المثقف والسلطة ـــ د.عبد الله أبو هيف
1ـ سلطة المثقف التقني:
جرى الاهتمام بالمثقفين العرب مع شيوع الأنماط الاستهلاكية في الحياة العربية المعاصرة مترافقة مع هبات النفط من جهة، ومع زيادة النهب الاستعماري للمنطقة العربية بأشكال جديدة من جهة ثانية، لسيرورة هذه التوجهات، فظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة ممارسات وظيفية للمثقف العربي لم تكن معروفة من قبل بهذا الاتساع وبهذا العمق كمفهوم الوزارات التكنوقراطية أو مفهوم المستشارين أو مفهوم كتبة السلطان، مما أعاد إلى الأذهان قضايا في منتهى الخطورة على ساحة العمل السياسي والثقافي العربي مثل حدود الدولة ومسائل إنتاج المجتمع أو بنائه أو مسائل الأمة والطبقة والشعب في الممارسة السياسية والثقافية العربية ومثل مسائل الإعلام وصلاته بالنظم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والقانونية.
ولا يماري أحد اليوم في مدى سطوة الإعلام على هذه المسائل كلها، فالإعلام لا يحاصر الثقافة الأصيلة والحية فحسب، بل يقولب الوعي وفق توجيهات السلطة التي تملك وسائل الإعلام، وثمة دراسات وأبحاث كثيرة خلال هذه العقود الثلاثة عن تزييف الوعي بتأثير إعلام يضيق خطابه السياسي والثقافي والاجتماعي إلى حدود مرحلة خانقة هي غالباً صدى مباشر للحدث السياسي الذي يتبدل بسرعة، هذا إذا افترضنا نوعاً من استقلالية وسائل الإعلام والتحكم القطري في أساليب عملها، فكيف إذا أمعنا النظر والتأمل في قضية خطيرة هي تبعية الإعلام للغرب الذي لم تعد تنفع معه محاولات الرقابة أو التشويش أو التقييد على البث أو مصادرة البرامج والأفلام التي لا ترضى عنها السلطة المالكة لوسائل الإعلام في ظل التطور التقني الهائل لتصنيع المواد الإعلامية وانتقالها، وهي ما تزال حتى الآن حكراً على المؤسسات الرأسمالية الكبيرة، وعلى رأسها الشركات الأميركية والبريطانية والفرنسية مرتبة حسب قوتها، وهكذا اضطر المثقفون العرب إلى الانخراط في آلة الإعلام على حساب الثقافة، فخصصوا غالبية إبداعهم أو حصروه في حاجات وسائل الإعلام، فصارت الكتابة خاضعة للعرض والطلب في سوق الثقافة تلبية لمتطلبات وسائل الإعلام، وقد تصدر وجوه الثقافة في المجتمع كتّاب الأغاني والمسلسلات التجارية وعروض المسرح الهابط والبرامج والأفلام التي تنمي النزوع الاستهلاكي بالدرجة الأولى. وفي آخر الإحصاءات، يظهر طلال حيدر، وهو شاعر أغنية بالعامية اللبنانية، وأسامة أنور عكاشة، وهو كاتب المسلسلات الشهير، نجمي ثقافة في الصدارة، أما نجيب محفوظ فيبدو نجماً بما قدم له من أعمال في وسائل الإعلام لا بما يقرأ له الناس، واشتهر صالح مرسي، وهو الروائي المصري الذي اشتهر من خلال مسلسل رأفت الهجان، وقد عرض ذلك المسلسل حالة نادرة من الاختراق العربي للكيان الإسرائيلي، وكان عدد كبير من المثقفين حاضرين في اللقاء معه(1)، مسرحيين وروائيين ونقاداً. وجرى نقاش حول إعداد رأفت الهجان للتلفزة، فاكتشف صالح مرسي أن غالبية هؤلاء المثقفين لم يقرأوا الرواية، واكتفوا بمشاهدة المسلسل، فأعلن استياءه غاضباً من أن عدوى مشاهدة التلفزة على حساب القراءة قد شملت بدائها المثقفين أيضاً، فأصبحوا لا يختلفون عن الجمهور العام في هذا السياق.
وفي الجانب المقابل أثيرت أيضاً قضايا ذات خطورة تتعلق بخيانة المثقفين أو انتهازيتهم أو هامشيتهم، أو شيوع أنماط مماثلة للمثقفين الذين يستعدون السلطان السياسي أو الاجتماعي أو الديني على المثقفين أنفسهم. وهذه أنماط وأشكال للمثقفين تصارعت خلال هذه العقود الثلاثة الأخيرة، كما ذكرنا، مع أنماط أخرى للمثقفين مثل نمط المثقف الملتزم أو الثوري أو المثقف العضوي كما عرفته بعض الماركسيات مثل غرامشي وسواه ممن كثر تداولهم إبان تلك الفترة.
لم يكتف المثقفون، يميناً ويساراً، الذين خرجوا من عقاب السلطة بالسجن والتنكيل والتعذيب، مثال شهدي الشافعي وفرج الله الحلو، بالانضواء في ركاب السلطة والانصياع لأوامرها وتوجيهاتها، بل مضوا يعينون السلطة على صوغ أطروحتها أو أيديولوجيتها، تشكيلاً وسيرورة وانتشاراً. ومن نافل القول أن نشير إلى التسابق المحموم بين المثقفين لتسويغ أيديولوجية السلطة في الميادين كافة، ففي مجال الاشتراكية، وجد كثيرون ممن ينظرون لاشتراكية عربية، ووجد كثيرون ممن أعادوا الاشتراكية العلمية لدى بعض مروجي الأنظمة إلى جذورها العربية، ووجد كثيرون ممن جعلوا الاشتراكية مذهباً إسلامياً. ولعل ذكر أعلام من وزن عبد الرحمن الشرقاوي وعبد الحميد جودة السحار وأحمد عباس صالح، وغيرهم يعطي مثالاً لهؤلاء المثقفين الناصريين الذين فجعوا مع السادات، ثم اضطروا إلى متابعة توظيف أدبهم لخدمة أطروحات السلطة فيما بعد مرحلة عبد الناصر كعبد الرحمن الشرقاوي، أو مالوا إلى الصمت كعبد الحميد جودة السحار، أو فاق العنت وضيق الحال حد الاحتمال لديهم، فمالوا إلى الهجرة خارج الوطن كأحمد عباس صالح.
وهذا ما يتيح لنا أن نؤكد ظاهرة تبدو جلية في الأدب العربي الحديث منذ الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات، ومصر نموذج واضح، هي تبعيته للحدث السياسي أو مواكبته لهذا الحدث على أحسن حال، لا استشرافه أو التنبؤ به أو التأثير فيه إلا على نحو ضيق. فثمة عشرات الأعمال المسرحية والروائية والشعرية التي كانت استجابة مباشرة للأحداث التاريخية بالتعبير المخفف، أو هي استجابة لدواعي السلطان السياسي الذي صار معه الأدب والفن إلى دعاوة أو بروباجندا سرعان ما تندرج في آلة الإعلام ومصالح مالكيه ومنتجيه، ولعلنا نتذكر نماذج شديدة القسوة على وجدان الأدباء، ولاسيما كتاب القصة والرواية في مصر، ممن روّعتهم الرقابة، أو أرهبتهم مسألة طاعة السلطان بمفهومه العام الذي لا يقتصر على السلطة السياسية وحدها أو الولاء أو رجاء رضاه، ونطلع على مثل هذه المعاناة في كتاب مارينا ستاغ حدود حرية التعبير (القاهرة 1995). فلطالما عدّل المؤلفون في نصوصهم، أو شطبوا منها، وغير ذلك من تشويه لرواياتهم وقصصهم. ولنذكر على سبيل المثال ما حذف من رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ الذي رأى أن الخلاف بينه وبين الأزهر في عبارة واحدة هي سوء الفهم: لم يقرأوا الرواية كما ينبغي أن تقرأ، ولكن سوء الفهم يمكن أن يزول لو أنهم قرأوها ككل، وحكموا عليها بناء على قيمها الروحية(2). وكان علي عقلة عرسان صور هذه المعضلة ببراعة واقتدار في مسرحيته رضا قيصر (دمشق 1975)، ومن خلال سيرة مسرحي في روما القديمة على سبيل الإسقاط، وهو اشتغال يندرج في مفهوم التقية من جهة والترميز من جهة أخرى، وليس ذلك بخاف على المهتمين والمتتبعين لمحنة المثقف مع سلطانه.
وقد أوضح عرسان أن مسرحيته ليست تاريخية على الرغم من أن أحد شخوصها هو بلاوتوس الكاتب المسرحي الروماني المعروف، ولكنها لا تتعرض لسيرته، وما مرّ فيها من أحداث ليس لها وجود في حياته. وعندما أخرج بلاوتوس من السجن كان الشرط من قيصر أن ثمة من يكتبون له، ويوقع عليها باسمه، ويحرك لسانه بذكر أفضال وأمجاد وأعمال قيصر لا غير.. لا غير(3).
ومن الجلي، أن المسرحية، تتصدى لممارسة سياسة فكرية بادية على العمى العقائدي حين يختلط تعامل المسرحية مع الواقع. وقد أبرزت المسرحية دفاع عرسان عن القيم الإنسانية وعن الثقافة الحقة في وجه الإرهاب والظلامية(4).
لقد كابد المثقفون العرب مراراً وعانوا طويلاً من رهاب السلطة التي عاقبتهم غالباً، ولم تعترف بهم، أو تحترمهم، أو تقدرهم إلا موالين خانعين وخاضعين، فخملت فعاليتهم وضعف اجتهادهم، وتخفى إحساسهم بالمسؤولية في رداء كتيم من الخوف وفقدان الأمان، ونعيد إلى الأذهان عدداً لا بأس به من الروايات والمسرحيات التي بنيت على أمثولة منديل الأمان رمزاً أو استلهاماً للتراث العربي تحت وطأة هيمنة الطغيان على وجدان المثقف العربي، فيرى أن هذه المكابدة وهذا العناء ذهبا بأحلام المثقف الملتزم أو المثقف الثوري أو المثقف العضوي التي تكسرت دون رحمة مع الأحلام القومية وأحلام التقدم العريضة لأسباب كثيرة ألمحنا إلى شيء منها.
لعل علينا أن نختم النظر إلى هذه الإشكالية عن المثقف وسلطانه أو السلطان ومثقفه، بذلك الهروب مع التاريخ في الدراما العربية التلفزيونية إلى أحضان الفنطزة (الفاتنازيا) أو مجانبة تسمية القوى الفاعلة في التاريخ في الدراما العربية التلفزيونية التاريخية، فلا تذكر الشخصيات أو الوقائع أو الأحزاب.. الخ تعمية أو تقية أيضاً لا فرق.
لقد انطلقت مفاهيم المثقف التقني من قلب الصراعات بدوافع من السلطة غالباً ومن المثقفين أنفسهم أحياناً، وربما كانت أكبر حالة شهدتها الثقافة العربية في هذا الاتجاه حالة جمال عبد الناصر حين أطلق سجناءه من كبار مثقفي مصر وبعض العرب من سجونهم وهم ينتمون إلى تيارات معارضة أو متطرفة أو تخالفه الرأي ليعتمد عليهم في سياساته الجديدة العام 1964 في إطار الميثاق ولا سيما شعار تحالف قوى الشعب العامل، فصار عدد كبير من هؤلاء السجناء وزراء أو مستشارين أو مديرين عامين وغير ذلك فور خروجهم من السجن.
ومن يتأمل خريطة المواقع القيادية التي تسلمها هؤلاء المثقفون السجناء يدرك تمام الإدراك أن عبد الناصر قد أوكل إليهم شؤون التنمية في مصر برمتها، ولعل من أبرز الظواهر الناتجة عن هذه المشاركة أن المثقفين شرعوا ينخرطون في سلطة لا تعبر عنهم تماماً، وأنهم شرعوا يخدمون سلطة قد تتعارض مع أفكارهم بشكل كامل، ويبقى هذا التحول من أكثر الأمثلة على ولادة المثقف التقني سطوعاً. ثم شهدت هذه الفترة محاولات تكيف من المثقفين أنفسهم أو من السلطات العربية لإضفاء صفات واقعية على هذه المفاهيم المستجدة. وإذا كانت غالبية هذه الصفات محكومة بالذرائعية، فإن المثقفين العرب توصلوا إلى أن يصبغوا الالتزامات التقنية لمشاركتهم في السلطة بطوابع أخلاقية طهرانية، قومية أو عقائدية، فصدرت عنهم مصطلحات جديدة حول أدوارهم مثل تجسير العلاقات بين السلطة والثقافة، وملخصها إن لم يكن بجسر ذهبي أو فضي، فليكن بجسر خشبي يقف فوقه سيد يقرر، ومثقف تابع يبرر، ومن الواضح أن مثل هذه الدعوة الميكيافيلية غالباً ما تضع المثقف في موضع الخسة والدناءة.
لقد نوقشت قضية التجسير طويلاً منذ صاغها أطروحة واقعية في الحياة الثقافية العربية سعد الدين إبراهيم، ولم تنس الذاكرة بعد وقائع محاكمة صاحب مركز البحوث والدراسات الذي أسسه وحمل اسم عالم الاجتماع العربي ابن خلدون، ويشير الاتهام الموجه إليه المبطن بشبهة العمالة، إلى أن المثقف التقني جاوز خدمة سلطانه السياسي الوطني أو القومي إلى تأجير نفسه للأجنبي أو العدو. ولا شك في أن لكلّ مثقف الحقّ في طرح رأيه والدفاع عنه، على أن شبهة العمالة ليست موجهة للآراء والأفكار، بل إلى الأدوار السياسية الموظفة لغير خدمة السلطان العربي أياً كان وضعه أو امتداده أو قضاياه.
لقد شرع كثيرون يرون في قضية التجسير حلاً لمأزق وعلاقة المثقف العربي بسلطته التي مارست بحقه أصنافاً من الموت أو العقاب أو النكران أو الإهمال أو التجاهل خلا حالات الولاء. إن مراجعة هادئة للندوات والمؤتمرات والملتقيات الفكرية العربية حول الثقافة والسلطة في الوطن العربي، وهي متعددة منذ أواخر السبعينيات، على امتداد الأرض العربية تبين أنها تمحورت حول ذلك الخطاب في حالات قطرية جرى تفصيل القول فيها مرات ومرات. وقد برهنت التجارب على عدم جدوى التجسير، لأنه اقتراح ثقافي لا تستخدمه السلطة إلا حين الحاجة، أي أن مكانة المثقف العربي في مجتمعه ما تزال زائدة عن الحاجة خارج الحدود التي ترسمها السلطة، ولأن جوهر التجسير يكمن في النظر إلى المثقف طرفاً آخر في معادلة السلطة والشعب، وواقع الحال يفيد أن السلطة لا تعترف بهذا الطرف، ولا تراه ضرورياً، أو هي تستغني عنه، فثمة بديل منه في صفوفها متى شاءت، ولو لم يتحلَّ بمواصفات المثقف. وفي دراسة فريدة للمثقف العربي والسلطة كما تعكسه روايات التجربة الناصرية (بيروت 1996)، لاحظ مؤلفها سماح إدريس (لبنان) أن النموذج الأكثر ظهوراً وتأثيراً هم المثقفون الموالون ولاء مطلقاً، ثم الاعتذاريون البارعون في تبرير أخطاء النظام أو تفسيرها أو تلطيفها منصبين أنفسهم في أحايين كثيرة في موقع محامي الشيطان، ثم الموالون بتحفظ أو الموالون ولاء نقدياً، ثم على نحو أقل، المثقفون الرافضون ثم المثقفون الانتهازيون، ثم الهروبيون المتراجعون ممن يؤثرون العزلة أو الانعزال بتشجيع، الدولة أو ضغوطها أساساً، أو بخيار المثقفين أنفسهم كما يتوهمون(5)، ثم المثقفون المستعدون، وهم الذين يواجهون عداء النظام لهم بسبب ماضيهم، وهكذا لا نجد نموذجاً سوياً لمثقف. إن التآمرية صفة ملازمة لمثقفين كثر لا يفرزون مكانة المثقف، بالقدر الذي يهمشون فيه فاعلية الثقافة عبر دهاليز الممارسة المتواطئة مع الذات ومع السلطة ودسائسها ومكرها وخسرانها المبين لقيم الثقافة الحقة ودور المثقف الحق.
ومن المفاهيم الجديدة أيضاً مفهوم المثقف الحكيم الذي يتخذ لنفسه دور الحكمة دون الارتباط بالسلطة، وقد برهنت مثل هذه الدعوة في الواقع على سلبية تتمكن من المثقف كلما ابتعد عن السلطة ومن نتائجها الواضحة للعيان، العزل أو الانعزالية مرتعاً لأوهام المثقف المتفاقمة في أبراجه العالية أو المنخفضة.
غير أن من أكثر المفاهيم سيطرة الآن مفهوم الالتزام التقني المجرد، دون تزويق أو تزيين. فالمثقف وفق هذا المفهوم يمتلك جهداً ثقافياً هو اختراع واكتشاف وإبداع وخبرة وعطاء علمي وفكري ومعرفي، قابل للتشغيل أو الاستئجار أو الاستثمار بأجر أو دون أجر، فهو إذاً مستعد لأن يبيع جهده وظيفةً أو خبرة أو استشارةً، وبدرجات متفاوتة لمن يدفع أكثر ولمن يقدم شروطاً أفضل للالتزام به، وثمة اليوم مراكز ومعاهد سرية وغير سرية في ميادين النشاط الإنساني كافةً تعرض جهود المثقفين وأدوارهم للبيع أو التشغيل أو الاستئجار، لقد تخلى أمثال هؤلاء المثقفين عن الأوهام وسحر الإيديولوجيات وحركة الواقع، وانغمروا في مصالحهم الذاتية الضيقة أو المحدودة، واعتقد أن ما نشهده اليوم من أحداث خطيرة وقرارات غير متوقعة لقادة سياسيين آلت إلى اتفاقات مريعة، تؤثر في المصائر اليومية والعامة هي متأتية من أفعال هؤلاء المثقفين المستشارين الذين نشطوا إلى جانب بعض الزعماء والقادة العرب، وصارت لهم فعالية اجتراح معجزات، هي بتعبير أدق اختراق مدنس للتاريخ العربي. ومن المهم اليوم أن ننتقد مفاهيم المثقف التقني والتزاماته المتعددة والمتلفة في وجه الخراب القومي المنتشر حفاظاً على الأدوار التاريخية المسؤولة للمثقفين العرب.
2ـ سلطة المعرفة:
هل المعرفة سلطة؟
بات واضحاً أن العصر الحديث تشكل ـ ضمن قوى أخرى ـ بقوة المعرفة، وكان الاستشراق مع غزو أميركا واكتشافها، لا فرق بوصفه سلطة معرفية، السند الرئيس للاستعمار، ثم كانت السلطة نتاج صراع استعمالات المعرفة بالدرجة الأولى. ومن أبرز مظاهر ذلك أن مؤلف رأس المال تحكم بثلاثة أرباع العالم لأكثر من سبعين عاماً. بينما كان المؤلف حين وضع هذا الكتاب متسكعاً بين مقاهي لندن ومكتباتِها يبحث عن أمان.
وتتعدد اليوم مراكز القوة في العالم في وجوهها وفي حركتها التاريخية وفي مدى ظهورها، سرية أو رسمية، خفية أو معلنة ملموسة. وإذا كانت قوة العلم والذكاء أو قوة الثقافة العالمية أو قوة الأفكار والإيمان أو قوة الإعلام والاتصالات.. تحتل في حالات كثيرة الصدارة، فثمة من يقول اليوم إن الإعلان هو الذي يكون عقل الناس، وثمة من يؤمن بأن قوة الأفكار والإيمان بذاته ما يزالان قوة تحرك نصف المعمورة، وثمة من يؤمن بأن قوة العلم والذكاء تفوق قوة السلاح وقوة المال معاً، ناهيك عن قوة الديبلوماسية والتفاوض، وهي في وجوهها قوة معرفية.
ولا غرابة في أن يحتل المحامون والقضاة أعلى مراتب في الولايات المتحدة الأميركية، لأن نمط الحياة ذاته يجعل التفاوض الملاذ الأهم للمواطنة واستحقاقاتها، وليست بعيدةً عن البال وقائع المحاكم الطويلة للبت النهائي في نتائج الرئاسة الأمريكية عام 2000، والتي حسمت بقرار من المحكمة الفيدرالية العليا، ولعل هذه العقلية وراء تشبث الدبلوماسية الأميركية الأخير بالمراهنة على تقدم ولو ضئيل في مضمار المفاوضات المسدودة بين الفلسطينيين و الإسرائيليين، على الرغم من شكوى الفلسطينيين من ضغط الوقت وتعنت الإسرائيليين. وما يحدث اليوم من إملاءات لوضع خارطة الطريق موضع التنفيذ الأقصى لعقلية المفاوضات في تسيير الأوضاع، ولو على حساب حقوق الفلسطينيين والمصالح العربية.
إن قوى كثيرة تنحدر، ولكن قوة المعرفة بوصفها سلطة حية مباشرة وغير مباشرة، ما تزال تؤثر بقوة في المصائر البشرية، ولنتذكر الآن بعض مظاهر قوى المعرفة والثقافة في الحياة المعاصرة.
من يستطيع أن ينسى دور إذاعة أوربا الحرة رقم واحد في انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية؟ ومن يستطيع أن يتجاهل دور مجلس السلم العالمي في التخفيف من مظاهر الحرب أو الحرب الباردة؟ ومن يغفل التأثير المتزايد في السياسات الأوروبية لحركات السلام الأخضر التي بدأت أواخر الستينيات ثم تجذرت في الحياة السياسية؟ وعلى رغم أن ستالين قلل من شأن الفاتيكان حين قال: وكم يملك البابا من الدبابات؟ فإن الدين ومؤسساته ولا سيما الكاثوليكية كإذاعة الفاتيكان التي تأسست العام 1931، ما يزال يلعب دوراً كبيراً في حياة البشر. وثمة طرفة شديدة الدلالة من عصر الأنوار أو الانسكلوبيديا حيث الدعوة إلى الحرية والعلمنة وفصل الدين عن الدولة.. الخ، فقد قال فولتير آنذاك أن الدين إلى زوال، غير أن المفارقة الصاعقة هي أن منزله بعد قرن من الزمن صار إلى مقر لإحدى جمعيات الدراسة الإنجيلية.
لنتأمل قليلاً تأثير الإعلام مثل الـ سي.إن.إن أو رويتر أو مؤسسة غالوب الأخصائية التي تأسست عام 1935، وتنتشر الآن في أكثر من 60 بلداً وبإمكانها لو أرادت، كما يشير الخبراء، أن تستقطب نصف سكان العالم. توصلت قوة المعرفة إلى الظهور في استعمالات مثيرة لم يكن الاعتراف بها ميسوراً من قبل كدور الأزياء ووكالات النخبة التي تتحكم بمعايير الجمال ونمط حياة المرأة والرجل بعد ذلك. إن الإعلام هو قوة معرفية في طريقه لتغيير العالم بهدوء وصمت حيث يكيف الثقافة على مقاساته أيضاً. والإعلام اليوم يتجه إلى توظيف التقنيات كلها في مخاطبة الرأي العام، وعلينا أن نشير إلى ظاهرة المالتيميديا أو الإعلام المتعدد الذي يستعمل الهاتف والحاسوب والإذاعة المرئية والمسموعة معاً في نقل الصورة والصوت والمعلومة، ناهيك عن التطور الهائل في الإذاعة الرقمية والتلفزيونية الرقمي.
وليس من الغرابة في شيء أن السلطة لم تحكم بذاتها، فالحكام يتكئون اليوم على فريق من المستشارين والمثقفين والخبراء، وهؤلاء يندرجون في قوة المعرفة الصاعدة حتى إن بعض مجموعات العمل والمعاهد تمول سدنة الحكم في الدول الصناعية الكبرى بالخبراء والاختصاصيين، والأهم بالقرار وأساليب تنفيذه، ومن ذلك مجموعة النهضة الأميركية التي تطلق على نفسها اسم عطلة النهضة التي تجمع في فندق هيلتون الرئيسي جنوب كاليفورنيا أكثر من 1500 مشارك، ومنهم غالباً من يكونون معاوني الرئيس الأميركي، ومنها كلية أنسيد الفرنسية التي تعد أفضل كلية غير أميركية لإدارة الأعمال بالمقارنة مع خريجي هارفارد حيث غالبية من يتولى المناصب القيادية في الاقتصاد العالمي من خريجي أمثال هذه المعاهد والكليات. ولنتذكر حق التدخل الديموقراطي الذي اتخذته الأمم المتحدة لأسباب إنسانية محددة بدقة في الزمان والمكان، وباسمه جرى التدخل في شمالي العراق حماية للأكراد وفي الصومال وفي البوسنة والهرسك، وفي رواندا وكوسوفو التي أصبح يحكمها حاكم من غير مواطنيها هو الفرنسي برنار كوشنير وزير الخدمات الإنسانية في مرحلة حكم متيران الأخيرة وأخيراً وليس آخراً في أفغانستان والعراق. وأما حق التدخل هذا فهو بتأثير أفكار أحد أساتذة القانون الدولي الفرنسيين ماريو بيتاتي، فأصبح حق الأمم المتحدة، وهي تتماهى تماهياً شبه كلي مع الولايات المتحدة الأميركية، في إرسال جنودها إلى دول ذات سيادة على أسس إنسانية حقيقية واقعية على الرغم أن حق التدخل هذا يحتاج إلى نقاش وتعديل في الاتجاه وفي الممارسة، إذ إنه ما يزال يستخدم ضمن الكيل بمكيالين في ظل هيمنة قطب واحد هو الولايات المتحدة. وقد مارسته احتلالاً في العراق وعينت حاكماً مدنياً أمريكياً هو بريمر باسم حق التدخل هذا الذي لم يلق تغطية شرعية، واستتبعته بتهديداتها المطلقة لدول أخرى ما لم تنضو في مسار هيمنتها.
لقد أطلق فرانسوا تروفو، وهو من رواد السينما الفرنسية الجديدة، في الستينات، فيلمه الشهير فهرنيت 451 (1966)، صيحة مدوية ضد مناهضي الثقافة وحرية الفكر والتقدم المعرفي، وهذه الدرجة التي كانت عنوان الفيلم هي التي تحترق فيها الكتب(6)،حيث طوردت الكلمة بما هي رمز ثقافة وفكر ومعرفة وصانعيها ومبدعيها والمؤمنين بها حتى الإبادة والحرق، وهذه الحرقة لا تختلف عن محارق محاكم التفتيش سيئة الذكر. فهل موقف السلطة الطاغية من المعرفة رهاب عصي على الشفاء؟
تؤشر السلطة في نهايات القرن إلى أنها تجاذب معرفي فلم تعد السلطة، حتى هيمنة المجتمع الصناعي، قوة السلاح أو قوة المال والثروة أو قوة العلم والذكاء فحسب، بل لبست هذه القوى جميعها، بأشكال مختلفة ومتداخلة، لبوساً معرفياً. وربما كانت كتب الفين توفلر، ولا سيما تحول السلطة، علامة على هذا البؤس العرفي. فالكتاب، وعنوانه الآخر هو المعرفة والثروة والعنف في بداية القرن الواحد والعشرين، يبحث بالتفصيل في قضية جوهرية، ويلتمس لها الظواهر والأدلة في حركة التاريخ. والقضية تتبدى جلية في ذلك التغيير العميق في بنية السلطة وجوهرها بفعل جملة من عوامل التطور المعقدة الناجمة عن تقدم المعرفة الهائل وسيادتها على العناصر الأخرى المكونة للسلطة. إن ثمة تغييراً كبيراً في السلطة أبعد من الحضارة الصناعية، وأن ثمة مواجهة لظهور حضارة أخرى تنهض على سلطة معرفية مختلفة تتجاذب العناصر المكونة لها.
جرى الاعتراف الصريح بأن المفكرين والأدباء هم بناة العالم بتعبير ستيفان تسفايج في سلسلة أبحاثه، غير أن سلطة المعرفة جاوزت هذا الاعتراف إلى تحليل أنظمة سياسية واجتماعية وأخلاقية ودينية كانت معقدة أو محظورة أو محرمة إلى وقت قريب كقضية العنف والمقدس، حيث استغلال المقدس بعداً معرفياً يتوارى أو يتخفى، ثم يزيف فيما بعد لينتج عنفاً باسم قوى معرفية مبهمة تزعم غالباً أنها تدافع عن قوة الأصول أو الإيمان أو القيم المهددة، بينما ينعم محركوها بالمصالح الناجمة عن الصراع. وهذا جلي في تنطع الأصوليات، باسم المقدس، لاعتلاء سدة السلطان السياسي والاجتماعي والثقافي، على أن محركي هذه الأصوليات هم مالكو المعرفة والمتحكمون بإنتاجها وعمليات إنتاجها. ولا شك في أن عنف هذه الأصوليات يشتد كلما هددت مصالحها، والقضية الأخطر هي تسليع المعرفة الدينية واستخدامها في غير مواقعها بغية استثمارها في مصالح الأصوليات.
على أن المعرفة، بالنظر إلى سلطتها المتنامية يجري اليوم تسليعها دخولاً في عمليات التنميط والمتاجرة والتسطيح. وثمة ما يجعل ذلك ميسوراً بفضل تكنجة المعرفة، من خلال التفجر المعلوماتي الهائل واندغامه في ثورة الاتصالات الجبارة. وهل نغفل عن التحديات المطروحة أمام الكتاب التقليدي، وهو المصدر الرئيس للمعرفة؟!…
ولنتذكر جانباً من إدراك الصهيونية المبكر لسلطة المعرفة منذ أواخر القرن التاسع عشر بينما كانت السلطة التي يحافظون عليها هي المال. ولعل تاريخاً يكتب عن تغلغل الصهيونية في مراكز المعرفة والإعلام والسياسة والعلم والثقافة العالمية من الاتحاد السوفياتي السابق إلى الولايات المتحدة إلى المملكة المتحدة إلى روسيا الاتحادية اليوم. ولنا أن نقرأ كتاباً عن رجال السياسة الإسرائيليين في سلسلة حقائق وأرقام عن العدو الصهيوني التي كان يصدرها مركز الأبحاث الفلسطيني لنجد أن هؤلاء الرجال، ومنهم النساء أيضاً مثل جولدا مائير وشولافيط ألوني، ممن شكلّوا أعضاء الكنيست حتى ذلك التاريخ، قد حازوا تحصيلاً ثقافياً وعلمياً عاليين فيندر وجود من لم يتخرج من جامعة، وثمة الكثيرون منهم من الكتاب والباحثين والصحفيين ممن لهم كتب وبحوث ومقالات، فهناك 70% ممن حصلوا على شهادات جامعية وعالية، وبقيتهم قد يكونوا حازوا على مثل هذه الشهادات، ولكن محرر الكتاب صعب عليه التأكد من المعلومات.
وهل ننكر أن غزو العراق للكويت لا يخرج عن كونه محاولة للاستيلاء على ثروة الكويت؟ وهل ننكر أن أزمة اليمن هي صراع على توزيع السلطة والثروة؟ وهل ننكر أن الغزو كان وما يزال مستنكراً ومرفوضاً ومذموماً، ومثله الأزمة اليمنية، لأنهما شكل مختلف من اللهاث المحموم وراء السلطة برموزها القديمة. وهل تخرج الحرب الأميركية على العراق، بممارستها لأكثر أشكال الحرب تطوراً، وفق مفهوم الحرب الاستباقية والحرب الافتراضية، عن مفهوم السيطرة على موارد العراق والهيمنة على المنطقة ومقدرات المعمورة، بدليل استمرار الاحتلال الذي يفضح دعاوى الحرب العدوانية الغاشمة في أنها تحرير للعراق من الطغيان وتخليصه الموهوم من أسلحة الدمار الشامل..الخ.
إن المعاناة القومية قاسية إزاء هذا التفكير الذرائعي لتداخل الوسائل والغايات، مما أنهك الثوابت القومية، وجعل نخباً سياسية وثقافية عربية كثيرة تودع العروبة، وصارت علاقات حسن الجوار بين العرب وجيرانهم أفضل بكثير من العلاقات العربية ـ العربية.
إن التخلف والتعسف في إساءة استعمال السلطة هو بعض ضعف العرب الذين يجهلون أو يتجاهلون ذلك التطور المخيف في فهم السلطة وتحولاتها، وأهمها مكوناتها المعرفية. وربما كان ثمة مظاهر أخرى قاصرة وباعثة على القلق والأسى في وعي تحولات السلطة لدى العرب، ومن هذه المظاهر اللجوء إلى جوانب من سلطة المعرفة وظيفياً ومجتزئة من سياقها التاريخي كما في حالة التكنوقراط أو الخبراء أو المستشارين، أي استعمال المثقف أو العالم أو العارف تقنياً، أي استعمال معرفته فيما يحتاجه الحاكم، لا ما يستدعيه وعي الضرورة، وهل زيارة القدس عام 1977 أو توقيع 13 أيلول عام 193 أو اتفاقات أوسلو الثانية، وسواها من قرارات أخرى خطيرة في حياة الأمة العربية إلا حصاد أمثال هؤلاء الخبراء أو المستشارين الذين عزلوا التاريخ جزافاً عن مجراه.
وهناك ظاهرة أخرى في تكييف السلطة لدهاليز المعرفة كما في التعامل البلانكي أو المؤامراتي للتاريخ، حين تصير المعرفة أداة إرهاب وقمع، وكم من السلطات والأحزاب والفئات العربية التي كانت ستالينية أو أكثر من ستالينية في تعسف استعمال السلطة، حتى حين كان كثير من هذه الأحزاب والفئات في صفوف المعارضة.
وكم هي ناجعة حالات المثقفين الذين يستعدون السلاطين على مثقفين، لمجرد أن هؤلاء المثقفين الآخرين يخالفونهم في الرأي. هل المعرفة سلطة؟ أجل، ولكننا، أقصد العرب، بمنأى عن هذا التحول التاريخي الذي يسيّد المعرفة سلطة على وجوه القوة كلها.
3 ـ سلطة السوق:
هل يندرج الأديب العربي، ومثاله هنا الروائي، في قوانين السوق؟ وهل يخضع لإملاءات العولمة؟ لعلي أثير أسئلة أخرى عن الوضعية إياها بما تعنيه من اشتراطات الكتابة في انتشار نمط الرواية الاستهلاكية وتأثيرها على جماليات التغير الثقافي، مما يؤجج التأزم في الحوار مع الذات لدى إخضاع الثقافة لسلطة مالكي أدوات العولمة ومنفذيها.
إن التطور الهائل في وسائل الاتصال وثورة المعلوماتية قد أثر في الإبداع العربي برمته، فطالت التبدلات العميقة التعبير الروائي والقصصي، وهي تبدلات عنيفة لا سبيل إلى الفكاك منها، لأنها مست الثقافة العالمية وآدابها في الجوهر وفي الشكل. ولعلنا نلتمس لملاحظة مثل هذه التبدلات مثالاً واحداً هو الرواية الاستهلاكية للتعرف إلى تأثير وسائل الاتصال المدعومة بثورة المعلوماتية.
لم تصل موجة الروايات الاستهلاكية إلى السوق الأدبية العربية إلا متأخرة على استحياء، وظهرت بوادرها في الثمانينيات في الكتابة لوسائل الاتصال بالجماهير كالصحافة والإذاعة والتلفاز والسينما، ويدل هذا التوصيف الواقعي والتاريخي على أن الكتابة الروائية العربية ما تزال بعيدة عن ضغوط السوق التجارية، أن ثمة شروطاً يفرضها الآن منتج البرامج والأشرطة التلفزيونية والسينمائية أو ممول المسرح أو ناشر الجريدة أو المجلة لقبول إعادة إنتاج الأدب عبر هذه الوسائل وقنوات الاتصال، ومما يؤيد مثل هذا الرأي أن بعضاً من أهم الروائيين العرب ما زالوا بعيدين عن قوانين السوق التجارية، فلم تتأثر جماليات الرواية عندهم بمعطيات التغيير الثقافي الكلي كما هو الحال في أوروبا وأمريكا، ونذكر منهم عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وغالب هلسا وإدوار الخراط وعبد السلام العجيلي والياس الديري ومحمد الصالح الجابري وعبد الرحمن مجيد الربيعي، وإنما بدأت تداخل أساليبهم أنواع من الاهتمام بتأثير وسائل الاتصال.
ويقودنا مثل هذا الاستنتاج إلى أن إسهام الروائي العربي أكبر في تحديد جماليات روايته، وأن هذا الإسهام أكبر بعد ذلك في تثمير أدوار الأديب في عمليات التفكير الثقافي العاصفة في حياتنا. على أننا سنذكر إشارات أخرى حول موجة الرواية الاستهلاكية بالنظر إلى تأثير التغيير الثقافي في صياغة معايير الرواية وتوجيه جمالياتها ونقدها في الوقت نفسه من أجل قرائن أكثر من جماليات الرواية العربية وانبثاقها من عمليات التغيير الثقافي الواسعة والعميقة منذ الخمسينيات، وما يستدعيه من حساسية نقدية جديدة.
ترافقت الرواية الاستهلاكية العالمية، وهذه هي حدود نشأتها، مع نمو الحس الاستهلاكي فيما سمي ملء أوقات الفراغ بادئ الأمر، والاندراج في التسلية التي شرع المشتغلون بعمليات الاتصال يحسبون لها حساباً في برامجهم لكسب الجمهور، ثم شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حمى محاولات كسب الجمهور عن طريق وسائل الاتصال، ولاسيما فنون الصوت والصورة المكتشفة آنذاك من جهة، وفنون الصحافة الراسخة من جهة أخرى، فتطورت الكتابة الروائية في منحى الاستهلاك الذي يراد منه التسلية وتزجية أوقات الفراغ بالدرجة الأولى إلى إدخال الرواية والقصص بشكل عام في دائرة تزييف الوعي، أو تفريغ هذا الجنس الأدبي من الفكر والتاريخ والمجتمع خلل صياغة كتابات روائية وقصصية خاضعة لتصنيفات موصوفة مسبقاً لا تبتعد عن إدهاش السرد والمقدرة الحكائية الجذابة التي يقدم من خلالهما أو بوساطتهما حبكات مدروسة بعناية بما يجعلها نفورة من الهموم أو الاهتمامات الجدية، وقد تصدّر هذا التصنيف مجموعة من التوابل أولها التركيز على العواطف المنفصلة غالباً عن جذرها الاجتماعي والنفسي، فيجري الولع بالأفعال العاطفية وردودها ضمن آليات رتيبة متوقعة، مثلما يحرص كتاب هذه القصص والروايات على أن تدور الأحداث والوقائع، إن وجدت وقائع لأن الوقائع مما ينتمي إلى التاريخ، في بيئات ثرية لا يعاني أفرادها الفاقة أو البؤس أو الحرمان، اللهم إلا الحرمان من فقدان التوافق في الحب.
وثمة خصائص أخرى للرواية الاستهلاكية نذكر منها تجميل الواقع من أجل قبوله، ووضع المتلقي في بهرج التعلق بنمط الحياة الذي تعرضه هذه الكتابات الروائية والقصصية، وغالباً ما يسمون هذا التعليق بأنه أحلام، فالمرء قادر بتقديرهم، على تغيير وضعه، واللحاق بهذا النمط، والذين تابعوا الأفلام الهوليودية في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات يدركون ذلك الحرص على ترويج هذه الخصائص ولوازمها مثل الرجال الوسيمين الجذابين والنساء الساحرات والطبيعة الخلابة والطابع السياحي الجميل للأماكن الباذخة والشعور بالوفرة إلى حد التخمة غالباً والحرية المطلقة بعيداً عن قيود المجتمع والأسرة والدين والالتزامات الأخرى.. الخ، ولقد عاشت السينما المصرية على تقليد هذه الأفلام إلى وقت قريب اقتباساً أو تعريباً بشكل من الأشكال، ومع طغيان الأنماط الاستهلاكية على الحياة العربية مع مطلع السبعينيات بدأ تيار الرواية الاستهلاكية العربية يتشكل إثر هجمة التلفزيون على مختلف أجهزة الثقافة والإعلام واكتساحه لفنون الاتصال الأخرى، ولا سيما السينما والمسرح.
ثم تفاقمت هيمنة التلفزيون مع استتباب التبعية للغرب الذي بات متحكماً بالخبر والصورة معاً، ومحتكراً لصناعتهما عبر الشركات الاحتكارية الكبرى المشهورة إلى جانب وكالات الأنباء المصورة وسواها. ومن أمثلة المسلسلات التلفزيونية الرائجة والمنتشرة في الوطن العربي كله دالاس وداينتسي وسفينة الحب وسانتينال بالإضافة إلى مئات البرامج والمسلسلات المأخوذة عن الروايات المعروفة باسم الأكثر رواجاً أو بست سيللر Best Seller .
بدأ إقبال الروائيين والقصاصين العرب على الكتابة لوسائل الاتصال بالجماهير على استحياء غير أن الهبة النفطية وانتشار محاولات توظيف رأس المال العربي ولاسيما النفطي في مراكز البحوث والمشروعات الإعلامية على نطاق إقليمي أو دولي ودخول مخاطبة الإنسان العربي ولا سيما بعض الجماهير مثل النساء والأطفال والفتيان في برامج الدوائر الإعلامية الأجنبية، قد جعل غالبية الروائيين والقصاصين في تطلع مستمر لتوظيف إنتاجهم في آلة التلفزيون وبقية وسائل الاتصال الأخرى، وفي سورية، على سبيل المثال، يندر أن نجد روائياً أو قاصاً معتبراً لم يكتب المسلسلات التلفزيونية، أو أن يخضع فنه الروائي والقصصي لحاجات الوسائل الإعلامية مثل هاني الراهب وعلي عقلة عرسان وخيري الذهبي وعبد الكريم ناصيف ودياب عيد وحنا مينة وألفت الإدلبي وناديا خوست وعبد النبي حجازي وغيرهم من الروائيين العرب في سورية، بل إننا، وضمن دراسة متقصية، نلمس حساب هذه الوسائل الاتصالية كالتلفزيون والسينما في تفكير الروائي والقاص الأدبي ذاته، فتأثرت جماليات الرواية والقصة بشروط هذه الوسائل، أي أن الكاتب صار معنياً بقابليات ظهور روايته أو قصته في مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي أو مسلسل إذاعي قبل مراعاته لصدورها في كتاب!
غير أن نمط الرواية الاستهلاكية، إفراز لنمط الحياة الاستهلاكية وأساسها تأثير وسائل الاتصال، قد انتشر في الحياة الثقافة العربية بأشكال متعددة. كان الروائي أو القاص العربي معزولاً عن وسائل الاتصال بالجماهير، أو هوجة مخاطبة الجماهير مباشرة، لأن وسائل الاتصال بالجماهير نفسها لم تكن لها مثل هذه السلطة المتفاقمة التي نراها عليها اليوم، ولأن الجماهير نفسها لم تكن موضع الحفاوة والتقدير والاهتمام التي يجري الحرص عليها اليوم، فأخلص الروائي أو القاص العربي من قبل لفنّه، واستغراق في صومعة أفكاره، ولعل تأمل رسائل توفيق الحكيم إلى زوج ابنه هايدي حتى مطلع الثمانينات تكشف عن العوز الذي واجهه مفكر وأديب وروائي ومسرحي عربي كبير. وثمة أنموذج آخر أكثر سطوعاً يتبدى في مسيرة نجيب محفوظ، فهو كتب حتى أواخر الستينيات الرواية بعيداً عن حسابات الإيصال الإعلامي، وغلب في أدبه حاجات الفن والفكر على شهوة الانتشار، وإن خصّ السينما بوصفها فناً رائجاً بقصص كثيرة مكتوبة خصيصاً لهذا الفن الجماهيري الواسع الانتشار، فلم يثنه عمله أو كتابته لوسائل الاتصال عن سعيه الأصيل لإنجاز فنه الروائي العظيم، فميز بين الرواية ومثل هذه الكتابة. وثمة كثيرون، كما أشرت، لا يعرفون أن نجيب محفوظ كتب عشرات الأفلام أو الأعمال الإذاعية لهذه القنوات مباشرة، وما تزال هذه الأعمال مخصوصة بما كتبت له، ولم تظهر نصوصها في كتب.
وظل هذا الوضع سارياً حتى مطلع السبعينيات حين صارت بعض روايات نجيب محفوظ، بتأثير شهوة الانتشار وهيمنة الإعلام، قابلة بيسر للاندراج في طبيعة وسائل الاتصال بالجماهير، فخالط روايات كثيرة له شيء من لوازم الرواية الاستهلاكية، كغلبة الإخبار على السرد أو العناية برسم الشخصيات على حساب الوصف أو التأملات الفكرية أو صوغ الرواية برمته بأسلوب السيناريو أو اختزال الوقائع إلى تركيب مشهدية ما.. الخ، وهذا واضح في روايات كثيرة له مثل حب تحت المطر ويوم قتل الزعيم والحرافيش.
نستطيع أن نجد روائيين وروايات عربية كثيرة، قد تأثرت بنيوياً وسردياً وهيكلياً بتقنيات الإيصال وشهوة مخاطبة أوسع الجماهير بدغدغة مشاعرهم وطلب التواصل العاطفي أو الاندماجي في تلقيهم. وكان برع في ذلك من قبل روائيون كثر أمثال إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي اللذين راجت أعمالهما منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الستينيات على وجه الخصوص. لقد خاطبت رواياتهما العواطف والمشاعر إلى أبعد ما تفعله الاتجاهات الرومانسية الهادئة أو المغالبة، وإلى أبعد ما تعتمله اتجاهات المشجاة (الميلودراما) المتطرفة، ونادراً ما عبرت هذه الأعمال عن الوجدان العام أو الضمير القومي أو الوعي بالتاريخ. وفي هذه الأيام بتأثير حاجات التلفزة والقنوات الفضائية يعاد إنتاج روايات إحسان عبد القدوس في مسلسلات وسهرات تلفزيونية مثل: لا أكذب ولكني أتجمل، ولن أعيش في جلباب أبي… الخ.
من الواضح، أن الرواية الاستهلاكية تنتشر عربياً بتسارع متزايد، لأن المعرفة نفسها في تصارع متصاعد مع الاتصالات وثورة المعلوماتية، ولا يماري أحد أن الثقافة الرفيعة الحقة هي اليوم أشبه باليتيم على مائدة اللئيم الذي هو الإعلام. وليس تأثير الرواية الاستهلاكية في جماليات الرواية العربية هيناً خلال نصف قرن من الزمن، فهو يدخل في تفكير الروائي العربي وفي بناه السردية وفي نسيج حبكة وفي تشكل صوغه الفني، وما يزال التصارع قائماً بين النزوع الاستهلاكي إلى منتهاه والنزوع الجمالي إلى منتهاه. وثمة روائيون يمثلون هذا الفريق أو ذاك. ولكننا يندر أن نجد روائياً عربياً معتبراً بمنجاة من هذا التصارع، وهذا واضح في أعمال جبرا إبراهيم جبرا (فلسطين) وحنا مينه ووليد إخلاصي ونبيل سليمان (سورية) وعبد الرحمن الربيعي (العراق) وبهاء طاهر وفتحي غانم (مصر) ومحمد صالح الجابري (تونس) وغيرهم.
وتقدم رواية المدينة الأخرى لخيري الذهبي أنموذجاً، على سبيل المثال، للرواية الاستهلاكية، وقد اعتمد في كتابتها على الفيض العاطفي اليومي والنزوع البوليسي والتآمري في فهم الأحداث خلل التركيز على مكانة المرأة ـ السر أولا، ومفادها أن لكل إنسان ثمناً، وثمن أدهم الأدهمي بطل الرواية، هو إغراء فتاة جميلة إلى حدّ التغرير بطيبته وكرامته وشرف الحياة لديه، فتتحول الحياة إلى لعبة الحب القديمة في عالم رجل شريف ذي خبرة وذي تجربة عريضة في الحياة، ولطالما أمن كاتب الرواية في الولوغ بمثل هذه اللعبة على لسان أدهم(7).
لقد تغلبت وسائل الاتصالات وثورة المعلوماتية على التعبير الفكري والفني والصوغ الجمالي للفنون الأدبية المعاصرة، فعمد الكاتب إلى حساب هذه التقانات في السوق متساوقاً مع حاجات البنية الفنية والدلالية والجمالية أو متجنباً لها.
هل غيرّت وسائل الاتصال المدعومة بثورة المعلوماتية جماليات التغيير الثقافي؟ لقد بان ذلك جلياً في موجة الرواية الاستهلاكية وانخراط حشد كبير من الروائيين العرب في ذلك الولع بما يوفره السوق من مكاسب مادية ومعنوية بوساطة الانتشار الواسع لتداخل تقانات الاتصالات والمعلوماتية والجماليات في آنٍ واحد.
لقد امتد تأثير سلطة السوق البالغ إلى التشكيل الثقافي برمته، ولاسيما جماليات تغيره دخولاً في هيمنة التسلط التي تجعل الثقافة نمطية لا تخرج عن مدارات عولمة الثقافة.
4ـ سلطة المثاقفة:
صارت سلطة المثاقفة بما هي تأثير ثقافة قوية غازية وقاهرة واستعمارية على ثقافات ضعيفة ومغزوة ومقهورة وتابعة، هي الأبرز في ميادين المثاقفة الحضارية إثر هيمنة الخطاب ما بعد الكولونيالي الذي يضاعف تبعات الاستتباع والاستقطاب والهيمنة في التغطية على الخصوصيات الثقافية وعناصر الهوية القومية، ويفاقم وطأة التأزم الذاتي على الرغم من الاعتراف المتأخر بالمثاقفة المعكوسة التي تحترم فيها ثقافات الآخرين. وثمة ما يشبه اليوم جلد الذات لدى المثقفين العرب، وفي مقدمتهم الروائيون الذين تتنازع في ذواتهم مكونات السردية العربية وتقاليدها العربية من جهة والمؤثرات الأجنبية التي تكاد تلغي هذه المكونات من جهة أخرى.
كان الجدال مستمراً إلى وقت قريب بين الروائيين والنقاد العرب أنفسهم حول مدى التقليد الغربي في تشكل فن الرواية العربية، قد توتر رأي، في ظل هيمنة المثاقفة، يرى أن التقليد الغربي هو الأساس والأهم على الرغم من مكانة التقليد العربي الموروث.
وأتوقف في هذا المحور عند إشكالية نفي الخصوصية الإبداعية السردية العربية على الرغم من الاعتراف المتأخر، كما أشرنا، بتأثيرها لدى روائيين غربيين مشهورين على سبيل المثاقفة المعكوسة.
يثير الروائي والناقد الياس خوري في تعليقه المثير درس في الرواية!(8) قضية فكرية وفنية في منتهى الخطورة والحساسية تتصل بأصالة الثقافة العربية وبعولمة الثقافة اليوم في الوقت نفسه.
صدر تعليق خوري على كلمة الروائي الأميركي المعروف جون ابدايك حول رواية مدن الملح للروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف. قال ابدايك جازماً: السيد عبد الرحمن منيف ليس مستغرباً في شكل كافٍ، كي ينتج سرداً يشبه ما نسميه رواية، أي أن ابدايك ينفي أن تكون رواية منيف رواية، معتقداً أن ثمة شكلاً ثابتاً واحداً للرواية، هو الشكل الأوروبي الغربي، غير أن تجربة الرواية الأوروبية الغربية نفسها تبرهن عن وجود أشكال متعددة للتخييل الأوروبي الغربي.
وتفيد كلمة ابدايك أن الروائي العربي، ومثاله منيف، محدود الخيال، وليس بمقدوره إنتاج سرد روائي، وأن الرواية إنتاج غربي، ثم صارت إلى شكل عالمي، وإما أن تكتب رواية في سياقها أو لا تكون، وليس هذا الموقف من القضية، في الوقت نفسه، مطلقاً في الغرب أيضاً، فهو موضع جدال في الغرب، مثلما يختلف عليه العرب في معاناتهم القديمة ـ الجديدة حول هويتهم الثقافية المهددة من الغرب وآلة إنتاجه الإعلامية والثقافية الجبارة، ومن المفيد أن أذكر موقفاً أو مواقف أخرى من القضية في الملتقى المهم لقاء الروائيين العرب والفرنسيين الذي أقي بباريس عام 1988، وجمع عدداً كبيراً من النقاد العرب والفرنسيين، وقد ترجم الوثيقة، وهي كتاب ضخم، وأعدها للنشر إبراهيم العريس تحت عنوان الإبداع الروائي اليوم.
احتدم النقاش حول قيمة الموروث السردي العربي بين العرب، مثلما يتباين الموقف من فكرة التقليد والتغيير في السرد، فهناك الكثيرون ممن يؤمنون بشكل غربي واحد للرواية هي موضع تقليد الآداب القومية والوطنية خارج أوروبا، فساد إلى زمن قريب، مفهوم شائع مفاده أن الرواية العربية تقليد مستمر لهذا الشكل الغربي الواحد.
بينما رفض الكثيرون أيضاً فكره التقليد ليبعثوا فكرة التغيير، وقابلية انبعاث أشكال أخرى متغيرة للرواية تتفق وخصوصية الثقافة العربية، استعادة أو استلهاماً، فلا شكل ثابت للرواية أو لأي جنس أدبي آخر. وفي الوقت الذي تشبث فيه نقاد وروائيون عرب معتبرون بالتقليد الأوروبي الغربي وحده، أمثال جورج طرابيشي وأحمد المديني وبدر الدين عرودكي، فإن الروائي الشهير آلان روب جريبه دافع عن التغيير في تشكل الأجناس الأدبية، ومنها الرواية، وعن حق الروائي العربي بلغته وبمخيلته وبأشكاله السردية. لقد اتفق آلان روب جريبه مع أدوار الخراط وآخرين بصدد التبدل المستمر في الأشكال الروائية، وعزا قلقه إلى علاقة الرواية باللغة، لأن الشكل الروائي يرتهن باللغة أساساً، فلماذا تتبدل الرواية طوال الوقت فيما لا تتغير اللغة إلا قليلاً؟ على الأرجح، لأن اللغة نوع من الاجماع الأيديولوجي، كما لو كانت وسيلة للبقاء، بينما على العكس من هذا، تظل الرواية في حالة اختلاف مع ذاتها، وخاصة مع لغتها الخاصة، بها، وأنا اعتقد أنه إذا كان المرء ينكب على الكتابة، فما هذا إلا لأنه يشعر في أعماقه بحالة من اللاتصالح مع ذاته. إن لكل لغة تاريخاً، لأن لكل بلد تاريخاً(9).
وعبّر عن هذا الرأي تعبيراً مثالياً الروائي العربي الأكثر استلهاماً للموروث السردي جمال الغيطاني، وقد اتجه تعبيره إلى اتجاهين: الأول هو إشكالية العلاقة مع الغرب، والثاني قابلية التغيير أو الحرية مع الموروث أكثر منها مع التقليد الغربي، لأن اللغة والتاريخ يتحركان في عمق الموروث، والعكس صحيح أيضاً، ففي الاتجاه الأول، يتصور الغيطاني أن أدوات الروائي ليست منعزلة عن الواقع الذي أعيشه وعن تراثي الخاص، وبصراحة أنا اختلف مع الدكتور الصديق بدر الدين عرودكي في أن الرواية شكل حديث في الأدب العربي. هذا كلام غير صحيح. وللأسف كل الجامعات في الوطن العربي تدرس هذا الكلام، كما تصر عليه كل المناهج الأدبية، لأن الشكل الروائي في العالم العربي ليس منفصلاً عن علاقتنا بالغرب وعما تثيره هذه العلاقات من إشكاليات، وخلص الغيطاني إلى رأي مفاده أن تأريخ الرواية العربية بـ زينب لهيكل، ينطبق على الرواية ذات الشكل المستند إلى التراث الأوروبي في الرواية. ولكن لا يوجد شكل واحد للرواية على الإطلاق. ولا يوجد قانون، ولا يوجد شكل ثابت. الرواية موجودة في التراث العربي القديم.. إذن الشكل الذي أريد أن أعبر به عن مضمون اللحظة، وأن أقاوم به هذا الفناء وهذا الزوال المستمر، لابد أن يكون نابعاً من ظروفي، من تراثي، من تراث لغتي(10).
وفي الاتجاه الثاني، يؤكد الغيطاني أنه لا يرمي إلى وضع تشريع روائي أو قانون للرواية أو تغليب أشكال مسبقة من التراث، لأن المسألة كانت محاولة الوصول إلى شكل يحقق لي أكبر قدر من حرية التعبير، أو بمعنى آخر، يريحني وأنا في الكتابة. كنت أجد أن الاقتداء بالنماذج المطروحة أمامي والشائعة لا يحقق هذا الشكل، كانت المسألة بالنسبة لي هي الوصول إلى شكل يحقق هذه الحرية. وقد وجدت نتيجة عوامل كثيرة جداً، ن هذه الحرية لن تتحقق إلا باستلهام الأشكال الروائية الموجودة في التراث العربي(11).
والحق، أن تعليق خوري يصدر عن إحساس متفاقم بضغوط التبعية على الذات القومية، وما تتجلى به في هويتها، وهي جماع خصائص أصالتها، فعزا ذلك إلى العولمة، وإنكار الغرب أي شكل أدبي وثقافي خارج عن نمط واحد، هو نمطه الذي تدعمه اليوم العولمة بآلات الاتصالات الجبارة.
وفي هذا الإطار يصبح استنكار خوري محبذاً: لكن هذا لا يعني أن على منيف أن يتعلم أساليب السرد الغربية، فلقد تعلم الروائي السرد من رؤيته المشهد التاريخي مسروداً على صفحة أرضه وهي تواجه الوحش الكولونيالي في رقصته حول منابع النفط؟
أفهم أن لا يحب قارئ أو روائي أميركي طريقة منيف في الالتفاف حول الكلام من أجل تحويله لغة أدبية جديدة. فهذا طبيعي وممكن. لكنه لا يستدعي إلقاء دروس أدبية لا معنى لها. السؤال هو معنى الاستغراب؟.
أجل السؤال يدور حول الاستغراب أو التخييل بتعبير آخر، وأنا معجب بتعريف الكلمة إلى الاستغراب لنسبتها إلى الغرب، وكأن التخييل خاصية غربية، فلا سرد خارج السردية الغربية، والغرب ينفي المخيلة العربية، وإمكانيتها في إنتاج تخييل عربي، وهي نظرة استشراقية، ألم يستنكر المستعرب أندريه ميكيل، وهو من المستشرقين الجدد، على التراث العربي أشكاله السردية، فقد كان أعلن انفعاله غاضباً في الملتقى المذكور، ورد على الغيطاني بعنف:
أنا لا أوافق السيد الغيطاني الذي قال: إنه كان ثمة وجود للقصة بمعناها المعاصر في الأدب العربي الكلاسيكي. لا أوافقه. تستطيع أن تجد في الأدب العربي الكلاسيكي عناصر روائية ومواضيع روائية ومناخاً روائياً، يعني قيمة روائية، ولكن لا أعتقد أن ثمة وجوداً للقصة الروائية بمعناها المعاصر.
لقد قال لي طالب في يوم من الأيام: أريد أن أقدم أطروحة موضوعها القصة في القرآن، فقلت له: مستحيل… مستحيل(12).
لقد كتبت كتاباً كاملاً منذ سنوات حول الاستغراب في القصة العربية الحديثة، بما هو حضور الغرب، وبما هو تخييل، وحلم عنوان القصة العربية الحديثة والغرب: سيرورة التقاليد في القصة العربية الحديثة(1995)، ولاحظت مدى التبدل في النظرة الاستشراقية إزاء السرد والسردية الغربية في جوهر الموقف من العرب والثقافة العربية، ولا سيما الإقرار بتأثير المثاقفة والمثاقفة المعكوسة في تكوين هذا الموقف، بالإضافة إلى أسباب أخرى لا مجال للتقليل من أهميتها، غير أن المثاقفة هي الأهم، وقد حكمت العلاقة بين العرب والغرب لفترة طويلة لم تنته بعد. ثم برزت المثاقفة المعكوسة في فترة مواجهة الكولونيالية والاستعمار ووعي الذات القومية في أكثر من مكان، والمثاقفة المعكوسة هي تأثير الثقافات المقهورة في الثقافة القاهرة. وفي مجال السرد، يجري الحديث عن تأثير الليالي وفن الخبر على تطور فن القصة العالمية، ويجري الحديث عن تأثير الواقعية السحرية بسرديتها الخاصة…الخ(13).
وإذا نزعنا القضية من محمولها الاستشراقي الموغل في سلطة المعرفة في سياق الكولونيالية والاستعمار، وذروته الإمبريالية، كما في كتاب إدوار سعيد الثقافة والإمبريالية (1995)، فإن الإيمان بالتطور من شأنه أن يفضي إلى نظرة جديدة للتبعية، وذروتها العولمة:
وكما أن البشر يصنعون تاريخهم الخاص، فإنهم بالضبط أيضاً يصنعون ثقافاتهم وهوياتهم الأعراقية، وليس بوسع أحد أن ينكر الاستمراريات الملحة للتراثات العريقة والمساكن المعززة المتصلة واللغات القومية والجغرافيات الثقافية(14).
إن رأياً مثل رأي آلان روب جرييه نافع في تعرية الموقف، لأنه أقرب إلى الاعتراف في أن التغيير كفيل بإحداث نظرة جديدة تساهم في التقليل من خطر الاستعلاء الثقافي وخطر التذويب الثقافي وامحاء الخصوصيات الثقافية ونفي الأصالة.
لقد اختتم آلان روب جرييه الجلسة التي ترأسها في الملتقى المذكور بعبارة ذات دلالة: فمن الصحيح أننا نحن معشر الكتاب، موجودون هنا لنغير، لنغير العالم، ونغير الإنسان، وبشكل أكثر تواضعاً لنغير أنفسنا.. ثم على سبيل البداية لنغير الرواية، ولكن ـ وكما قلتم ـ لا نغيرها مرة واحدة وإلى الأبد، بل نغيرها بلا هوادة(15).
يريدون أن يكون الاستغراب هو العولمة سيادةً لنمط ثقافي غربي واحد في الرواية أيضاً يوازي العولمة السياسية والاقتصادية والإعلامية السائدة، وإذا كانت العولمة حتى مطلع القرن العشرين أوروبية، فإنها في نهايات القرن العشرين، أميركية، يشكو منها الأوروبيون كما هو الحال في فرنسا وبريطانيا حيث ترتفع أصوات حادة وعالية تحذر من خطر العولمة الأميركية.
لعلنا نعود مع إلياس خوري إلى جذر المسألة. أجل إنها جزء من معنى الثقافة العالمية، في زمن العولمة، ويراد للرواية العربية والإبداع العربي برمته، أن يندرج في سياق ثقافة التبعية والنمط الواحد والنموذج الواحد، غير أن الإبداع العربي، وفي مقدمته الرواية، يخوض تحدي وعي الذات بجدارة وإعجاب، على الرغم من حدة الصراع بين سلطة المثاقفة والحوار الثقافي مع الذات في شيوع عمليات استلهام الموروث السردي ضمن الصوغ الحداثي وما بعد الحداثي للرواية العربية عند عشرات الروائيين العرب أمثال نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ومجيد طوبيا وخيري شلبي (مصر) ومحمود المسعدي وصلاح الدين بوجاه وعز الدين المدني وفرج الحوار ومحمود طرشونة (تونس) ومؤنس الرزاز (الأردن) وعبد الخالق الركابي (العراق) ووليد إخلاصي (سورية) ومبارك ربيع وسالم حميش (المغرب) وغيرهم. مما يقلل من وطأة التأزم في الحوار مع الذات في مجال سلطة المثاقفة.
5 ـ سلطة المسكوت عنه:
اختلفت تسميات المسكوت عنه في المصطلح وفي الرؤية، وفي المنطق قبل ذلك، إذ غالباً ما ارتهنت المفاهيم وممارستها بقبليات نقدية، لأن المسكوت عنه فكرة متبدلة لا تخضع لحيثيات أو محايثات محددة، فلطالما ارتبط المسكوت عنه بالرقابة أو المحرم أو المغيب، ولعل كتاب بو علي ياسين الثالوث المحرم: الدين والجنس والصراع الطبقي (1972) أكثرها تعبيراً عن التضييق في فهم المسكوت عنه، فليس كل حديث عن الدين والجنس والصراع الطبقي محرما(16ً)، ولا ينطبق التحريم في هذا المجال أو ذاك على النظرية وممارستها داخل إنتاج المجتمع في هذه البقعة أو تلك من المعمورة الشاسعة، فثمة تباينات وفروق داخل بيئة اجتماعية مدينية و ريفية لدى جماعة أو أخرى، فكيف بإطار المجتمع العربي الأصغر (في قطر معين) أو الأكبر (في الأقطار كلها)؟ ثم ما لبثت أن صارت فكرة المسكوت عنه ظرفية لصيقة بفكرة الرقابة أو المحظور، أو المغيب، وكأن المعمول في فهم المسكوت عنه هو الاحتيال على إعلانه أو استشفاف إظهاره على سبيل التقية من سلطته الكامنة. ومدّ ذلك المفهوم إلى المساحات اللامحدودة التي يوفرها المجاز بأشكاله الأرقى من الرمز إلى الاستعارة إلى الرؤيا، فقد استعانت الباحثة نادية غازي العزاوي (العراق) بمثل هذه الأشكال للكشف عن المغيب والمعلن في نصوص تراثية مثل أبعاد الرمز الحيواني أو دلالة الرمز الأنثوي في أدب المعري أو توظيف الماء في صور أبي تمام أو زمكانية زهديات أبي نواس(17)، بينما ربطت الباحثة أمينة غصن (لبنان) المسكوت عنه بخفايا أو خبايا الأنساق الثقافية بما هي تقليد ثقافي متوارث يستدعي إماطة اللثام عن أقنعة المسكوت عنه وعباءاته التي قاربت بلهجتها الناقمة خرق الدراويش، فلكل خرقة بليتها وبهتانها وكذبها الذي يجعلها نافرة في الجبة، تلك الجبة التي رمزت للقهر والفقر، والتي لا تزال تحمل رموز ماضيها باستثناء واحد أوحد هو أن دراويش الأمس الباحثين عن الحق الذي يسحقهم تحولوا اليوم إلى طغاة ساحقين في كذب التأسيس والتحرير والتنظير(18).
ثم بلغت النقمة ذروتها الانفعالية حين جعلت الرضوخ للمسكوت عنه وجهاً آخر لاستتباب الاستتباع لهيمنة أو طغيان مالي أدوات العولمة ومتنفذي سلطانها الطاغي. وإذا جاوزنا مدى التضييق في رؤية المسكوت عنه في مثل هذه الأطروحات تسويغاً للنسوية على سبيل المثال لدى أمينة غصن، فإن المسكوت عنه في المفهوم الأعم والأشمل ظاهرة ظرفية أو تعبير ثقافي متعمد أو غير متعمد في معاندة السلطان السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو العقائدي أو مناهضته أو معارضته أو انتقاده أو مواجهته شكلاً من أشكال أزمة الحوار مع الذات في تجاذبات المثقف والسلطة، فليس أكثر من مفهوم المسكوت عنه اتصالاً بالسلطان الذي يأخذ أشكالاً سلطوية متعددة إزاء فكرة الحرية.
وأوجز القول في تعبيرات المسكوت عنه أو تمظهراته فكرياً وفنياً في جنس أدبي هو الرواية بوصفه الأكثر انتشاراً وإقبالاً على كتابته من الأدباء حتى سمي ديوان العرب في نهايات قرن مضى ومطالع قرن جديد:
أ. يتصل المسكوت عنه بفكرة الحرية، أن يعبر الروائي عنه أو لا يستطيع، وأن يحتال في التعبير عنه أو أن يتجنبه. وغالباً ما يتداخل المسكوت عنه بالمعلن عنه في نضال المثقف من أجل الحرية توقاً إلى الخلاص من طغيان السلطان المتسلح بالثقافة السائدة أو تسليط الثقافة بجعلها سلطاناً يتماهى مع السلطة القائمة بتحالفاتها الاجتماعية والدينية والعقائدية، وتشهد تجارب حرية الفكر على البعد المأساوي لنداء الحرية المقصي.
وقد سمي الناقد محسن جاسم الموسوي (العراق) المسكوت عنه في الرواية بالمقصي، فالرواية ـ برأيه ـ تبني استقطابات الروي على أساس التمييز بين الورّاقين والقوّالين أي تابعين للخطاب السائد، مؤسساته ومراكزه الآمرة والقول الحكواتي الذي يجوب الأسواق والحارات، ويرحل كأهل المقامات بين المراكز والأطراف متحللاً من رأيه رغبات وأطماع ومخاوف تحدّ من حرية القول والحكي، وتحول دون تدفق الحكاية كما هي عليه، لا كما يراد لها أن تكون(19).
ثم عدّ اجتراح المقصي أو المسكوت عنه أقصى حالات نداء الحرية ومغالب المقدس انخراطاً في مبالغة شهوة القول المناهض للسائد وتوصيفاً لمزاولة سرد المخفي والمستور وتقويل الهامشي والمنكود والمقصي مثلما تبدى في كتابة واسيني الأعرج (الجزائر) في روايته رمل الماية: فاجعة الليلة السابعة بعد الألف(دمشق 1993).
ب. يتصل المسكوت عنه بفكرة المحرم أو الحرام / التابو، وهي فكرة متغيرة لصيقة بتطور الفكر البشري وممارسته، فالمسكوت عنه في مكان ليس كذلك بالضرورة في مكان آخر، ومثله في زمان ما أو لدى فئة أخرى.
وغالباً ما يمعن الروائيون في اجتراح المحرم أو الحرام على لفت النظر، أي مجاوزة الدواعي الوظيفية والإبداعي للجوء إلى مثل ذلك المسكوت عنه، كما في غشيان المحارم في نص محمد شكري (المغرب) السردي الروائي وجوه (لندن 2000) فليس ثمة تسويغ فكري أو فني لغواية الابن لأبيه ليعيشوا في سبات ونبات وفي أمان ويقين(20). (هكذا؟!)، ويقال هذا الرأي عن وجدي الأهدل (اليمن) في روايته قوارب جبلية (بيروت 2002) عندما يرى الإسلام مادة مهربة إلى الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرناً(21). إنني مع حرية الأديب والروائي في الكتابة المطلقة حول ما يراه من موضوعات وأفكار، ولكنني أشير على تسويغها فكرياً وفنياً، ولأننا حذفنا مثل هذه العبارة لما تأثر النص مطلقاً، ولربما غدا أكثر إقناعاً.
وقد عاين نبيل سليمان (سورية) فكرة المسكوت عنه في صلتها بالحرام من منطلق سيري في كتابته الروائية منذ وينداح الطوفان (دمشق 1970) إلى السجن (دمشق 1972)، والمسلة (بيروت 1974) وجرماتي: أو ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب (القاهرة 1977). فقد تعرض جراء ذلك لما تعرض، وتابع من بعد الكتابة، حتى ما ابتدأت من إخباركم به عن منع مدارات الشرق، والهجس بالحرية والديمقراطية يغدو نبضي، وكتاب يمنع لي هنا وكتاب هناك، والكتابة تشق سبيلها، والسلطان العربي يطبق ظلاميته السياسية والاجتماعية، ويهمني أن أذكر الآن ما أرسلت في مواجهة المبدعين المحرم، وفي الكتابة العربية بين التحريم والتدجين، منذ خمس سنوات، وسواء أتعلق الأمر بالسلطان السياسي أو الاجتماعي أو بالمناخ التحريمي العربي(22).
لقد تداخل المسكوت عنه بفكرة الحرام إلى حد التطابق أو التماهي في حالات كثيرة على أنه النداء العميق والكفاحي من أجل الحرية والديمقراطية.
جـ. يتصل المسكوت عنه بالإيديولوجية والعقائد، فاتساع ولوجه للموضوعات والأفكار مرتبط باتساع الخروج من إسار الإيديولوجيات والعقائد. تفيد تجربة الرواية العربية في غنى مواقع المسكوت عنه والمواقف عنه بالنظر إلى عقيدة الروائي ومدى تبشيره بها ولها. وأكتفي بمثال واحد هو الروائي رؤوف مسعد (مصر) في تبدلات تعبيره عن المسكوت عنه من أعماله الأولى الماركسية إلى حد الدعاوة المطلقة لقضايا أخرى إلى أعماله الأخيرة بيضة النعامة (بيروت 194)، وصانعة المطر (القاهرة 196)، ومزاج التماسيح (القاهرة 1998) التي تنغمر في المسكوت عنه السياسي (العلاقة بالغرب، ولا سيما الأمريكي) والديني (علاقة الإسلام بالمسيحية في الممارسة السياسية والاجتماعية) والجنسي (الولع باستعمال الجسد لسبب ودون سبب)..الخ(23).
د. تتعدد ميادين المسكوت عنه، ولا يقف عند حدود الشائع العامي: الدين والجنس والسياسة وتمظهراتها كالجسد والديمقراطية وسوى ذلك، لأنه يمتد إلى فضاء كامل بجزئياته المتباينة قوامه دائرة ما بأساليب متعددة مثل الهجاء أو السخرية أو التشهير في غير هذه الموضوعات.
وقد عمد عشرات الروائيين إلى مثل هذا المسكوت عنه، ولاذوا بسلطته في مواجهة السلطان العام بوجوهه المتعددة، ولاسيما السياسية، مثل غالب هلسا (الأردن) وخليل النعيمي (سورية) والزاوي أمين (الجزائر) وجمال الغيطاني (مصر) وعزيز السيد جاسم (العراق)، وأذكر للأخير روايته الزهر الشقي (القاهرة 1988) التي تبدو أهجية للأوضاع السياسية وسلطتها من خلال السخرية والتشهير والانتقاد بتورياته المتعددة.
هـ. يتصل المسكوت عنه بفكرة السلطان أياً كان، بما هو أبعد من السلطان السياسي الحاكم إلى السلطان الاجتماعي بتمثيلاته المختلفة الشرعية والعرفية أو المتواضع عليها. ولعل مصادرة رواية ممدوح عزام (سورية) قصر المطر (دمشق 1998) إثر صدورها عن وزارة الثقافة لم يكن من السلطة أو رقابتها، بل مراعاة للأعراف والتقاليد التي تندرج في السلطان الاجتماعي والديني، وهي أدخل في فورات ردود الفعل التي سرعان ما تضاء حقيقتها عندما تتبدد خشية هذا السلطان الاجتماعي والديني من سلطة المسكوت عنه.
و. تتعدد أشكال المسكوت عنه من التعبير المباشر والصريح إلى التعبيرات الاستعارية والأسطورية والتناصية المتعددة.
وأذكر نموذجاً دالاً هو كتابة رشيد بو جدرة في بعض رواياته، ولا سيما روايته معركة الزقاق (الجزائر 1986) التي تخترم المحرم الجنسي والديني بوساطة اللغة الاستعارية على وجه الخصوص، فترتفع وتيرة التناص والإحالات الثقافية والكلامية من التسمية معركة الزقاق إلى الابن في الرواية طارق تناصاً مع طارق بن زياد إلى عشرات الرموز والشعائر والطقوس والأسماء والمفردات والعبارات التي بُنى عليها التخيل الروائي.
ز. التفكير الأدبي بالمسكوت عنه يخترم المحرم والحرام كلما جاوز التفكير بالإيديولوجيات والعقائد، ولاذ بحريته القصوى، إلا أنه مرتهن على الدوام بالحريات المشروطة التي تستدعيها الظروف والأحوال المتغيرة مثل التقية والاحتيال والمكر ومبالغة الاستعارة والأسطرة بوساطة الفنطزة وسواها، ولا تحصى الروايات التي تحتمي بالمسكوت عنه لمجانبة السلطة أو التسلط نحو سلطة الثقافة التي ينشدها الروائي بمغالبة الحرية المطلقة بتعبيرات الحرية المشروطة، وأشير إلى روايات برهان الخطيب (العراق) ليلة بغدادية (السويد 1990)، وأحمد يوسف داوود (سورية) فردوس الجنون (دمشق 1996)، وسليم بركات (سورية) فقهاء الظلام (قبرص 1985) نموذجاً لتفعيل الفنطزة استيعاباً معرفياً وجمالياً للواقع وسلطانه السياسي والاجتماعي من خلال احتضان المسكوت عنه في رؤية العالم، إذ تخترق هذه الروايات، ومثلها كثير، المحرم والحرام السياسي والاجتماعي والديني، ولاسيما تعبيرات السلطان السائد المختلفة.
ح. ويقودنا هذا التعبير الروائي عن المسكوت عنه إلى إثارة الأسئلة التالية: هل الرواية نسق في متخيل، أم نسق ثقافي مرهون بمرجعية ما، أم هي النسقان معاً؟ ولا نغفل أن الرواية السيرية أو الوثائقية أو الانسيابية (التي تنساب مع نهر التاريخ) تخلق تخيلها الخاص. وما صلة الرواية بالأخلاق؟ هل للرواية مجتمعها الخاص أم تحيل إلى مرجع مرتهن بأخلاقية ما في التاريخ العام أو في حركية المجتمع الخاص شديدة الصلة بالجذور الثقافية الإناسية والدينية وسواها؟ وما مدى تعبير المسكوت عنه عن فكرة الحرية في اختزال المحرم والحرام في الرواية أو احترامه ما دامت الحرية مشروطة دائماً في كل حالة تاريخية في الحكم على الحالات التالية: الجسد والمثلية، الجسد والبغاء، الجسد وسفاح القربى، الزواج والعلاقة الحرة أو المخادنة، أو الخيانة، الزواج وأنواعه المتفق عليها أو المرفوضة، الطوائف وجثثها ومستنقعها، الرموز والعلاقات والألقاب المقدسة أو المنبوذة واجتراحها بالتدنيس، المنظومة اللغوية والاعتبارية ضمن النسق الثقافي السائد: نظام حكم أسرة، قبيلة، فرد.. ما مدى تسلل المسكوت عنه إلى وقائع بعينها، أو مكان بعينه. ما حدود علاقة الرواية بالتناص والمتناصات في الملفوظية وسواها في جلاء المسكوت عنه؟ مما يستدعي النظر المعمق في العلائق المتشابكة في السرد الروائي لإظهار المعنى وما وراء المعنى (ميتا رواية)(24). كيف تحدد العلاقة بين الرواية والرقابة لمعرفة آفاق المسكوت عنه وتجلياته قبل النشر أو بعده؟ وهي مسألة راهنة وضاغطة تشير إلى أزمة الحوار مع الذات في تجاذبات المثقف والسلطة التي تصل إلى حد المأزق. ولا يقلل من هذا كل تطور النشر التقليدي إلى النشر الإلكتروني عن طريق المعلوماتية والإنترنت مجاوزة للرقابة القبلية أو البعدية في الدولة توكيداً للسلطان الاجتماعي والديني السائد، فلا تنتفي معه المخاطر، بل تتفاقم أذى وتقييداً على الحرية مثلما تتبدى في وسائل النقد والإعلام أو في سيادة القانون الذي يحمي الأعراف والتقاليد، ويصون الحق العام والحق الشخصي، أو في صعوبات أشكال ضبط الحرية من حيث لزومها المطلق أو المشروط، ومن حيث إمكانات تحققها العسيرة.
***
مراجع البحث:
أـ الكتب:
1. أحمد خريس: العوالم الميتاقصية في الرواية العربية. دار أزمنة. عمان 2001.
2. أمينة غصن: نقد المسكوت عنه في خطاب المرأة والجسد والثقافة، بيروت 202.
3. إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية. تعريب كمال أبو ديب. دار الآداب. بيروت 1997 (بالإنجليزية 1993).