كلاوسفيتز : " كاتب استراتيجي لم يُنصف إلا بعد موته "
كلاوسفيتز هو واحد من أشهر الكتاب العسكريين، وهو الكاتب العسكري الوحيد الذي ليس من حق أي مثقف ثوري معاصر أن يتجاهل اسمه، أو يجهل صيغتين أو ثلاثاً من الصيغ التي كتبها، وبقيت خالدة على مدى قرن ونصف قرن. والجدير بالملاحظة أن كلاوسفيتز، هذا الضابط البروسي المجد لم يحصل على المجد، ولم يخلد، ولم تعتبر كتاباته مرجعاً أساسياً لكل مفكر سياسي أو عسكري إلا بعد وفاته. وربما كان هذا المجد الذي حصل عليه بعد وفاته تعويضاً، على ما يبدو، عن الظلم الذي وقع عليه وعانى منه طيلة حياته. ويعود السبب فيما عاناه وتعرض له إلى أن ملكه أتهمه بالتعاون مع قيصر روسيا لمحاربة نابليون في عام 1812.
وفي الحقيقة، أن عدداً قليلاً جداً من الكتاب والمعلقين في أوروبا وسائر أنحاء العالم قرأ كلاوسفيتز ومخطوطته الرئيسية (في الحرب)، بإمعان وتعمق. حتى أن الأدب الألماني الذي شرح أفكاره وناقشها كان فقيراً جداً. ولم يتحمل المعلقون عناء متابعة أكثر المحاولات منهجية وتشعباً بالفلسفة، والتي لم يكرس مثلها في التاريخ لبحث موضوع الاستراتيجية. ولقد كتب ب.هـ. ليدل هارت قائلاً ما يلي: "أن كلاوسفيتز استخدم اللغة الفلسفية دون أن يملك فكراً فلسفياً حقيقياً". ولكن حكم ماركس ولينين كانا مختلفين في كل الاختلاف عن حكم ليدل هارت عندما قرأ كتابه في الحرب. ففي عام 1853 كتب آنجلس إلى صديقه وايدماير الذي قاتل في صفوف الديموقراطيين عام 1848، ثم أضحى بعد ذلك ضابطاً لدى الأمريكيين الشماليين خلال الحرب الأهلية الأمريكية ما يلي: "آن جوميني في النهاية هو أحسن مؤرخ لمعارك نابليون، ولكن بالرغم من الأعمال الباهرة التي قام بها كلاوسفيتز، فإن عبقريته الفطرية لا تعجبني". وكان عليه أن يعدل حكمه عليه فيما بعد، إذ كتب في عام 1858 إلى ماركس ما يلي: (إ،ي أقرأ الآن من جملة ما قرأ كتاب في الحرب لكلاوسفيتز. إنه طريقة جديدة في التفكير، ولكنه في واقعه كتاب ممتاز. وهو يحيب على السؤال التالي: هل ينبغي علينا أن نستخدم تعبير الفن العسكري أم العلم العسكري؟ إنه يحيب بما يلي:
"إن الحرب تشبه التجارة على أفضل شكل، فالقتال في الحرب، كالدفع نقداً، ولا حاجة لتدخله في الحقيقة، كالتاجر الذي ليس مضطراً للدفع نقداً دائماً، ولكن النتيجة هي أن كل شيء يتجه إليها، وينبغي أن يتصل إليها في النهاية. والقتال هو الذي يشكل العنصر الحاسم". ورد عليه ماركس بعد عدة أيام بما يلي: "إن هذا الرجل الجريء يملك حساً سليماً يعتمد على الفكر يسترعي الانتباه". أما لينين فقد قرأ هذا المؤلف الأساسي، وأمعن النظر في كل فصوله، ونسخ منه بعض المقتطفات على كراسة، تبعاً لأسلوبه الذي اعتاد عليه، ووضع بعض الملاحظات على هامش الكتاب. وتبرهن هذه الكراسة على ذكاء خارق نادر: فقد ضمن هذا الكراس لكلاوسفيتز في الاتحاد السوفييتي مكاناً في مدافن العظماء، بين المفكرين البورجوازيين الذين تلتقط الماركسية اللينينية أفكارهم وتراثهم. وقد كتب لينين في كراسته ما يلي: "إن كلاوسفيتز هو واحد من أعمق المفكرين العسكريين، وواحد من أعاظم فلاسفة الحرب ومؤرخيها. إنه كاتب أضحت أفكاره الأساسية اليوم الزاد الذي لا جدال فيه لأي مفكر".
لقد كتب كلاوسفيتز عديداً من مؤلفات، تاريخ الحربن ومن هذه الكتب نقده لحملات 1799 في سويسرا و 1812 و1814-1815. ونجد في كل ما خلفه من تراث أفكاراً تشكل أساس الحرب. ولكن أهم كتبه بلا جدال هو فن الحرب لأنه فلسفة للحرب كما يقال، أو بالأحرى نظرية للحرب.
ولكلاوسفيتز مواقف فكرية أخرى مع السياسة والاستراتيجية والدبلوماسية، والحرب الشعبية سنتحدث عنها بإيجاز. لقد بعث كلاوسفيتز المفكر من التجربة التاريخية التي عاصرها، ومن الإخفاق الشخصي الذي تعرض له، فالأفكار والعقائد العسكرية تتأثر بطبيعة العصر الذي تظهر فيه، ومدى تطوره، والمرحلة الاجتماعية والاقتصادية التي يجتازها، والمناخ السياسي الذي يحيط به.