سباب ظهور النظام العالمي الجديد
مرسل: السبت إبريل 28, 2012 7:16 pm
هذا المقال كتبه الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري قبل سنة 2000، وشعرنا في مجانين بأهمية استعادة ما جاء فيه من كل زوارنا الأعزاء
تميل الدراسات السياسية إلى تعريف المصطلحات بشكل "سياسي", دون الغوص في تضميناتها الفلسفية أو المعرفية, ونحن إن لم نعرف الأبعاد المعرفية للمصطلح فلن ندرك إلا وجهاً واحداً منه, ولن نعرفه في كليته وتركيبته. وقد تم تعريف "النظام العالمي الجديد" عدة تعريفات سياسية تهمل بُعده المعرفي, مع أن هذا البعد هو الذي يكشف حقيقته.
إن النظام العالمي الجديد ما هو إلا استمرار للنظام العالمي الاستعماري القديم, وما هو إلا تعبير حديث عن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية في عصر السيولة الشاملة التي تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية, وهي المرجعية التي ترى أن الطبيعة والإنسان مجرد ظاهرتين ماديتين, تسري عليهما قوانين المادة, لا فرق بين الواحد والآخر.
هذه الرؤية تذهب إلى أن مركز الكون كامن فيه؛ لأن الكون بأسره يتكون من مادة واحدة, ومن ثم لا مجال للتجاوز أو لفاعلية المنظومات الأخلاقية, ويتجسد هذا المركز في عنصر مادي واحد, وتصبح بقية العالم بالنسبة له هي الهامش.
ويمكن أن يتجسد المركز في الإنسان أو في الطبيعة, فإن تمركز حول الذات الإنسانية فإنها تصبح هي المركز, وفي غياب أي مرجعيات متجاوزة يصبح أحد الشعوب هو (الأنا) المقدسة التي ترى بقية البشر والطبيعة باعتبارهما مادة محضة, يمكن هزيمتها وتوظيفها وحَوْسَلتها (أي تحويلها إلى وسيلة).
وقد أعلن الإنسان الغربي أنه هو (الأنا) المقدسة وأن العالم قد انقسم -بسهولة- إلى الأنا والآخر, والقوي والضعيف, والغازي والمغزوّ, والمسلح والأعزل من السلاح, والغرب وبقية العالم (بالإنكليزية: ذا وست أند ذا رست The west and the rest), ومنذ أن قام هذا النظام -النظام العالمي الاستعماري القديم- باقتسام العالم بدأ يصول ويجول, وبدلاً من أن ينشر الاستنارة والعدل انغمس في عمليات إبادة منهجية رشيدة, لم يعرفها تاريخ البشر من قبل (إبادة سكان الأمريكتين), وانغمس في عمليات (ترانسفير) (نقل السود من إفريقيَّة إلى الأمريكتين, ونقل العناصر البشرية غير المرغوب فيها مثل المجرمين واليهود والفائض البشري والثوريين والفاسدين اجتماعياً إلى جيوب استيطانية).
وقد خاض هذا النظام الدولي -في الصين- حرب الأفيون الأولى ثم حرب الأفيون الثانية, حتى يحقق أرباحاً اقتصادية ضخمة, وقد قام بنهب ثروات الشعوب بشكل منظم, لم يعرف له التاريخ مثيلاً, ومع ظهور حركات التحرر الوطني في المستعمرات -ابتداءً من الأربعينات- قام النظام الإمبريالي العالمي بضربها بعنف شديد, ثم حاول في الخمسينات الالتفاف حولها بأن منح المستعمرات استقلالاً اسمياً, وأسس نظماً سياسية عميلة مستعدة لأن تعطيه امتيازات يفوق عائدها ما كان يحصل عليه من الاستعمار العسكري المباشر.
إن تاريخ النظام العالمي الاستعماري القديم هو تاريخ النظام الصناعي العسكري الإمبريالي الغربي الذي حوَّل العالم إلى مصدرٍ للطاقة الطبيعية والبشرية الرخيصة وإلى سوقٍ لبضائعه. وعلى الرغم من تغيُّر الأشكال (الاستعمار الاستيطاني الإحلالي-الاستعمار الاستيطاني المبني على التفرقة اللونية-الكولونيالية- الإمبريالية-الاستعمار الجديد), فإنه نظام عالمي واحد يحاول أن يفرض -بالقوة- حالة التفاوت بين الشعوب والأمم.
قام هذا النظام الإمبريالي العالمي بغرس كل أنواع الاستعمار في عالمنا العربي (الاستعمار العسكري في مصر, السودان, ليبيا, المغرب, تونس, الصومال, العراق, جيبوتي, سورية, لبنان وأريتريا -الاستعمار الاستيطاني في الجزائر- الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فِلَسطين), وقام بنهب هذه المنطقة, إما مباشرة إبَّان فترة الاستعمار العسكري المباشر أو من خلال التحكم في أسعار المواد الخام (خصوصاً النفط), وعن طريق بيع أسلحة ببلايين الدولارات لنظم يضمن هو بقاءها في الحكم, ويعلم جيداً أنها غير قادرة على استخدام هذا السلاح, كما أثبتت الخبرة التاريخية التي يريدنا أن ننساها.
وتتضح هوية هذا النظام العالمي الإمبريالي المغلق في ظهور الفلسفات العنصرية والداروينية والنيتشوية التي تقسم العالم -وبحدة- إلى الأنا والآخر, وتجعل الذات القومية هي المعيار الوحيد للحكم, وتجعل الغرب هو المركز, وتجعل الإنسان الأبيض هو صاحب المشروع الحضاري الوحيد الجدير بالاحترام والبقاء, ومن هنا عُبئ الرجل الأبيض الشهير, فهو وحده القادر على اختيار الطريق الصحيح, أما الآخر فهو عاجز ضالّ، وفي هذا الإطار ظهرت الفاشية والنازية ثم الصهيونية وهي دعوة لحل مشاكل أوروبا (المسألة اليهودية) عن طريق تصديرها للشرق.
فحينما كان هِرْتِزِل يتحدث عن إنشاء دولة يهودية يضمنها "القانون الدولي العام"-فإنه كان يعني "القانون الغربي الاستعماري", الذي يتحكم في العالم ويقسمه حسب رؤيته ومشيئته, ثم صدر وعد بلفور في هذا الإطار, إذ أعطت بريطانيا الحق لنفسها في أن تمنح أرض فِلسطين للفائض البشري اليهودي في الغرب, وأن تنقل من فِلسطين سكانها الأصليين (تمت الإشارة إليهم باعتبارهم العناصر "غير اليهودية", أي "غير الغربية", ومن ثم فهم يقعون خارج نطاق الحقوق والمسئوليات), ثم قام النظام الدولي -مرة أخرى من خلال هيئة الأمم المتحدة- بتقسيم فِلَسطين ومنح الوجود الصهيوني شرعية مستمدة من شرعيته الدولية هذه, ثم استمر النظام الدولي-متمثلاً في شِقِّيه الرأسمالي والاشتراكي- بالاعتراف بالدولة الصهيونية, ودعمها إما بشرياً عن طريق نقل المادة البشرية من شرق أوروبا, أو مالياً وعسكرياً عن طريق الدعم المالي والعسكري من غرب أوروبا والولايات المتحدة, وهو دعم ظل يتزايد في حجمه ونوعه يوماً بعد يوم, حتى وصل إلى التحالف الاستراتيجي المعلن بين "إسرائيل" والولايات المتحدة, مؤكداً بذلك أن الغرب -صاحب النظام الدولي- هو المهيمن على العالم, وأن العالم هو المسرح, وأن الجنس البشري هو المادة التي وظفها لصالحه.
هذه رؤية ثنائية حادة تنكر تاريخ الآخر وإنسانيته, ولا تقبل به إلا كمادة استعمالية, وقد تكررت ممارسات النظام الإمبريالي الدولي القديم بأشكال تتراوح بين درجات مختلفة من الحدة والتبلور في أنحاء آسيا وإفريقيَّة وأمريكا اللاتينية, وكان يمكن للاستعمار أن يستمر على شكله القديم, ولكن حدثت تطورات تاريخية عميقة لا تشكل لحظة إفاقة أخلاقية تاريخية -وكيف يمكن أن نتوقع هذا من حضارة مؤسسة على أساس القانون الطبيعي والفلسفة النيتشوية والداروينية؟!- وإنما تشكل لحظة إدراك ذكية من جانب الغرب لموازين القوى, أدت إلى ظهور النظام العالمي الجديد الاستعماري.
ونحن نلخص أسباب ظهور هذا النظام الجديد فيما يلي :
1- أدرك الغرب عمق أزمته العسكرية والثقافية والاقتصادية, وأحس بالتفكك الداخلي وبعجزه عن فرض سياساته بالقوة.
2- أدرك الغرب استحالة المواجهة العسكرية والثقافية والاقتصادية مع دول العالم الثالث, التي أصبحت جماهيرها أكثر صحواً, ونُخبها أكثر حركية وصقلاً وفهماً لقواعد اللعبة الدولية.
3- أدرك الغرب أنه على الرغم من هذه الصحوة, فثمة عوامل تفكك بدأت تظهر في دول العالم الثالث, فقد ظهرت نخب محلية مستوعبة تماماً في المنظومة القيمية والمعرفية والاستهلاكية الغربية -يمكنه أن يتعاون معها ويجندها, وهي نخب يمكن أن تحقق له -من خلال السلام والاستسلام- ما فشل في تحقيقه من خلال الغزو العسكري.
لكل هذا, أدرك الغرب إمكانية اللجوء للإغواء والإغراء بدلاً من القمع, والاستفادة من التفكك لضرب التماسك بدلاً من الهجوم التدميري المباشر؛ وبذا يحل إشكالية عجزه عن المواجهة ويتخلى عن مركزيته الواضحة وهيمنته المعلنة, ليحل محلها هيمنة بنيوية تغطيها ديباجات العدل والسلام والديمقراطية التي ينقلها البعض ببَبْغائية مذهلة، ويمكن أن نتعامل بشيء من التفصيل مع التغيرات العالمية التي تشكل إطاراً لظهور النظام العالمي الجديد كما يلي:
أولاً: على المستوى العسكري:
1- أدت مرحلة الحرب الباردة بين الدولتين العظميين إلى إرهاقٍ متبادل لهما, نتيجة الدخول في سباق للتسلح لا نهاية له, خصوصاً وأن تطوير تقنية السلاح أصبح مسألة مكلفة للطرفين بشكل لا يطيقه أي منهما, وعلى الرغم من "انتصار" الولايات المتحدة, إلا أن النزيف قد أثر فيها, وقد أصبحت الحروب الحديثة أمراً مكلفاً للغاية, يتطلب تمويلاً ضخماً يصعب على أي دولة -بما في ذلك الولايات المتحدة- القيام به, خصوصاً وأن ثمة أزمة اقتصادية عالمية, تجعل من الصعب على الشعوب الغربية القبول بتخصيص اعتمادات عسكرية كبيرة في وقت تقوم فيه كثيرٌ من الدول الغربية بتصفية مؤسسات الرفاه الاجتماعي.
2- تراجعت القدرات العسكرية للاستعمار الغربي؛ بسبب تصاعد معدلات العلمنة والتوجه الحاد للإنسان الغربي نحو المنفعة الشخصية واللذة المباشرة التي لا يمكن إرضاؤها إلا بالإشباع الفوري, وقد أدى هذا إلى انخفاض الروح النضالية لدى الإنسان الغربي وإلى ارتفاع تكاليف الحملات العسكرية. وقد صرح المتحدثون باسم المؤسسة العسكرية الأمريكية بأن إمكانياتها قد أُجهدت تماماً أثناء العمليتين المتزامنتين لإنزال الجنود الأمريكيين في كلٍّ من غرانادا ولبنان, وذلك على الرغم من صغر حجم العمليتين؛ بسبب تضخم قطاع الخدمات في القوات المسلحة -تماماً كما يحدث في المجتمعات الاستهلاكية الحديثة, إذ يتطلب إنزال جندي أمريكي واحد خدمات عدة جنود, يصل عددهم أحياناً إلى عشرة, مما يعني أن إنزال عشرة آلاف جندي يشغل ما بين خمسين ومائة جندي آخر! (وقد كانت حرب الخليج خليطاً من المأساة والملهاة في هذا المضمار؛ بسبب معدل الرفاهية العالي).
3- تراجعت الهيمنة العسكرية الغربية؛ بسبب ظهور دولٍ لها قوة عسكرية ضاربة وقوة نووية غير خاضعة للهيمنة الغربية, مثل كوريا الشمالية والصين, وربما باكستان.
4- أدرك الغرب -في الوقت نفسه- عبث المواجهة العسكرية مع القوى المجاهدة غير الرسمية, خصوصاً بعد تجربته المريرة في فيتنام (تجرِبة الانتفاضة الفِلَسطينية المستمرة وتجربة أفغانستان الناجحة).
5- ظهور أسلحة دمار رخيصة مثل الصواريخ ذات الرؤوس الميكروبية (قنبلة الفقراء النووية على حد قول أحد المعلقين), بل أثبتت حرب أفغانستان مقدرة الجماعات الفدائية على الحصول على أسلحة ذات مقدرة تدميرية عالية, لا يحتاج استخدامها إلى متخصصين وإلى دورات تدريبية.
ثانياً: على المستوى الثقافي:
1-تراجعت المركزية الغربية على المستوى الثقافي؛ بسبب ظهور كتلة العالم الثالث, وظهور حركات بعث قومي فيها؛ بسبب تزايد الوعي بالذات الثقافية؛ وبسبب أزمة الغرب الذي لم يعد نموذجاً جذاباً ناجحاً كما كان في الستينات. ومما ساعد على ذلك ظهور أقليات ثقافية إثْنية داخل العالم الغربي ذاته لا تقبل بالهيمنة الثقافية الغربية أو بمركزيته الثقافية.
2- وقد حدث هذا في وقت تمر فيه الحضارة الغربية بأزمة عميقة, فلم يعد الغرب واثقاً تماماً بنفسه كما كان الأمر من قبل؛ وذلك مع تفشي النسبية الثقافية وظهور مراكز اقتصادية عسكرية وثقافية أخرى في العالم, ومع تفاقم الأزمة الاجتماعية في الداخل (الجريمة -تفكك الأسرة- الإيدز -المخدرات- الإباحية)؛ ولذا لم يعد قادة العالم الغربي قادرين على الحديث عن تفوق الجنس الأبيض, كما كان عهدهم في الماضي القريب.
3- مع هذا, لاحظ الغرب أن ثورة المعلومات والنظام الإعلامي الجديد -بأفلامه وكتبه ومرئياته ومراكز بحوثه- لديه مقدرة هائلة على الاختراق, تساعد على نقل المنظومة القيمية الغربية إلى كل أرجاء العالم, بعد أن كانت محصورة إلى حد كبير في الغرب.
4- أدرك الغرب أنه ظهر في العالم الثالث نُخبٌ محلية تنتمي (اسماً) إلى شعوبها, ولكنها تنتمي (فعلاً) من ناحية الرؤية والتطلعات والأحلام وأسلوب الحياة- إلى العالم الغربي. ومن الملاحظ أن تصاعد الوعي القومي صاحبه أيضاً تصاعد في معدلات العلمنة والترشيد والأمركة في كل أنحاء العالم, وتم اختراق كثير من أعضاء النخب الثقافية, كما تم الاستيلاء على أبنائهم, وبدأ الحلم الأمريكي يتسرب إلى قطاعٍ لا بأس به من الجماهير, وهذا ما يشير إليه البعض بظاهرة الكَوْكَلَة (نسبة إلى مشروب الكوكا كولا) أو الكوكاكولانية بدلاً من الكولونيالية, والكوكاكولانية هي اختراق المنظومة القيمية الغربية لأحلام الناس وعقولهم من خلال برامج التلفاز -على سبيل المثال- دون اللجوء إلى القوات العسكرية, وقد ساهمت ثورة المعلومات في هذه العملية.
ثالثاً: على المستوى الاقتصادي:
1- تواجه الولايات المتحدة -قائدة العالم الغربي- مشاكل المديونية وعجز الميزان التجاري, فالدَّيْن الأمريكي يزيد على ثلاثة تريليونات دولار, وانخفضت حصة الناتج القومي الإجمالي الأمريكي من الناتج العالمي- إلى الثلث. ويتنبأ بعض الاقتصاديين بأن الولايات المتحدة -التي أضعفها عِقدان من الركود- ستصبح بحلول عام 2000 ثالث قوة اقتصادية بعد أوربا واليابان, اللتين سوف تتفوقان على أمريكا من حيث الناتج القومي الإجمالي وحجم الاستثمارات في الخارج وحجم الصادرات.
2- حدث هذا في وقت بدأت تظهر فيه مراكز اقتصادية غير غربية تُطور نفسها خارج شبكة الهيمنة الغربية مثل اليابان والصين وماليزيا وغيرها.
3- لاحظ الغرب أن كثيراً من دول العالم الثالث أصبحت واعية بمصالحها الاقتصادية, وبآليات السوق المحلية, وكيفية السيطرة عليها, وبآليات إدارة الحكومة والاستثمار في الداخل والخارج, وأصبح لدى كثير من حكومات العالم الثالث خبرات محلية ومستوردة تجعل عملية النهب الاستعماري القديمة -التي بدأت باستبدال المرايات بالأراضي- صعبة, بل ومستحيلة.
4- أدَّى تطور الاقتصاد الغربي وتمدد السوق الغربية إلى ظهور ما يشبه الاقتصاد الدولي -وهو اقتصاد غربي ساحته كل الدول, وظهرت الشركات عابرة القارات التي تحمل الرأسمال الغربي في كل مكان, بحيث يتبعها أعداد هائلة من الموظفين والمستفيدين, وهي تحمل معها أنماط الاستهلاك في السوق الغربية باعتبارها كياناً آلياً يتطلب تنميط الآخر.
5- لاحظ الإنسان الغربي أن ثمة قضايا جديدة لا يمكن مواجهتها إلا في إطار عالمي, وهو ما يتطلب التعامل مع حكومات العالم الثالث. فثمن التقدم لم يعد مجرد تلويث نهر أو إصابة مجموعة من الناس -مثلاً- بداء الكبد, فنحن بدأنا نسمع الآن عن ظواهر ذات طابع كوني, مثل ثقوب الأوزون وسخونة الغلاف الجوي. وفي عصر الإمبريالية الغربية كان الإنسان الغربي يُصدِّر للشرق فواتير التقدم وينساها, أما الآن فإن ثقوب الأوزون لا تعرف الفرق بين الشرق والغرب, وتذكره -الإنسان- بالدمار الذي يحيط بالجنس البشري.
6- وإذا أخذنا انتشار المخدِّرات -باعتباره أحد النتائج السلبية للتقدم- فإن هذا يعني أنها هي الأخرى تسهم في عملية تدويل العالم. وفي القرن الماضي, كان الاستعمار الإنكليزي يدخل حرب الأفيون الأولى والثانية؛ ليفرض على سكان الصين تناول الأفيون بقوة السلاح ويحقق الربح لنفسه. ومع هذا كان المجتمع الإنكليزي يستمر في الحفاظ على أخلاقياته الفيكتورية المحافظة, وحتى في الستينات, كانت الشرطة الأمريكية لا تمانع كثيراً من وجود المخدرات في حي هارلم الأسْوَد في نيويورك, وكان هذا يُعد شكلاً من أشكال الضبط الاجتماعي. أما الآن, فإن كارتل إسكوبار في كولومبيا, وكذلك المثلث الذهبي -تمتد أياديهم لتصل إلى أولاد الطبقة المتوسطة البيضاء في نيو يورك ولندن وضواحيهما, والمخدرات التي تُزرع في منطقة الإشعاع النووي في تشرنوبيل- ولذا فهي تنمو بسرعة سرطانية- تجد طريقها إلى كل أرجاء المعمورة!.
إن ما حدث ليس اختفاء العالم ذي القطبين والتلاقي الأيديولوجي بين القوى العظمى المتصارعة (المتمثلة في روسيا-اليابان- العالم الغربي) وإنما هو -أيضاً- تراجع المركزية الغربية وظهور مراكز عديدة تتفاوت قوةً وضعفاً. وإدراك الغرب لذلك, وإدراكه -أيضاً- لمواطن الضعف في القوى المقاوِمة له, كل هذا أدى إلى أن يتبنى الغرب استراتيجية جديدة وهي الاستعمار العالمي الجديد, فهو -من الآن فصاعداً- سيلجأ إلى التفكيك بدلاً من التدمير, وإلى الإغواء بدلاً من القمع بقدر الإمكان, فالآلية الأساسية للقسر -أي سحق إرادة الشعوب- أصبحت مكلفة للغاية, إن لم تكن مستحيلة تماماً.
وجوهر الإغواء هو إيهام الآخر بأنه شريك مع الاستعمار الغربي في عمليات الاستثمار, بل وشريك (صغير) في عمليات النهب ومستفيد منها, ويواكب هذا إغواءٌ لأعضاء النخبة عن طريق إفسادهم ورشوتهم, بل وإغواء الشعب نفسه, إما مباشرة عن طريق وسائل الإعلام الغربية, أو عن طريق النخب المحلية, وتصعَّد في الوقت ذاته عمليات تفكيك الدولة القومية كإطار لتجميع القوى الشعبية المختلفة ضد الإمبريالية أو ضد الهيمنة الغربية, وذلك عن طريق المنظمات الدولية وإثارة الأقليات وإثارة مشاكل الحدود ..إلخ.
وانطلاقاً من ثنائية الأنا والآخر العنصرية الصلبة -كان النظام الإمبريالي القديم يحاول أن يوقف عمليات التحديث في أي مكان في العالم؛ والتي تحدث من أجل أن يصبح العالم الغربي متقدماً, منتجاً ومستهلكاً, ويصبح العالم الثالث متخلفاً بُدائياً مُصَدِّراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة ومستهلكاً ضعيفاً لبعض بضائع أوروبا. أما النظام الإمبريالي الجديد المزامن لعصر الاستهلاكية العالمية- فيرى أنه من الضروري ترشيد العالم بأسره, وتحويله كله إلى حالة المَصنع والسوبر ماركت؛ ولذا فلا بد أن تتقدم شعوب الأرض بما فيه الكفاية؛ لتصبح شبه منتجة, شبه مستهلكة, فالبدوي في صحراء نَجد والهندي الأحمر في براري أمريكا والقروي في الصعيد -يشكلون عائقاً يقف أمام النظام الإمبريالي الجديد المتمثل في الاستهلاكية العالمية؛ فهم ليسوا في حاجة إلى الهامبورغر أو السيارة أو الفيديو, ومن ثم فلا يمكن تجويعهم أو حرمانهم أو الضغط عليهم؛ فهم يشكلون ثغرةً في نظامٍ يشبه الآلة ولا يتحمل ثغرات, ويجب أن تكون أجزاؤه جزءاً من الكل الآلي. فمثل هؤلاء الفقراء مستقلون قادرون على الحفاظ على أبنيتهم الثقافية وقيمهم المطلقة وعلى اتزانهم مع الذات ومع الطبيعة, وهذا أمر يهدد النظام العالمي؛ ولذا, لا بد وأن "يتقدم" الجميع؛ حتى يدخل الجميع النظام العالمي, ويتم هذا من خلال بيع الأحلام الوردية عن الرخاء الاقتصادي وتعظيم اللذة أو الوعد بها, والتصعيد المستمر للرغبات الاستهلاكية والجنسية, وهو تصعيد يتم من خلال البث التلفازي ووسائل الإعلام الداخلية والخارجية.
ولكن يجب أن يتم التقدم تحت مظلة البنك الدولي وصندوق النقد, داخل إطار النظام العالمي الجديد الذي تحكمه بنية التفاوت والمنظومة القيمية الاستهلاكية؛ ولذا يجب ألا يسمح بإدخال التنمية المستقلة, فهي أيضاً تُحدث ثغرة في النظام الدولي, فهي قد توقف توسع الشركات متعددة الجنسيات, وقد تعوق التنمية تحت مظلة البنك الدولي.
وأما التنمية في إطار النظام العالمي الجديد, فإنها ستضمن أن تكون شعوب العالم الثالث نصف منتجة ونصف مستهلكة, حتى يستمر اعتمادها المذل على الغرب, ولا شك أن عمليات تصعيد التوقعات الاستهلاكية, وعملية التسخين -الاستهلاكية الجنسية- التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث, ستجعل من المستحيل تحقيق أي تراكم رأسمالي, وستبدد الطاقة الثورية أولاً بأول, وتختفي الرغبة في السمو وفي الجهاد.
والاستهلاكية العالمية - التي ستحول العالم إلى سوق كبيرة لا يسودها إلا قوانين العرض والطلب وتعظيم المنفعة المادية واللذة الحسية التي تؤدي إلى سيادة حالة المَصْنَع في العالم بأسره- هذه الاستهلاكية العالمية وجدت أن من صالحها أن تفتح الحدود, وأن تختفي القيم والمرجعيات تماماً, حتى يفقد الجميع أي خصوصية تُجنّبهم أن يصبحوا آلة إنتاجية استهلاكية وقطع غيار في الوقت ذاته.
ومن هنا كان الحديث عن الديمقراطية بطريقة انتقائية؛ فهي أداة النظام الاستهلاكي العالمي الجديد في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية المركزية الصغيرة, حتى يتسنى له -النظام الاستهلاكي العالمي- ترشيد البشر وإزالة أي عوائق إنسانية أو أخلاقية, وحتى تصبح كل الأمور متساوية وكل الأمور نسبية ويسود تساوٍ معرفي كامل -هو في واقع الأمر عملية تسوية, وتصفَّى كل الثنائيات, فالأجساد مادة والعقول آليات والعالم عقارات والأوطان فنادق.
وأما ما ينفع الإنسان الطبيعي فهو الانخراط الرحِمي -نسبة إلى الرحم- في المنظومة الآلية, ويصبح الجميع سواسية مثل أسنان المُشْط الأمريكي البلاستيك, فيتخففون من عبء الهوية والضمير والاختيارات الأخلاقية المركبة!.
ولنلاحظ أن ما تساقط هنا ليس خصوصية قومية بعينها, وإنما مفهوم الخصوصية ذاته, وليس تاريخاً بعينه, وإنما فكرة التاريخ ذاتها, وليس هوية بعينها, وإنما كل الهويات, وليس منظومة قيمية بعينها, وإنما فكرة القيمة ذاتها، وليس نوعاً بشرياً بعينه, وإنما فكرة الإنسان المطلق ذاتها, الإنسان ككِيان مركب, لا يمكن ردّه إلى ما هو أدنى منه، لقد اختفت المرجعية -أي مرجعية- وظهر عالم لا خصوصيات فيه ولا مركز له.