إريك هوبسبوم *
ERIC HOBSBAWM
يمرّ العالم اليوم في حال لم يشهد لها مثيلاً من قبل حيث لا كثير من القواسم المشتركة بين الامبراطوريات العالمية البائدة، مثل الامبراطورية الاسبانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر وبنوع خاص الامبراطورية البريطانية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبين الامبراطورية الأميركية الحالية.
فالعولمة قد بلغت طوراً مستجداً على ثلاثة مستويات هي الترابط والتكنولوجيا والسياسة.
فبادىء ذي بدء بتنا اليوم نعيش في عالم مترابط الى درجة أن العمليات الجارية يتعلق بعضها ببعض وأن أي انقطاع قد يولد انعكاسات عالمية فورية. ولنأخذ مثلاً على ذلك وباء تزامن العوارض الحادة اللانمطية في الجهاز التنفسي (سارس) الذي يبدو أن مصدره المجهول عملياً هو على الأرجح من مكان ما في الصين، هذا الوباء اتخذ أبعاد الظاهرة العالمية. فتأثيره الذي أوقع خللاً في الشبكات العالمية للنقل كما في السياحة وكل أنواع المؤتمرات والمؤسسات الدولية وفي الأسواق العالمية وحتى في مجمل اقتصاد بعض الدول انعكس بسرعة ما كانت لتخطر في البال في أيٍ من العصور السابقة.
ثم أن هناك هذه السلطة الفائقة لتكنولوجيا في حالة ثورة مستمرة تفرض نفسها في المجال الاقتصادي كما في المجال العسكري بنوع خاص. وقد باتت السلطة السياسية على الصعيد العالمي تمسك بهذه التكنولوجيا على مستوى دولة واسعة الأرجاء جغرافياً. وهذا ما لم يكن في الحسبان من قبل. فبريطانيا العظمى التي سادت على الامبراطورية الأكبر مساحة في زمنها لم تكن سوى دولة متوسطة الحجم حتى وفق معايير القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وفي القرن السابع عشر، كان في امكان دولة مثل هولندا، ذات حجم شبيه بوضع سويسرا، أن تكون فاعلة على المستوى العالمي. لكن في العصر الحالي لا يمكن تصور دولة مهما كانت غنية ومتطورة تكنولوجياً تستطيع أن تصبح قوة عالمية إن لم تكن جبارة نسبياً.
وأخيراً، فإن السياسة في أيامنا هذه باتت تتسم بطابع على درجة من التعقيد. فعصرنا هذا لا يزال عصر الدول القومية، وهو العنصر الوحيد الذي يعوق سير نظام العولمة. لكن المقصود دولة ذات نمط خاص حيث الشعب العادي يلعب دوراً مهماً، وهذا، افتراضاً، وضع جميع الدول. ففي الماضي كان أصحاب القرار يحكمون من دون الالتفات كثيراً الى رأي غالبية السكان. ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان في امكان الحكومات أن تراهن على تجييش شعوبها، وأياً يكن فإنها حالياً مضطرة الى أن تأخذ في الاعتبار أكثر من ذي قبل برأي الشعب أو بما هو مستعد للقيام به.
وبخلاف المشروع الامبراطوري الأميركي، وهو المستجد في طبيعته، فإن كل القوى العظمى وكل الامبراطوريات كانت تدرك أنها ليست معزولة وأن ما من أحد يسعى الى السيطرة بمفرده على العالم. وما من أحد كان يرى نفسه في منأى عن الخطر، حتى حين كان الكل يعتبر نفسه مركز العالم، مثل الصين أو الامبراطورية الرومانية في عز قوتها. ففي نظام العلاقات الدولية الذي ساد العالم حتى نهاية الحرب الباردة كانت الهيمنة الاقليمية هي التي تشكل الخطر الأقصى. ويجب عدم الخلط بين إمكان الوصول الى مجمل الكرة الأرضية، التي تجسدت في العام 1492، وبين السيطرة الشاملة عليها.
فالامبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر كانت عملياً الدولة الشمولية الوحيدة، بمعنى انها كانت تمارس نفوذها على مجمل الكرة الأرضية، ومن وجهة النظر هذه هي تعتبر على الأرجح سابقة للامبراطورية الأميركية. وبالعكس، فإن الروس في العهد الشيوعي، الذي حلموا أيضاً بعالم جديد كانوا يدركون تماماً، وحتى عندما كان الاتحاد السوفياتي في أوج عظمته، أن السيطرة على العالم ليست في متناولهم، وبعكس الدعايات التي راجت إبان الحرب الباردة هم في الحقيقة لم يفكروا أبداُ في تحقيق ذلك.
غير أن الطموحات الأميركية الحالية تختلف كلياً عن الطموحات التي كانت لبريطانيا العظمى من حوالى قرن أو يزيد. فالولايات المتحدة تمثل دولة شاسعة الأطراف يعيش فيها الشعب الأكثر أهمية على الأرض حيث النمو السكاني في تزايد مطرد (بعكس الاتحاد الأوروبي) وذلك بفعل هجرة لا محدودة تقريباً اليها.
أضف الى ذلك أن هناك اختلافاً في الاسلوب. ففي عز ازدهارها كانت الامبراطورية البريطانية تحتل ربع مساحة الكرة الأرضية وتديرها [2] ، في حين أن الولايات المتحدة لم تمارس عملياً الاستعمار باستثناء حقبة قصيرة وذلك في فترة قيام نمط الامبريالية الاستعمارية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إذ انها اعتمدت بالاحرى على دول مرتبطة بها أو تدور في فلكها وخصوصاً في النصف الغربي من الكرة الأرضية حيث لم يكن عليها أن تخشى عملياً أي منافس لها. وبعكس بريطانيا العظمى فانها طورت في القرن العشرين سياستها القائمة على التدخل العسكري في هذه الدول.
وبما أن الذراع العسكرية للامبراطورية العالمية كانت في تلك الأزمنة قائمة على البحرية فإن الامبراطورية البريطانية عمدت الى السيطرة على قواعد بحرية وعلى مراكز ارتباط ذات أهمية استراتيجية في العالم أجمع. ولذلك فإن أسطولها اليونيون جاك كان يطوف البحار، ولا يزال، من مضيق جبل طارق الى جزر الفوكلاند مروراً بسانت إيلان. بينما الأميركيون لم يحتاجوا هذا النوع من القواعد خارج المحيط الهادىء الا بعد العام 1941، وقد أمّنوا ذلك لأنفسهم بالتوافق مع ما سمّي فعلاً في ذلك الوقت بـتحالف الارادات الطيبة. لكن الوضع الآن بات مختلفاً بالنسبة الى الولايات المتحدة، فهي تشعر بحاجتها الى أن تؤمّن لنفسها مباشرة عدداً كبيراً من القواعد العسكرية، مواصلةً في الوقت نفسه السيطرة على الدول بطريقة غير مباشرة.
وأخيراً هناك بعض الفروقات المهمة في بنية الدولة على الصعيد الداخلي وعلى صعيد الايديولوجيا. فهدف الامبراطورية البريطانية كان محض بريطانياً وليس شمولياً بالرغم من أن دعاتها قد ابتدعوا لها طبعاً دوافع أكثر اهتماماً بالغير. وهكذا نجد أن القضاء على نظام الرق استخدم كمبرر للقوة البحرية البريطانية تماماً كما يستخدم مبدأ حقوق الانسان في الغالب لتبرير القوة العسكرية الأميركية. وعلى غرار فرنسا وروسيا الثورة فإن الولايات المتحدة تمثل قوة عظمى قائمة على فكرة الثورة الشمولية تحركها، بحكم هذا الواقع، فكرتها القائلة بأن على سائر العالم أن يحتذي بها، وحتى أن عليها تحرير هذا العالم. وليس أخطر من امبراطوريات تدافع عن مصالحها الخاصة معتقدة أنها بذلك تقدم خدمة للانسانية جمعاء.
وفي أي حال، فإن الفرق الجوهري يكمن في أن الأمبراطورية البريطانية ـ وإن كانت اتخذت طابعاً شمولياً، اكثر حتى، في شكل ما، من الامبراطورية الأميركية المعاصرة، كونها قد تمتعت وحدها بالسيطرة على البحار أكثر مما سيطرت أي دولة أخرى في الأجواء ـ لم تسعَ الى الاستئثار بسلطة شاملة ولا حتى بسلطة عسكرية وسياسية على الأرض في مناطق مثل أوروبا أو أميركا. فلقد كانت الأمبراطورية تسعى لتأمين مصالح بريطانيا العظمى الأساسية، أي مصالحها الاقتصادية، عاملة قدر الامكان على عدم التدخل في شؤون الآخرين. وهي كانت على الدوام تدرك حدودها في مجال الحجم الجغرافي ومصادر الثروة. وبعد العام 1918 أدركت الامبراطورية الى حد بعيد أن نجمها الى أفول.
ومن جهة أخرى، فإن الامبراطورية العالمية التي أقامتها الأمة الصناعية الأولى في العالم قد عرفت كيف تعدّ العدة لنظام عولمة كان لنهضة الاقتصاد الانكليزي الفضل الكبير في تنميته. فهي مثلت نظام تجارة دولياً ارتبط بشكل أساسي، وبقدر ما كانت الصناعة تتطور في المركز، بتصدير الانتاج الصناعي الى الدول المتخلفة، مما سمح للندن مقابل ذلك، بأن تصبح السوق الأهم للمواد الأولية في العالم [3] . وبعد أن انكفأ دورها كمصنع للعالم أصبحت بريطانيا العظمى مركزاً للنظام المالي العالمي.
إلا أن هذا لا ينطبق على الاقتصاد الأميركي الذي يرتكز على حماية صناعات البلاد في وجه أي منافسة أجنبية في أسواقها الداخلية المتمتعة بطاقة ضخمة، هذا العامل الذي يبقى في أيامنا هذه عنصراً مهماً في السياسة الأميركية. لكن تراجع هذا الاقتصاد عن احتلال ما كان له من موقع مهيمن في العالم الصناعي المعاصر بات يشكل بالتحديد إحدى نقاط الضعف في الامبراطورية الأميركية في القرن الحادي والعشرين [4] . فالولايات المتحدة تستورد من سائر دول العالم كميات كبيرة من البضائع المصنعة مما يولد لدى أصحاب المصالح التجارية كما في اوساط الناخبين الأميركيين ردة فعل مطالبة بنظام الحماية. فقد قام نوع من التناقض بين إيديولوجيا العالم الخاضع لنظام التبادل الحر تحت الرعاية الأميركية من جهة، وبين المصالح السياسية لاطراف فاعلة في الولايات المتحدة تعرض هذه الايديولوجيا مصالحها للخطر، من جهة أخرى.
وإحدى وسائل حل هذه المشكلة تكمن في تنمية تجارة الأسلحة، وهي من الفوارق الأخرى بين الامبراطوريتين البريطانية والأميركية. فمنذ الحرب العالمية الثانية بنوع خاص بلغت عملية مراكمة الأسلحة في زمن السلم في الولايات المتحدة مستوى غريباً لا سابق له في التاريخ الحديث وهذا ما يفسر السيطرة التي يمارسها المركّب الصناعي العسكري الذي ندّد به الرئيس دوايت آيزنهاور في عصره. فخلال أربعين عاماً من الحرب الباردة كان المعسكران يتكلمان ويتصرفان وكأن الحرب قائمة فعلاً أو أنها على وشك الاندلاع. في حين أن الامبراطورية البريطانية كانت قد بلغت أوج ازدهارها خلال قرن من الزمن (1815 ـ 1914) لم يشهد أي حرب عالمية مهمة. وبالرغم من التفاوت الجلي بين القوتين الأميركية والسوفياتية فان حركة النمو هذه التي وسمت صناعة التسلح الأميركية قد تزايدت بشكل ملموس حتى قبل نهاية الحرب الباردة واستمرت بعدها.
وحركة التسلح هذه قد حوّلت الولايات المتحدة قوة مهيمنة في العالم الغربي. ففي مطلق الأحوال كان هذا التفوق يمارس على رأس تحالف حيث لا أحد بالتأكيد كان يتوهم في شأن الأهمية النسبية للشركاء. فقد قامت السلطة في واشنطن وليس في أي مكان آخر. ونوعاً ما كانت أوروبا تعترف وقتها بمنطق الامبراطورية الاميركية العالمية، وهذا ما يجعل واشنطن حالياً تسخط لأن امبراطوريتها وأهدافها لم تعد مقبولة فعلاً، إذ لم يعد هناك وجود لـتحالف الارادات الطيبة ذاك أن السياسة الأميركية الحالية هي الأقل شعبية بين كل السياسات التي مارستها أي حكومة أميركية وربما أي قوة عظمى أخرى.
وفي ما مضى كان الأميركيون يديرون هذه العلاقات وفق اللياقة التقليدية في العلاقات الدولية، مراعين الواقع الذي يضع الأوروبيين على خط المواجهة في المعركة مع الجيش السوفياتي، وهذا لا يعني أن التحالف لم يكن مشدوداً الى الولايات المتحدة إذ هو كان مرتهناً لتكنولوجيتها العسكرية. وعلى الدوام ظلت واشنطن بشكل منتظم معارضة لانشاء قوة مسلحة مستقلة في أوروبا. والخلاف القديم بين الأميركيين والفرنسيين والذي يعود الى عهد الجنرال ديغول، يعود في جذوره الى رفض باريس الاكتفاء بتحالف جامد والى رغبتها في الحفاظ على قدرات مستقلة بغية امتلاك تجهيزات عسكرية ذات تكنولوجيا عالية. وبالرغم من حالات التوتر الا أن التحالف ظل في أي حال يشكل فعلاً تحالف الارادات الطيبة.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة التي ليس لأي أمة كبرى أخرى أن تطمح اليها أو أن تتحداها. فاستعراض القوة هذا المفاجىء والغريب الوحشي والعدائي يصعب فهمه، كونه لا يتقاطع لا مع السياسة الامبراطورية المعهودة منذ زمن طويل والتي نفذت خلال الحرب الباردة ولا مع المصالح الاقتصادية الأميركية. فالسياسة التي سادت في واشنطن منذ زمن قريب تبدو خرقاء في نظر المراقبين الخارجيين الى درجة يصعب فيها إدراك اهدافها الحقيقية. فالواضح أن الأمر بالنسبة الى الذين يسيطرون كلياً أو أقله بنسبة النصف على مجرى القرارات في الولايات المتحدة يتعلق بتأكيد التفوق العالمي بواسطة القوة العسكرية غير أن الهدف من هذه الاستراتيجيا يبقى غامضاً.
فهل أن امام هذه السياسة فرصة للنجاح؟ يبدو أن العالم هو على درجة من التعقيد بما لا يسمح بسيطرة دولة واحدة. ولا ننسينّ أن الولايات المتحدة، وباستثناء التفوق العسكري، مرتهنة لموارد تنقص أو في طريقها الى النقصان. ومع أن اقتصادها عظيم الا ان الحيز الذي يحتله في الاقتصاد العالمي يتضاءل. ولذلك هي معرضة على المدى القصير كما على المدى الطويل، فلنتخيل مثلاً أن منظمة الدول المصدرة للنفط قررت غداً أن تسعّر برميل النفط باليورو بدلاً من الدولار…
ولا بد من الاستنتاج أن الأميركيين خلال السنة ونصف السنة الماضية قد ضحّوا بمعظم اوراق قوتهم السياسية، حتى وإن ظلوا يمسكون بالبعض منها. فبالتأكيد تستمر السيطرة الغالبة لثقافتهم وللغتهم الانكليزية، غير أن الميزة الرئيسة التي يملكونها في مشروعهم الامبراطوري تكمن في الناحية العسكرية. وعلى هذا الصعيد لا نظير للامبراطورية الأميركية ومن المحتمل أن تبقى هكذا في المدى المنظور. لكن هذه الميزة الحاسمة في الحروب المحصورة ليس بالضرورة أن تبقى كذلك في المطلق. لكن عملياً ما من دولة، ولا حتى الصين، تمتلك ما لدى الولايات المتحدة من هذا المستوى التكنولوجي، الا أنه يدب دائماً التفكير في حدود التفوق العسكري وحده وحسب.
ونظرياً ليس في نية الأميركيين طبعاً احتلال العالم أجمع، فهدف الولايات المتحدة أن تخوض الحرب لتنصّب حكومات صديقة لها وتعود الى ديارها. لكن الأمر لا ينجح بهذا الشكل. ففي القاموس العسكري شكلت حرب العراق نجاحاً باهراً. إلا أن إدارة بوش، المنشغلة بهذه الهدف وحسب، قد تغاضت عن الضرورات التي تفرض نفسها لدى احتلال دولة ما وادارتها وتعهدها، كما فعل البريطانيون في حالة الهند، نموذج الاستعمار الكلاسيكي. فـنموذج الديموقراطية الذي يريد الأميركيون تقديمه للعالم أجمع عبر العراق ليس فيه في الواقع أي من مواصفات النموذج. وإنه لمن باب الهلوسة الاعتقاد أن بإمكانهم تجاوز بعض الحلفاء الفعليين بين سائر الدول أو الاستغناء عن الدعم الحقيقي في الدول التي صار بامكانهم احتلالها عسكرياً (من دون ان يتمكنوا من إدارتها).
لقد قدمت الحرب على العراق مثالاً على نزق أصحاب القرار في واشنطن. فالعراق كان بمثابة دولة ساقطة عسكرياً لكنها رفضت أن تستسلم، ولقد كان هذا البلد من الضعف بحيث أنه كان من السهل إلحاق الهزيمة به. وقد شاءت الأقدار أن النفط كان من بين أوراق القوة التي امتلكها غير أن الهدف الأساسي من العملية قام على استعراض القوة عالمياً، مما يعني أن السياسة التي تحدث عنها المتطرفون في واشنطن، ومنها إعادة صياغة شاملة لمجمل الشرق الأوسط، لم تكن ذات معنى. فإن كانوا ينوون قلب النظام الملكي في السعودية فماذا سينصبون مكانه؟ ونحن ندرك أنهم إذا كانوا يخططون جدياً لتغيير المعطيات في المنطقة فليس أمامهم الا أمر واحد يقومون به وهو ممارسة الضغط على اسرائيل. وهذا ما فعله والد الرئيس جورج دبليو بوش في العام 1991 بعد حرب الخليج الأولى وليس خليفته في البيت الأبيض. وبدلاً من ذلك فان الادارة الحالية قضت على نظام علماني من اثنين في الشرق الأوسط وهو ما تحلم بالحاقه بالنظام الآخر.
والتبرير العلني لهذه المسيرة ينم عما فيها من خواء، فعبارات من نوع محور الشر أو خريطة الطريق، البعيدة كل البعد عن صياغة استراتيجيا، ليست سوى جمل جاهزة يفترض بها أن يكون لها تأثير في حد ذاتها. غير أن اللغة المستحدثة التي تتدفق على العالم منذ سنة ونصف سنة تكشف عن غياب السياسة الفعلية. فالسيد جورج دبليو بوش نفسه لا يمارس السياسة بل يلعب. ويقوم بعض السياسيين مثل السيدين ريتشارد بيرل وبول وولفوويتز بتقليد رامبو عندما يتحدثان سواء على الملأ أم في المجالس الخاصة. وكل ما يهم هو امر واحد: إظهار القوة الأميركية المطلقة وحسب. وتوضيحاً لذلك يجب أن نفهم أن في امكان الولايات المتحدة أن تجتاح أي دولة شرط ألا تكون كبيرة جداً وأن يتحقق النصر سريعاً. ولا يمكن اعتبار هذا استراتيجيا ولا أن نتوقع نجاح هذه السياسة.
وهناك خطر في أن تكون الانعكاسات خطيرة على أميركا. فعلى الصعيد الداخلي يمكن القول أن الدولة التي تسعى الى السيطرة على العالم وخصوصاً بالوسائل العسكرية، تقوم بمجازفة السقوط في العسكرة وهذا ما لا يحسن تقديره جدياً حتى الآن.
والدليل على ذلك هو عدم الاستقرار المسيطر حالياً على الشرق الأوسط بما هو أسوأ مما كان عليه منذ عشر سنوات. أو حتى خمس. فالسياسة الأميركية تضعف جميع الجهود الرامية الى إيجاد الحلول الممكنة، الرسمية منها وشبه الرسمية، من أجل الحفاظ على النظام. وهي قضت في أوروبا على منظمة حلف شمال الأطلسي، وإن كان هذا لا يشكل خسارة كبيرة، لكن المهزلة هي في محاولة تحويل الشرطة العسكرية العالمية الى خدمة الولايات المتحدة. ولقد تعمدت واشنطن ضرب الاتحاد الأوروبي كما تسعى بشكل منتظم الى إلغاء أحد أهم انجازات ما بعد الحرب العالمية الثانية أي الدولة الراعية، الديموقراطية والمزدهرة. وفي المقابل يبدو لي أن أزمة مصداقية الأمم المتحدة أقل خطورة، إذ إن هذه المنظمة لم تكن في يوم من الأيام قادرة على القيام بأي عمل غير هامشي كونها ترتهن كلياً لمجلس الأمن ولاستخدام الأميركيين حق النقض (الفيتو).
فكيف سيتمكن العالم من مواجهة الولايات المتحدة، أي بمعنى آخر استيعابها؟ طبعاً يرى البعض أنهم لا يملكون الوسائل للقيام بذلك ويفضلون بالتالي التحالف معها. والأكثر خطورة هم أولئك الذين يستهجنون الايديولوجيا التي يعمل بها البنتاغون لكنهم يدعمون المشروع الأميركي بذريعة أنه سيؤدي في النهاية الى القضاء على بعض المظالم المحلية والاقليمية. وهذا النوع من امبريالية حقوق الانسان قد استمد قوته من فشل أوروبا في دول البلقان خلال تسعينات القرن المنصرم. ففي النقاش العام حول حرب العراق، قلة من المفكرين النافذين، مثل مايكل إيغناتييف أو برنار كوشنير، دعت الى دعم التدخل الأميركي معتبرة أن من الضروري اللجوء الى القوة من أجل تسوية مآسي العالم. وطبعاً إن بعض الحكومات هي من الخطورة بما يجعل في القضاء عليها منفعة للعالم أجمع. لكن هذا لا يمكن أن يبرر الخطر الذي تمثله على مجمل العالم، قوة عالمية لا تهتم لعالم لا تفهمه ويسهل عليها في آنٍ واحد التدخل عسكرياً ضد أي طرف لا يعجبها.
وفي عمق الصورة نرى الضغط المتزايد على وسائل الاعلام، ففي عالم بات الرأي العام على هذا القدر من الأهمية تصبح هذه الوسائل عرضة لتلاعبات كبيرة [5] . ففي حرب الخليج (1990 ـ 1991( وتفادياً لتكرار الوضع في فييتنام حاولت فوى التحالف أن تمنع وسائل الاعلام من الاقتراب من ساحة المعركة، ولكن دون جدوى إذ انتشرت في بغداد وسائل إعلام مثل سي.أن.أن لتغطية الأحداث بشكل مختلف عما كانت تتمناه واشنطن. وبالعكس فخلال حرب العراق ألحق بعض الصحافيين بالقوات على الأرض بغية التأثير على رؤيتهم للأمور بشكل أفضل. لكن شيئاً من ذلك لم ينجح فعلاً. وبالتأكيد ستكون هناك مستقبلاً محاولات لإيجاد وسائل سيطرة أكثر فعالية، وربما مباشرة، وفقاً لآخر التطورات التكنولوجية. وهذا لا ينفي ان التواطؤ بين الحكومات وأصحاب احتكارات الاتصالات يسعى الى مزيد من الفعالية على غرار محطة فوكس نيوز في الولايات المتحدة [6] أو امبراطورية السيد سيلفيو برلوسكوني في إيطاليا.
ومن المستحيل التنبؤ كم من الوقت سيدوم التفوق الأميركي، لكن الأمر الوحيد الذي نحن متأكدون منه كلياً هو أن في الأمر ظاهرة موقتة في التاريخ كما كانت جميع الامبراطوريات. ففي مدى حياتنا فقط شهدنا سقوط جميع الامبراطوريات الاستعمارية وامبراطورية الألف عام المزعومة لدى هتلر والتي لم تدم الا اثني عشر عاماً وسقوط الحلم السوفياتي بالثورة الاممية.
والامبراطورية الأميركية قد تسقط لأسباب داخلية، والأكثر الحاحاً منها هو كون الامبريالية، بمعنى السيطرة على العالم وإدارته، لا تثير اهتمام معظم الاميركيين الملتفتين بالأحرى الى ما يحدث داخل الولايات المتحدة. فالاقتصاد هو على درجة من الوهن ما سيحمل الحكومة والناخبين الأميركيين يوماً على اتخاذ قرار بأن من الأهم الانكباب على هذا الأمر بدلاً من خوض المغامرات في الخارج [7] . أضف الى ذلك أنه، وكما يحدث حالياً، سوف يكون على الأميركيين انفسهم أن يمولوا جزءاً كبيراً من هذه التدخلات الخارجية، وهذا ما لم يحدث لا في حرب الخليج ولا الى حد كبير إبان الحرب الباردة.
ومنذ العامين 1997 ـ 1998 يمر الاقتصاد الرأسمالي العالمي في أزمة. وهو بالتأكيد لن ينهار لكن ليس من المعقول أن تستمر الولايات المتحدة في خوض سياسة خارجية طموحة إذا ما طرحت بعض المسائل الخطيرة على الصعيد الداخلي. فسياسة السيد جورج دبليو بوش الاقتصادية الوطنية لا تستجيب حكماً المصالح الداخلية أكثر، ولا سياسته الدولية تتميز حكماً بالعقلانية حتى من ناحية المصالح الامبراطورية الأميركية ولا مصالح الرأسمالية الأميركية بالتأكيد. ومن هنا تباين وجهات النظر داخل حكومته.
والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه الان هو معرفة ما سيفعله الأميركيون الآن وكيف ستكون ردة فعل سائر الدول. فهل أن البعض، مثل بريطانيا، العضو الوحيد عملياً في التحالف السائد، ستمضي قدماً وتدعم أي مشروع تنهض به واشنطن؟ فيجب ان يصدر عن الدول ما يبين أن هناك حدوداً للنفوذ الأميركي. فحتى الآن، تركيا وحدها هي التي ساهمت في هذا الاتجاه بالشكل الأكثر إيجابية وذلك عندما اكدت بكل بساطة أنها غير مستعدة لاتخاذ بعض القرارات رغم علمها أن هذه القرارات كانت لتعود عليها بالفائدة.
والهدف الرئيس في الوقت الحالي، إن لم يكن استيعاب الولايات المتحدة، إنما هو تهذيبها أو إعادة تهذيبها. ففي زمن مضى كانت الولايات المتحدة تعرف حدودها، أو على الأقل كانت تدرك ما تحققه من المصالح لو تصرفت وكأنها تعرف حدودها، وكان هذا عائداً في جزء كبير منه الى الخوف من الآخر، مثل الاتحاد السوفياتي. أما الآن وقد زالت تلك المخاوف فان إدراكها فعلاً مصلحتها وتهذيبها هما البديل الممكن.
(حديث اجرته فكتوريا بريتن)