- الاثنين إبريل 30, 2012 10:09 am
#49499
تتعيَّن الإشارة – بادئ ذي بدء- إلى أن ثمَّة تعدُّدًا في فروع المعارف التي تُعنَى بدراسة مجال العلاقات السياسيَّة الدوليَّة، غير أن هذه الفروع تتباين من حيث طبيعتها تبعًا لتباين مناهجها، فثمَّة فروع تنهج منهجًا مثاليًا حال القانون الدولي؛ ذلك الفرع من فروع المعرفة الذي يُعنَى – انطلاقًا من الطبيعة المثاليَّة لمنهجه- بما يجب أن تكون عليه العلاقات الدوليَّة حتى تكون مُثْلَى وفاضلة تسودها قيم العدالة والشرعيَّة والمساواة والسلام، وهناك كذلك علم العلاقات الدوليَّة الذي يعالج العلاقات بين الدول بمنهج علمي تجريبي، إذ يبدأ علماء العلاقات الدوليَّة من الواقع الدولي بالملاحظة والتجريب؛ بغية الكشف عن حقائق ذلك الواقع الكامنة في أغواره، إذن فعلم العلاقات الدوليَّة – تبعًا لعلميَّة منهجه- يستهدف تفسير الواقع الدولي، في معنى أنه يُعْنَى بما هو كائن وليس بما يجب أن يكون؛ وبالتالي فهو يُعتبَرُ أظهر المعارف التي تعالج مجال العلاقات بين الدول، وأكثرها أهمِّيَّة.
أمَّا فيما يتَّصل بالتاريخ الدبلوماسي فإنه أيضًا يعالج مجال العلاقات بين الدول، بَيْدَ أنه ينهج – في ذلك- منهجًا تاريخيًا قوامه تسجيل الأحداث والوقائع دون أن يُعْنَى بتفسيرها. وعلى الرغم من ذلك فإن التاريخ الدبلوماسي يمثِّل فرعًا من فروع المعرفة لا غنى لطالب علوم السياسة عن دراسته، ذلك بأن التاريخ يمثِّل لعالم السياسة (والعلاقات الدوليَّة) أداة عظيمة الشأن من أدوات الملاحظة والمقارنة؛ وبالتالي فإن على عالم العلاقات الدوليَّة – إن هو أراد تقديم تفسير للواقع الدولي- أن يلجأ إلى التاريخ باعتباره تسجيلاً لذلك الواقع المراد تفسيره.
وارتباطًا بما تقدَّم يبدو جليًا أن دراسة التاريخ هي أمر جد هام بالنسبة لطالب الدراسات السياسيَّة؛ باعتبارها ضرورة يقتضيها إلمامه بحقائق عالم السياسة بشقَّيه الوطني والدولي على حدٍّ سواء. ولنا هنا أن نشير بصدد تأكيد صدق مقولتنا هذه إلى تلك العبارة البالغة الدلالة على قصرها، والتي وردت عن المؤرِّخ وعالم السياسة البريطاني "سيلي" التي مؤدَّاها: (إن التاريخ بدون علم السياسة كنبات بلا ثمر، بينما علم السياسة بدون التاريخ كنبات بلا جذور).
على صعيد آخر فإننا لسنا في حاجة إلى تأكيد أهمِّيَّة قراءة التاريخ بالنسبة لبني البشر قاطبة، وحسبنا في هذا الصدد أن نشير إلى دعوة الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إلى ضرورة الاعتبار بالأمم السابقة حيث قال عزَّ مَنْ قائل:
]قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [ آل عمران- 137".
]وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [(النور- 34).
]يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [(النساء- 26).
ويتَّضح من تأمُّل هذه الآيات الكريمة السابقة أمران في غاية الأهمِّيَّة:
أولاً: أن الاعتبار بأحداث التاريخ السابقة هو السبيل إلى ترشيد اختياراتنا الحاليَّة والمستقبليَّة (وهذا من شأن فن السياسة)، فإذا كان وعي الإنسان مرتبطًا بقدرته على الإفادة من تجاربه السابقة وأخطائه تجنُّبًا لتكرار وقوعه فيها، وإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فكذلك حال الأمم والشعوب النابهة فتقدُّمها ورفعتها مرهونان بقدرتها على استخلاص العبر والدروس من تاريخها والإفادة منها عند رسم سياساتها العامَّة داخليَّة كانت أم خارجيَّة.
ثانيًا: أن استقراء أحداث التاريخ السابقة هو أيضًا المنطلق إلى الكشف عن سنن الله الكونيَّة؛ أي عن القوانين والحقائق العلميَّة، وهذا هو حال علوم السياسة التجريبيَّة (ومن بينها علم العلاقات الدوليَّة) القائمة على استقراء الوقائع بالملاحظة والمقارنة بين الأحداث والوقائع المتباينة زمانًا ومكانًا؛ بهدف الكشف عن دلالاتها وخصائصها المشتركة أو سماتها العامَّة.
يبقى أن نشير إلى أننا سنتناول موضوع هذا الكتاب على قسمين نعنونهما على النحو التالي:
القسم الأوَّل: العلاقات الدوليَّة في ظلِّ النسق الدولي متعدِّد القوى القطبيَّة (1815-1945).
ونعرض في هذا القسم لأبرز الأحداث الدوليَّة ذات الدلالة، والتي وقعت في إطار هذه الصورة التاريخيَّة للنسق الدولي مع التركيز على الفترة من 1815-1945؛ أي بدءًا من نهاية الحروب النابليونيَّة وانعقاد مؤتمر فيينا، وانتهاء بالحرب العالميَّة الثانية.
وتجدر الإشارة إلى أن طبيعة العلاقات الدوليَّة خلال هذه الفترة (من حيث اقتصارها على العلاقات بين عدد قليل من الدول الأوروبيَّة أقطاب النسق المتعدِّد، ومن حيث وضوح الفارق بين علاقات الحرب والسلام خلالها، فضلاً عن محدوديَّة أدوات أو وسائل التأثير الدولي) قد مكَّنت من معالجة هذه العلاقات على نحو متكامل ومتشابك في إطار مفهوم النسق System.
ويتعيَّن التنويه إلى أنه على الرغم من أن ذلك النسق قد تبلور منذ معاهدة وستفاليا (1648) واستمرَّ حتى نهاية الحرب العالميَّة الثانية، فإن دراستنا ستقتصر – في هذا القسم- على الفترة التي تبدأ من أوائل القرن التاسع عشر حيث بدأت العلاقات الدوليَّة بصورتها الراهنة تتبلور منذ ذلك الحين، ومع ذلك فقد تقتضي الأمور منا في بعض الأحيان الغوص في أغوار الفترة السابقة على القرن التاسع عشر؛ بغية الوقوف على بعض الوقائع التي يتطلَّب فهم أحداث لاحقة الإلمام بها.
القسم الثاني: العلاقات الدوليَّة في ظلِّ النسق الدولي ثنائي القوى القطبيَّة (1945-1991).
ونتناول فيه أبرز الأحداث الدوليَّة التي شهدتها الفترة المشار إليها، والتي تبدأ بانتهاء الحرب العالميَّة الثانية وتنتهي بانهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991، ذلك الانهيار الذي استتبع زوال الدول السوفيتيَّة وتفكُّك كتلتها، وترك مقاليد الأمور في الساحة الدوليَّة لقطب أوحد هو الولايات المتَّحدة.
وبطبيعة الحال فإننا سنذيِّل كتابنا هذا بإشارة إلى خصائص صورة توزيع القوى في العالم منذ تفكُّك الدولة السوفيتيَّة وحتى يومنا هذا، تلك الصورة التي درج علماء العلاقات الدوليَّة المعاصرون على الإشارة إليها بعبارة النظام العالمي الجديد، وما ارتبط بها من لفظة جديدة راحت تتداولها الألسنة ألا وهي لفظة: "العولمة".
أمَّا فيما يتَّصل بالتاريخ الدبلوماسي فإنه أيضًا يعالج مجال العلاقات بين الدول، بَيْدَ أنه ينهج – في ذلك- منهجًا تاريخيًا قوامه تسجيل الأحداث والوقائع دون أن يُعْنَى بتفسيرها. وعلى الرغم من ذلك فإن التاريخ الدبلوماسي يمثِّل فرعًا من فروع المعرفة لا غنى لطالب علوم السياسة عن دراسته، ذلك بأن التاريخ يمثِّل لعالم السياسة (والعلاقات الدوليَّة) أداة عظيمة الشأن من أدوات الملاحظة والمقارنة؛ وبالتالي فإن على عالم العلاقات الدوليَّة – إن هو أراد تقديم تفسير للواقع الدولي- أن يلجأ إلى التاريخ باعتباره تسجيلاً لذلك الواقع المراد تفسيره.
وارتباطًا بما تقدَّم يبدو جليًا أن دراسة التاريخ هي أمر جد هام بالنسبة لطالب الدراسات السياسيَّة؛ باعتبارها ضرورة يقتضيها إلمامه بحقائق عالم السياسة بشقَّيه الوطني والدولي على حدٍّ سواء. ولنا هنا أن نشير بصدد تأكيد صدق مقولتنا هذه إلى تلك العبارة البالغة الدلالة على قصرها، والتي وردت عن المؤرِّخ وعالم السياسة البريطاني "سيلي" التي مؤدَّاها: (إن التاريخ بدون علم السياسة كنبات بلا ثمر، بينما علم السياسة بدون التاريخ كنبات بلا جذور).
على صعيد آخر فإننا لسنا في حاجة إلى تأكيد أهمِّيَّة قراءة التاريخ بالنسبة لبني البشر قاطبة، وحسبنا في هذا الصدد أن نشير إلى دعوة الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إلى ضرورة الاعتبار بالأمم السابقة حيث قال عزَّ مَنْ قائل:
]قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [ آل عمران- 137".
]وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [(النور- 34).
]يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [(النساء- 26).
ويتَّضح من تأمُّل هذه الآيات الكريمة السابقة أمران في غاية الأهمِّيَّة:
أولاً: أن الاعتبار بأحداث التاريخ السابقة هو السبيل إلى ترشيد اختياراتنا الحاليَّة والمستقبليَّة (وهذا من شأن فن السياسة)، فإذا كان وعي الإنسان مرتبطًا بقدرته على الإفادة من تجاربه السابقة وأخطائه تجنُّبًا لتكرار وقوعه فيها، وإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فكذلك حال الأمم والشعوب النابهة فتقدُّمها ورفعتها مرهونان بقدرتها على استخلاص العبر والدروس من تاريخها والإفادة منها عند رسم سياساتها العامَّة داخليَّة كانت أم خارجيَّة.
ثانيًا: أن استقراء أحداث التاريخ السابقة هو أيضًا المنطلق إلى الكشف عن سنن الله الكونيَّة؛ أي عن القوانين والحقائق العلميَّة، وهذا هو حال علوم السياسة التجريبيَّة (ومن بينها علم العلاقات الدوليَّة) القائمة على استقراء الوقائع بالملاحظة والمقارنة بين الأحداث والوقائع المتباينة زمانًا ومكانًا؛ بهدف الكشف عن دلالاتها وخصائصها المشتركة أو سماتها العامَّة.
يبقى أن نشير إلى أننا سنتناول موضوع هذا الكتاب على قسمين نعنونهما على النحو التالي:
القسم الأوَّل: العلاقات الدوليَّة في ظلِّ النسق الدولي متعدِّد القوى القطبيَّة (1815-1945).
ونعرض في هذا القسم لأبرز الأحداث الدوليَّة ذات الدلالة، والتي وقعت في إطار هذه الصورة التاريخيَّة للنسق الدولي مع التركيز على الفترة من 1815-1945؛ أي بدءًا من نهاية الحروب النابليونيَّة وانعقاد مؤتمر فيينا، وانتهاء بالحرب العالميَّة الثانية.
وتجدر الإشارة إلى أن طبيعة العلاقات الدوليَّة خلال هذه الفترة (من حيث اقتصارها على العلاقات بين عدد قليل من الدول الأوروبيَّة أقطاب النسق المتعدِّد، ومن حيث وضوح الفارق بين علاقات الحرب والسلام خلالها، فضلاً عن محدوديَّة أدوات أو وسائل التأثير الدولي) قد مكَّنت من معالجة هذه العلاقات على نحو متكامل ومتشابك في إطار مفهوم النسق System.
ويتعيَّن التنويه إلى أنه على الرغم من أن ذلك النسق قد تبلور منذ معاهدة وستفاليا (1648) واستمرَّ حتى نهاية الحرب العالميَّة الثانية، فإن دراستنا ستقتصر – في هذا القسم- على الفترة التي تبدأ من أوائل القرن التاسع عشر حيث بدأت العلاقات الدوليَّة بصورتها الراهنة تتبلور منذ ذلك الحين، ومع ذلك فقد تقتضي الأمور منا في بعض الأحيان الغوص في أغوار الفترة السابقة على القرن التاسع عشر؛ بغية الوقوف على بعض الوقائع التي يتطلَّب فهم أحداث لاحقة الإلمام بها.
القسم الثاني: العلاقات الدوليَّة في ظلِّ النسق الدولي ثنائي القوى القطبيَّة (1945-1991).
ونتناول فيه أبرز الأحداث الدوليَّة التي شهدتها الفترة المشار إليها، والتي تبدأ بانتهاء الحرب العالميَّة الثانية وتنتهي بانهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991، ذلك الانهيار الذي استتبع زوال الدول السوفيتيَّة وتفكُّك كتلتها، وترك مقاليد الأمور في الساحة الدوليَّة لقطب أوحد هو الولايات المتَّحدة.
وبطبيعة الحال فإننا سنذيِّل كتابنا هذا بإشارة إلى خصائص صورة توزيع القوى في العالم منذ تفكُّك الدولة السوفيتيَّة وحتى يومنا هذا، تلك الصورة التي درج علماء العلاقات الدوليَّة المعاصرون على الإشارة إليها بعبارة النظام العالمي الجديد، وما ارتبط بها من لفظة جديدة راحت تتداولها الألسنة ألا وهي لفظة: "العولمة".