صفحة 1 من 1

من الجيوبوليتيك إلى جغرافية الإمبريالية

مرسل: السبت إبريل 28, 2012 1:51 am
بواسطة محمد بن شاهين
دون حاجة لتنظير أكاديمي ومصطلحات ضخمة كانت إمبراطورية روسيا القيصرية ومنذ منتصف القرن السادس عشر تطبق فكرة الدولة العضوية Organic State حتى قبل أن تصاغ في قوالب نظرية.

وأرست روسيا المنهج الذي قامت عليه الأطماع الاستعمارية فيما بعد باعتمادها على الدور المحوري لجمع المعلومات الجغرافية عن الشعوب المجاورة وتدعيم رحلات علمية "بريئة" تقدم أبحاثاً في ميادين شتى لخدمة التوسع فيما بعد، وكان ذلك يجري على قدم وساق حتى أفول شمس الإمبراطورية القيصرية في 1917.

وبعد الحرب العالمية الثانية كان الاتحاد السوفيتي واحداً من تلك الدول التي منعت تدريس الجيوبوليتيك في جامعاتها؛ استناداً إلى أن الجيوبوليتيك والجغرافيا السياسية في ألمانيا جلبَا الكوارث على القارة الأوربية والعالم بأسره.

ولم تظهر كتب في هذين العلمين ذات قيمة إلا في منتصف التسعينيات، هذا بالرغم من أن الاتحاد السوفيتي نفسه كان أكثر النماذج وضوحاً في التطبيق الحرفي لمبادئ الطمع الجغرافي "السمعة السيئة للجيوبوليتيك" لدرجة أن من أكثر النكات شيوعاً في أوروبا في الستينيات كانت تلك التي يسأل فيها مدرس تلميذه سؤالا جغرافياً مباشراً: "من هم جيران الاتحاد السوفيتي؟" وبدلاً من أن يعدد الطالب أسماء الدول المجاورة تأتي إجابته: "جيران الاتحاد السوفيتي هم مَن يرغب هذا الاتحاد في أن يصبحوا جيراناً له"؛ في
دلالة تهكمية على أن هذه الحدود متغيرة، وتعتمد على مستوى التوسع والضم الذي تمليه الأطماع الجغرافية السوفيتية.

وبتفكك الاتحاد السوفيتي مع نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وبتغير القدرات العسكرية النسبية له انكمشت الحدود، وصارت تطال الحدود الأصلية لروسيا ما قبل السوفيتية.

وقد دعا هذا أحد المفكرين السياسيين صبيحة تفكك الاتحاد السوفيتي إلى أن يعبر درامياً عن هذا بقوله: "يبدو أنه لا مفر من أن نتجرع الكأس حتى الثمالة؛ بالأمس انهدم البيت السوفيتي، واليوم تتهدم روسيا. وما الشيشان إلا مشهد في فصول تهدم البيت. أما بقية المشاهد فستتوالى بخروج مناطق الحكم الذاتي، تعقبها الأقاليم، ثم تتعاقب المشاهد والفصول عبر انفصال وحدات أصغر فأصغر".

وعلى الجانب الآخر كان قد ظهر على المسرح الجغرافي -مع خروج الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كأكبر قوة عالمية- مفهوم جديد للجيوبوليتيك وهو "الحدود الشفافة"، التي يقصد بها الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية دون حدود خرائطية للدولة. أو ما يسميه تايلور -أشهر باحثي الجغرافيا السياسية في العقدين الأخيرين- بـ"جغرافية السيطرة من دون إمبراطورية".

والسيطرة من دون إمبراطورية هي أفضل تجسيد لتطوير الأفكار الجيوبوليتيكية، بعيداً عن الأطر التقليدية للنمو العضوي للدولة.

وهذا التطوير يسمح بأن يصبح العالم كله "المجال الحيوي" للولايات المتحدة، بعدما عاشت الأخيرة حتى الحرب العالمية الثانية في عزلة جغرافية ممتعة اختارتها لنفسها.

وأهم سمة في هذا المجال الحيوي هو "اللامواجهة"؛ استناداً إلى مزايا الحرب الإلكترونية، وتوظيف الخصوم المتناحرين في إدارة الحرب بالإنابة، أو التدخل في لحظة محددة باعتباره تدخلاً إنسانيا لصالح العدل والحرية.
وفي نفس الوقت تدفع الولايات المتحدة في هذا المجال الحيوي -دون حاجة لتوسيع الحدود- بمبيعات أسلحتها وتحصل شركاتها على أفضل فرص "إعادة الإعمار" وحقوق التنقيب عن الثروات، ناهيك عن الانفراد بغسل الأدمغة بأفكار جديدة أعد لها سلفاً.

جيوبوليتيكية العالم العربي.. تآكل من الداخل والخارج

مرسل: السبت إبريل 28, 2012 1:58 am
بواسطة محمد بن شاهين
يعتري وضع الحدود الدولية للعالم العربي ثلاثة أنماط من المشكلات على الأقل:

(1) مشكلات الحدود الخارجية.

(2) تآكل الأراضي العربية من الداخل عبر الاستيلاء الإسرائيلي التدريجي على الأراضي العربية.

(3) احتمالات البلقنة الداخلية، التي تستهل بالعراق والسودان، ومعروف وجود سيناريوهات مشابهة للمغرب ومصر ولبنان.

وعلى الرغم من أن غزو العراق للكويت قد فسرته نظرية الطمع الجغرافي في الثروة النفطية الكويتية فإن كثيرا من الجغرافيين ما زالوا يؤمنون بأن ضيق النافذة الساحلية المتاحة للعراق على الخليج العربي والتي تزاحمه فيها إيران، لم تكن لتتناسب مع قدرات العراق وطموحاته، وهو ما دفعه لاستخدام فائض القوة في توسيع "ثيابه" على حساب الجيران.

وفي نحو عقد واحد من الزمان يتبدل الوضع الجيوبوليتيكي للعراق ويخضع لطموحات القوى الاستعمارية بتقسيمه إلى ثلاث دول منفصلة:

- دولة كردية في الشمال.

- دولة شيعية في الجنوب.

- دولة سنية في الوسط.

وهو إذا ما تحقق فسيضمن -لعقود متتابعة- انشغال العراق بحرب أهلية لإعادة توحيد أراضيه في أدنى حد لوضعها قبل الثاني من أغسطس 1990 حينما أغرته قوته بأن حدوده العضوية آن لها أن تنمو.

وعلى نفس المنوال تنسج القوى الاستعمارية المتربصة بالعالم العربي خططها لتقسيم السودان.

وإذا ما تحقق السيناريو بقيام دولة (يسمونها "مسيحية") في جنوب السودان؛ كان ذلك بمثابة دمغ بظلامية مستقبل الدول العربية التي تشهد تنوعاً عرقياً أو دينيا داخل حدود الدولة الواحدة (كسوريا ولبنان ومصر والجزائر وتونس والمغرب، وبعض دول الخليج باختلافاتها المذهبية).

ويأتي هذا التوجه بينما لا تفتأ إسرائيل تناوش مصر وسوريا ولبنان والأردن بالتهديد بتوسيع الحدود الإسرائيلية في أي لحظة وتحت أي ذريعة، وهو ما يؤكد أن الأفكار الجيوبوليتيكية ما زالت حاضرة في العالم العربي، ولكن بصورة يبدو فيها العالم العربي مفعولاً به وليس فاعلاً.

وتجسد حدود إسرائيل نموذجاً مثالياً للحدود العضوية؛ فدولة الاحتلال بدأت بعدة مستوطنات في نهاية القرن التاسع عشر ثم مع ما اكتسبته القوات الإسرائيلية من دعم بريطاني بدا التوسع التدريجي على حساب الأراضي العربية، وظلت متجهة للكسب الجغرافي في صالح إسرائيل حتى عام 1973 حينما تغيرت هذه المعادلة رغم القدرات الإسرائيلية المتزايدة عسكرياً وبشرياً.

وكان منتظراً أن تبقى الحدود واسعة فضفاضة مؤكدةً لإستراتيجية نقل المعارك إلى أرض الأعداء، غير أن العوامل الداخلية الإسرائيلية والسعي إلى إقامة مجتمع مستقر يعيش دولة الرفاهية وليس دولة الحرب دفع إسرائيل إلى القبول –كرهاً- بتضييق حدودها، وهو ما لا يتوقع أن يستمر طويلاً.

فالحدود الإسرائيلية الحالية لا تتفق مع الأفكار الجيوبوليتيكية التي تناسب قدراتها العسكرية، كما لا تتناسب مع أطماعها الجغرافية، في الثروة المائية بخاصة، ولا رؤاها الصهيونية.
أضف إلى ذلك أن العالم العربي يتعرض لتهديد بحبس المياه عنه؛ إذ تنبع أنهاره الكبرى (كالنيل ودجلة والفرات) من أراضٍ أجنبية، وترتبط الأوضاع الجيوبوليتيكية للحدود العربية بما يسمى "حروب المياه" المنتظرة وهو ما يحتاج إلى معالجة مستقلة.



السيادة مفهومها ونشأتها ومظاهرها

مرسل: السبت إبريل 28, 2012 2:10 am
بواسطة محمد بن شاهين
يستخدم السياسيون والإعلاميون كلمة "السيادة" في كثير من خطاباتهم وتحليلاتهم، فما مفهومها وكيف نشأت وما مظاهرها؟!! يجيب هذا المقال عن هذه الأمور بإيجاز.

بداية لابد من الإشارة إلى أن قيام الدولة المعاصرة بأركانها الثلاثة: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية، يترتب عليه تميزها بأمرين أساسيين؛ الأول: تمتعها بالشخصية القانونية الاعتبارية، والأمر الثاني: كون السلطة السياسية فيها ذات سيادة[1]، ولأهمية السيادة في الدول فقد جعلها البعض الركن الثاني من أركان الدولة[2].

ومن المهم تعريف السيادة وبيان مظاهرها؛ لأمرين؛ الأول: أهمية بيان المصطلحات السياسية وتطبيقاتها في الدولة الإسلامية، الأمر الثاني: كون السيادة "أساس التفرقة بين دار الحرب ودار الإسلام" [3]، والحديث هنا من خلال خمسة أفرع.

الفرع الأول: تعريف السيادة لغة:

السيادة لغة: من سود، يقال: فلان سَيِّد قومه إذا أُريد به الحال، وسائِدُ إذا أُريد به الاستقبال، والجمع سَادَةٌ [4]، ويقال: سادهم سُوداً سُودُداً سِيادةً سَيْدُودة استادهم كسادهم وسوَّدهم هو الـمسُودُ الذي ساده غيره فالـمُسَوَّدُ السَّيّدُ.

والسَّيِّدُ يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومُحْتَمِل أَذى قومه والزوج والرئيس والمقدَّم، وأَصله من سادَ يَسُودُ فهو سَيْوِد، والزَّعامة السِّيادة والرياسة[5].

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "السيد الله تبارك وتعالى"[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيِّدُ الناس يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[7].

وخلاصة المعنى اللغوي للسيادة أنها تدل على المُقدم على غيره جاهاً أو مكانة أو منزلة أو غلبة وقوة ورأياً وأمراً، والمعنى الاصطلاحي للسيادة فيه من هذه المعاني.

الفرع الثاني: تعريف السيادة اصطلاحاً:

عرفت السيادة اصطلاحاً بأنها: "السلطة العليا التي لا تعرف فيما تنظم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها"[8].

وعرفت بأنها: "وصف للدولة الحديثة يعني أن يكون لها الكلمة العليا واليد الطولى على إقليمها وعلى ما يوجد فوقه أو فيه"[9].

وعرفت أيضاً بأنها: "السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال"[10].

والتعريفات السابقة متقاربة, ولعل أشملها لمفهوم السيادة هو التعريف الأخير؛ لوصفه السيادة بأنها: سلطة عليا ومطلقة, وإفرادها بالإلزام وشمولها بالحكم لكل الأمور والعلاقات سواء التي تجري داخل الدولة أو خارجها.

الفرع الثالث: نشأة مبدأ السيادة في الفكر الغربي:

السيادة بمفهومها المعاصر فكرة حديثة نسبياً مرت بظروف تاريخية، حيث كان السائد أن الملك أو الحاكم يملك حق السيادة بمفرده، ثم انتقلت إلى رجال الكنيسة فكانت سنداً ودعماً لمطامع البابا في السيطرة على السلطة، ثم انتقلت إلى الفرنسيين ليصوغوا منها نظرية السيادة في القرن الخامس عشر تقريباً أثناء الصراع بين الملكية الفرنسية في العصور الوسطى لتحقيق استقلالها الخارجي في مواجهة الإمبراطور والبابا, ولتحقيق تفوقها الداخلي على أمراء الإقطاع[11].

وارتبطت فكرة السيادة بالمفكر الفرنسي "جان بودان" الذي أخرج سنة 1577م كتابه: الكتب الستة للجمهورية، وتضمن نظرية السيادة[12].

وفي 26 أغسطس 1879م صدر إعلان حقوق الإنسان الذي نص على أن السيادة للأمة وغير قابلة للانقسام ولا يمكن التنازل عنها، فأصبحت سلطة الحاكم مستمدة من الشعب, وظهرت تبعاً لذلك فكرة الرقابة السياسية والقضائية لتصرفات السلطة التنفيذية[13].

وقد قرر ميثاق الأمم المتحدة مبدأ المساواة في السيادة بأن تكون كل دولة متساوية من حيث التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات مع الدول الأخرى الأعضاء في الأمم بغض النظر عن أصلها ومساحتها وشكل حكومتها، إلا أن الدول الخمس العظمى احتفظت لنفسها بسلطات, ناقضة بذلك مبدأ المساواة في السيادة[14]، وقد حل محل كلمة السيادة في العرف الحديث لفظ استقلال الدولة[15].

بالتالي فالظروف التي نشأت بسببها نظرية السيادة وغيرها من النظريات ليست كالظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية، فلا يمكننا أن نأتي بتلك النظريات ونطبقها بكل ما فيها على الدولة الإسلامية, أو أن نُعد عدم وجودها لدينا نقصاً، فقد توجد لدينا الفكرة ولكن بشكل آخر، أو لا توجد أصلاً استغناءً عنها بأنظمة وقواعد عامة في الشريعة الربانية ليست عندهم.

الفرع الرابع: السيادة في الدولة الإسلامية:

بعد معرفة مفهوم السيادة ونشأتها، بقي معرفة من يملك السيادة في الدولة الإسلامية، هل الحاكم أو الأمة أو غيرهم، حيث ذهب البعض أن السيادة تكون للأمة واستدل بالنصوص التي تخاطب الأمة بمجموعها وبمبدأ الشورى في الإسلام[16].وهذا مردود لأمرين: الأول: لأنه يعني إمكان التنازل عن السيادة، والثاني: لأن السيادة سلطة غير مقيدة.

فالأدلة الشرعية حددت الإطار العام لكافة التصرفات سواء أكانت صادرة من الحكام أم المحكومين؛ فالكل خاضع لها وملزم بطاعة أحكامها، فالشريعة حاكمة لغيرها ولا يجوز تجاوزها أو إلغاؤها أو تبديلها أو تعديلها[17].

يقول تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[18]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا}[19]، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[20]، وقال صلى الله عليه وسلم: "السيد الله تبارك وتعالى"[21].

فالسيادة في الدولة الإسلامية لله عز وجل, فالتشريع له وحده سبحانه, وهذه السيادة متمثلة في شريعته كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدولة إنما تستمد سيادتها من خلال التزامها بالأحكام الشرعية وتنفيذها لها وللأمة بعد ذلك حق تولية الإمام ومحاسبته وعزله ومراقبة السلطة الحاكمة في التزامها حدود الله وليس لها ولا للسلطة الحاكمة الحق في العدول عن شريعة الله[22].

"فلا عبادة إلا لله. ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه. فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان. ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد.. من الله.. فهذا هو معنى الإيمان بالله.. ومن ثم ينطلق الإنسان حراًَ إزاء كل من عدا الله، طليقًا من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزًا على كل أحد إلا بسلطان من الله"[23].

وقد ذهب البعض إلى تقسيم السيادة إلى قسمين أحدهما: السيادة المطلقة وهي لا تكون إلا لله عز وجل، والثاني: السيادة النسبية وهي تكون للأمة ضمن حدود أحكام الشريعة الإسلامية[24].

ولعل الأنسب أن يقال: إن السيادة لشريعة الله, وهذا لا يسلب الأمة الحق في التخريج على أصول الشريعة والاجتهاد في تطبيق أحكامها على النوازل، وبالتالي فالسيادة لله وحده, أما سلطة الحكم فهي مفوضة إلى الأمة تمارسها في حدود السيادة[25].

"فإذا كانت بعض الدول الحديثة تعتز بأنها تلتزم بسيادة القانون والتمسك بالدستور، فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع، ولا تخرج عنه, وهو قانونها الذي يلزمها العمل به والرجوع إليه، حتى تستحق رضوان الله وقبول الناس. وهو قانون لم تضعه هي، بل فرض عليها من سلطة أعلى منها، وبالتالي لا تستطيع أن تلغيه أو تجمده إلا إذا خرجت عن طبيعتها ولم تعد دولة مسلمة"[26].

فنظرية السيادة في الإسلام ليس لها الطابع السلبي الذي عُرفت به نظرية السيادة بوجه عام؛ لكون الدولة الإسلامية لا سيادة فيها على الأمة لفرد أو طائفة؛ فالأساس الذي تبني عليه نظامها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وبهذا تتجاوز نظرية السيادة في الإسلام المشكلات والتناقض التي وقعت فيها نظرية السيادة الغربية[27].

فـ"السيادة العليا والسلطان المطلق هو لما جاء من عند الله - عز وجل - لا غير، وإن المنازعة في ذلك كفر وشرك وضلال"[28].


مظاهر السيادة في الدولة:

مرسل: السبت إبريل 28, 2012 2:20 am
بواسطة محمد بن شاهين
[ بعد الحديث عن مفهوم السيادة ونشأتها فمن المهم بيان مظاهرها، وللسيادة مظهران:

الأول: المظهر الخارجي: ويكون بتنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى في ضوء أنظمتها الداخلية، وحريتها في إدارة شئونها الخارجية، وتحديد علاقاتها بغيرها من الدول وحريتها بالتعاقد معها، وحقها في إعلان الحرب أو التزام الحياد.

والسيادة الخارجية "مرادفة للاستقلال السياسي, ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة لأية دولة أجنبية, والمساواة بين جميع الدول أصحاب السيادة، فتنظيم العلاقات الخارجية يكون على أساس من الاستقلال"[29]، وهي تعطي الدولة الحق في تمثيل الأمة والدخول باسمها في علاقات مع الأمم الأخرى[30].

ومما ينبغي الإشارة إليه أن هذا المظهر لا يعني أن تكون سلطتها عليا، بل المراد أنها تقف على قدم المساواة مع غيرها من الدول ذات السيادة، ولا يمنع هذا من ارتباطها وتقييدها بالتزامات أو معاهدات دولية مع غيرها من الدول[31].

الثاني: المظهر الداخلي: ويكون ببسط سلطانها على إقليمها وولاياتها، وبسط سلطانها على كل الرعايا وتطبيق أنظمتها عليهم جميعاً، لكن الدولة الإسلامية ولما تتميز به من سماحة, ووفقاً للأحكام الشرعية تمنح الذميين حق تطبيق أحكامهم الخاصة في جانب حياتهم الأسرية، إلا أن هذا لا يكون امتيازاً لهم ولا يُقيد أو يحُد من سلطان الدولة أو سيادتها، ويكون قابلاً للاسترداد[32]، فلا ينبغي أن يوجد داخل الدولة سلطة أخرى أقوى من سلطة الدولة[33].

وينبغي أن تكون سلطة الدولة على سكانها سامية وشاملة، وألا تعلو عليها سلطة أخرى أو تنافسها في فرض إرادتها[34].

وكلا المظهرين في الدولة مرتبط بالآخر، فسيادتها الخارجية هي شرط سيادتها الداخلية[35].

وهذه المظاهر للسيادة سواء أكانت في الخارج أم الداخل أقرها الإسلام وفقاً للأحكام الشرعية[36]، فعلى صعيد السيادة الخارجية ينبغي أن تكون للدولة الإسلامية هيبتها ومكانتها بين الدول وألا تتبع أو تخضع لغيرها، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[37]، "أي: في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية, وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة... وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على أصح قولي العلماء, وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال"[38]. فالآية تحرم منح الكافر أية سلطة على المسلم، فكيف الحال إن تسلطت دولة كافرة على دولة مسلمة!!

ومسألة تطبيق الأحكام الإسلامية على المسلمين والذميين أينما وجدوا ما هي إلا مظهر من مظاهر سيادة الدولة الإسلامية على رعاياها[39].

وعلى صعيد السيادة في الداخل فقد جاءت النصوص التي تحث على طاعة الله ورسوله وولاة الأمر والنهي عن الخروج عن طاعته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[40].

وقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الخروج بغياب مظهر من مظاهر سيادة الأحكام الشرعية وهو إقامة الصلاة، بقوله: "ستكون أُمراءُ فَتَعْرِفُونَ وتُنْكِرُون, فمن عرف بَرِئَ, ومن أَنْكَرَ سَلِمَ, ولَكِن من رَضِيَ وَتَابَعَ. قَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُمْ قال: لا ما صَلَّوْا"[41]، ودل الحديث "أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الإسلام"[42]، "وإنما منع عن مقاتلتهم ما داموا يقيمون الصلاة التي هي عنوان الإسلام حذراً من هَيْجِ الفتن واختلاف الكلمة وغير ذلك مما يكون أشد نكاية من احتمال نُكْرِهِمْ والمصابرة على ما يُنْكِرُونَ منهم"[43].

وعن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغِيرُ إذا طلع الفجر, وكان يَسْتَمِعُ الأذان, فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار"[44]، ودل الحديث على أن الأذان شعار لدين الإسلام لا يجوز تركه، فلو أن أهل بلد أجمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه، وفيه دليل على أن مجرد وجود المسجد في البلد كاف في الاستدلال به على إسلام أهله وإن لم يسمع منه الأذان[45].

مما سبق يتضح أن ظهور شعائر الإسلام وأحكامه وخاصة الصلاة والأذان هي جزء من مظاهر السيادة الداخلية في الدولة الإسلامية، 'وليس المراد بقيام الصلاة أداء أفراد من الناس لها, بل المراد أن تكون جزءًا من عمل الإمام'[46].

فتعريفات الفقهاء لدار الإسلام والضوابط التي وضعوها تشير إلى مظاهر السيادة الداخلية في الدولة الإسلامية.

وتنقسم الدول من جهة السيادة إلى قسمين:
o القسم الأول: دول ذات سيادة كاملة لا تخضع ولا تتبع في شؤونها الداخلية أو الخارجية لرقابة أو سيطرة من دولة أخرى، ولها مطلق الحرية في وضع دستورها أو تعديله.

o القسم الثاني: دول منقوصة السيادة لا تتمتع بالاختصاصات الأساسية للدولة لخضوعها لدولة أخرى أو تبعيتها لهيئة دولية تشاطرها بعض الاختصاصات, كالدول التي توضع تحت الحماية أو الانتداب أو الوصاية وكالدول المستعمرة[47].

وهذا الاستقلال أو التبعية لا يؤثران على وجود الدولة الفعلي[48]، وهو ليس تقسيماً مؤبداً بل هو قابل للتغيير والتبديل تبعاً لتغير ظروف كل دولة[49].

وخلاصة ما سبق أن السيادة في الدولة الإسلامية لله تعالى متمثلة في شريعته، فهي تختلف عن غيرها من الدول, فسيادتها بسيادة شرع الله فيها وتطبيقها لأوامره في كافة شئونها، وإن أي تدخل لتعطيل الأحكام الشرعية سواء كان من جهة في داخل الدولة أو خارجها، هو إخلال بالسيادة في الدولة الإسلامية.