منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#49657
انضم تاريخ عام 1899 في الذكرى المائة لصدور كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" إلى قائمة الأعياد المقدسة في التقويم العلماني العام بعد مرور مرحلة طويلة من التطويب وصولاً إلى رتبة القداسة , كما تفعل الكنيسة الكاثوليكية وغيرها مع قدِّيسيها , وتميَّز وصول قاسم أمين أو كتابه إلى رتبة القديسين العلمانيين بوجود أصوات منشقة في النسويات المغاليات , تستنكر أن يكون محرر المرأة الأول رجلاً , وتعتبر استمرار تقديس قاسم أمين ، أو كتابه استمراراً للنزعات الأبوية المتسلطة الرجعية .



كذلك تميز العيد العلماني بظاهرة لا نجدها كثيراً في الأعياد الدينية , وهي أن الاحتفاء بمؤسس العقيدة لم يشمل ترتيل وإنشاد كتابه المقدس ووحيه إلى البشر الفانين الخاطئين (البشر الرجال فقط !) , ربما لأن المحتفلين وجدوا أن ترتيل هذا الكتاب المقدس سيفضح مدى قدم وبلى فكر وأسلوب صاحب العيد , مقارنة بالتطور الكبير الذي لحق بالمذهب منذ تأسيسه , والحق أن أحد الجوانب التي نادراً ما تُبحث في خضم الكلام الكثير حول قاسم أمين وفكره وحركة تحرير المرأة - التي يفترض أنه مؤسسها - هو تطور وتحول وتبدل وتنوع , بل وتناقض وتضارب الكم الهائل من المقولات والأفكار والدعوات التي تدرج عادة تحت مسمى ديني تحرير المرأة العلماني , لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر - كما يقول المثل المبتذل - منذ نشر "تحرير المرأة" وبهتت خلال مائة عام صورة الكاتب الليبرالي البورجوازي الذي يجلس وسط أثاث وأفكار القرن التاسع عشر (المستورد كله - الخشب والقيم) ؛ ليحرر المرأة المصرية أو المسلمة (لم تكن المرأة العربية وُلدت بالطبع وبالتأكيد لم توجد في فكر قاسم أمين الكردي الأصل فيما يقال) , وحلت محلها الآن صورة "النسوية" الثائرة التي تجلس وسط أثاث وأفكار القرن العشرين (المستورد كله - الألمنيوم والشعارات) لتحرر المرأة المصرية والعربية , مدعومة بأموال الهيئات "الخيرية" والكنيسة والحكومية الأوروبية الأمريكية , والفارق ليس في أن قاسم أمين كان ليبرالياً وبورجوازياً بينما لم تكن خليفاته بعد قرن كذلك (فهن أكثر بورجوازية وإن كن أقل ليبرالية بكثير) , أو لكن الفارق هو في الدعم المالي والشيكات الأوروبية الصريحة .

وإذا جاز أن نختزل التطور الحادث على مدى قرن في عبارة واحدة , نستبق بها أطروحة هذه المقالة لقلنا إن التطور منذ نزول الوحي - وسط غرف القرن التاسع عشر المكدسة بالأثاث - وحتى الإعلان الرسمي عن التطويب كان تطوراً من خطاب التحرير إلى خطاب وممارسة القمع من جانب المؤمنين بكنيسة "التحرير النسائي" ودولتهم , والقضية الحقيقية ليست فيما قاله قاسم أمين أو لم يقله - على الرغم من أنه "صاحب الفرح" حسب التعبير العامي - لكنها في مسار خطاب معين من حالة إلى حالة , أو حالات أخرى تحت تأثير عوامل وقوى مختلفة ليقدم لنا حالة كلاسيكية من حالات تفاعل الخطاب مع المجتمع , كما بحثها المفكرون الأوروبيون المحاصرون من أمثال ميشيل فوكوه وغيره .

وُلد خطاب "تحرير المرأة" - ولا يهم إن كان قاسم أمين هو الذي بدأه أم غيره ؛ فهذه قد تكون في نهاية الأمر مصادفة تاريخية غير ذات مغزى - في مصر في اللحظة التي كان يجب أن يولد فيها ؛ فذلك هو عصر أَوْرَبَة أو تغريب مصر والعالم الإسلامي وعصر العلمنة المستندة إلى الفكر الغربي السائد في تلك الفترة , وهو الليبرالية البورجوازية "المستنيرة والتقدمية والعلمانية" بأصواتها النفعية والبراغماتية والديموقراطية الاجتماعية , و"تحرير المرأة" أو "انعتاق المرأة" يمثل أحد دعائم هذا الفكر الغربي منذ مطلع القرن التاسع عشر , إما بصورة بارزة ورئيسية منذ أيام ماري جوردين أو بصور فرعية تابعة للمذهب الفكري الرئيسي عند بنتام أو سبنسر أو إنجلز مثلاً , وتحرير وانعتاق المرأة - كما يسمى - نجده في حركة حق الاقتراع عالية الصوت , واسعة الانتشار , كما نجده في مشروعات الاشتراكيات الطوباوية وغير الطوباوية وحركات "إصلاح" أوضاع المرأة القانونية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية , وتحرير المرأة في إطار الفكر الليبرالي البورجوازي العلماني الغربي له مكانته في مشروع ذلك الفكر لمراجعة وتنقيح "القديم" و"الرجعي" و"المتخلف" و"الديني" و"التقليدي" , وكلها أعداؤه المألوفون , تحرير المرأة له مكانة في المشروع الليبرالي لمراجعة التاريخ الأوروبي الغربي سعياً وراء التقدم والكمال البشري , وهي أهدافه المشهورة في القرن التاسع عشر , وهو تحقيق لأركان المساواة والفردية والارتقاء التي تعد أعمدة الليبرالية وأسسها الكبرى , والعدو الذي يتصدى "تحرير المرأة" له هو الدين (المسيحي) والتقاليد والتراث والتاريخ التي يفترض أنها تستعبد وتُخضع المرأة , وتحرير المرأة في الفكر الليبرالي العلماني عملية فكرية اجتماعية قانونية تعليمية بحتة - بجانب ناحية حق الاقتراع للنساء - لا تتجاوز ذلك إلى طرح أسس وأركان المجتمع البورجوازي الرأسمالي العلماني للتساؤل والتشكك أو إلى طرح فكرة الثورة النسائية الشاملة ؛ فتلك كانت تطورات لاحقة على ذلك الفكر .

كانت دعوة قاسم أمين إذن - أو غيره - طبيعية أو حتمية في ظل حالة العلمنة والتغريب العاتية التي خضع لها المجتمع المصري , صحيح أن التغيرات والتعديلات المناسبة قد أُدخلت كما ينبغي ؛ فالعدو الآن الذي يجب تحرير المرأة منه - هو الدين (الإسلامي) أو "التفسيرات الخاطئة" له حسب التعبير الذي أصبح مألوفاً لطرحه على سبيل التَّقِيَّة , ومعه التراث والعادات والتقاليد والتاريخ (وكلها ليست بريئة بالطبع) , والهدف هو "الإصلاح" وصولاً إلى أهداف التقدم والاستنارة العقلانية العلمانية والمساواة .. الخ والتي أصبحت - بعد فترة وعلى سبيل التقية كذلك - توصف بأنها هي "صحيح الإسلام" أو "روح الدين" أو "مقاصد الشريعة" وما شابه , وفي تلك المرحلة - ولعلها هي العهد المكي لوحي تحرير المرأة - كان الطرح "إصلاحياً" في إطار تعديل القوانين والحث على تعليم المرأة وتحسين النظرة إليها والدعوة لفك ما وصف بأنه القيود الموضوعة على عمليات التفاعل الاجتماعي (الاختلاط , العمل , الاشتغال بالأمور العامة) أو تخفيفها , ولم يكن ذلك الطرح الاجتماعي الإصلاحي ذو الحدود استجابة فقط لظروف الأوضاع والحساسيات الدينية في تلك الفترة , وإنما كان أيضاً نقلاً أميناً لمستوى ومدى طرح قضية تحرير المرأة في إطار الفكر الليبرالي العلماني وتفريعاته .

كان من المحتم - إذن - أن يُطرح دين أو مذهب تحرير المرأة في سياق العلمنة والتغريب للمجتمع المصري على الصورة التي طرحه بها قاسم أمين كصوت أو قناع أو حامل لذلك المكون من الفكر الغربي , وهذه هي بداية الخطاب ونهايته كذلك , نقْل أمين يسير مع مسارات تطور "الفكر الأم" في الغرب , ويطرح شعاراتها , ويهتم بهمومها , ويتخذ أهدافها , ويتنوع , ويتغير مع تنوعها وتغيرها ويتسع ويضيق ويعلو ويهبط مع حركاتها ؛ ذلك هو خطاب التحرير .

لكن خطاب التحرير بدعواته الملحة للتحرر والانعتاق والخلاص وفك القيود وإزالة العوائق وفتح الآفاق .. الخ - كان ينطوي منذ البداية على مفارقة جعلته وهو يكمل المائة عام , ويصل إلى مرتبة التكريس والتقديس الديني العلماني الكامل - عُرضة للتحوُّل بكل معاني الكلمة إلى نقيض التحرير وهو القمع , وهذه المفارقة هي توجهه الكامل إلى النساء دون الرجال (نصف المجتمع !) , ومعاداته للدين في تقليد أمين للفكر الأم في الغرب .

إن الاشتباك مع الدين (الإسلام) جاء لا لأن الإسلام يعادي أو يقمع المرأة , ولكن لأن النبع الأم كان يعادي الدين (المسيحية) في الغرب انطلاقاً من علمانية الفكر الليبرالي البورجوازي , صحيح أنه كان هناك حديث - على استحياء في أحيان كثيرة - حول التفسير الفاسد للدين الذي يطغى على التفسير "الصحيح" (الذي يفترض أن العلمانيين وحدهم قد أُوتوا مفاتحه !) , وصحيح أن الكثير من الشعارات التحريرية النسائية مثل تعليم وتكريم وعمل وتفاعل المرأة مع المجتمع وإصلاح التقاليد والعادات الموروثة .. الخ - كانت بسهولة تندرج تحت المسموح بل المرغوب والواجب الديني لو جرِّدت من السياقات العلمانية التغريبية التي وُضعت فيها (على سبيل التعمية في أحيان) , ولكن من الصحيح كذلك أن دعوة تحرير المرأة كدعوة أو تيار أو مذهب أو فكرة أو برنامج - سَمِّها ما شئت - لم تضع نفسها منذ البداية وخلال تطوراتها داخل السياق الإسلامي وهو السياق الوطني والثقافي الذي تنشط داخله , بل رأت نفسها أو رأى لها البعض أنها داخل عملية العلمنة والتغريب التي وُصفت بألقاب التحديث والعصرنة والاستنارة والتقدم وما إلى ذلك , وكان أن سارت تلك الحركة كمكون أساسي في عملية العلمنة والتغريب وكأحد أسلحتها الرئيسية في مواجهة الإسلام والفكر الديني , بل لقد غلب هذا الطابع الأداتي في معظم الأحيان على سلوك وخطاب الحركة مما أوصلنا في نهاية المطاف - ومع اكتمال قرن التطويب لقاسم أمين - إلى أن يصبح خطاباً للقمع , قمع الرجال وقمع المجتمع المسلم على يد التيار العلماني التغريبي العام , الذي أصبح الآن ينتحل أسماءً براقة لترويج بضاعته من العولمة إلى القرن الواحد والعشرين .

والمشكلة تكمن في التوجه الأصيل لفكر تحرير المرأة الغربي ضد التغيير الثوري الواسع النطاق للمجتمع الليبرالي البورجوازي الرأسمالي , وقصرها "للتحرير" والتغير الراديكالي على مكون واحد هو المرأة مع الإغفال التام بل والعداء للمكون الآخر - الرجال (نصف المجتمع !) , إنها حركة عرجاء تلك التي تنطلق من مسلَّمات عاطفية غوغائية (وذلك باسم العقلانية !) , حول الاضطهاد الأزلي للنساء كنوع من جانب الرجال كنوع , ثم تصل من ذلك إلى برنامج "ثوري" لإصلاح تلك الأوضاع الاضطهادية مع تثبيت سائر أحوال المجتمع سياسية واقتصادية أو طبقية على ما كانت هي عليه , أي على النموذج الليبرالي البورجوازي الرأسمالي , ومن البدهي أن حركة كتلك - في الغرب وفي الشرق على حد سواء بل في الشرق بالأكثر - تكون موضع ترحيب وتحبيذ بل وتشجيع وخلق من العدم لدى كل السلطات القائمة من الملكية إلى الجمهورية وما بينهما وما بعدهما , وبالذات للدكتاتوريات والأنظمة الطاغوتية ؛ لأنها توجه طاقة التغير الثوري التي تضطرم بها العقول والمجتمعات , لا إلى تلك الطاغوتيات , وإنما إلى عنصر الرجال وحدهم داخل وخارج مؤسسة الزواج والأسرة (بل داخلها على وجه التحديد) , ولا توجه تلك الطاقة إلى تغيير أوضاع القهر والقمع السلطوي .