- الأحد إبريل 29, 2012 5:17 pm
#49444
يتناول هذا الكتاب مسألة رئيسية لا تزال تشغل الفكر العربي والإسلامي في جانبيه النظري والسياسي هي: علاقة الديني بالسياسي في وعي النخب الفكرية الإسلامية الحديثة والمعاصرة، قد يلتمس الموقف على القارئ في سعيه إلى التمييز بين الحديث والمعاصرة، فالمقصود بالحديث هو وعي النخبة الفكرية الإسلامية عند جيل الإصلاحيين الإسلاميين الأوائل، من خير الدين باشا إلى رشيد رضا وحتى حسن البنا، أما المعاصرة فهو يشمل رؤية الباحثين الإسلاميين المعاصرين من سيد قطب إلى الشيخ القرضاوي في كتابه عن "السياسة الشرعية" (1998) والذي يحاكي فيه كتاب ابن تيمية الشهير عن "السياسة الشرعية".
أعود للقول، إن المؤلف يستهل بحثه بالتساؤل حول إشكالية الديني والسياسي في وعي النخب الإسلامية الحديثة والمعاصرة: كيف تمثلها هذا الوعي؟ وكيف عبر عنها خلال أزيد من قرن ونصف، أو صورة أدق، من "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" للطهطاوي إلى "السياسة الشرعية" للقرضاوي 1998؟.
يقر الباحث بعمق الإشكالية في وعي النخب الإسلامية، لكنه يرى أن لهذه الإشكالية "أسباب: أولها هزيمة المسلمين أمام زحف أوروبا الظافر، وثانيها: تزايد الحاجة إلى فهم أسباب وعوامل تلك الهزيمة والتي ما تزال تقض مضجع الفكر العربي المعاصر؟ من هنا فهو يتابع هذه الإشكالية عند من يسميهم بالأجيال الخمسة من المفكرين الإسلاميين الذين تصدوا للبحث في هذه المسألة السياسية من وجهة نظر إسلامية وفق تحقيب زمني لا وفق تحقيب بحثي. الجيل الأول ويمتد من الطهطاوي إلى محمد عبده مروراً بابن أبي الضياف، وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني، والثاني هو الجيل الإصلاحي المتأخر ويمثله الكواكبي ورشيد رضا ومحمد حسين النائيني، والجيل الثالث ويشمل عبد الحميد بن باديس وعلي عبد الرازق، وحسن البنا، وأبي الأعلى المودودي والندوي والخميني وصولاً إلى علال الفاسي والغزالي والهضيبي. أما الجيل الرابع فهو جيل سيد قطب ومحمد قطب والقرضاوي والسباعي، ويمتد إلى عبد السلام ياسين. أما الجيل الخامس فهو جيل فتحي يكن وعبد السلام فرج وراشد الغنوشي وحسن الترابي وفهمي هويدي ومحمد عمارة...الخ.
على الرغم من أن التحقيب السابق يثير الكثير من الإشكاليات الفكرية والمعرفية نظراً للتداخل بين الآراء والأفكار الذي يقطع مع التحقيب وهذا ما يقر به المؤلف، فثمة تباين واسع في رؤية الشيخ راشد الغنوشي للدولة الحديثة التي يجب أن تكون ديمقراطية وأن يكون فيها الحاكم خادم للأمة على حد تعبيره في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية،1993" والذي يقطع فيه مع الخطاب القطبي (نسبة إلى سيد قطب) كما يذكر في مقدمته، وبين خطاب عبد السلام فرج وحتى خطاب الشيخ القرضاوي وعبد السلام ياسين على سبيل المثال، فهو لا يمثل استثناء كما يحاول أن يقنعنا المؤلف، بل شاهد أيضاً على توجه جديد إن لم نقل على موجة إسلامية جديدة داخل المجال السياسي الإسلامي تنهض على الديمقراطية وعلى رؤية جديدة للدولة. أقول على الرغم من التحقيب السابق الذي يقول بمحطات وحقب في مسيرة هذا الفكر، إلا أنه ما يشفع لهذا التحقيب هو تأكيد المؤلف على وحدة الخطاب الإسلامي وهو هنا ينبه إلى أن التأكيد على وحدة الخطاب الإسلامي لا يعني استخدام هذه الوحدة ذريعة معرفية لجمع ما لا يجمع في جملة نقدية قطعية واحدة، وفي رأيي أن أهم ما يفعله بلقزيز هنا أنه يكسر رتابة التأريخ للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر بانفتاحه على الفكر السياسي الشيعي وإرهاصاته في التحول من "ولاية الفقيه" إلى "ولاية الأمة" التي كان يقول بها المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين. يقول بلقزيز في معرض تقويمه لإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي داخل الفكر السياسي الشيعي: قد استرعى انتباهنا، في معرض تحليل الخطاب الفكري الشيعي المعاصر حول الدولة، وخاصة منه النقدي المنفتح، المتحرر نسبياً من قيود "الإمامة" وـتحديداًـ من قيود "ولاية الفقيه"، أن هذا الخطاب أقدم على مبادرات انفتاح هائل على التراث السني، وانتهل من موضوعاته الكثير" ص 13.
يعالج المؤلف في كتابه، أربع إشكاليات، إشكالية الدولة الوطنية لدى الإصلاحية الإسلامية بجيليها السابق والمتأخر، وإشكالية دولة الخلافة، ثم إشكالية الدولة الإٍسلامية عند البنا والتيار الأخواني عموماً، وأخيراً إشكالية الدولة اليثوقراطية من المودودي إلى قطب والخميني، وفي هذا السياق الذي يحكم كتابه، يقوم بلقزيز بتقسيم كتابه إلى قسمين، القسم الأول: من الدولة الوطنية إلى دولة الخلافة ويتكون من خمسة فصول تبدأ بـ"دولة التنظيمات" أو دولة العقل والشرع وتنتهي بنقد نظرية الخلافة التي يتمحور حولها الفصل الخامس، أما القسم الثاني المعنون: من الدولة الإسلامية إلى الدولة الدينية فيضم الفصول من السادس حتى الثاني عشر والذي يحمل عنواناً استنكارياً: هل هناك فكر إسلامي معاصر؟ والعنوان مضمر كما هو واضح بالاتهام خاصة إذا ما أخذنا بوجهة النظر التي يقودنا إليها تحليل بلقزيز في المقدمة من "أن تاريخ الفكر الإسلامي الحديث هو تاريخ تراجعي أونكوصي" ص12.
يمكن القول إن جيل الإصلاحية الإسلامية المشغول بهاجس التأخر وبهاجس البحث عن أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك بحسب خير الدين باشا التونسي العثماني بامتياز، أو"في تخليص الإبريز في تلخيص باريز" للطهطاوي المصري بامتياز، بحسب بلقزيز، والذي لم يبدِ كبير عناية بالجوانب الفقهية كما هي حال الجيل الذي سيليه، أنه كان مهجوساً بالدفاع عن الدولة الوطنية، بصورة أدق، وكما أسلفنا، بكيف السبيل إلى دولة حديثة على غرار الدولة الحديثة في الغرب، والتي هي في منظور الطهطاوي والتونسي ومن جاء بعدهم من أجيال، دولة العدل، والعدل والشرع صنوان، لذلك فقد حارب هذا الجيل الأول على عدة أصعدة، إقناع النخبة الحاكمة بضرورة الأخذ بالحداثة، وثانيها إقناع عامة الناس بأن الحداثة كما تمثلها الدولة الحديثة هي قيمة كبيرة حتى لو جاءت من القياس على حداثة الأجنبي المكروه على صعيد العامة، وثالثها السعي إلى ربط العدل بالشرع وسيكون هذا فاتحة كما سنرى لنقد الاستبداد عند الجيل الثاني (الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده)، وفي هذا السياق راح هذا الجيل يركز على إصلاح الدولة العثمانية0 يقول بلقزيز: انتقل الخطاب الإصلاحي من "مداهنة" "الخلافة" – مداهنة اضطرارية – تحت وطأة الشعور بالحاجة إلى استمرارها على علاتّها (فقط لأن ذلك هو السبيل إلى حفاظ الوحدة الإسلامية وحماية دار الإسلام من الزحف الاستعماري إلى مطالبتها بإجراء إصلاحات حقيقية تمس المجال السياسي، ثم إلى نقدها نقداً حاداً بعد أن تبينت استحالة التعويل عليها. وكان أول نتائج ذلك الانتقال هو الانعطاف في النظر إليها من كونها خلافة إلى كونها دولة سلطانية) ص58.
ما يلفت النظر هنا كما يرى بلقزيز، أن هذه الموضوعات والهواجس التي عبر عنها الجيل الإصلاحي السابق والمتأخر، قد فرضت نفسها على مجال سياسي آخر (المجال الإيراني) وهنا يقف بلقزيز عند ما يسميها بـ"دولة المشروطة أو دولة الدستور" في الفقه السياسي الشيعي الحديث عند الشيخ النائيني والذي لا يستبعد تأثره بالكواكبي والذي يرى قي عمله"نظراً تأسيسياً جديداً" ص68، كما عبرت عن ذلك رسالته الشهيرة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" والتي "يقدم فيها مرافعة قوية عن سلطة شرعية تتفلت من عقال الانتظار، وترفض أن تمتع السلطان الجائر بالشرعية الدينية عبر صيغة الإذن الشرعي له بتولي أمور السياسة العامة" ص67-68.
بين ضرورة الدولة الحديثة، دولة العدل والعمران الذي لا يمكن له أن يقوم إلا بإقصاء الاستبداد كما انتهى إلى ذلك الجيل الإصلاحي (من الأفغاني إلى النايئيني) الذين اعتبروا أن مقاومة الاستبداد هي واجب شرعي، لإنقاذ عقيدة التوحيد من الشرك، والأمة من بطش السلطان الجائر، حملت بداية القرن العشرين توجهاً جديداً مثله الشيخ رشيد رضا في دعوته إلى الخلافة، فعل مسار تاريخي طويل، منذ أن اغتصب الخلافة ملك عضوض كما يقول المأثور الإسلامي، ظلت طوبى الخلافة كما يقول العروي الذي يعتمد عليه بلقزيز، تراود المخيال الفقهي والسياسي الإسلامي، مضافاً إليها "طوبى الإمامة الشرعية" التي أفرزها واقع الدولة السلطانية، وبين طوبى الخلافة (المثال) وطوبى الإمامة الشرعية (الواقع) راح الشيخ محمد رشيد رضا يمارس هروباً من الواقع باتجاه المثال، فلم يستطع أن يدرك مع بداية القرن العشرين ومع إلغاء الخلافة العثمانية 1924 الفجوة الهائلة الفاصلة بين منطق الدولة، وبين منطق الخلافة، ولذلك فقد ظل خطابه طوباوياً كما يصفه بلقزيز، يسبح فوق عالم عربي وإسلامي منقسم ومستعمر ومذرور إلى دويلات تجعل من إمكانية اللجوء إلى الحل الشرعي = الخلافة، فعلاً أقرب إلى سياسة الهروب إلى الأمام منه إلى أي شيء آخر على حد وصف بلقزيز ص107. وفي هذا السياق جاء من يرد على طوبى الخلافة، وأقصد الشيخ علي عبد الرزاق هذا الأزهري المتمرد بحسب بلقزيز في كتابه الذائع الصيت "الإسلام وأصول الحكم، 1925" والذي يمثل من وجهة نظرنا نقطة نظامية إن جاز القول، لا يمكن لأي باحث في إشكالية الدين والدولة إلا العودة إليه، فقد بين عبد الرزاق أن لا علاقة للخلافة في شيء بالإسلام وبالوجود الشرعي، ومن هنا فقد سعى بكل ما يملك إلى فك الارتباط بين الخلافة والإسلام، وأنه على المسلمين أن يهتدوا بأصول جديدة للحكم ذات طابع مدني وسياسي وهو ما أهاج عليه الشيوخ التقليدين في الأزهر. والسؤال الذي يطرحه بلقزيز هنا: هل كان الشيخ علي عبد الرزاق وحده في الصورة؟ أم أن هناك شيوخ آخرون؟ ومن وجهة نظره أن هناك شيوخ آخرون ودليله على ذلك الشيخ عبد الحميد بن باديس هذا الصوت القادم من الجزائر البعيدة والذي سيشد على يد الشيخ عبد الرزاق إعجاباً وتقريضاً لأطروحته مشاطراً إياه رأيه النقدي في الخلافة وداعياً إلى فصل السياسي عن الديني والذي فرضته ضرورات وطنية أيضاً، فقد كان ابن باديس مسكوناً بهاجس كف يد المستعمر الفرنسي عن المؤسسات الدينية والثقافية بحجة قطع الطريق على العلماء المسلمين الذين يتدخلون بالسياسة ص 119، وما يستنتجه بلقزيز: إن مقالتي عبد الرزاق وابن باديس في نقد الخلافة تمثلان محاولة صعبة ـولكن جريئةـ للعودة بالمسألة السياسية إلى رحاب الفكرة الإصلاحية التي انقلب عليها الشيخ رشيد رضا ص 121، ولكن العودة إلى رحاب الفكرة الإصلاحية لم تتم كما يرى بلقزيز فقد خسر تيار نقد الخلافة معركته، وكسب رشيد رضا _على طوباوياته وخسارته الخلافة_ " جيلاً جديداً لأسباب سنراها لاحقاً ".
القسم الثاني:
من الدولة الإسلامية إلى الدولة الدينية
في كتابه "المشروع النهضوي العربي،1996" رأى محمد عابد الجابري أن الأفغاني هو المنتج الأيديولوجي للتيار الراديكالي الإسلامي في نقده للسلطة السياسية القائمة لأنه من أوائل الإصلاحيين الذي ماهى وطابق بين الدين والسياسة، ولكن بلقزيز يلح على أن رشيد رضا هو المنتج الإيديولوجي للتصورات المغالية عن الدولة والسلطة وفي المجالين العربي والإسلامي، وهو في هذا المجال يبدي حجة وجيهة، فقد خسر التياران، تيار نقد الخلافة، وتيار الدعوة إلى الخلافة، الأول تحت سطوة المؤسسة التقليدية الدينية (الأزهر) التي تصدت بعنف لاجتهادات علي عبد الرزاق، والثاني تحت سطوة الواقع الجديد الذي يهدد العالم الإسلامي بمزيد من التشرذم، ولكن مع فارق في الخسارة، فلا يمكن مقارنة خسارة الشيخ رشيد رضا بخسارة التيار الناقد للخلافة الذي مثله الشيخ عبد الرزاق، ذلك أن رشيد رضا كسب ـ على الأقل ـ جيلاً جديداً من المثقفين الإسلاميين تتلمذوا على موضوعته في المسألة السياسية ليذهبوا بها بعيداً: بالتكييف والتحوير، كي تنجب إشكالية جديدة هي إشكالية الدولة الإسلامية، لن تلبث هي الأخرى أن تتحول إلى رحم لإنجاب تصورات مغالية للدولة والسلطة شارفت الفكرة الثيوقراطية" ص 122.
إلى هذه التصورات التي تزداد وتيرة غلوها شيئاً فشيئاً، يتجه بلقزيز إلى مفهوم "الدولة الإسلامية" الذي جاء به حسن البنا المؤسس العام لجماعة الأخوان المسلمين، والذي كان تلميذاً غير مباشر للشيخ رشيد رضا، فالبنا كان من أول المفكرين الإسلاميين السنة المعاصرين الذي جعل من السلطة في الإسلام مسألة عقدية لا فقهية، وأنها من الأصول لا الفروع، وبذلك أسبغ كما يقول بلقزيز طابعاً قدسياً على الدولة يتجاوز علاقة الوصل بين الديني والسياسي التي دافع عنها البعض، وبذلك نقل المسألة السياسية من مجال الفقه العام، والفقه السياسي إلى علم الكلام. وبذلك فتح الباب كما يقول بلقزيز إلى "نظرية أصولية" في السياسة والدولة، تقطع مع مفهوم دولة الخلافة التي دافع عنها الشيخ رشيد رضا، وراح يجسر الفجوة مع النظرية الشيعية في الإمامة لتعيد إنتاجها بمفردات سياسية جديدة. من هنا فلم يعد هناك من معنى للتساؤل: هل أن إقامة الدولة من أصول الإسلام؟ وهل معنى ذلك أن الدولة في الإسلام دولة دينية؟ واللذان سبق أن خاض غمارها شيوخ الأزهر وغيرهما.
كان البحث عن أصول جديدة للحكم كما أراد الشيخ علي عبد الرزاق، يفتح الباب على مصراعيه للفصل بين الديني والسياسي، بين الدين والدولة، وبالتالي إرساء القواعد لمجال سياسي جديد للدولة العلمانية، و لكن المسار الجديد للشيخ حسن البنا، الذي جعل من السلطة شأناً عقيدياً، فتح الباب على مصراعيه لنقد إيديولوجي للدولة العلمانية الذي يدور من حولها الفصل السابع، والذي يعود في جذوره إلى جمال الدين الأفغاني في رده على الدهريين، ويعرب عن نفسه في تلك الضجة التي أثارها كتاب علي عبد الرزاق والذي مهد فيه القاع لبذور الفكرة العلمانية. والتي تفصح عن نفسها جيداً، في خطابات المثقفين العرب الذين راحوا في الربع الثاني من القرن العشرين يفصحون عن دعوة علنية للدولة العلمانية وعن تعلق شديد بالحداثة الغربية والذي تزامن مع هجوم على الإسلام (سلامة موسى)، فقد اعتبرت العلمانية فلسفة خاصة بالغرب، وأنها تجافي نظام الحكم في الإسلام، وأنها تمثل غزوا ثقافيا، وتقطع مع المساعي الحثيثة الداعية إلى تطبيق الشريعة والتي كانت موضع خلاف حتى داخل الإسلاميين أنفسهم. وهذا ما يضعنا كما يقول بلقزيز وجهاً لوجه أمام مسألة كيفية ممارسة السياسة في الدولة الإسلامية بصورة أدق، أمام مسألة الشورى وصلاتها الدلالية في الوعي الإسلامي المعاصر بمفهوم الديمقراطية وعلاقات القربى بينهما في الوعي الإسلامي وهي موضع البحث في الفصل الثامن الذي يوجهه السؤال كيف أخفق المسلمون في تحقيق نظام الشورى وكيف قادهم ذلك إلى الانطلاق من قاعدة فكرية راسخة إلى الحديث عن الديمقراطية كما فعل الغنوشي والشيخ عبد السلام ياسين، فقد اعتبرها الغنوشي أفضل آلية أو جهاز للحكم يمكن المواطنين باستعماله، من ممارسات الحريات الأساسية ومنها الحريات الأساسية، لكن الغنوشي كما يقول بلقزيز مثله مثل معظم الإسلاميين المجتهدين يفرض عليه موقعه كمسلم، أن يترك مسافة بينه وبين موضوع الديمقراطية مخافة أن يأخذه الانبهار به ص179، ويفرض عليه كما يفعل الشيخ ياسين أن يأخذ بيسراه مما يعطيه للديمقراطية بيمناه ص185.
يقول بلقزيز إن أبرز مظاهر بناء صلة جوار وقرابة بين الديمقراطية والشورى هو رد الأولى إلى الثانية كما فعل الشيخ القرضاوي، لكن بلقزيز يرى أن كل محاولات جسر الفجوة بين الشورى والديمقراطية كانت ضرباً من المستحيل الذي يشبه تربيع الدوائر والقول له. إذ العلاقة بين الشورى والديمقراطية علاقة تجافٍ، وإذا كان الخطاب الإسلامي قد عجز عن التوليف بينهما على صعيد الخطاب، فإن الواقع اللاحق، يشهد على أن الفصل بينهما قد أخذ بلباب كثير من الإسلاميين، فالفصل بينهما يحمل معنى واحداً، إسقاط مبدأ الشورى نفسه من أواليات السياسة والسلطة من خلال فك ارتباطه بمعنى الديمقراطية. والهدف؟ كما يقول بلقزيز التشريع لدولة دينية لا ضابط لها والتي تدور من حولها الفصول اللاحقة للكتاب، حيث يعرج بلقزيز الذي يقيم فروقاً اعتماداً على طارق البشري، بين حسن البنا وسيد قطب هي الفارق بين السلام والحرب، إلى مفهوم "الحاكمية" التي صارت عند سيد قطب جوهر القول والمفتاح النظري في مسألة الدولة والنظام السياسي في الإسلام، والمستوردة بالكامل من الإسلام الهندي الباكستاني (الندوي والمودودي) وهي مسألة يقف عندها أغلب الباحثين في تاريخ الحركات الإسلامية المعاصرة، والتي سيقدر لها أي الحاكمية أن تكون معلماً من "معالم في طريق" صعود الحاكمية إلى سدة الوعي السياسي الإسلامي وصيرورتها حاكمة له، ويضيف بلقزيز "وفي طريق التيه الفكري الجديد الذي ذهل فيه أصحابه عن موضوعة الدولة الإسلامية فشارفوا القول إن لم يقولوا بالدولة الثيوقراطية".
من وجهة نظر بلقزيز أنه إذا كان الخطاب الإسلامي الصحوي السني قد قاده الطريق إلى فكرة الحاكمية، فإن لهذه ردائف، وأشباها ونظائر، في الخطاب الإسلامي الشيعي ومن أهم تلك الردائف جميعاً: فكرة "ولاية الفقيه" التي يعالجها الفصل العاشر من الكتاب والذي يلمس فيه المؤلف خطاً نكوصياً وتراجعياً عن فكرة الدولة الدستورية كما نظّر لها الشيخ النائيني باتجاه فكرة الإمامة.
إلى سياق التراجع هذا يتجه المؤلف بتحليلاته ليقودنا إلى النتيجة التالية "فقد ورثت نظرية ولاية الفقيه نظرية الإمامة في إقامة التماهي بين النبي والإمام المعصوم. لكنها أضافت عليها تماهياً جديداً بين الفقيه المجتهد الجامع للشرائط (وهم كثر) وبين النبي والإسلام. فرفعت دولة الفقهاء والحكومة الإسلامية بموجب ذلك التماهي إلى مرتبة من القداسة هي سمة كل دولة دينية لا تكون الأمة مرجعها بل الفقيه النائب عن الإمام والنبي، ولا تكون فيها الولاية للشعب على نفسه، بل للفقيه على الأمة، ولا يمكن إلا أن تكون دولة دينية، مثل شقيقتها دولة الحاكمية" ص232.
يتمحور الفصل الحادي عشر حول نظرية "الحق الإلهي" بصورة أدق حول نقد السلطة الدينية، أي في نقد الحاكمية ثم نقد ولاية الفقيه، فيورد بشأن الأولى كل حجج الإسلاميين ضد فكرة الحاكمية، من محمد عمارة إلى رضوان السيد والعشماوي ويثبت تهماً ووجهات نظر قديمة بأنها اشتقاق غير صحيح لمقولة قديمة رفعها الخوارج وأنها تقطع مع أي صورة من صور التواصل مع مفاهيم الدول ولا تساهم إلا بإعادة إنتاج الدولة الثيوقراطية المعادية للدولة والديمقراطية، أما فيما يتعلق بولاية الفقيه فهو يرى أنه من الطبيعي أن تكون مرفوضة من السنة لأن جوهرها يقوم على عصمة الإسلام، وهنا يفعل بلقزيز أيضاً ما فعله مع مقولة الحاكمية فهو يورد معظم الاجتهادات التي تقطع معها التي قال بها الشيعة والسنة وكذلك مفكرون معاصرون لينتهي إلى القول إن ولاية الفقيه توصد الأبواب تماماً وتصادر ولاية الأمة التي تحدث عنها الشيخ محمد مهدي شمس الدين، لتكون حكراً على الفقهاء فالولي الفقيه حاضر، وسيطول حضوره ما طالت غيبة الإمام الغائب! وعليه لم يسع الأمة إلا أن تحصل على حقها في هذه الولاية التي باتت –حتى إشعار آخر– ولاية فقهاء! ص256.
هل هناك فكر إسلامي معاصر؟
كما أسلفت، فالفصل الأخير من الكتاب يعنون بسؤال استنكاري: هل هناك فكر إسلامي معاصر. والجواب في هذه الحالة هو: لا يوجد فكر إسلامي معاصر؟! وهو هنا يشير إلى تيار الصحوة الإسلامية المعاصرة الذي يقطع مع تيار الإصلاح الإسلامي في وجهي القديم والمتأخر.
إن بلقزيز يزكي تيار الإصلاحية الإسلامية الذي أنتج فكراً سياسياً ومنظومة من المعارف حول الدولة والسلطة السياسية، أما تيار الصحوة الإسلامية المعاصرة فلا فكر ولاهم يحزنون. فقد عجز هذا التيار وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن عن إنتاج أي قيمة فكرية في أي من المجالات السابقة والموجود يمكن إدراجه في عداد (الأدب السياسي الحركي)، والذي لا يزيد عن كونه كما يرى بلقزيز "صراخاً إيديولوجياً = دعوياً وزعيقاً شعاراتياً مبتذلاً، ينتقل من الدفاع عن الأمة والجماعة والمستقبل إلى الدفاع عن الحزب والميليشيا… والماضي" ص274. والذي لا يمكنه إلا أن يصدر عن جهلة حيث يعيب بلقزيز عليهم غياب الباحثين والمفكرين والباحثين.
في رأيي أن بلقزيز في تقويمه للحركة الصحوية الإسلامية لا يساهم إلا في إنتاج الأفكار المتشابهة والإيديولوجيات التي عهدناها في الخطاب العربي المعاصر في تقويمه للحركات الإسلامية والذي يقوم على نفي الآخر واتهامه وشتمه، وهذا ما نلحظه في خطابات أغلب المفكرين العرب التي تغلب عليها إرادة الأيديولوجيا على حساب إرادة المعرفة في تقويمها لتيار الإسلام السياسي مع أن المطلوب هو إفساح المجال أمام إرادة المعرفة لإنتاج تحليلات ومعرفة أسباب نزول.
في الختام يمكن القول إن كتاب بلقزيز في تأكيده على وحدة الخطاب الإسلامي وفي تقويمه لمساره إنما يشكل إضافة هامة للمكتبة العربية ومن هنا أهميته.
*************************
أعود للقول، إن المؤلف يستهل بحثه بالتساؤل حول إشكالية الديني والسياسي في وعي النخب الإسلامية الحديثة والمعاصرة: كيف تمثلها هذا الوعي؟ وكيف عبر عنها خلال أزيد من قرن ونصف، أو صورة أدق، من "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" للطهطاوي إلى "السياسة الشرعية" للقرضاوي 1998؟.
يقر الباحث بعمق الإشكالية في وعي النخب الإسلامية، لكنه يرى أن لهذه الإشكالية "أسباب: أولها هزيمة المسلمين أمام زحف أوروبا الظافر، وثانيها: تزايد الحاجة إلى فهم أسباب وعوامل تلك الهزيمة والتي ما تزال تقض مضجع الفكر العربي المعاصر؟ من هنا فهو يتابع هذه الإشكالية عند من يسميهم بالأجيال الخمسة من المفكرين الإسلاميين الذين تصدوا للبحث في هذه المسألة السياسية من وجهة نظر إسلامية وفق تحقيب زمني لا وفق تحقيب بحثي. الجيل الأول ويمتد من الطهطاوي إلى محمد عبده مروراً بابن أبي الضياف، وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني، والثاني هو الجيل الإصلاحي المتأخر ويمثله الكواكبي ورشيد رضا ومحمد حسين النائيني، والجيل الثالث ويشمل عبد الحميد بن باديس وعلي عبد الرازق، وحسن البنا، وأبي الأعلى المودودي والندوي والخميني وصولاً إلى علال الفاسي والغزالي والهضيبي. أما الجيل الرابع فهو جيل سيد قطب ومحمد قطب والقرضاوي والسباعي، ويمتد إلى عبد السلام ياسين. أما الجيل الخامس فهو جيل فتحي يكن وعبد السلام فرج وراشد الغنوشي وحسن الترابي وفهمي هويدي ومحمد عمارة...الخ.
على الرغم من أن التحقيب السابق يثير الكثير من الإشكاليات الفكرية والمعرفية نظراً للتداخل بين الآراء والأفكار الذي يقطع مع التحقيب وهذا ما يقر به المؤلف، فثمة تباين واسع في رؤية الشيخ راشد الغنوشي للدولة الحديثة التي يجب أن تكون ديمقراطية وأن يكون فيها الحاكم خادم للأمة على حد تعبيره في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية،1993" والذي يقطع فيه مع الخطاب القطبي (نسبة إلى سيد قطب) كما يذكر في مقدمته، وبين خطاب عبد السلام فرج وحتى خطاب الشيخ القرضاوي وعبد السلام ياسين على سبيل المثال، فهو لا يمثل استثناء كما يحاول أن يقنعنا المؤلف، بل شاهد أيضاً على توجه جديد إن لم نقل على موجة إسلامية جديدة داخل المجال السياسي الإسلامي تنهض على الديمقراطية وعلى رؤية جديدة للدولة. أقول على الرغم من التحقيب السابق الذي يقول بمحطات وحقب في مسيرة هذا الفكر، إلا أنه ما يشفع لهذا التحقيب هو تأكيد المؤلف على وحدة الخطاب الإسلامي وهو هنا ينبه إلى أن التأكيد على وحدة الخطاب الإسلامي لا يعني استخدام هذه الوحدة ذريعة معرفية لجمع ما لا يجمع في جملة نقدية قطعية واحدة، وفي رأيي أن أهم ما يفعله بلقزيز هنا أنه يكسر رتابة التأريخ للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر بانفتاحه على الفكر السياسي الشيعي وإرهاصاته في التحول من "ولاية الفقيه" إلى "ولاية الأمة" التي كان يقول بها المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين. يقول بلقزيز في معرض تقويمه لإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي داخل الفكر السياسي الشيعي: قد استرعى انتباهنا، في معرض تحليل الخطاب الفكري الشيعي المعاصر حول الدولة، وخاصة منه النقدي المنفتح، المتحرر نسبياً من قيود "الإمامة" وـتحديداًـ من قيود "ولاية الفقيه"، أن هذا الخطاب أقدم على مبادرات انفتاح هائل على التراث السني، وانتهل من موضوعاته الكثير" ص 13.
يعالج المؤلف في كتابه، أربع إشكاليات، إشكالية الدولة الوطنية لدى الإصلاحية الإسلامية بجيليها السابق والمتأخر، وإشكالية دولة الخلافة، ثم إشكالية الدولة الإٍسلامية عند البنا والتيار الأخواني عموماً، وأخيراً إشكالية الدولة اليثوقراطية من المودودي إلى قطب والخميني، وفي هذا السياق الذي يحكم كتابه، يقوم بلقزيز بتقسيم كتابه إلى قسمين، القسم الأول: من الدولة الوطنية إلى دولة الخلافة ويتكون من خمسة فصول تبدأ بـ"دولة التنظيمات" أو دولة العقل والشرع وتنتهي بنقد نظرية الخلافة التي يتمحور حولها الفصل الخامس، أما القسم الثاني المعنون: من الدولة الإسلامية إلى الدولة الدينية فيضم الفصول من السادس حتى الثاني عشر والذي يحمل عنواناً استنكارياً: هل هناك فكر إسلامي معاصر؟ والعنوان مضمر كما هو واضح بالاتهام خاصة إذا ما أخذنا بوجهة النظر التي يقودنا إليها تحليل بلقزيز في المقدمة من "أن تاريخ الفكر الإسلامي الحديث هو تاريخ تراجعي أونكوصي" ص12.
يمكن القول إن جيل الإصلاحية الإسلامية المشغول بهاجس التأخر وبهاجس البحث عن أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك بحسب خير الدين باشا التونسي العثماني بامتياز، أو"في تخليص الإبريز في تلخيص باريز" للطهطاوي المصري بامتياز، بحسب بلقزيز، والذي لم يبدِ كبير عناية بالجوانب الفقهية كما هي حال الجيل الذي سيليه، أنه كان مهجوساً بالدفاع عن الدولة الوطنية، بصورة أدق، وكما أسلفنا، بكيف السبيل إلى دولة حديثة على غرار الدولة الحديثة في الغرب، والتي هي في منظور الطهطاوي والتونسي ومن جاء بعدهم من أجيال، دولة العدل، والعدل والشرع صنوان، لذلك فقد حارب هذا الجيل الأول على عدة أصعدة، إقناع النخبة الحاكمة بضرورة الأخذ بالحداثة، وثانيها إقناع عامة الناس بأن الحداثة كما تمثلها الدولة الحديثة هي قيمة كبيرة حتى لو جاءت من القياس على حداثة الأجنبي المكروه على صعيد العامة، وثالثها السعي إلى ربط العدل بالشرع وسيكون هذا فاتحة كما سنرى لنقد الاستبداد عند الجيل الثاني (الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده)، وفي هذا السياق راح هذا الجيل يركز على إصلاح الدولة العثمانية0 يقول بلقزيز: انتقل الخطاب الإصلاحي من "مداهنة" "الخلافة" – مداهنة اضطرارية – تحت وطأة الشعور بالحاجة إلى استمرارها على علاتّها (فقط لأن ذلك هو السبيل إلى حفاظ الوحدة الإسلامية وحماية دار الإسلام من الزحف الاستعماري إلى مطالبتها بإجراء إصلاحات حقيقية تمس المجال السياسي، ثم إلى نقدها نقداً حاداً بعد أن تبينت استحالة التعويل عليها. وكان أول نتائج ذلك الانتقال هو الانعطاف في النظر إليها من كونها خلافة إلى كونها دولة سلطانية) ص58.
ما يلفت النظر هنا كما يرى بلقزيز، أن هذه الموضوعات والهواجس التي عبر عنها الجيل الإصلاحي السابق والمتأخر، قد فرضت نفسها على مجال سياسي آخر (المجال الإيراني) وهنا يقف بلقزيز عند ما يسميها بـ"دولة المشروطة أو دولة الدستور" في الفقه السياسي الشيعي الحديث عند الشيخ النائيني والذي لا يستبعد تأثره بالكواكبي والذي يرى قي عمله"نظراً تأسيسياً جديداً" ص68، كما عبرت عن ذلك رسالته الشهيرة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" والتي "يقدم فيها مرافعة قوية عن سلطة شرعية تتفلت من عقال الانتظار، وترفض أن تمتع السلطان الجائر بالشرعية الدينية عبر صيغة الإذن الشرعي له بتولي أمور السياسة العامة" ص67-68.
بين ضرورة الدولة الحديثة، دولة العدل والعمران الذي لا يمكن له أن يقوم إلا بإقصاء الاستبداد كما انتهى إلى ذلك الجيل الإصلاحي (من الأفغاني إلى النايئيني) الذين اعتبروا أن مقاومة الاستبداد هي واجب شرعي، لإنقاذ عقيدة التوحيد من الشرك، والأمة من بطش السلطان الجائر، حملت بداية القرن العشرين توجهاً جديداً مثله الشيخ رشيد رضا في دعوته إلى الخلافة، فعل مسار تاريخي طويل، منذ أن اغتصب الخلافة ملك عضوض كما يقول المأثور الإسلامي، ظلت طوبى الخلافة كما يقول العروي الذي يعتمد عليه بلقزيز، تراود المخيال الفقهي والسياسي الإسلامي، مضافاً إليها "طوبى الإمامة الشرعية" التي أفرزها واقع الدولة السلطانية، وبين طوبى الخلافة (المثال) وطوبى الإمامة الشرعية (الواقع) راح الشيخ محمد رشيد رضا يمارس هروباً من الواقع باتجاه المثال، فلم يستطع أن يدرك مع بداية القرن العشرين ومع إلغاء الخلافة العثمانية 1924 الفجوة الهائلة الفاصلة بين منطق الدولة، وبين منطق الخلافة، ولذلك فقد ظل خطابه طوباوياً كما يصفه بلقزيز، يسبح فوق عالم عربي وإسلامي منقسم ومستعمر ومذرور إلى دويلات تجعل من إمكانية اللجوء إلى الحل الشرعي = الخلافة، فعلاً أقرب إلى سياسة الهروب إلى الأمام منه إلى أي شيء آخر على حد وصف بلقزيز ص107. وفي هذا السياق جاء من يرد على طوبى الخلافة، وأقصد الشيخ علي عبد الرزاق هذا الأزهري المتمرد بحسب بلقزيز في كتابه الذائع الصيت "الإسلام وأصول الحكم، 1925" والذي يمثل من وجهة نظرنا نقطة نظامية إن جاز القول، لا يمكن لأي باحث في إشكالية الدين والدولة إلا العودة إليه، فقد بين عبد الرزاق أن لا علاقة للخلافة في شيء بالإسلام وبالوجود الشرعي، ومن هنا فقد سعى بكل ما يملك إلى فك الارتباط بين الخلافة والإسلام، وأنه على المسلمين أن يهتدوا بأصول جديدة للحكم ذات طابع مدني وسياسي وهو ما أهاج عليه الشيوخ التقليدين في الأزهر. والسؤال الذي يطرحه بلقزيز هنا: هل كان الشيخ علي عبد الرزاق وحده في الصورة؟ أم أن هناك شيوخ آخرون؟ ومن وجهة نظره أن هناك شيوخ آخرون ودليله على ذلك الشيخ عبد الحميد بن باديس هذا الصوت القادم من الجزائر البعيدة والذي سيشد على يد الشيخ عبد الرزاق إعجاباً وتقريضاً لأطروحته مشاطراً إياه رأيه النقدي في الخلافة وداعياً إلى فصل السياسي عن الديني والذي فرضته ضرورات وطنية أيضاً، فقد كان ابن باديس مسكوناً بهاجس كف يد المستعمر الفرنسي عن المؤسسات الدينية والثقافية بحجة قطع الطريق على العلماء المسلمين الذين يتدخلون بالسياسة ص 119، وما يستنتجه بلقزيز: إن مقالتي عبد الرزاق وابن باديس في نقد الخلافة تمثلان محاولة صعبة ـولكن جريئةـ للعودة بالمسألة السياسية إلى رحاب الفكرة الإصلاحية التي انقلب عليها الشيخ رشيد رضا ص 121، ولكن العودة إلى رحاب الفكرة الإصلاحية لم تتم كما يرى بلقزيز فقد خسر تيار نقد الخلافة معركته، وكسب رشيد رضا _على طوباوياته وخسارته الخلافة_ " جيلاً جديداً لأسباب سنراها لاحقاً ".
القسم الثاني:
من الدولة الإسلامية إلى الدولة الدينية
في كتابه "المشروع النهضوي العربي،1996" رأى محمد عابد الجابري أن الأفغاني هو المنتج الأيديولوجي للتيار الراديكالي الإسلامي في نقده للسلطة السياسية القائمة لأنه من أوائل الإصلاحيين الذي ماهى وطابق بين الدين والسياسة، ولكن بلقزيز يلح على أن رشيد رضا هو المنتج الإيديولوجي للتصورات المغالية عن الدولة والسلطة وفي المجالين العربي والإسلامي، وهو في هذا المجال يبدي حجة وجيهة، فقد خسر التياران، تيار نقد الخلافة، وتيار الدعوة إلى الخلافة، الأول تحت سطوة المؤسسة التقليدية الدينية (الأزهر) التي تصدت بعنف لاجتهادات علي عبد الرزاق، والثاني تحت سطوة الواقع الجديد الذي يهدد العالم الإسلامي بمزيد من التشرذم، ولكن مع فارق في الخسارة، فلا يمكن مقارنة خسارة الشيخ رشيد رضا بخسارة التيار الناقد للخلافة الذي مثله الشيخ عبد الرزاق، ذلك أن رشيد رضا كسب ـ على الأقل ـ جيلاً جديداً من المثقفين الإسلاميين تتلمذوا على موضوعته في المسألة السياسية ليذهبوا بها بعيداً: بالتكييف والتحوير، كي تنجب إشكالية جديدة هي إشكالية الدولة الإسلامية، لن تلبث هي الأخرى أن تتحول إلى رحم لإنجاب تصورات مغالية للدولة والسلطة شارفت الفكرة الثيوقراطية" ص 122.
إلى هذه التصورات التي تزداد وتيرة غلوها شيئاً فشيئاً، يتجه بلقزيز إلى مفهوم "الدولة الإسلامية" الذي جاء به حسن البنا المؤسس العام لجماعة الأخوان المسلمين، والذي كان تلميذاً غير مباشر للشيخ رشيد رضا، فالبنا كان من أول المفكرين الإسلاميين السنة المعاصرين الذي جعل من السلطة في الإسلام مسألة عقدية لا فقهية، وأنها من الأصول لا الفروع، وبذلك أسبغ كما يقول بلقزيز طابعاً قدسياً على الدولة يتجاوز علاقة الوصل بين الديني والسياسي التي دافع عنها البعض، وبذلك نقل المسألة السياسية من مجال الفقه العام، والفقه السياسي إلى علم الكلام. وبذلك فتح الباب كما يقول بلقزيز إلى "نظرية أصولية" في السياسة والدولة، تقطع مع مفهوم دولة الخلافة التي دافع عنها الشيخ رشيد رضا، وراح يجسر الفجوة مع النظرية الشيعية في الإمامة لتعيد إنتاجها بمفردات سياسية جديدة. من هنا فلم يعد هناك من معنى للتساؤل: هل أن إقامة الدولة من أصول الإسلام؟ وهل معنى ذلك أن الدولة في الإسلام دولة دينية؟ واللذان سبق أن خاض غمارها شيوخ الأزهر وغيرهما.
كان البحث عن أصول جديدة للحكم كما أراد الشيخ علي عبد الرزاق، يفتح الباب على مصراعيه للفصل بين الديني والسياسي، بين الدين والدولة، وبالتالي إرساء القواعد لمجال سياسي جديد للدولة العلمانية، و لكن المسار الجديد للشيخ حسن البنا، الذي جعل من السلطة شأناً عقيدياً، فتح الباب على مصراعيه لنقد إيديولوجي للدولة العلمانية الذي يدور من حولها الفصل السابع، والذي يعود في جذوره إلى جمال الدين الأفغاني في رده على الدهريين، ويعرب عن نفسه في تلك الضجة التي أثارها كتاب علي عبد الرزاق والذي مهد فيه القاع لبذور الفكرة العلمانية. والتي تفصح عن نفسها جيداً، في خطابات المثقفين العرب الذين راحوا في الربع الثاني من القرن العشرين يفصحون عن دعوة علنية للدولة العلمانية وعن تعلق شديد بالحداثة الغربية والذي تزامن مع هجوم على الإسلام (سلامة موسى)، فقد اعتبرت العلمانية فلسفة خاصة بالغرب، وأنها تجافي نظام الحكم في الإسلام، وأنها تمثل غزوا ثقافيا، وتقطع مع المساعي الحثيثة الداعية إلى تطبيق الشريعة والتي كانت موضع خلاف حتى داخل الإسلاميين أنفسهم. وهذا ما يضعنا كما يقول بلقزيز وجهاً لوجه أمام مسألة كيفية ممارسة السياسة في الدولة الإسلامية بصورة أدق، أمام مسألة الشورى وصلاتها الدلالية في الوعي الإسلامي المعاصر بمفهوم الديمقراطية وعلاقات القربى بينهما في الوعي الإسلامي وهي موضع البحث في الفصل الثامن الذي يوجهه السؤال كيف أخفق المسلمون في تحقيق نظام الشورى وكيف قادهم ذلك إلى الانطلاق من قاعدة فكرية راسخة إلى الحديث عن الديمقراطية كما فعل الغنوشي والشيخ عبد السلام ياسين، فقد اعتبرها الغنوشي أفضل آلية أو جهاز للحكم يمكن المواطنين باستعماله، من ممارسات الحريات الأساسية ومنها الحريات الأساسية، لكن الغنوشي كما يقول بلقزيز مثله مثل معظم الإسلاميين المجتهدين يفرض عليه موقعه كمسلم، أن يترك مسافة بينه وبين موضوع الديمقراطية مخافة أن يأخذه الانبهار به ص179، ويفرض عليه كما يفعل الشيخ ياسين أن يأخذ بيسراه مما يعطيه للديمقراطية بيمناه ص185.
يقول بلقزيز إن أبرز مظاهر بناء صلة جوار وقرابة بين الديمقراطية والشورى هو رد الأولى إلى الثانية كما فعل الشيخ القرضاوي، لكن بلقزيز يرى أن كل محاولات جسر الفجوة بين الشورى والديمقراطية كانت ضرباً من المستحيل الذي يشبه تربيع الدوائر والقول له. إذ العلاقة بين الشورى والديمقراطية علاقة تجافٍ، وإذا كان الخطاب الإسلامي قد عجز عن التوليف بينهما على صعيد الخطاب، فإن الواقع اللاحق، يشهد على أن الفصل بينهما قد أخذ بلباب كثير من الإسلاميين، فالفصل بينهما يحمل معنى واحداً، إسقاط مبدأ الشورى نفسه من أواليات السياسة والسلطة من خلال فك ارتباطه بمعنى الديمقراطية. والهدف؟ كما يقول بلقزيز التشريع لدولة دينية لا ضابط لها والتي تدور من حولها الفصول اللاحقة للكتاب، حيث يعرج بلقزيز الذي يقيم فروقاً اعتماداً على طارق البشري، بين حسن البنا وسيد قطب هي الفارق بين السلام والحرب، إلى مفهوم "الحاكمية" التي صارت عند سيد قطب جوهر القول والمفتاح النظري في مسألة الدولة والنظام السياسي في الإسلام، والمستوردة بالكامل من الإسلام الهندي الباكستاني (الندوي والمودودي) وهي مسألة يقف عندها أغلب الباحثين في تاريخ الحركات الإسلامية المعاصرة، والتي سيقدر لها أي الحاكمية أن تكون معلماً من "معالم في طريق" صعود الحاكمية إلى سدة الوعي السياسي الإسلامي وصيرورتها حاكمة له، ويضيف بلقزيز "وفي طريق التيه الفكري الجديد الذي ذهل فيه أصحابه عن موضوعة الدولة الإسلامية فشارفوا القول إن لم يقولوا بالدولة الثيوقراطية".
من وجهة نظر بلقزيز أنه إذا كان الخطاب الإسلامي الصحوي السني قد قاده الطريق إلى فكرة الحاكمية، فإن لهذه ردائف، وأشباها ونظائر، في الخطاب الإسلامي الشيعي ومن أهم تلك الردائف جميعاً: فكرة "ولاية الفقيه" التي يعالجها الفصل العاشر من الكتاب والذي يلمس فيه المؤلف خطاً نكوصياً وتراجعياً عن فكرة الدولة الدستورية كما نظّر لها الشيخ النائيني باتجاه فكرة الإمامة.
إلى سياق التراجع هذا يتجه المؤلف بتحليلاته ليقودنا إلى النتيجة التالية "فقد ورثت نظرية ولاية الفقيه نظرية الإمامة في إقامة التماهي بين النبي والإمام المعصوم. لكنها أضافت عليها تماهياً جديداً بين الفقيه المجتهد الجامع للشرائط (وهم كثر) وبين النبي والإسلام. فرفعت دولة الفقهاء والحكومة الإسلامية بموجب ذلك التماهي إلى مرتبة من القداسة هي سمة كل دولة دينية لا تكون الأمة مرجعها بل الفقيه النائب عن الإمام والنبي، ولا تكون فيها الولاية للشعب على نفسه، بل للفقيه على الأمة، ولا يمكن إلا أن تكون دولة دينية، مثل شقيقتها دولة الحاكمية" ص232.
يتمحور الفصل الحادي عشر حول نظرية "الحق الإلهي" بصورة أدق حول نقد السلطة الدينية، أي في نقد الحاكمية ثم نقد ولاية الفقيه، فيورد بشأن الأولى كل حجج الإسلاميين ضد فكرة الحاكمية، من محمد عمارة إلى رضوان السيد والعشماوي ويثبت تهماً ووجهات نظر قديمة بأنها اشتقاق غير صحيح لمقولة قديمة رفعها الخوارج وأنها تقطع مع أي صورة من صور التواصل مع مفاهيم الدول ولا تساهم إلا بإعادة إنتاج الدولة الثيوقراطية المعادية للدولة والديمقراطية، أما فيما يتعلق بولاية الفقيه فهو يرى أنه من الطبيعي أن تكون مرفوضة من السنة لأن جوهرها يقوم على عصمة الإسلام، وهنا يفعل بلقزيز أيضاً ما فعله مع مقولة الحاكمية فهو يورد معظم الاجتهادات التي تقطع معها التي قال بها الشيعة والسنة وكذلك مفكرون معاصرون لينتهي إلى القول إن ولاية الفقيه توصد الأبواب تماماً وتصادر ولاية الأمة التي تحدث عنها الشيخ محمد مهدي شمس الدين، لتكون حكراً على الفقهاء فالولي الفقيه حاضر، وسيطول حضوره ما طالت غيبة الإمام الغائب! وعليه لم يسع الأمة إلا أن تحصل على حقها في هذه الولاية التي باتت –حتى إشعار آخر– ولاية فقهاء! ص256.
هل هناك فكر إسلامي معاصر؟
كما أسلفت، فالفصل الأخير من الكتاب يعنون بسؤال استنكاري: هل هناك فكر إسلامي معاصر. والجواب في هذه الحالة هو: لا يوجد فكر إسلامي معاصر؟! وهو هنا يشير إلى تيار الصحوة الإسلامية المعاصرة الذي يقطع مع تيار الإصلاح الإسلامي في وجهي القديم والمتأخر.
إن بلقزيز يزكي تيار الإصلاحية الإسلامية الذي أنتج فكراً سياسياً ومنظومة من المعارف حول الدولة والسلطة السياسية، أما تيار الصحوة الإسلامية المعاصرة فلا فكر ولاهم يحزنون. فقد عجز هذا التيار وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن عن إنتاج أي قيمة فكرية في أي من المجالات السابقة والموجود يمكن إدراجه في عداد (الأدب السياسي الحركي)، والذي لا يزيد عن كونه كما يرى بلقزيز "صراخاً إيديولوجياً = دعوياً وزعيقاً شعاراتياً مبتذلاً، ينتقل من الدفاع عن الأمة والجماعة والمستقبل إلى الدفاع عن الحزب والميليشيا… والماضي" ص274. والذي لا يمكنه إلا أن يصدر عن جهلة حيث يعيب بلقزيز عليهم غياب الباحثين والمفكرين والباحثين.
في رأيي أن بلقزيز في تقويمه للحركة الصحوية الإسلامية لا يساهم إلا في إنتاج الأفكار المتشابهة والإيديولوجيات التي عهدناها في الخطاب العربي المعاصر في تقويمه للحركات الإسلامية والذي يقوم على نفي الآخر واتهامه وشتمه، وهذا ما نلحظه في خطابات أغلب المفكرين العرب التي تغلب عليها إرادة الأيديولوجيا على حساب إرادة المعرفة في تقويمها لتيار الإسلام السياسي مع أن المطلوب هو إفساح المجال أمام إرادة المعرفة لإنتاج تحليلات ومعرفة أسباب نزول.
في الختام يمكن القول إن كتاب بلقزيز في تأكيده على وحدة الخطاب الإسلامي وفي تقويمه لمساره إنما يشكل إضافة هامة للمكتبة العربية ومن هنا أهميته.
*************************