الوساطة الدولية فى النزاعات الداخلية
مرسل: الاثنين إبريل 30, 2012 12:59 am
الوساطة الدولية فى النزاعات الداخلية
سيد قاسم المصري
الحل الوسط التاريخى الذى قامت الأمم المتحدة على أساسه كان يتمثل فى عنصرين أساسيين ــ كلاهما يحمل الكثير من المتناقضات:
أولهما: هو عدم السماح بالتدخل فى الشئون الداخلية.. وهذا المبدأ يتناقض مع إعطاء مجلس الأمن المكون من عدد قليل من الدول (11 دولة ثم أصبح 15) الحق فى التدخل بشتى الطرق بما فى ذلك التدخل العسكرى فى حالة إذا ما قرر هو أن موقفا ما يشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين.
وثانيهما: هو منح الدول الخمس الكبرى حق الفيتو أى حق الاعتراض على صدور قرار من المجلس حتى ولو حصل على الأغلبية.. وهو ما يتناقض مع المبدأ الأول من مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وهو المساواة بين جميع الدول الأعضاء.
وقد كان الهدف من وضع هذين المبدأين هو طمأنة روسيا (الاتحاد السوفييتى) والدول الدائرة فى فلكه إلى عدم التدخل فى الشئون الداخلية وأن التدخل ــ لو تم ــ لن يتم إلا بموافقتها.. وذلك لأن غالبية أعضاء الأمم المتحدة فى ذلك الوقت كانت من الدول الغربية فلم تكن معظم الدول الآسيوية والأفريقية قد استقلت بعد.
وظل الحال على هذا المنوال طوال العقدين الأولين من عمر الأمم المتحدة.. كانت الحكومات تمارس انتهاكات خطيرة لحقوق مواطنيها الإنسانية دون أى تدخل من الأمم المتحدة وكانت حكومة الفصل العنصرى فى جنوب أقريقيا مثلا (الأبارتيد) عضوا بالأمم المتحدة ولا يجرؤ أحد على فتح الموضوع بالأمم المتحدة.
ولكن الوضع بدأ يتغير فى الستينيات بحصول العديد من الدول الأفروآسيوية على استقلالها وانضمامها إلى الأمم المتحدة وانخراطها فى حركة عدم الانحياز وتحول الأغلبية التصويتية فى الجمعية العامة لصالحها.
عندئذ بدأت هذه المجموعة القوية عدديا تدق الجدار الحصين المسمى «عدم التدخل فى الشئون الداخلية» ونجحت فى إحداث أول شرخ فيه بطرد حكومة جنوب أفريقيا العنصرية وتوقيع العقوبات عليها، ثم توالت الطرقات حتى كاد يتلاشى هذا الجدار.. فلم تعد الآن حقوق الإنسان شأنا داخليا بحتا لا يحق لأحد التدخل فيه، واتسع الدور الذى تمارسه الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية فى حماية حقوق الإنسان بل والديمقراطية فى الدول الأعضاء.
فما قامت به منظمة دول غرب أفريقيا (الإيكواس) فى مالى مثلا أمر لا يمكن تصور حدوثه فى الستينيات عندما أنشأت منظمة الوحدة الأفريقية، فقد أجبرت الانقلابيين على تسليم السلطة لرئيس البرلمان وأجبرت الرئيس على الاستقالة وذلك تحت تهديد التدخل لحماية الديمقراطية ووحدة البلاد.
وفى سوريا فى منطقتنا العربية.. فإن ما قبله بشار الأسد من تدخل الجامعة العربية ثم الأمم المتحدة لا يتصور قبوله من حافظ الأسد فى السبعينيات.
عوامل نجاح الوساطة الدولية
بالرغم من أن التغير الكبير الذى حدث فى الساحة العالمية قد ساعد على قبول الوساطة الدولية والإقليمية فى المنازعات الداخلية، إلا أن عوامل النجاح تعتمد على عناصر عديدة.. على رأسها العصا والجزرة.. فسوريا مثلا استمعت بانتباه إلى كوفى عنان أكثر من استماعها إلى نبيل العربى.. لأن كوفى عنان وراءه مجلس الأمن ذو الفصل السابع، وروسيا والصين فى عصرنا الحالى ليستا روسيا والصين فى العقود الغابرة... فقد تشابكت مصالحهما مع الدول الغربية بطريقة تجعل صمودهما إلى جانب سوريا أمر غير مؤكد.
ولقد أطلعت على تقرير للأمين العام للأمم المتحدة مرفوعا إلى مجلس الأمن يتحدث فيه عن شروط الوساطة الناجحة قال فيه إن من أهم شروطها أن يتم التدخل فى وقت مبكر قبل أن تتكاثر المجموعات المعارضة وتتشرذم ويصبح من العسير إيجاد متحدث واحد باسمها.. كما أن التدخل المبكر يحول دون تدويل النزاع ودخول أطراف جديدة فيه وهو مفهوم مخالف لمفهوم كيسنجر مثلا الذى يقوم على أساس الانتظار حتى «ينضج» الموقف ويصبح استمرار الأمر الواقع مؤلما للطرفين مما يجعلهما حريصين على إنجاح الوساطة.. وهو مبدأ يتسم بالقسوة ولا يلقى بالا للجوانب الإنسانية.
ومن عناصر نجاح الوساطة أيضا أن تهدف إلى معالجة جذور المشكلة ثم الوضوح الشديد فى إظهار المزايا التى سيحققها الطرفان من قبول الحل المطروح والعواقب التى ستنجم عن رفضه.. ثم إن الوساطة الناجحة لابد أن تتضمن حلا للمعادلة الصعبة التى تكمن بين السماح بالإفلات من العقاب لمن ارتكب جرائم ضد حقوق الإنسان خشية إفساد فرص السلام، وبين عواقب الإفلات من العقوبة وآثارها على استمرار السلام.
الوسيط النزيه
وقد شاركت فى أوائل هذا الشهر فى مؤتمر مشترك بين الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامى ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبى فى موضوع الوساطة الدولية وكنت المتحدث الرئيسى بالنيابة عن منظمة التعاون الإسلامى، وقد حاولت الإجابة عن التساؤل عن السبب الذى يجعل الدول الأخرى تقبل بتدخل المنظمة الإسلامية فى موضوع الأقليات الإسلامية بالدول غير الإسلامية.. بل إن بعضها يطالب بتدخل المنظمة.. فما الذى يجعل دولة مثل الفلبين ذات الغالبية الكاثوليكية تقبل وساطة منظمة التعاون الإسلامى فى نزاعها مع مسلمى جنوب الفلبين ولم يمنعها الخوف من انحياز المنظمة إلى الجانب الإسلامى.
اعتقد أن الفلبين قدرت الموقف تقديرا سليما.. تماما كما فعل أنور السادات عندما ارتضى أن تكون الولايات المتحدة المنحازة لإسرائيل هى الوسيط «النزيه» بيننا وبين إسرائيل.. ففى كلتا الحالتين تم اختيار الجهة التى تملك التأثير فى الطرف الآخر.. فقد أعلن السادات مرارا أن 99% من أورق الحل بيد أمريكا.. وبالنسبة لمشكلة المسلمين فى جنوب الفلبين.. فقد كان هناك عناصر أخرى تجعل اختيار المنظمة هو الاختيار الأمثل.. ومن ذلك أن المنظمة التزمت بعدم تأييد أى نزعات انفصالية للأقليات الإسلامية أو أى مطالب بالاستقلال، كما أنها تدين العنف ضد المدنيين أيا كان مصدره وفضلا عن ذلك فإنها تجرى اتصالاتها بالأقليات الإسلامية من خلال القنوات الشرعية أو بعلم هذه القنوات.. وقد نجحت المنظمة فى جلب الطرفين إلى مائدة التفاوض وتم إبرام اتفاقية سلام وقعتها المنظمة كشريك مساوٍ للطرفين الأساسيين.. ويضاف إلى ذلك أن الحكومات التى لديها مشاكل مع الأقليات الإسلامية كثيرا ما ترغب فى وجود طرف ثالث ذى تأثير على هذه الأقلية ويمكنها من خلاله أن تشرح للعالم الإسلامى سياستها تجاه الأقلية.
وهذا ما حدى بالصين مثلا أن تقبل استقبال بعثة من منظمة التعاون الإسلامى برئاسة الأمين العام على إثر اندلاع الاضرابات فى إقليم سينكيانج ذى الأغلبية المسلمة فى الوقت الذى رفضت فيه قبول بعثة من الأمم المتحدة.
وهكذا نرى التطور الكبير الذى طرأ على العلاقات الدولية وعلى القانون الدولى فلم تعد موضوعات حقوق الإنسان شأنا داخليا بحتا ممنوع الاقتراب منه، ولم يعد باستطاعة الحكومات أن تفعل فى شعوبها ما تشاء ثم تقول للعالم قف مكانك.. هذا شعبى أفعل به ما أشاء وليس لأحد الحق فى التدخل، ولم يعد باستطاعها أن تصور هذا التدخل على أنه مساس بالسيادة الوطنية والاستقلال السياسى.