منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#49667
السياسة الخارجية للدولة الإسلامية :
من الأمور الشائكة أيضا في الفكر السياسي الإسلامي علاقة الدولة الإسلامية بالدول والشعوب الأخرى سواء كانت نصرانية أو يهودية أو مجوسية .... أو حتى علمانية .
وهل سيكون العالم مقسم بين دار حرب – دار عهد – دار إسلام وفق التقسيم القديم ؟
و كيف ستتعامل هذه الدولة مع القوانين و الاتفاقات الدولية المعاصرة ،وكيف سيكون موقفها تجاه المنظمات الدولية( الأمم المتحدة ، مجلس الأمن ، المحكمة الدولية .... ) ؟ .
للإجابة على هذه الأسئلة وتوضيح هذه الإشكالات لا بدا من معرفة الأصول والمبادئ الأساسية التي جاء بها الإسلام في مجال العلاقات الدولية في وعلاقة المسلمين بغيرهم .
-أصول العلاقات الإسلامية في الإسلام :
وضح القرآن الكريم في كثير من آياته العلاقات بين الأمم والشعوب على أنها علاقة تعارف ،و تلاقح للثقافات و الأفكار و ليست علاقة تحارب وتناحر كما يظنها البعض ، يقول تعالى : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأثنى وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " .
كما أقر الإسلام سنة التدافع بين الدول و الحضارات ,وهذا التدافع ليس هكذا بدون هدف وليس غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة لمنع الطغيان على الأرض. يقول تعالى : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين " .
فسنة التدافع هنا كما بينها ربنا جل وعلا هي لمنع الإفساد في الأرض لأنه لو انفرد ت دولة واحدة وحضارة واحدة على سيادة العالم لمدة طويلة لتجبرت وأفسدت في الأرض حتى تأتي دولة و حضارة أخرى تدفعها عن هذا الظلم و الطغيان.... و هكذا .
ويقول ربنا جل وعلا في سورة الحج : " و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع و صلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ..."
فلو عرفنا الركائز و الأصول الأساسية للدين الإسلامي التي يتجاهلها البعض لاتضحت علاقة المسلمين بغيرهم من الشعوب ... فالدين الإسلامي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ووصف نفسه في كثير من الآيات القرآنية بأنه رحمة للعالمين و أنه هداية للناس كافة ,و نور تتضح به سبل الحياة.
يقول تعالى " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " .
ويقول"..... شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى والفرقان....." .
ويقول" يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا " .
فكيف لدين هذه صفاته و معالمه الأساسية أن يأمر بالعنف و الحروب كما يظن البعض .
فالأساس و الأصل في الإسلام هو السلم و الأمن بينما القتال و الحرب فهو للضرورة فقط .
ربما يتساءل أحد : فما بال تلك الآيات التي جاءت في القرآن تأمر بالقتال و تحرض عليه من قبيل :
قوله تعالى " قاتلوهم حتى لا تكون فتنة " .
" و قاتلوا المشركين كافة " ز
" كتب عليكم القتال و هو كره لكم" .
و للإجابة على هذا السؤال يجب أن لا نتخذ القرآن عضين (أجزاء) ، يجب أن نأخذ موضوع القتال و الحرب في القرآن الكريم من كل جوانبه مراعيين في ذلك المحكم منها و المتشابه و هذا في جميع مواضيع القرآن الكريم ....يجب أن نرد دائما المتشابه إلى المحكم و لو لم نفعل هذا لوقعنا في إشكالات كبيرة وكثيرة... هذه القاعدة ليست بدعة ابتدعها علماء التفسير و إنما هو أصل وضعه القرآن الكريم نفسه حيث يقول ربنا جل و علا في سورة أل عمران {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخرى متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله ...."
فمن الآيات المحكمة التي تتكلم عن العلاقات الدولية إضافة إلى ما ذكرناه من قبيل :
قوله تعالى " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
" و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا .... "
" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" .
" لا ينهاكم الله على الذين لم يقاتلوكم في الدين و يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين "
وآيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم تؤكد لنا أن السلم و الأمن هو الأساس في علاقات المسلمين بغيرهم و الحرب و القتال ما هو إلا شيء عارض و ضرورة لا بد منها .
-إذن ..... فما هو الجهاد ؟ :
هناك خلط كبير عند النخبة الإسلامية بين مفهوم الجهاد الذي جعله بعض الأئمة ركنا سادسا من أركان الإسلام الخمس و بين القتال الذي شرعه الإسلام في بعض الحالات الاستثنائية فقط .
لقد ذكر الجهاد بهذا اللفظ في آيات كثيرة من القرآن الكريم من قبيل :
يقول تعالى : " وجاهدوا في الله حق جهاده "
" لا يستوي المجاهدون و القاعدون".
" و جاهدهم به جهادا كبيرا "
" و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبيلنا "
و ذكر القتال أيضا بهذا اللفظ في عدة آيات قرآنية من قبيل :
" و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"
" و اقتلوهم حيث ثقفتموهم"
ونعلم أن القرآن الكريم دقيق جدا في استعمال ألفاظ اللغة العربية فهذه اللغة التي تفرق بين ( جلس) و ( قعد) فالقعود فهو من الوقوف أما الجلوس فهو من الاتكاء كما يقول اللغويون و بين ( خشي) و ( خاف) فالخشية في اللغة هي الخوف مع التعظيم ,أما الخوف فقد يكون من شيء حقير و لا يستحق التعظيم حيث يقول تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء "...فمن البلاغة أن تقول –أنا أخاف من الثعبان ولا تقو أنا أخشى الثعبان .
فكيف للغة كهذه أن لا تفرق بين ( جاهد ) و ( قاتل) ، فالقتال ليس هو الجهاد إنما هو جزء وفرع من الجهاد فالجهاد أوسع مفهوما واشمل مضمونا من القتال .
-الجهاد :هو بذل المسلم لجهده في سبيل إعلاء كلمة الله ، و قد يكون هذا البذل بقوله أو بفعله أو بقلبه .
أما القتال :فهو المواجهة العسكرية مع العدو و قد شرعت في حالات ضيقة و هي:
عند التعرض للاعتداء من أي قوة خارجية : عند التعرض الدولة الإسلامية لأي اعتداء من أي جهة أو قوة خارجية وجب عليها رد هذا الاعتداء بالقتال و المجابهة العسكرية .
يقول تعالى " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " . فانظر إلى دقة الأمر القرآني الذي أمر بقتال العدو و مجابهته عسكريا دون الاعتداء عليه لأن الاعتداء ليس من شيم القرآن .
-عند حصول غزو من قوة خارجية : عند تعرض الدولة الإسلامية إلى غزو من أي جهة خارجية وجب على أفرادها مقاتلة هذا الغازي حتى يخرج عن أراضيها حيث يقول الله تعالى :" أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم ..." .
-من أجل المستضعفين :عند تعرض أي دولة أو شعب حتى ولو كان غير مسلم من اعتداء من دولة غاشمة أو ظالمة وجب على الدولة الإسلامية أن تنصر هذا الشعب المستضعف حيث يقول تعالى : " ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال و النساء الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ... " .
هذه هي الحالات التي شرع فيها الإسلام القتال بل وأمر به .
دون أن نغفل عن بعض الحالات التي تكلمت عن نقض المشركين واليهود عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت عدة آيات تحث النبي وتحرض المؤمنين على قتالهم كآيات سورة التوبة حيث يقول تعالى : " براءة من الله إلى رسوله إلى الذين عهدتم من المشركين ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .. "
" فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ..."
فكل الآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لتبيان الموقف تجاه حالة أوجهة ما ,يجب أن تفهم وفق المناسبة و الحالة التي نزلت فيها و هذا ليس إلغاء لهذه الآيات فالقرآن الكريم لكل زمان ومكان بل هذه الحالات تستنبط منها القواعد و المبادئ التي تبنى عليها سياسة الدولة الإسلامية وهي لن تخرج عن المبادئ و الأصول الأساسية في الإسلام ، مثلا كالآية التي يسميها البعض آية السيف : " و قاتلوا المشركين كافة ..." ،ثم نعممها فهذا لا يصح ولكن يجب أن نفهم منا سبة نزول هذه الآية ثم نفهمها وفق أساسيات الإسلام ومبادئه الكبرى فالقرآن لم يأمر بقتال المشركين أو قتال اليهود أو قتال الكفار بسبب كفرهم و إنما أمر بقتالهم لأسباب سياسية كنقضهم عهودهم أو تآمرهم على الدولة الإسلامية وإنما القاعدة الأساسية في الإسلام هي :
" لا إكراه في الدين " ،
" تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " ،
" فمن شاء فليكفر ومن شاء فليؤمن " .
أما قضية هل الجهاد في الإسلام هجومي أم دفاعي هذه المشكلة التي أسالت حبرا كثيرا في القديم و الحديث فمن قال أن الجهاد في الإسلام هجومي ويجب غزو دار الكفر على الأقل مرة كل سنة ارتكز على مجموعة من الآيات و بعض الغزوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم لإثبات هذا أما الذين قالوا بأن الجهاد في الإسلام دفاعي و أن جل الغزوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه و سلم إنما هي للدفاع عن الإسلام و إنه لم يبدأ الكفار و المشركين بالقتال أبدا، و نحن لن نخوض في هذه الإشكالية و إنما سنقول إن الجهاد بمفهوم الذي ذكرناه وهو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله على الأرض و جعل الدولة و الحضارة الإسلامية هي الحضارة السائدة في العالم و إيصال هذا الدين إلى كل سكان المعمورة فالجهاد بهذا المفهوم هو هجومي و واجب على كل أفراد الدولة الإسلامية ولكن دون القتال و الإكراه الذي ترفضه بل تحرمه الشريعة الإسلامية كما وضحنا سالفا ، فمن جهاد النفس بتطهيرها و تهذيبها " فقد أفلح من زكاها و قد خاب من دسها " . إلى الجهاد الاجتماعي الذي يسعى إلى تحقيق المجتمع المثالي " وجاهدوا في الله حق جهاد هو الذي اجتباكم و ما جعل عليكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " ، " و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبيلنا" . إلى جهاد الكفار و المخالفين في الدين لإقناعهم بالحجج الإسلامية " و جاهدهم به جهادا كبيرا" ، " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا ".
أما الجهاد بمعناه الجزئي ( القتال و المواجهة العسكرية) فهو دفاعي و لم يشرع إلا للحالات الثلاثة السالفة الذكر .
-موقف الدولة الإسلامية من المنظمات الدولية و القانون الدولي:
ان جل المنظمات الدولية تدعو وفق مواثيقها و مبادئها إلى تحقيق التعاون و إرساء الأمن و السلم في العالم هذا على الأقل في مبادئها .
فمثلا منظمة الأمم المتحدة التي أنشأت بعد الحرب العالمية الثانية في مؤتمر فرانسيسكو 1945 جاء في افتتاحية ميثاق المنظمة ما يلي :
إن هدف الأمم المتحدة أن تنقذ الأجيال من محنة الحرب وان تؤكد من جديد الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية و بكرامته الشخصية و احترام الالتزامات الناشئة من المعاهدات و المصادر الأخرى للقانون الدولي و السعي إلى زيادة التقدم الاجتماعي و رفع مستوى الحياة في إطار مزيد من الحرية .
ويمكن تلخيص أهداف هذه المنظمة في النقاط التالية:
-الحفاظ على الأمن و السلام في العالم .
-تامين حقوق الشعوب و حرياتها في تقرير مصيرها .
-تنمية العلاقات الودية بين دول العالم .
-تبادل العون الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي بين الأمم .
-التأكيد و العمل على احترام حقوق الإنسان من دون أي تمييز بسبب الجنس أو العرف أو الدين أو اللغة .
هذه أهداف المنظمة كما تقول مبادئها و مواثيقها التي أنشئت بها .
و نحن نقول أن هذا لا يخالف الإسلام وانما هي من أصول العلاقات الدولية في الإسلام ، و لكن مشكلتنا مع هذه المنظمات هو الاستغلال السياسي للدول الكبرى لها و خاصة مجلس الأمن الذي أصبح عصا في يد الدول الكبرى المالكة لحق الفيتو الذي يعارض أصول ومبادئ الأمم المتحدة نفسها التي تدعو إلى تحقيق المساواة بين الدول .
و بالتالي فالدولة الإسلامية ستتعامل مع هذه المنظمات وفق حلف الفضول الذي أنشئ في الجاهلية بين بعض القبائل العربية وقال فيه الرسول صلى الله عليه و سلم : " ولو دعيت به في الإسلام لأجبت " .
ونحن سنجيب دعوة كل منظمة تدعو إلى تحقيق السلم و الأمن في العالم مراعين في ذلك الضعف الذي نعانيه في ظل سيطرة قوى ظالمة تجاوزت حد الطغيان في الظلم..