إدارة الأزمات الدولية في عالم متحول
مرسل: السبت إبريل 28, 2012 7:20 pm
اجتاحت تقنية إدارة الأزمات حقل العلاقات الدولية بقوة، بعدما ظل ينحصر استخدامها في مجالات الاقتصاد والإدارة لمدة طويلة، ولا غرابة في ذلك ما دامت هذه الوسيلة التي تتركز في مجمل الاجتهادات والمواقف وردود الأفعال المستندة بدورها إلى مقومات علمية وقانونية بغرض احتواء أزمة معينة، وهي أنجع وسيلة لاحتواء وتطويق المنازعات والأزمات وأقلها تكلفة.
وإذا كانت فترة الحرب الباردة التي شهدت أزمات دولية خطيرة كادت أن تفضي بالعملاقين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية) إلى مواجهات عسكرية مباشرة تعصف بالاستقرار العالمي (أزمة كوريا، أزمة الصواريخ الكوبية، أزمة برلين...) قد تميزت إجمالا بسهولة إدارة الأزمات نظرا إلى كون غالبيتها جاءت نتاجا للصراع بين الشرق والغرب, وتمكن الطرفين من تطويقها في إطار سياسة الردع المتبادل والمفاوضات الثنائية نظرا لغياب قوى دولية منافسة وفعالة حينئذ ونتيجة للشلل الذي أصاب الأمم المتحدة عامة ومجلس الأمن الدولي على وجه الخصوص بسبب الإقبال الكثيف على استعمال حق الاعتراض, فإن الأمر أضحى في غاية التعقد والصعوبة في عالم ما بعد الحرب الباردة مع بروز أزمات وصراعات متميزة لم تكن مألوفة في مجملها من قبل, كتلك المرتبطة بالصراعات الإثنية والقبلية الداخلية أو الناتجة عن تزايد المطالبة بالتغيير الديموقراطي واحترام حقوق الإنسان...
وفي هذه الفترة بالذات تشكلت رغبة دولية لتفعيل الأمم المتحدة بصفة عامة ومجلس الأمن الدولي على وجه الخصوص في مجال المحافظة على السلم والأمن الدوليين بعد حوالي نصف قرن من الشلل. وموازاة مع هذه التحولات الناتجة عن رحيل الاتحاد السوفيتي, خلا الجو للولايات المتحدة لبسط هيمنتها على الساحة الدولية, دشنتها بالتبشير "بنظام دولي جديد" قوامة السلام والعدالة والطمأنينة والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب...
إن الوسائل الدولية لإدارة الأزمات متعددة ومتباينة وتتنوع إلى وسائل ديبلوماسية (المفاوضات، المساعي الحميدة والوساطة، التحقيق، التوفيق، عرض المنازعات على المنظمات الدولية والإقليمية...) وقانونية (التحكيم الدولي والقضاء الدولي) وزجرية (الضغوطات الاقتصادية من حظر وحصار ومقاطعة وتجميد للأموال أو حجزها في الخارج، أو سياسية وديبلوماسية أو اللجوء إلى القوة العسكرية كخيار أخير...)، ولقد عددت المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة في فقرتها الثانية مختلف هذه الوسائل (1)، كما نص الميثاق في مواضع أخرى منه على وجوب عرض النزاع إذا استعصى حله بإحدى هذه الوسائل المذكورة سابقا، على الهيئة الدولية لتوصي بما تراه مناسبا بشأنه، كما بينت الاتفاقيات الدولية الكبرى التي أبرمت منذ مؤتمر لاهاي لإقرار السلام الكثير من هذه الوسائل وما يتصل بها من إجراءات وأحكام، فتكلمت اتفاقية لاهاي الأولى سنة 1907 عن الوساطة والمساعي الحميدة والتحقيق والتحكيم (2)، وسرد النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية كل ما يتصل بالسبل القضائية, وعالجت معاهدة التحكيم العامة المبرمة في جنيف سنة 1928 موضوع التوفيق، كما تعرضت أيضا للقضاء والتحكيم.
إن الظرفية الدولية التي أعقبت سقوط المعسكر الشرقي مكنت الولايات المتحدة من تبوأ مكانة متميزة ضمن إدارة الأزمات الدولية التي تدخل ضمن استراتيجيتها وذلك بالنظر إلى امتلاكها لمقومات عسكرية واقتصادية وتكنولوجية هامة لم تجتمع لغيرها، تمكنها من ذلك.
والمنطقة العربية التي تتميز بإمكانياتها النفطية ومواقعها الإستراتيجية وبتعدد أزماتها ونزاعاتها المتباينة (داخلية، دولية وإقليمية، ذات طابع سياسي، اقتصادي وعسكري...) وأمام تواضع جامعة الدول العربية في احتواء هذه الأزمات وهزالة حصيلتها في هذا المجال، شكلت فضاء خصبا لتجريب الدور الأمريكي في احتواء الأزمات في عالم ما بعد الحرب الباردة.
فما هو مفهوم إدارة الأزمات الدولية؟ وما هي المقومات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في إدارة هذه الأزمات؟ وكيف تعاملت هذه الأخيرة مع الأزمات العربية؟
أولا: في مفهوم الأزمات الدولية
إن بروز خلافات وصراعات ومواجهات بين الدول تشكل تحديا حقيقيا يواجه أصحاب القرار يعد أمرا طبيعيا نظرا لتضارب المصالح في المجتمع الدولي.
وتأتي إدارة الأزمات كوسيلة لدرء وتلافي المواجهات العسكرية الوخيمة العواقب، وهي تقنية قديمة اعتمدت على سبل تقليدية كالمفاوضات تم تطويرها في العقود الأخيرة لتعتمد طرقا فنية وتقنيات عالية الدقة والفعالية، والغاية من إدارة الأزمات هو تجنب حدوث مواجهة عسكرية قد لا يتوقعها أطراف النزاع عند بداية الأزمة. وتقنية إدارة الأزمات لها قواعدها وضوابطها وهي في هذا الجانب علم، ولكن تطبيق هذه القواعد بما يتواءم والظروف الضاغطة والمتقلبة والمواقف المفاجئة والمتسارعة التي يفرضها الأطراف يتوقف على قدرة خلاقة لصاحب القرار أو مدير الأزمة، ولذلك فهي من هذه الناحية فن يتعلق بموهبة القيادة التي لا يمكن أن تكتسب بالمعرفة أبدا وإن كانت المعرفة تصقلها وتهذبها وتعمقها (3) وللحديث عن إدارة الأزمة يلزمنا في البداية التطرق لمفهوم الأزمة وتمييزها عن بعض المفاهيم المماثلة الأخرى.
يعود اصطلاح الأزمة « Crise » إلى الفكر اليوناني القديم الذي يقصد بها نقطة تحول في الأمراض الخطيرة والقاتلة والتي تؤدي عادة إلى الموت المحقق أو الشفاء التام، كما ورد استخدام هذا المصطلح باللغة الصينية في شكل كلمتين « Wet-ji » أولاهما تعبر عن الخطر والثانية عن الفرصة التي يمكن استثمارها لدرء الخطر من خلال تحويل الأزمة وما تنطوي عليه من مخاطر إلى فرص لإطلاق القدرات الإبداعية لاستثمار هذه الأزمة كفرصة لإعادة صياغة الظروف وإيجاد الحلول البناءة (4).
كما تعني الأزمة في المعجم الوسيط: الشدة والقحط، أما في المنجد فإن أصل الكلمة مشتق من: زأم زأما زؤوما أي مات سريعا، هذا عن المعنى الاصطلاحي، أما من حيث دلالاتها الدولية، فهناك مجموعة من التعريفات التي وردت في هذا الشأن، فتريكسا (TRIKSA) يعتبرها ذلك التكثيف الشديد لطاقات الاختلال وعدم الاستقرار داخل النظام الدولي، فيما يعرفها كل من وينر « WINER » وكاهن « KAHN » بأنها تشتمل على قدر من الخطورة المفاجئة وغير المتوقعة، أما بولدنج (BOULDING) فيرى بأنها بمثابة نقطة تحول أو حد فاصل بين وضعين(5)، أما أمين هويدي فيعرفها "سواء كانت عالمية أو إقليمية، بأنها مجموعة من التفاعلات المتعاقبة بين دولتين أو أكثر تعيش في حالة صراع شديد يصل أحيانا إلى احتمال عال لنشوء الحرب ووقوعها، وفيها يواجه صاحب القرار موقفا يهدد المصالح العليا للوطن ويتطلب وقتا قصيرا للتعامل مع هذا الموقف باتخاذ قرارات جوهرية(6).
أما بالنسبة لمايكل، س، لوند فتعني: "مواجهة متوترة بين قوات مسلحة معبأة ومتأهبة, وقد تشتبك مع بعضها في تهديدات ومناوشات على مستوى منخفض من آن لآخر، ولكنها لم تستخدم أي قدر كبير من القوة العسكرية (7).
ويعرفها آخرون بكونها، "مرحلة الذروة في توتر العلاقات في بيئة استراتيجية وطنية أو إقليمية أو دولية، بحيث يصبح أطراف تلك العلاقات قاب قوسين أو أدنى من الحرب"(8).
في حين هناك من يعتبر أنها "بمثابة حالة عصبية مفزعة مؤلمة تضغط على الأعصاب وتشل الفكر وتحجب الرؤيا، تتضارب فيها عوامل متعارضة وتتداعى فيها الأحداث وتتلاحق وتتشابك فيها الأسباب بالنتائج وتتداخل الخيوط ويخشى من فقد السيطرة على الموقف وتداعياته وآثاره ونتائجه...فهي خلل يؤثر تأثيرا حيويا يعرض المتعرض لها سواء أكان فردا أو كيانا أو حتى دولة لحالة من الشتات والضياع، تهدد الثوابت التي يقوم عليها"(9).
أما الأستاذ عباس رشدي فيرى أن "الأزمة هي مرحلة متقدمة من مراحل الصراع، والصراع في أي مظهر من مظاهره وعلى أي نطاق من نطاقاته، بدءا من داخل النفس البشرية وانتهاء بالصراعات الدولية"(10).
ويضيف بأن أشكال الصراع مختلفة الأسباب والدوافع، أما الصراع الدولي فيعرفه بكونه: "ذلك التفاعل الناجم عن المواجهة والصدام بين المصالح والمعتقدات والبرامج وغير ذلك من الكيانـات المتنازعة " (11). ويضيف أيضا بأن الأزمة وباستثناء الأزمات الطبيعية (زلازل، براكين...) هي فعل أو رد فعل إنساني يهدف إلى توقف وانقطاع نشاط من الأنشطة أو زعزعة استقرار وضع من الأوضاع بهدف إحداث تغيير في النشاط أو الوضع لصالح مدبره"(12).
وبذلك تختلف الأزمة عن الحرب التي تعرف بأنها تلك المواجهة العسكرية التي تتم بين طرفين دوليين أو أكثر لفترة طويلة أو قصيرة باستخدام قوات مسلحة منظمة وتسفر عن ضحايا.
أما عن الأسباب التي تقف وراء نشوب الأزمات فهي متعددة ويمكن إجمالها في:
وجود بؤرة خلاف لم تحسم رغم مرور الوقت.
وجود حالة من تعارض المصالح والأهداف بين الدول.
تنامي الإشاعات بين الدول(13).
بروز أزمات مدبرة ومخطط لها بهدف تحقيق أهداف استراتيجية معينة (14).
الأخطاء البشرية الناجمة عن سوء الفهم وسوء التقدير أو سوء الإدارة إلى جانب اليأس.
الميل إلى استعراض القوة من قبل دولة تجاه دولة أخرى قصد ابتزازها وإحراجها.
خرق الدول للاتفاقيات القائمة بينها.
وعموما يمكن إجمال أهم مميزات الأزمة الدولية فيما يلي:
هي محطة تحول حاسم غالبا ما تتسم بالفجائية في نسق داخلي أو دولي تهدد مصالح دولية معينة، وتثير نوعا من الذهول والحرج لدى القوى المعنية بها.
تتسم بالتعقيد والتشابك في عناصرها وأسبابها وتستقطب اهتماما كبيرا وتثير نوعا من الخوف.
تتطلب جهدا كبيرا لمواجهتها، لتلافي تطوراتها السلبية التي قد يمتد خطرها للمستقبل.
تضع صانعي القرار في محك حقيقي، بحيث تتطلب اتخاذ قرارات وإجراءات سريعة وراجحة.
هي نتاج لتراكم مجموعة من التأثيرات السابقة والتي لا يتم حسمها(15).
تطرح نوعا من الارتباك والشك في الخيارات المطروحة عند التعامل معها خاصة في غياب معلومات دقيقة وكافية حولها.
قد تخلق حالة من التوتر العالمي خلال فترة زمنية قصيرة في ظل العلاقات الدولية المتشابكة حاليا (16).
بقي أن نشير إلى أن لكل أزمة دولية طرفان: الأول هو الذي خرج عن الوضع السلمي الطبيعي القائم مع الطرف أو الأطراف الأخرى ويعرف بمفجر الأزمة, بينما الطرف الثاني فهو الذي تستهدفه الأزمة ويفترض فيه أنه هو الذي يواجهها.
ثانيا: في مفهوم إدارة الأزمات الدولية
إذا كانت الأزمة – كما رأينا- هي حالة يمكن أن توصف بالاقتراب من خروج الأمور عن نطاق التحكم والسيطرة، فإن مواجهتها ينبغي أن تتم بسرعة وبطرق ذكية وإجراءات رشيدة لتفادي تطور المواقف إلى نزاع مسلح مباشر، وهي العملية التي تدخل في إطار ما يسمى بإدارة الأزمات التي يعرفها أحد الباحثين بكونها: "كيفية التعامل والتغلب على الأزمة بالأدوات العلمية المختلفة وتجنب سلبياتها والاستفادة منها مستقبلا(17).
فيما ينظر البعض الآخر إلى الأزمة في السياسة الدولية باعتبارها "محاولة لموازنة المجابهات أو المنازعات بقصد الحفاظ على المصالح المشتركة دون اللجوء للحرب(18).
إن ظهور الأزمة للوجود يضع الطرف الذي يواجهها أمام هدفين أو مطلبين: الأول، هو حماية المصالح والأوضاع القائمة بأقل تكلفة مادية وبشرية، والثاني هو العمل قدر المستطاع على تجنب الدخول في غمار مواجهة عسكرية مكلفة.
ورغم أن بعض المفكرين متشائمون حيال احتمال تحقق تطور نظري يعزز تقنية إدارة الأزمات في ظل العراقيل البيروقراطية والتنظيمية خلال بروز الأزمة مما قد يؤثر سلبا على اتخاذ القرارات بشكل عقلاني(19)، فإن هذه العملية يمكن أن تستمد نجاعتها وفعاليتها من قوة الطرف الذي يدير الأزمة وتناسق استراتيجيته في هذا الصدد من خلال:
طرح الهدف ومحاولة السيطرة على الأفعال الصادرة عن الأطراف أو الطرف المعتدي وردود أفعال الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى.
مرونة القرار السياسي وملاءمته للأهداف البديلة المرسومة.
توفير البدائل والخيارات، وتجنب العقبات التي قد تبرز.
ترك هامش للتحركات السياسية تضمن "حفظ ماء الوجه" لدى الخصم(20).
ومن جهة أخرى يتطلب إنجاح هذه العملية دراسة الأزمة على ضوء عناصرها الموضوعية وأسبابها الحقيقية، وعدم الاكتفاء بإلقاء مسؤولية بروزها على عاتق الخصم، ومحاولة تبرئة الذات من ذلك، لأن نجاح هذه الإدارة لا يتحقق بالدفاع عن الذات وتبرئتها وتحميل عاتق الخصم المسؤولية كاملة، خصوصا وأن ذلك يمكن أن يزيد من تعنت الطرف الآخر ويؤدي بالطبع إلى طريق مسدود (21).
إن النتائج التي تقود إليها أية أزمة هي الحرب أو التسوية السلمية، وهذه النتائج لا تستند إلى مصادفات بقدر ما ترتكز سلبا أو إيجابا إلى المقومات الشخصية لمدير الأزمة من ناحية وإرادته ومدى كفاءة أو رداءة استراتيجيته المتبعة في إدارة هذه الأزمة(22).
ثالثا: دور القوة العسكرية والمعلومات في إدارة الأزمات الدولية
إن إدارة أية أزمة دولية بشكل فعال يتطلب إمكانيات بشرية ومادية وعسكرية وسياسية...مهمة, لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل يمكن توظيف القوة إلى جانب الديبلوماسية في إدارة الأزمات الدولية؟ أم أن من شأن ذلك تعميق الأزمة والإسراع بإشعال الحرب غير المرغوب فيها؟
من الحقائق الثابتة في علم العلاقات الدولية أن القوة أداة للديبلوماسية، وبذلك فإن "جزءا من إدارة أية أزمة هو بلورة وسائل وسياسات وضغوط أخرى أمنية تجعل الذي يفكر في الاعتداء يتردد"(23).
ويعتقد بعض الباحثين أن الممارسة الدولية تؤكد على ضرورة استعمال القوة العسكرية لردع الخصم أثناء تصعيد الأزمة مع تجنب العمليات التي يمكن أن يفسرها الخصم بأنها استعداد لأعمال قتالية(24). كما أن ميثاق الأمم المتحدة ورغم أنه حرم اللجوء إلى القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية, خول لمجلس الأمن التدخل عسكريا في إطار نظام الأمن الجماعي وذلك في حالة تطور الأزمات والمنازعات الدولية بشكل يهدد السلم والأمن الدوليين، خصوصا بعد استنفاذ محاولات إدارة الأزمة سلميا, أو عبر الضغوطات غير العسكرية (المادة 42 من الميثاق) وسمح للدول ممارسة حقها في الدفاع الشرعي الفردي أو الجماعي عن النفس (المادة 51 من الميثاق الأممي).
فهناك ضرورة للمزج في هذا الإطار بين سياسة الترغيب والمساومة والمفاوضات عن طريق تقديم العروض والتنازلات لحمل الخصم على وقف الإثارة من جانبه أو لإرغامه على القبول والإذعان للمطالب المرجوة من ناحية، والترهيب الذي يتم عبر استخدام القوة والأعمال الزجرية غير العسكرية الأخرى أو التهديد باستعمالها من ناحية ثانية، وبخاصة وأن للقوة أهميتها –أحيانا- في الدفاع عن المصالح المهددة بأقل ما يمكن من الخسائر المادية والبشرية، مع الاحتفاظ بقنوات الاتصال مفتوحة - طبعا-, وتجنب الارتجال في اتخاذ القرارات للحؤول دون إقدام الطرف الآخر على القيام بعمل عسكري قد يفشل إدارة الأزمة تماما(25). وفي نفس السياق يشير البعض إلى أن الكلام الذي لا يستند إلى إمكانيات حقيقية عديم التأثير على طرف يجيد حساباته (26).
والجدير بالذكر أن عنصر الردع الذي يعرف بالتهديد باستخدام السلاح دون استعماله فعليا, أسهم بشكل كبير وفعال في إدارة العديد من الأزمات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، وإذا كان الردع وسيلة معهودة استخدمت على نطاق واسع في إدارة الأزمات بين القوى الدولية الكبرى في إطار "توازن الرعب"، فإن هذه الأخيرة – حاليا- قد تلجأ مباشرة وبسهولة إلى استعمال القوة العسكرية في إدارة الأزمات التي تكون الدول الضعيفة طرفا رئيسيا فيها إلى جانبها.
فمدير الأزمة قد يلجأ إلى التهديد باستعمال القوة أو استخدامها فعلا إذا كان توازن القوة في صالحه، بحيث يجد نفسه مضطرا إلى اختيار الممكن من بين عدة بدائل قد تكون صعبة وسيئة بناء على منطق معادلة الربح والخسارة.
وإذا كانت فترة الحرب الباردة قد شهدت استثمارا للقوة في إدارة العديد من الأزمات الدولية عبر سياسة الردع، فقد أصبح واضحا أن استخدامها حاليا هو أكثر سهولة وكثافة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها بعد اختفاء تحدي المعسكر الشرقي.
وإلى جانب أهمية القوة في إدارة الأزمات، نجد المعلومات أيضا والتي يجب تمييزها عن الأخبار والآراء التي قد لا تتسم في غالب الأحيان بالاستقرار والمصداقية وبالخصوص مع تطور وسائل الإعلام ومبالغتها في تضخيم الأمور، ومن ثم فإن إدارة أية أزمة دولية يتطلب توافر معلومات كافية ودقيقة حول ملابساتها وحول قدرة وإمكانيات مدير الأزمة نفسه وقدرة الطرف أو الأطراف الأخرى. لأن سوء التصور والمغالاة في ردود الأفعال مع عامل ضغط الوقت وتوقف الاتصال بين أطراف الأزمة يمكن أن يؤدي إلى تصعيد هذه الأخيرة، ومن ثم فاحتواء الأزمة وتقييم أهداف الخصم يتطلب كفاءة وفعالية نظم الاتصال ونظام الاستخبارات، وهما اللذان يعتمد عليهما صانع القرار في تدفق المعلومات إليه (27).
وفي كل الأحوال يظل اتخاذ الحيطة والحذر عبر القيام باستعدادات مسبقة وإيجاد نسق تنظيمي فعال، أمرا ضروريا للتعامل مع الأزمة سواء قبل حدوث هذه الأخيرة حتى يتسنى له مواجهتها عند الوقـوع (28) ويتجنب المخاطرة والارتجال في غياب المعلومات، مما قد يؤدي إلى تصاعد حدة الأزمة، أو معلومات أثناء وقوع الأزمة تتعلق بأسبابها وملابساتها وتطوراتها وقدرات وإمكانيات الخصم أو الخصوم، أو معلومات ما بعد وقوع الأزمة وذلك لاستثمارها في مواجهة أزمات مماثلة قد تقع لاحقا والتعلم من التجربة السابقة.
ومعلوم أن جمع هذه المعلومات لا يخلو من صعوبات ومشاكل, فغالبا ما تتسم هذه العملية بالافتقار للموضوعية، ولذلك فاتخاذ قرار صحيح باتجاه إدارة الأزمة يتطلب تحديدا دقيقا للخط الفاصل ما بين الحقائق الموضوعية وبين الرؤية الشخصية لهذه الحقائق(22).
ثالثا: في المقومات الأمريكية لإدارة الأزمات الدولية
دأبت الولايات المتحدة الأمريكية في مباشرتها لإدارة أزمات دولية تدخل ضمن استراتيجيتها ومصالحها على استثمار الشرعية الدولية من خلال الارتكاز إلى قرارات من الأمم المتحدة تتدخل بموجبها زجريا بشكل عسكري أو غير عسكري في هذه الأزمات، وباستغلال الإمكانيات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تتيحها لها المنظمات الإقليمية كحلف شمال الأطلسي وبعض المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية مثلما هو الشأن بالنسبة لصندوق النقد والبنك الدوليين والمنظمة العالمية للتجارة ومجموعة السبعة الكبار التي انضمت إليها روسيا بصفة مراقب, وبخاصة بعد أن بوأت-الولايات المتحدة- نفسها راعية للسلام العالمي وصرحت علنا بأن ضمان الأمن القومي الأمريكي هو بمثابة حماية للأمن العالمي.
وفي أحيان كثيرة أخرى تتدخل منفردة متحملة تبعات وتداعيات تدخلها هذا، لتقوم بتبريره فيما بعد.
وسعيا منها لتأبيد زعامتها وهيمنتها ومواجهة كل ما من شأنه عرقلة أو التشكيك في هذه الهيمنة, تلجأ الولايات المتحدة أحيانا إلى افتعال أزمات تستخدمها كوسيلة لتصفية حساباتها مع بعض الأنظمة وتديرها بسيناريو محبوك ومعد مسبقا يفرز أوضاعا دولية وإقليمية تتماشى ومصالحها الاستراتيجية.
وإذا علمنا أن مفهوم القوة ينقسم إلى ثلاثة عناصر متميزة:
أعمال التأثير والنفوذ التي تؤثر بها الدولة على غيرها من الدول.
الإمكانيات المستخدمة في توجيه التأثير أو النفوذ الوجهة الناجحة.
الاستجابة لعمليات التأثير هاته.(30)
فإن الولايات المتحدة تمتلك إمكانيات هائلة وعلى مختلف الأصعدة مكنتها من التربع على مكان الصدارة في إدارة الأزمات الدولية، وتتنوع هذه الإمكانيات بين ماهو اقتصادي عسكري وسياسي...
فعلى الصعيد الاقتصادي، تمكنت هذه الدولة ومنذ الحرب العالمية الثانية من أن تسيطر على مجمل الاقتصاد العالمي وتتحكم فيه، فاستطاعت بناء نظام اقتصادي دولي يخدم أغراضها من خلال المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية التي أفرزها نظام "بريتون وودز" التي تهيمن عليها (30 بالمائة من التمويل الخاص بالبنك وصندوق النقد الدوليين). وعن طريق حقوقها التصويتية بهذه المؤسسات وقدرتها على اختيار رؤسائها ووجود مقرهما فوق ترابها, وهو ما مكنها من تعبئة سياسة كل من المؤسستين لخدمة مصالحها (31).
كما نجحت في تأهيل اقتصادها ليكون أكثر قوة واستقرار على الصعيد الدولي من حيث طاقة الإنتاج والمردودية أيضا، واعتماد التقنيات العالية الجودة، وسيطرة شركاتها العملاقة على حركة رؤوس الأموال والاستثمار والتبادل التجاري الدولي، مع الدفع بالقوى الاقتصادية الدولية الكبرى المنافسة لها كاليابان ودول الاتحاد الأوربي إلى القبول بالتبادل العالمي وفقا لشروطها، هذا بالإضافة إلى تمكنها من اختراق جل اقتصاديات بلدان العالم.
وهذه الإمكانيات والقدرات التي تميز الاقتصاد الأمريكي المرتكز إلى الاتصالات والمعلومات والإعلام والترفيه تستثمرها الولايات المتحدة بشكل جيد في إدارة الأزمات الدولية من خلال نهج سياسة العقوبات الاقتصادية أو سياسة المساعدات الاقتصادية والمالية والتقنية التي أضحت وسيلة فعالة لتنفيذ سياستها الخارجية (32).
وعلى المستوى العسكري تمتلك الولايات المتحدة أكبر قوة عسكرية في العالم، فهي تخصص ميزانية سنوية ضخمة لاستثمارها في هذا المجال تصل إلى حدود 270 مليار دولار، أي ما يوازي 30 بالمائة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي الذي يقدر بحوالي 900 مليار دولار (33). وقد تمكنت هذه الدولة من مراكمة ترسانة عسكرية ضخمة كما ونوعا، بدءا بالأسلحة التقليدية ثم النووية وصولا إلى الأنظمة الدفاعية المتطورة والتي ليس بإمكان دول كالصين واليابان وأوربا وروسيا امتلاكها، مع إصرارها المستمر على تقويض القدرات النووية لخصومها والحؤول دون استثمار القوى الاقتصادية الكبرى لإمكانياتها الاقتصادية والتكنولوجية في المجال العسكري، ولعل هذا التفوق العسكري هو الذي أتاح لها إمكانية الانتشار العسكري الزجري –بناء على تدخلات قهرية- والودي - في إطار اتفاقيات ثنائية أو إقليمية- في مختلف أنحاء العالم (منطقة المحيط الهادي, منطقة الشرق الأوسط، أفغانستان، اليابان، أوربا ومن خلال حلف شمال الأطلسي رغم زوال حلف وارسو...)، وهذه الإمكانيات كما يرى الخبراء تؤهل الجيش الأمريكي ليكون الجيش الوحيد في العالم القادر على خوض حربين من حجم حرب الخليج الثانية في موقعين مختلفين من العالم في نفس الوقت. والولايات المتحدة التي أصبحت ترى أن التهديد القائم بعد الحرب الباردة يتمثل في الفوضى النابعة عن الفراغ الأمني والسياسي الذي تركه انهيار الاتحاد السوفيتي(34)، استفادت من تجاربها الحربية، ففي سبيل الحد من خسائرها البشرية والمادية، انتقلت من استراتيجية الانتشار العسكري المكثف في مناطق التوتر, إلى دفع الغير ليقود الحرب بدلا عنها مثلما تم في أفغانستان سنة 2001 حيث اعتمدت على أعمال قتال قوات تحالف الشمال، واكتفت هي بالتمهيد والدعم النيراني، وتركت الأعمال الرئيسية لهذه القوات (35).
هذا بالإضافة إلى الاعتماد على القوة الجوية بدل القوات البرية مثلما ثم خلال أزمة الخليج الثانية.
والولايات المتحدة لها أيضا من الإمكانيات التكنولوجية في مجال جمع ومعالجة وتوزيع ونشر المعلومات ما يسمح لها بتعزيز رقابتها على جل دول العالم من خلال تقنياتها العالية في مجال الأقمار الاصطناعية المدنية والعسكرية وكفاءتها في مجال الاستعلام والتجسس والتي تستخدمها في تدفق المعلومات الأكثر دقة عبر مختلف أرجاء العالم إليها. ومن ناحية أخرى تتحكم هذه الدولة في حوالي 80 بالمائة من الصور المبثوثة في العالم وهو ما يمكنها من التحكم في الأخبار والمعلومات المتداولة، فالمؤسسة الصحفية الأولى في العالم هي "الأسوشيتد برس" الأمريكية التي تزود بالأنباء والصور ما يناهز 1600 صحيفة يومية و 5900 محطة للراديو والتلفزيون في مختلف أنحاء العالم، بالإضافة إلى أن 90 بالمائة من مواقع شبكة الإنترنيت هي مواقع أمريكية(36).
وأمام تنامي البعد الإعلامي في العلاقات الدولية ودروه في توجيه الرأي العام المحلي والدولي فإن الولايات المتحدة تستثمر بذكاء كبير هذه الإمكانيات سواء في المغالاة في تضخيم حجم "العدو" الخصم المستهدف وإعداد المسرح الدولي والرأي العام المحلي والدولي لتقبل ما ستقدم عليه الولايات المتحدة من إجراءات في مواجهته (مثلما تم مع العراق، وكوريا الشمالية وإيران بإدراجها ضمن محور الشر) أو باتهامه بخرق حقوق الإنسان مثلا والاستهانة بالسلوكات العدوانية لحلفائها والتغطية على ما تقترفه من خروقات للشرعية الدولية بل وتلميع صورتها (مثلما يتم مع إسرائيل...).
أما على المستوى السياسي والديبلوماسي فإذا كانت الولايات المتحدة قد لاقت صعوبات وتحديات منعتها من بسط هيمنتها على الأمم المتحدة عامة ومجلس الأمن الدولي خاصة خلال فترة الحرب الباردة بسبب وجود الاتحاد السوفيتي واستخدامه لحق الاعتراض (37)، فإنه ومع اختفاء التحدي السوفيتي وتراجع تكتل دول العالم الثالث ومنظماتها, أصبحت الظروف ملائمة أمام أمريكا لقيادة الأمم المتحدة وبخاصة جهازها مجلس الأمن الدولي المسؤول الرئيسي عن حفظ السلم والأمن الدوليين وتوجيهها بالشكل الذي يتماشى وأهدافها، وقد بدا ذلك جليا في إقدامها باسم هذا الجهاز على تأديب المتمردين عن إرادتها والخارجين عن طاعتها- الولايات المتحدة- سواء في صورة عمل عسكري مباشر كما في حالة العراق وأفغانستان أو في صورة عقوبات اقتصادية وحظر جوي كما في حالة ليبيا...
وهكذا صار المجلس أداة طيعة في يد هذه الدولة العظمى تصفي عبره حساباتها مع خصومها وتعيد ترتيب الأوضاع الدولية بما يتلاءم ورؤيتها ويعزز زعامتها، وقد أسهم الغموض الذي يشوب بعض مواد الميثاق الأممي (المادة 39 من الميثاق مثلا...) في فتح المجال أمام هذه الدولة للقيام بتكييفات منحرفة لها بالشكل الذي يتيح لها التدخل باسم الشرعية الدولية خدمة لمصالحها.
فعلى الرغم من الشعارات التي روج لها الغرب بقيادة هذه الدولة والتي تفيد بتدعيم فاعلية مجلس الأمن في مجال المحافظة على السلم والأمن الدوليين في ظل التحولات الدولية الجديدة، فإن الممارسة الميدانية للمجلس تثبت أن الولايات المتحدة تتستر خلف مفهوم الشرعية الدولية لتحقيق أهداف معلنة وأخرى غير معلنة في السياسة الخارجية الأمريكية (38), فهي تصر على استغلال هذا الجهاز باعتباره أداة دولية مؤثرة وذات قوة ملزمة تبرر بها قرارات الحصار أو الحظر وتسمح لها بإعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية والدولية(39) وتستند هذه الدولة في تسخيرها للشرعية الدولية إلى مرتكزين: فمن جهة أولى هناك احتكارها للعضوية داخل مجلس الأمن الدولي, فالطابع السياسي الذي يميز عمل هذا الجهاز جعله معرضا في كثير من الأحيان لتأثيرات القوى الكبرى وخاصة الدول الدائمة العضوية فيه، مما انعكس سلبا على مصداقيته أثناء مباشرته لمهامه واختصاصاته، واحتكار العضوية داخل هذا الجهاز وفضلا عن كونه يمس بمبدأ المساواة بين الدول ويكرس ديكتاتورية المجلس التي تؤثر سلبا على دمقرطة الأمم المتحدة، يشكل مدخلا للدول الكبرى لتمرير ما تشاء من القرارات عبر هذا الجهـاز(40).
ومن جهة ثانية هناك التذرع بالشرعية الدولية الذي أضحت شعارا تتستر خلفه الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها وتكريس هيمنتها على المجلس وعلى المجتمع الدولي، إلى الحد الذي دفع بأحد الباحثين إلى اعتبار أن هذه الشرعية أصبحت تتحرك بحسب "بوصلة أمريكية" (41). والغريب في الأمر أن تفعيل مجلس الأمن بالمنطق الأمريكي جاء على حساب تقزيم دور الجمعية العامة التي تضم دولا فقيرة وتهميش دور محكمة العدل الدولية.
رابعا: الإدارة الأمريكية للأزمات في المنطقة العربية
إن مقاربة النموذج الأمريكي لإدارة الأزمات الدولية والعربية في عالم ما بعد الحرب الباردة تتطلب منا التمييز بين الحالات التي تتدخل فيها هذه الدولة باسم الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة وبين تلك الحالات التي تتدخل فيها بشكل منفرد تحت ذرائع مختلفة.
ففي قضية كوسوفو كان من الصعب على الولايات المتحدة التدخل باسم مجلس الأمن الدولي وذلك بسبب حق النقض الروسي ورفض الصين العلني لأي هجوم أمريكي على يوغوسلافيا السابقة، ولهذا لجأت واشنطن إلى حلف شمال الأطلسي واستغنت عن مجلس الأمن.
أما التدخل الأمريكي في أزمة البوسنة والهرسك التي برزت كإفراز مباشر لتفكك الاتحاد اليوغوسلافي السابق وإقدام جمهورياته على الاستقلال والذي أفضى إلى اتفاق دايتون عام 1995، فقد تم بعدما سمح لقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) إن تعمل كذراع عسكري للأمم المتحدة بموافقة من مجلس الأمن ذاته.
أما بخصوص الأزمات العربية التي نعني بها تلك الأزمات التي مست طرفا أو أطرافا عربية سواء في علاقاتهم البينية أو مع أطراف إقليمية أو دولية أخرى بمختلف مظاهرها وأسبابها وخلفياتها وتداعياتها، فقد نالت نصيبا وافرا من التدخل الأمريكي بكل أشكاله الودية والزجرية، وبدا واضحا الانحراف الأمريكي في إدارتها, فبرزت أزمات تمت إدارتها باسم الأمم المتحدة كما هو الشأن بحالة أزمة الخليج الثانية سواء قبل الحرب أو بعدها والأزمة الصومالية، ثم التعسف في إدارتها مثلما تم في قضية لوكربي وأزمات تمت رعايتها بنوع من الانحياز السلبي لأحد الأطراف المتصارعة بعد إبعادها عن الأمم المتحدة مثلما حدث مع القضية الفلسطينية.
ففي أزمة الخليج الثانية التي استعملت فيها استراتيجية إدارة الأزمات على نطاق واسع، وفي الوقت الذي كان العالم قد نسي فيه وجود منظمة دولية مسؤولة عن حفظ السلم والأمن الدوليين، قامت الأمم المتحدة بتحركات غير مسبوقة نحو إدارة هذه الأزمة بمنطق أمريكي سواء على مستوى إجراء المفاوضات التي أجرتها هذه الدولة مع العراق في بداية الأزمة (42) أو على مستوى الانفراد بمبادرة اقتراح مشاريع قرارات أمام مجلس الأمن الدولي حيث تمكن هذا الأخير من استصدار عدد كبير من القرارات في هذا الشأن في زمن قياسي(43) وهو ما لم يعهد فيه من ذي قبل, وكان أهم وأخطر هذه القرارات هو القرار رقم 678 الذي سمح باستعمال القوة العسكرية لإرغام العراق على الانسحاب من الكويت، وهنا ستخرج الأمور عن سيطرة الأمم المتحدة بعدما أضحت الولايات المتحدة هي صاحبة المبادرة سواء في تفسير بنود القرار السابق أو تطبيقه، فقد أسهمت هذه الدولة بحوالي ثلثي القوات والعتاد الحربي في مواجهة العراق، وبخاصة وأن القرار لم يحدد بشكل دقيق ومحدد الهدف من شن العمليات العسكرية ضد العراق أو طبيعتها أو نوع الأسلحة المستخدمة، لتتوالى بعد ذلك القرارات وتتوج بالقرار 687 الذي يعد من ضمن أكثر قرارات المجلس تعقيدا، فهو أطول قرار اعتمده على الإطلاق, سعى فيه إلى إشراك العراق بصورة متعاونة في تدابير ما بعد الحرب (44) والظاهر أن الولايات المتحدة هي التي فاوضت العراق على شروط وقف إطلاق النار وليست الأمم المتحدة وذلك لفرض تلك الشروط لتلزم الأمم المتحدة بها فتصير شروطا دولية (45).
ورغم أن الفقرة 21 من القرار 687 نصت على إعادة النظر في العقوبات المفروضة على العراق أو التخفيف منها كل ستين يوما في ضوء ما ينفذ من القرارات، فبفعل الضغوطات الأمريكية والبريطانية داخل المجلس فإنها لا تزال قائمة رغم آثارها اللاإنسانية على الشعب العراقي، ورغم استجابة النظام العراقي لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. والواضح أنه ورغم الانحراف الصارخ الذي تعاملت به الولايات المتحدة مع هذه الأزمة إلا أنها تمت بترخيص ومباركة من مجلس الأمن.
وباسم تطبيق قواعد الشرعية الدولية والتي تجسدها قرارات المجلس في الموضوع وفرض احترامها وخاصة فيما يتعلق بنزع أسلحة الدمار الشامل المزعوم توافرها لدى العراق, تسعى الولايات المتحدة ومنذ تدخلها العسكري في أفغانستان سنة 2001 إلى الإطاحة بنظام صدام حسين وذلك في خرق واضح لقواعد الشرعية الدولية ذاتها وخاصة تلك التي تحث على اتباع الوسائل السلمية لحل المنازعات الدولية (الفقرة 3 من المادة الثانية من الميثاق الأممي) وعدم استعمال القوة في العلاقات الدولية أو التهديد باستعمالها (الفقرة الرابعة من نفس المادة) وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادتها (الفقرة السابعة من نفس المادة أيضا).
أما بخصوص الأزمة الصومالية التي برزت بفعل اندلاع القتال بين مختلف الفصائل داخل هذا البلـد (46) وتعرض الآلاف من شعبها إلى المجاعة، كإفراز إقليمي لنهاية الحرب الباردة إلى جانب عوامل داخلية مرتبطة بالصراع على السلطة إلى الحد الذي غابت فيه السلطة المركزية وانهار الجيش وتوزع بأسلحته على القبائل إلى درجة أن الشعب الصومالي أصبح مسلحا، بعدما ورث هذا التناحر القبلي ترسانة مسلحة تم بناؤها خلال الحرب الباردة (47), وفي غياب معلومات كافية عن هذه الأزمة, تدخل مجلس الأمن في البداية مركزا على الجوانب الإنسانية حيث اعتمد قراره رقم 733 في 23 يناير 1992 حث فيه جميع الأطراف المتناحرة على وقف إطلاق الأعمال العدوانية(48) وأمام تفاقم الأوضاع وعجز قوات الأمم المتحدة (يونصوم1) على احتواء المشكل، جاء القرار 794 والقاضي بتفويض الأمم المتحدة سلطة توفير القوات اللازمة لخلق بيئة آمنة لعملية الإغاثة في الصومال، ولم ينفذ هذا القرار إلا مع قيام الولايات المتحدة الأمريكية بمبادرة مفادها قيادة تحالف دولي يتضمن 25 ألف جندي أمريكي وخمسمائة فرد من دول أخرى (49)، لحماية أعمال الإغاثة الإنسانية، وتولت الولايات المتحدة قيادة هذه العملية التي أطلق عليها عملية "استعادة الأمل" تمهيدا لنقلها إلى الأمم المتحدة في إطار عمليات حفظ السلام، وفي غياب رضا الدولة المنهارة تم التدخل في هذا البلد وقد أشار القرار 794 في ديباجته إلى الطابع الاستثنائي لهذه الوضعية(50). ومع وصول القوات الأمريكية إلى الميدان دخلت هذه الأخيرة في صراعات مع بعض الفصائل الصومالية بعد تورطها في تحريض قوى ضد أخرى أملا في التحكم في هذا البلد ذي الموقع الإستراتيجي الهام في انحراف سافر بالمهام الإنسانية والسلمية الحيادية المنوطة بها.
مما أدى إلى سقوط ضحايا من الجنود الأمريكيين، حيث تحولت هذه القوات في أنظار الشعب الصومالي إلى قوات احتلال، بل إن الكثير من الفصائل الصومالية اتجهت نحو التحالف مع بعضها البعض ضد هذه القوات بعد اختلاط الدور الأمريكي بالأممي، قبل أن تقرر الولايات المتحدة قرارا حاسما بالانسحاب من الصومال, لتتولى الأمم المتحدة قيادة هذه العمليات في ماي 1993، وورثت الأمم المتحدة موقفا معقدا في هذا البلد بسبب الأخطاء الأمريكية، وهكذا وفي 3 مارس من سنة 1995 انسحبت قوات الأمم المتحدة من الصومال منهية بذلك عملية أممية من أكثر العمليات الأممية فشلا وإثارة للجدل والتي أثرت سلبا على مصداقية هذه المنظمة.
أما في أزمة "لوكربي" التي يمكن أن نصنفها ضمن خانة الأزمات المفتعلة لتصفية الحسابات فإن الولايات المتحدة وبعد مرور عدة سنوات عن حادث "لوكربي" حاولت استخدام مجلس الأمن باعتباره آلية تجسد الشرعية الدولية كمؤسسة لتمرير قرارات زجرية في مواجهة هذا البلد العربي، وقد ظهر التعسف والانحراف الأمريكي في إدارته لهذه الأزمة من خلال تسييس هذا المشكل القانوني الذي محوره اتفاقية مونتريال لعام 1971 الخاصة بحماية الملاحة الجوية، والتحكم في مسار إدارة المجلس لهذه الأزمة سواء من حيث جمع المعلومات والخاصة بالأزمة واستصدار القرارات وتطبيقها. وبخصوص القضية الفلسطينية التي حظيت باهتمام الأمم المتحدة منذ تأسيسها حيث أصدرت في شأنها العديد من القرارات والتوصيات (قرارات مجلس الأمن و242 و338... وقرارات الجمعية العامة 3089 و3236 و2646 و2672...) التي تؤكد الحقوق الفلسطينية. والدور الأمريكي في مسار هذه الأزمة كان حاضرا منذ زمن الحرب الباردة، فهذه القرارات وغيرها أضحى بلا فعالية ولا جدوى لكونها لم تكن في أغلب الأحوال مصاحبة بإجراءات ميدانية لتنفيذها بفعل التواطؤ الأمريكي, فما بين سنة 1948 و1989 أصدرت الجمعية العامة ومجلس الأمن 300 قرار إدانة للكيان الصهيوني إلا أن هذا الأخير لم يكترث بها لثقته المطلقة في حق الاعتراض الأمريكي الموضوع في خدمته، وفي المدة نفسها أدان مجلس الأمن هذا الكيان 46 مرة كان بالإمكان أن ترتفع إلى 68 قرارا لو لم تستعمل الولايات المتحدة حق الاعتراض. وبعد رحيل الاتحاد السوفيتي واندلاع أزمة الخليج الثانية وما تلاها من تدهور في الأمن القومي بكل مكوناته وتراجع للتضامن والمصالحة العربيين وتنامي الهيمنة الأمريكية على الشؤون الدولية وتراجع دور الجمعية العامة للأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية في إدارة الأزمات, انطلق مؤتمر مدريد للسلام الذي رعته الولايات المتحدة وأضحت فيه الأمم المتحدة مراقبة فقط بعد أن كانت طرفا رئيسيا في القضية ما يربو على النصف قرن(51)، بحيث أن هذه المفاوضات لم ترتكز بالأساس إلى قرارات مجلس الأمن الحاسمة (القرارات 242 و338 و181) وإنما تمت بشكل مفتوح لتنتهي هذه الاتفاقيات بمؤتمر كامب دايفيد الثاني الذي لعب فيه الرئيس الأمريكي الأسبق دورا شخصيا مباشرا لا يقارن إلا بدور جيمي كارتر في "كامب دايفيد" الأولى(52) وقد كتب لهذه المفاوضات غير المتكافئة التي جاءت نتائجها في مستوى التخاذل العربي والدولي والتواطؤ الأمريكي التعثر بسبب استمرار إسرائيل وكعادتها في وضع العقبات أمامها في جو من الصمت لراعية السلام (الولايات المتحدة) بل وبمباركة وتزكية منها.
وعقب أحداث 11 شتنبر كان هناك اعتقاد بأن الولايات المتحدة ستراجع سياستها الخارجية وخاصة في ارتباطها بأزمة الشرق الأوسط عامة والقضية الفلسطينية بصفة خاصة، لكن التطورات التي حصلت جاءت مخيبة للآمال، فالولايات المتحدة استمرت في تأييدها اللامشروط لإسرائيل وسياساتها بل عملت ولأول مرة على ضم فصائل فلسطينية تحررية إلى قائمة المنظمات "الإرهابية"، واستعمال حق الاعتراض أو التهديد باستعماله داخل مجلس الأمن لمنع إرسال قوات لحماية الفلسطينيين أو تشكيل لجنة لتقصي الحقائق في الجرائم الإسرائيلية اليومية ضد الشعب الفلسطيني، زيادة على توقيع الرئيس الأمريكي لقرار الكونغريس القاضي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل- في انحراف صارخ لدورها كراعية للسلام في المنطقة وخرق لمبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة- ليصبح قانونا ساري المفعول، زيادة على تقديم الدعم المالي والعسكري لهذه الدولة وهو ما أفرغ الدور الحيادي الأمريكي المزعوم كوسيط في الأزمة نزيه من كل دلالاته ومعانيه.
وأمام هذا الوضع استغلت الحكومة الإسرائيلية الفرصة للتكثيف من تضييقها على الفلسطينيين واغتيال رموز المقاومة وقصف مؤسسات السلطة واقتحام المدن والقرى والمخيمات ومحاصرة الرئيس باسم وقف "الإرهاب"، والتبرأ من الاتفاقيات السابقة وحصر التفاوض حول الانسحاب إلى ما قبل 28 شتنبر 2001.
وإذا كان الدور الأمريكي في إدارة هذه الأزمة أصبح ملحا وضروريا بعد أن نجحت هذه الأخيرة في توريط الطرف الفلسطيني في مفاوضات غير متكافئة وغامضة الأفق مع خصم محصن وصلب يجيد حساباته ويعي تماما حجم التأييد الأمريكي والواقع المزري للأمتين العربية والإسلامية, فإن الولايات المتحدة ما فتئت تقلل من اتصالاتها مع السلطة الفلسطينية إلى حد تجميدها بذريعة كونها غير جدية في مساعيها نحو تحقيق السلام ووصفها بكونها ليست في مستوى الشريك المناسب لتحقيق السلام المنشود. وبالنظر إلى الأهداف والمصالح الجديدة للولايات المتحدة في المنطقة والتي تطورت منذ بداية التسعينات وبلغت قمتها في أحداث 11 شتنبر والمرتبطة بالعمل على الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل ومقاومة الحركات الأصولية الإسلامية ومحاربة الإرهاب وشبكاته ومنظماته وقواعده بل والدول التي تشجعه وتؤويه (53) فإن هذه الدولة لا تتحرك على أساس الحقائق الموضوعية التي ينطق بها الوضع، بل على أساس الانعكاسات التي قد تتركها هذه الحقائق على مصالحها وكلما كانت هذه المصالح ملحة وطارئة كلما سمت مرتبتها على سلم الأولويات (54).
وأمام وصول هذه القضية إلى أصعب وأخطر مراحلها بدأت الولايات المتحدة في البحث عن شركاء جدد للبحث عن مخرج لأزمة الاجتياح الإسرائيلية لمناطق الحكم الذاتي رغبة منها في عدم تحمل تداعيات ما آلت إليه الأمور التي تتحمل قسطا وافرا فيها وعدم وجود حل في الأفق القريب.
خاتمة:
إن إدارة الولايات المتحدة للأزمات الدولية والعربية عموما تتم وفقا لسياسة واقعية تستحضر عناصر الربح والخسارة وتتوخى اختيار الممكن من بين عدة بدائل ولو كان سيئا، وإذا كانت الضوابط القانونية الدولية هي آخر ما تفكر فيه هذه الدولة عند مباشرتها لإدارة هذه الأزمات فإنها تستحضر مجموعة من العوامل التي تأخذها بعين الاعتبار وتحدد نوع وفعالية هذه الإدارة (إدارة تعسفية أو موضوعية...) والتي نجملها في مدى قوة أو ضعف الطرف المستهدف/الخصم ومدى ارتباط الأزمة بمصالح حيوية أمريكية وتأثيرها الآني أو المستقبلي على زعامتها.
وتظل السمة المميزة لهذه الإدارة في غالب الأحوال هي كونها تعكس قانون القوة بدل قوة القانون.