليبرالية تحترم المواطنة فقد وضع المصطفى صلى الله عليه وسلم وثيقة المدينة لتنظيم حقوق وواجبات وعلاقات المواطنين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية .
إذا كانت الليبرالية لا تعترف بالدولة الدينية، فالدولة الدينية ممقوتة في الإسلام ولا حكم كهنوتي في الإسلام كما قال تعالى: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ" (التوبة/31)، فالطاعة العمياء لرجال الدين والكهنة عبادة لهم.
الدولة في الإسلام دولة مدنية بمرجعية إسلامية في الحلال والحرام والآيات قطعية الدلالة في الأحكام والشرائع، أما الآيات ظنية الدلالة، وهي الكثيرة في القرآن، فعلى العلماء تنزيلها على أرض الواقع بالقاعدة النبوية الشريفة (أنتم أعلم بأمور دنياكم(.
إذا كانت الليبرالية تدعو إلى حرية الإنسان وحقوق الإنسان فالفاروق رضي الله عنه أول من قال: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟) والله تعالى يقول: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ " الإسراء/70(.
إذا كانت الليبرالية تعطي للمواطن حق مراقبة الحاكم ومناصحته ومحاكمته فالصديق قال في خطبة توليه الخلافة: (لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني).
المشكلة بين الإسلام والمفاهيم والنظريات والأفكار المستوردة أن البعض يريد أن ينقلها إلينا بصالحها وطالحها وهبلها وعبلها من دون دراسة أو تمحيص أو دراية وعلم.
المسلمون استفادوا على مدار التاريخ من الحضارات الإنسانية في الجوانب التي لا تنافي العقيدة والتوحيد والشرائع والشعائر الإسلامية.
فمتى يتعلم الليبراليون والعَلمانيون العرب ذلك ويتعلمون من الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما غير الفتوى بتغير السكان والمكان عندما انتقل من العراق إلى مصر؟
النقل الواعي المستنير المؤمن للحكمة لا يتنافى مع الدين، أما الفرض القسري والإقصائي للمذاهب والأيديولوجيات المستوردة فهو أمر يرفضه الإسلام ويمقته المسلمون.
والإهمال المتعمد للإسلام وأحكامه ومحاولة طمسه واستبدال البدائل المستوردة من الغرب والشرق به هي محاولة فاشلة في بلادنا العربية والإسلامية ذات التاريخ الطويل والعميق للإسلام وعقيدته وشريعته وهويته وكماله واستقلاله.


المصدر:
أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد (11774)- الجمعة 6 رجب 1431هـ - 18 يونيو 2010م