- السبت إبريل 28, 2012 7:13 pm
#49263
النموذج الإقليمي والارتقاء العالمي
لطالما لعبت منطقة الأناضول دورا حاسما في التاريخ على الصعيد الإقليمي والعالمي، إذ شكّلت هذه المنطقة تقاطعا لمختلف الحضارات البشريّة العريقة التي شكّلت قلب العالم القديم، فكانت "اسطنبول" عاصمة لثلاثة من أكبر الإمبراطوريات وأقواها على مر العصور من الرومانية إلى البيزنطيّة وانتهاءً بالإمبراطورية العثمانيّة (1288-1924) التي حكمت منطقة تمتد على مستوى قارات العالم الثلاث القديم إلى أن ضعفت رغم الجهود المشهودة للسلطان العظيم "عبدالحميد الثاني"، وتفككت اثر دخولها الحرب العالمية الأولى، فانهي "مصطفى كمال أتاتورك" الخلافة سنة 1922 وأعلن قيام "جمهورية تركيا" الحديثة العام 1923.
انكفأت تركيا في الحرب العالمية الثانية ثمّ قامت باستعادة جزء من دورها الجيو-سياسي التاريخي لفترة قصيرة خلال الحرب الباردة عندما شكّلت حائطا منيعا في وجه المد الشيوعي لوقف زحفه إلى أوروبا والشرق الأوسط. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي العام 1991، بدت الفرصة سانحة أمام تركيا الحديثة لتلعب دورا حاسما يعمل على إعادة تشكل النظام الإقليمي والدولي، عبر ما يعرف باسم "العالم التركي" الذي يضم دولا تمتد من غرب الصين إلى أوروبا، لكنها لم تستغلها.
لكن ومع استلام حزب "العدالة والتنمية" الحكم في العام 2002، تغيّرت المعطيات كلّيا، وعمل الحزب وقادته (ومازالوا يعملون)على إحداث تغييرات داخلية سياسية واجتماعية واقتصادية، وعلى استغلال المعطيات الجيو-سياسية (Geopolitical) والجيو-إستراتيجية (Geostratigic) لتحويل تركيا إلى قوّة كبرى في الوقت الذي تشهد فيه خريطة ما يسمى بـ"الشرق الأوسط" إعادة تشكيل وتوزيع لمراكز القوّة والسلطة والقرار، وتتزاحم فيه القوى الإقليمية على حجز مكان لها في الخريطة الجيو-إستراتيجية التي نشأت بعد انهيار البوابة الشرقية للعالم العربي اثر احتلال العراق، ومن قبله إقصاء النظام الأفغاني "الطالباني".
ونجح الحزب ولاسيما الثلاثي (أردوغان، غول، وأوغلو) في دفع تركيا نحو الارتقاء الإقليمي والدولي عبر تعزيز قوّتها المخملية (Soft Power) وجعلها نموذجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على مستوى المنطقة، ترافق ذلك مع صياغة نظريات ومفاهيم تركيّة تتناسب مع متطلبات الصعود مثل "العمق الاستراتيجي" و"ديبلوماسية تصفير النزاعات" بشكل يجعل من تركيا المركز الذي تدور حوله باقي الدول في المنطقة.
Ø المقوّمات الجيو-سياسية لتركيا
Ø النظام السياسي في تركيا
Ø القدرات العسكرية لتركيا
Ø المقوّمات الجيو-سياسية لتركيا
أولا: الموقع الجغرافي
1- تتوسطّ قارات العالم القديم الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، وقد منحها هذا الموقع منذ القدم قدرة على التفاعل الحيوي في المحيط الإقليمي بحيث تؤثّر وتتأثر بالعناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافيّة القائمة على تخومها.
2- تقع في قلب المجال الجغرافي المصطلح على تسميته "أوراسيا" وهي بذلك تعتبر المنطقة الوسطيّة المتحكّمة في منطقة "قلب العالم" (Heart Land) الأمر الذي يؤهلها لأن تكون دولة محوريّة أو حاسمة في المجال الجيو-سياسي (Pivotal State).
3- هي دولة قارّية وبحرية في نفس الوقت وتحدّها ثماني دول ما يتيح لها اختيار سياسات أو تحالفات أو إقامة تجمّعات في ظل كون تركيا دولة محورية في مجالها الجغرافي.
4- تحدّها المياه من ثلاث جهات تسيطر على ممرّين مائيين مهمين مما يعطيها القدرة على التحكّم (to control access).
ثانيا: الشعب
تحتل تركيا المرتبة الـ17 عالميا من حيث تعداد السكان، ويؤهلها هذا الكم البشري من لعب دور هام على في مختلف المجالات:
1- من الناحية الديموغرافية: هي دولة فتيّة في المعيار الهرمي تتمتع بديناميكية شابّة مقارنة بالشعوب الموجودة في أوروبا كما ويشكّل تعداد سكّانها عنصر توازن مع المحيط الإقليمي القريب الإيراني والعربي والأوروبي بما يسمح بممارسة تأثير في أربع جهات.
2- من الناحية الاقتصادية: يبلغ عدد القوّة العاملة في تركيا حوالي 23.5 مليون نسمة أي ما يفوق التعداد السكاني لسوريا على سبيل المقارنة، وتشكل هذه الفئة قوّة دافعة بنشاطها وطاقتها الإنتاجية بما يتناسب مع الدور الذي تريد تركيا أن تلعبه في محيطها الإقليمي.
3- تركيا دولة تتمتع بغنى عرقي وديني أيضا رغم وجود هوية غالبة عرقية (تركية) ودينية (اسلامية)، ويمثّل الاتجاه القائم اليوم في توسيع حقوق الأقليات نموذجا للتعايش في دولة واحدة قوية بما يساهم في دحض نموذج صراع الحضارات والأديان واستبداله بنموذج تعايش الحضارات والأديان.
ثالثا: الموارد الطبيعية
باستثناء افتقارها إلى كمّيات معتبرة من النفط والغاز، فان تركيا تكاد تحتكر الموردان الأكثر أهمية على صعيد المنطقة وهما المياه والغذاء، وهما موردان تتوقّع الدراسات المستقبلية أن يتسببا بصراعات دولية للاستحواذ عليها في ظل الشح الذي تعاني منه الدول جراء تناقص منسوب المياه والافتقار إلى الاكتفاء الغذائي في ظل تنامي السكّان.
Ø النظام السياسي في تركيا
أولا: المؤسسات الدستورية
يشير الدستور التركي إلى أن النظام في تركيا جمهوري ديمقراطي "برلماني" علماني، أما المؤسسات الدستورية في البلاد فهي تتوزع على السلطة التشريعية التي تتمثّل بالجمعية الوطنية "البرلمان"، السلطة التنفيذية وتتمثل برئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، السلطة القضائية وتنقسم إلى ثلاث فئات هي القضاء العدلي والقضاء الإداري والقضاء الخاص، وتدخل المحاكم العسكرية ضمن نطاق القضاء العسكري، وتمثّل المحكمة الدستورية السلطة القضائية العليا.
وإذا ما نظرنا إلى العناصر المجردة للنظام السياسي التركي القائم على دستور عام 1982 من الناحية النظرية، فإننا لن نجد ما يميّزه على اعتبار أنّه نظام ديمقراطي محدود الأطر، وقواعد اللعبة السياسية فيه مضبوطة على إيقاع العلمانيّة الأتاتوركيّة التي يحميها الجيش.
ونتيجة لهذا الإطار المحدود، لم تشهد الحياة السياسية التركيّة أيّة تغييرات جوهرية تنعكس على الداخل أو على توجهات الدولة في الخارج، وحتى في الوقت الذي كان من الممكن للتفاعل السياسي أن يولّد خروقا على هذا الصعيد، كان الجيش يتدخّل لإجهاضها وإعادة الأمور إلى نصابها من جديد.
لكنّ الحقيقة أنّ تجربة حزب "العدالة والتنمية" منذ العام 2002، نجحت في جعل النظام السياسي في تركيا نموذجا يلفت الانتباه، ليس لما ينصّ عليه نظريا وإنما للتفاعلات التي نتجت عنه وللمفاعيل التي يمكن أن تنتج عنه فيما لو تمّ تطبيق تجربته في أماكن أخرى على الصعيد الإقليمي. أصبح الجميع يتحدّث الآن عن "النموذج التركي" (The Turkish Model) الذي يتمحور عادة حول 3 قيم أساسية هي الديمقراطية والعلمانية والإسلام.
ونستطيع أن نقول أنّ مكمن تحول النظام السياسي التركي إلى أداة من أدوات "القوّة الناعمة" (Soft Power) على الصعيد الإقليمي هو أنّه:
1- يمثّل نموذجا للإسلاميين حول الكيفية التي يستطيعون بواسطتها مواجهة الأوضاع الداخلية في بلدانهم عبر الواقعيّة والبراجماتيّة والاعتدال.
2- يمثّل نموذجا للديمقراطية الإسلامية المعتدلة التي تبحث الولايات المتّحدة عنها وسعى إلى تعميم تجربتها.
3- يمثّل نموذجا لقدرة الهوية الإسلامية على التكيّف وتقدير القيم الأساسية في المجتمع من حريّة وحكم القانون والعدالة والإصلاح والشفافية.
ثانيا: الحياة الحزبية
شهدت الحياة الحزبية في تركيا العديد من التطورات منذ الاستقلال في العام 1923. لكنّ التفاعلات الحقيقية بدأت في العام 1950 مع التعددية الحزبية، وظلّت الحكومات منذ ذلك التاريخ وحتى العام 2002 ائتلافية في غالبها، نظرا لعدم قدرة الأحزاب على خلق تغيير، الى أن جاءت الانتخابات في ذلك العام لتشكّل علامة فارقة في تاريخ تركيا الحديث والتي أدت إلى فوز غير مسبوق لحزب العدالة والتنمية ذو الميول الإسلامية اثر حصده غالبية المقاعد النيابية بواقع 360 مقعد من أصل 550، وهو أمر لم يحصل في تركيا من قبل على يد أي حزب، وأسفر ذلك عن تفاعلات مهدت لتغييرات جذرية في الداخل والخارج لازالت تتفاعل إلى يومنا هذا وتخطّ معها دور تركيا التفاعلي في المنطقة وصعودها الإقليمي والدولي بشكل بارز كدولة محورية ذات أهمية إستراتيجية.
ثم جاءت انتخابات العام 2007 لتؤكّد صوابيّة النهج المتّبع من قبل حزب "العدالة والتنمية"، ومباركة الشعب التركي للمسار الداخلي والخارجي الذي يقوده الحزب والذي وضع تركيا على مسار استعادة دورها وموقعها وقوّتها التاريخية التي لطالما لعبتها في محيطها. ولم تستطع سوى 3 أحزاب الوصول إلى البرلمان "العدالة والتنمية"، "حزب الشعب الجمهوري" و"حزب الحركة القوميّة" إضافة إلى 28 مستقلا غالبهم من الأكراد، ما لبثوا أن انضموا عند فوزهم لأحزاب فأدخلوها معهم قبة البرلمان وهي حزب اليسار الديمقراطي، حزب المجتمع الديمقراطي، حزب الحريّة والتضامن، حزب الاتحاد الكبير.
Ø القدرات العسكرية لتركيا
يعرف عن الأتراك منذ القدم بأنّهم شعب محارب وقوي وقادر على الخوض والمنازلة في مختلف الظروف والأجواء والأماكن، ولعل هذا يعود في جزء منه إلى اكتسابهم "القدرة على التأقلم" والتي منحتهم إيّاها الجغرافيا نظرا لتنوع البيئة الجغرافية للمناطق التي يعيشها الأتراك منذ القدم وامتداداها فيما بعد لتغطّي المنطقة الواقعة من غرب الصين شرقا إلى شرق أوروبا غربا ومن البحر الأسود شمالا وحتى الخليج العرب جنوبا. كما كان لعناصر أخرى مثل الثقافة والعقيدة والحس القومي خلال مراحل مختلف دور في ترسيخ الفكر العسكري لدى الأتراك.
يتمثّل المحور الأساسي الذي تستند إليه عقيدة الجيش التركي في مبدأ أتاتورك "سلام في الداخل، سلام في العالم"، ولهذا وباستثناء تدخّله في قبرص لإنهاء الانقلاب العسكري المدعوم يونانيا في 20 تموز من العام 1974، لم يخض الجيش التركي أّية حرب عدوانية ضد أيّ من الجيران في الدائرة الصغرى أو الكبرى لمحيطه، كما ولم يبد أيّة نوايا عدوانية ولعلّ ذلك يعود بالأساس إلى عقيدة الجيش بشكل رئيسي على الرغم من وجود العديد من النزاعات المائية والبرية والجويّة في حدوده والتي من الممكن أن توفّر غطاءا لأي تحرّك عسكري له لو أراد ذلك.
تعدّ القوّات المسلّحة التركيّة ثاني اكبر جيش في حلف شمالي الأطلسي بعد الولايات المتّحدة الأمريكية وهي ثامن أكبر جيش عالميا من حيث عديد الجنود الموضوعين في الخدمة، وهي أكبر من الجيشين الفرنسي والانكليزي مجتمعين.
معظم أنظمة التسلّح التي تستخدمها القوّات المسلّحة الترّكية أمريكية المصدر، لكنّ تركيا عملت خلال السنوات الأخيرة على الاعتماد على أنظمة تسّلح من دول أخرى أيضا منها: ألمانيا، انكلترا، فرنسا، روسيا وإسرائيل. وفي موازاة ذلك، تقوم تركيا بإنشاء صناعتها الدفاعية الخاصّة لتحقّق الاكتفاء الذاتي من ناحية صناعة الأسلحة، و هي تسعى أيضا إلى الدخول في مشاريع إنتاج أسلحة وأنظمة تسلّح مشتركة وذلك بالحصول على تراخيص إنتاج من بلد المنشأ، الأمر الذي يسمح بانتقال التكنولوجيا إليها، وهي باشرت بعض المشاريع الخاصة بها.
واعتمادا على هذه عقيدته العسكريّة، يعمل الجيش التركي على وضع استراتيجيات دفاعيّة تتضمّن:
1- أن تتحول تركيا إلى دولة منتجة لاستراتيجيات ومبادرات تؤمن الأمن والاستقرار في المنطقة وتحد من تأثير الاستراتيجيات الموجّهة نحوها ونحو المنطقة.
2- أن تتحوّل إلى عنصر قوّة وتوازن في المنطقة.
3- أن تعمل على استغلال كل فرصة وتأخذ المبادرة في تحقيق التعاون والتفاهم وتطوير العلاقات الايجابية مع الدول المحيطة.
وبذلك، تكون تركيا الدولة استوفت مقوّمات القوّة التي تؤهلها لأن تلعب دورا أكبر في النظام الدولي عبر إحاطتها بالعناصر الجيو-سياسية اللازمة للقيام بهذا الدور، وعبر نموذجا السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي شكّل عامل جذب يزيد من قوّتها المخملية المطلوبة لتحفيزه إلى جانب قوّتها العسكرية التي تشكّل عامل أمان وضمان لها، فيأتي صعودها الإقليمي والدولي بذلك منسجما مع تاريخها وقدراتها الكامنة وطبيعة، إضافة إلى قدرتها على التأثير في مجرى العلاقات الدولية.
النموذج الإقليمي والارتقاء العالمي
لطالما لعبت منطقة الأناضول دورا حاسما في التاريخ على الصعيد الإقليمي والعالمي، إذ شكّلت هذه المنطقة تقاطعا لمختلف الحضارات البشريّة العريقة التي شكّلت قلب العالم القديم، فكانت "اسطنبول" عاصمة لثلاثة من أكبر الإمبراطوريات وأقواها على مر العصور من الرومانية إلى البيزنطيّة وانتهاءً بالإمبراطورية العثمانيّة (1288-1924) التي حكمت منطقة تمتد على مستوى قارات العالم الثلاث القديم إلى أن ضعفت رغم الجهود المشهودة للسلطان العظيم "عبدالحميد الثاني"، وتفككت اثر دخولها الحرب العالمية الأولى، فانهي "مصطفى كمال أتاتورك" الخلافة سنة 1922 وأعلن قيام "جمهورية تركيا" الحديثة العام 1923.
انكفأت تركيا في الحرب العالمية الثانية ثمّ قامت باستعادة جزء من دورها الجيو-سياسي التاريخي لفترة قصيرة خلال الحرب الباردة عندما شكّلت حائطا منيعا في وجه المد الشيوعي لوقف زحفه إلى أوروبا والشرق الأوسط. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي العام 1991، بدت الفرصة سانحة أمام تركيا الحديثة لتلعب دورا حاسما يعمل على إعادة تشكل النظام الإقليمي والدولي، عبر ما يعرف باسم "العالم التركي" الذي يضم دولا تمتد من غرب الصين إلى أوروبا، لكنها لم تستغلها.
لكن ومع استلام حزب "العدالة والتنمية" الحكم في العام 2002، تغيّرت المعطيات كلّيا، وعمل الحزب وقادته (ومازالوا يعملون)على إحداث تغييرات داخلية سياسية واجتماعية واقتصادية، وعلى استغلال المعطيات الجيو-سياسية (Geopolitical) والجيو-إستراتيجية (Geostratigic) لتحويل تركيا إلى قوّة كبرى في الوقت الذي تشهد فيه خريطة ما يسمى بـ"الشرق الأوسط" إعادة تشكيل وتوزيع لمراكز القوّة والسلطة والقرار، وتتزاحم فيه القوى الإقليمية على حجز مكان لها في الخريطة الجيو-إستراتيجية التي نشأت بعد انهيار البوابة الشرقية للعالم العربي اثر احتلال العراق، ومن قبله إقصاء النظام الأفغاني "الطالباني".
ونجح الحزب ولاسيما الثلاثي (أردوغان، غول، وأوغلو) في دفع تركيا نحو الارتقاء الإقليمي والدولي عبر تعزيز قوّتها المخملية (Soft Power) وجعلها نموذجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على مستوى المنطقة، ترافق ذلك مع صياغة نظريات ومفاهيم تركيّة تتناسب مع متطلبات الصعود مثل "العمق الاستراتيجي" و"ديبلوماسية تصفير النزاعات" بشكل يجعل من تركيا المركز الذي تدور حوله باقي الدول في المنطقة.
Ø المقوّمات الجيو-سياسية لتركيا
Ø النظام السياسي في تركيا
Ø القدرات العسكرية لتركيا
Ø المقوّمات الجيو-سياسية لتركيا
أولا: الموقع الجغرافي
1- تتوسطّ قارات العالم القديم الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، وقد منحها هذا الموقع منذ القدم قدرة على التفاعل الحيوي في المحيط الإقليمي بحيث تؤثّر وتتأثر بالعناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافيّة القائمة على تخومها.
2- تقع في قلب المجال الجغرافي المصطلح على تسميته "أوراسيا" وهي بذلك تعتبر المنطقة الوسطيّة المتحكّمة في منطقة "قلب العالم" (Heart Land) الأمر الذي يؤهلها لأن تكون دولة محوريّة أو حاسمة في المجال الجيو-سياسي (Pivotal State).
3- هي دولة قارّية وبحرية في نفس الوقت وتحدّها ثماني دول ما يتيح لها اختيار سياسات أو تحالفات أو إقامة تجمّعات في ظل كون تركيا دولة محورية في مجالها الجغرافي.
4- تحدّها المياه من ثلاث جهات تسيطر على ممرّين مائيين مهمين مما يعطيها القدرة على التحكّم (to control access).
ثانيا: الشعب
تحتل تركيا المرتبة الـ17 عالميا من حيث تعداد السكان، ويؤهلها هذا الكم البشري من لعب دور هام على في مختلف المجالات:
1- من الناحية الديموغرافية: هي دولة فتيّة في المعيار الهرمي تتمتع بديناميكية شابّة مقارنة بالشعوب الموجودة في أوروبا كما ويشكّل تعداد سكّانها عنصر توازن مع المحيط الإقليمي القريب الإيراني والعربي والأوروبي بما يسمح بممارسة تأثير في أربع جهات.
2- من الناحية الاقتصادية: يبلغ عدد القوّة العاملة في تركيا حوالي 23.5 مليون نسمة أي ما يفوق التعداد السكاني لسوريا على سبيل المقارنة، وتشكل هذه الفئة قوّة دافعة بنشاطها وطاقتها الإنتاجية بما يتناسب مع الدور الذي تريد تركيا أن تلعبه في محيطها الإقليمي.
3- تركيا دولة تتمتع بغنى عرقي وديني أيضا رغم وجود هوية غالبة عرقية (تركية) ودينية (اسلامية)، ويمثّل الاتجاه القائم اليوم في توسيع حقوق الأقليات نموذجا للتعايش في دولة واحدة قوية بما يساهم في دحض نموذج صراع الحضارات والأديان واستبداله بنموذج تعايش الحضارات والأديان.
ثالثا: الموارد الطبيعية
باستثناء افتقارها إلى كمّيات معتبرة من النفط والغاز، فان تركيا تكاد تحتكر الموردان الأكثر أهمية على صعيد المنطقة وهما المياه والغذاء، وهما موردان تتوقّع الدراسات المستقبلية أن يتسببا بصراعات دولية للاستحواذ عليها في ظل الشح الذي تعاني منه الدول جراء تناقص منسوب المياه والافتقار إلى الاكتفاء الغذائي في ظل تنامي السكّان.
Ø النظام السياسي في تركيا
أولا: المؤسسات الدستورية
يشير الدستور التركي إلى أن النظام في تركيا جمهوري ديمقراطي "برلماني" علماني، أما المؤسسات الدستورية في البلاد فهي تتوزع على السلطة التشريعية التي تتمثّل بالجمعية الوطنية "البرلمان"، السلطة التنفيذية وتتمثل برئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، السلطة القضائية وتنقسم إلى ثلاث فئات هي القضاء العدلي والقضاء الإداري والقضاء الخاص، وتدخل المحاكم العسكرية ضمن نطاق القضاء العسكري، وتمثّل المحكمة الدستورية السلطة القضائية العليا.
وإذا ما نظرنا إلى العناصر المجردة للنظام السياسي التركي القائم على دستور عام 1982 من الناحية النظرية، فإننا لن نجد ما يميّزه على اعتبار أنّه نظام ديمقراطي محدود الأطر، وقواعد اللعبة السياسية فيه مضبوطة على إيقاع العلمانيّة الأتاتوركيّة التي يحميها الجيش.
ونتيجة لهذا الإطار المحدود، لم تشهد الحياة السياسية التركيّة أيّة تغييرات جوهرية تنعكس على الداخل أو على توجهات الدولة في الخارج، وحتى في الوقت الذي كان من الممكن للتفاعل السياسي أن يولّد خروقا على هذا الصعيد، كان الجيش يتدخّل لإجهاضها وإعادة الأمور إلى نصابها من جديد.
لكنّ الحقيقة أنّ تجربة حزب "العدالة والتنمية" منذ العام 2002، نجحت في جعل النظام السياسي في تركيا نموذجا يلفت الانتباه، ليس لما ينصّ عليه نظريا وإنما للتفاعلات التي نتجت عنه وللمفاعيل التي يمكن أن تنتج عنه فيما لو تمّ تطبيق تجربته في أماكن أخرى على الصعيد الإقليمي. أصبح الجميع يتحدّث الآن عن "النموذج التركي" (The Turkish Model) الذي يتمحور عادة حول 3 قيم أساسية هي الديمقراطية والعلمانية والإسلام.
ونستطيع أن نقول أنّ مكمن تحول النظام السياسي التركي إلى أداة من أدوات "القوّة الناعمة" (Soft Power) على الصعيد الإقليمي هو أنّه:
1- يمثّل نموذجا للإسلاميين حول الكيفية التي يستطيعون بواسطتها مواجهة الأوضاع الداخلية في بلدانهم عبر الواقعيّة والبراجماتيّة والاعتدال.
2- يمثّل نموذجا للديمقراطية الإسلامية المعتدلة التي تبحث الولايات المتّحدة عنها وسعى إلى تعميم تجربتها.
3- يمثّل نموذجا لقدرة الهوية الإسلامية على التكيّف وتقدير القيم الأساسية في المجتمع من حريّة وحكم القانون والعدالة والإصلاح والشفافية.
ثانيا: الحياة الحزبية
شهدت الحياة الحزبية في تركيا العديد من التطورات منذ الاستقلال في العام 1923. لكنّ التفاعلات الحقيقية بدأت في العام 1950 مع التعددية الحزبية، وظلّت الحكومات منذ ذلك التاريخ وحتى العام 2002 ائتلافية في غالبها، نظرا لعدم قدرة الأحزاب على خلق تغيير، الى أن جاءت الانتخابات في ذلك العام لتشكّل علامة فارقة في تاريخ تركيا الحديث والتي أدت إلى فوز غير مسبوق لحزب العدالة والتنمية ذو الميول الإسلامية اثر حصده غالبية المقاعد النيابية بواقع 360 مقعد من أصل 550، وهو أمر لم يحصل في تركيا من قبل على يد أي حزب، وأسفر ذلك عن تفاعلات مهدت لتغييرات جذرية في الداخل والخارج لازالت تتفاعل إلى يومنا هذا وتخطّ معها دور تركيا التفاعلي في المنطقة وصعودها الإقليمي والدولي بشكل بارز كدولة محورية ذات أهمية إستراتيجية.
ثم جاءت انتخابات العام 2007 لتؤكّد صوابيّة النهج المتّبع من قبل حزب "العدالة والتنمية"، ومباركة الشعب التركي للمسار الداخلي والخارجي الذي يقوده الحزب والذي وضع تركيا على مسار استعادة دورها وموقعها وقوّتها التاريخية التي لطالما لعبتها في محيطها. ولم تستطع سوى 3 أحزاب الوصول إلى البرلمان "العدالة والتنمية"، "حزب الشعب الجمهوري" و"حزب الحركة القوميّة" إضافة إلى 28 مستقلا غالبهم من الأكراد، ما لبثوا أن انضموا عند فوزهم لأحزاب فأدخلوها معهم قبة البرلمان وهي حزب اليسار الديمقراطي، حزب المجتمع الديمقراطي، حزب الحريّة والتضامن، حزب الاتحاد الكبير.
Ø القدرات العسكرية لتركيا
يعرف عن الأتراك منذ القدم بأنّهم شعب محارب وقوي وقادر على الخوض والمنازلة في مختلف الظروف والأجواء والأماكن، ولعل هذا يعود في جزء منه إلى اكتسابهم "القدرة على التأقلم" والتي منحتهم إيّاها الجغرافيا نظرا لتنوع البيئة الجغرافية للمناطق التي يعيشها الأتراك منذ القدم وامتداداها فيما بعد لتغطّي المنطقة الواقعة من غرب الصين شرقا إلى شرق أوروبا غربا ومن البحر الأسود شمالا وحتى الخليج العرب جنوبا. كما كان لعناصر أخرى مثل الثقافة والعقيدة والحس القومي خلال مراحل مختلف دور في ترسيخ الفكر العسكري لدى الأتراك.
يتمثّل المحور الأساسي الذي تستند إليه عقيدة الجيش التركي في مبدأ أتاتورك "سلام في الداخل، سلام في العالم"، ولهذا وباستثناء تدخّله في قبرص لإنهاء الانقلاب العسكري المدعوم يونانيا في 20 تموز من العام 1974، لم يخض الجيش التركي أّية حرب عدوانية ضد أيّ من الجيران في الدائرة الصغرى أو الكبرى لمحيطه، كما ولم يبد أيّة نوايا عدوانية ولعلّ ذلك يعود بالأساس إلى عقيدة الجيش بشكل رئيسي على الرغم من وجود العديد من النزاعات المائية والبرية والجويّة في حدوده والتي من الممكن أن توفّر غطاءا لأي تحرّك عسكري له لو أراد ذلك.
تعدّ القوّات المسلّحة التركيّة ثاني اكبر جيش في حلف شمالي الأطلسي بعد الولايات المتّحدة الأمريكية وهي ثامن أكبر جيش عالميا من حيث عديد الجنود الموضوعين في الخدمة، وهي أكبر من الجيشين الفرنسي والانكليزي مجتمعين.
معظم أنظمة التسلّح التي تستخدمها القوّات المسلّحة الترّكية أمريكية المصدر، لكنّ تركيا عملت خلال السنوات الأخيرة على الاعتماد على أنظمة تسّلح من دول أخرى أيضا منها: ألمانيا، انكلترا، فرنسا، روسيا وإسرائيل. وفي موازاة ذلك، تقوم تركيا بإنشاء صناعتها الدفاعية الخاصّة لتحقّق الاكتفاء الذاتي من ناحية صناعة الأسلحة، و هي تسعى أيضا إلى الدخول في مشاريع إنتاج أسلحة وأنظمة تسلّح مشتركة وذلك بالحصول على تراخيص إنتاج من بلد المنشأ، الأمر الذي يسمح بانتقال التكنولوجيا إليها، وهي باشرت بعض المشاريع الخاصة بها.
واعتمادا على هذه عقيدته العسكريّة، يعمل الجيش التركي على وضع استراتيجيات دفاعيّة تتضمّن:
1- أن تتحول تركيا إلى دولة منتجة لاستراتيجيات ومبادرات تؤمن الأمن والاستقرار في المنطقة وتحد من تأثير الاستراتيجيات الموجّهة نحوها ونحو المنطقة.
2- أن تتحوّل إلى عنصر قوّة وتوازن في المنطقة.
3- أن تعمل على استغلال كل فرصة وتأخذ المبادرة في تحقيق التعاون والتفاهم وتطوير العلاقات الايجابية مع الدول المحيطة.
وبذلك، تكون تركيا الدولة استوفت مقوّمات القوّة التي تؤهلها لأن تلعب دورا أكبر في النظام الدولي عبر إحاطتها بالعناصر الجيو-سياسية اللازمة للقيام بهذا الدور، وعبر نموذجا السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي شكّل عامل جذب يزيد من قوّتها المخملية المطلوبة لتحفيزه إلى جانب قوّتها العسكرية التي تشكّل عامل أمان وضمان لها، فيأتي صعودها الإقليمي والدولي بذلك منسجما مع تاريخها وقدراتها الكامنة وطبيعة، إضافة إلى قدرتها على التأثير في مجرى العلاقات الدولية.