الوطن والمواطنة
الوطن والمواطنة ـــ أ.د.حسين جمعة
الوطن ـ في اللغة ـ محلُّ الإقامة مطلقاً ومنزل الكائن حيث يولد وينشأ ويتربى تربية نفسية عاطفية وفكرية واجتماعية. فهو الحيز الجغرافي الذي يتخذه لنفسه مسكناً، وجمعه أوطان. واسم المكان منه (أيضاً) المَوْطن وجمعه المَواطن، والفعل منه أَوْطن يُوْطن: أي أقام وسكن ويقال: وطَّن الأرض، يوطِّنُها، توطيناً، واستوطنها يستوطنها استيطاناً: أي اتخذها وطناً، والمستوطن (بكسر الطاء) اسم فاعل، وبفتحها (اسم مكان)، وقديماً قال رؤبة بن العجاج(1): أَوْطنت أرضاً لم تكن من وطني.
ويمكن أن نستعمل فعل (واطن ـ يواطن) واسم الفاعل منه مُواطن؛ وجمعه مواطنون.
أما الوطن بالمعنى الخاص لـه فهو البيئة الروحية التي تتجه إليها عواطف الإنسان القومية. ويتميز الوطن عن الأمة (Nation) والدولة (Etal) بعامل وجداني خاص، وهو الارتباط بالأرض وتقديسها، لاشتمالها على قبور الأجداد(2).
وقال أديب إسحق الدمشقي المولد والنشأة (1856 ـ 1885م): الوطن عند أهل السياسة مكانك الذي تنسب إليه ويحفظ حقك فيه، ويعلم حقك عليه، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك(3)
وفي ضوء ذلك كله ليس هناك مخلوق على هذه الأرض إلا وله وطن؛ ومن المعروف أن كل إنسان في العالم يملك حَيِّزاً جغرافياً يطمئن فيه؛ وإذا غاب عنه اشتاق إليه ـ بغض النظر عن جنسه وعقيدته وطائفته وعشيرته. ويتميز الوطن من الدولة بأنه أكثر خصوصية منها على اعتبار الارتباط ببقعة جغرافية محدودة، ثم تماهى الوطن بالدولة؛ والدولة القُطْرية العربية خاصة لأننا صرنا نميز بين النضال الوطني لكل قطر عربي، وبين النضال القومي للأمة العربية، علماً أن أغلب التيارات الفكرية العربية ترى في تسمية الجغرافية التي تضم الأقطار العربية (الدول) وطناً واحداً، إذ أخذ أصحابها يطلقون عليه اسم (الوطن العربي) على اعتبار أن العرب كانت واحدة في التربة وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأَنَف والحمِيَّة، وفي الأخلاق والسجية فسُبكوا سبكاً واحداً وأُفْرغوا إفراغاً واحداً(4) ـ كما قال الجاحظ ذات يوم ـ ما يعني أن الانتماء إلى العروة غدا ثقافة أصيلة وإنسانية غير قائمة على العنصرية والعصبية إلى عرق دون عرق؛ وإلى دولة دون دولة، فهي الجوهر الجامع للانتماءات الوطنية المتعددة.
فإذا كان العقد الاجتماعي بين الدولة وأبنائها مؤسساً من خلال القانون والحقوق والواجبات فإن الهوية القومية تؤسس في ضوء الانتماء الذاتي الطوعي إلى الوعاء الجغرافي التاريخي الثقافي الأوسع، أياً كانت الأخطاء التي ارتكبتها الدول القطرية بحق الانتماء إلى العروبة.
وبهذا بدأت الحدود الثلاثة للوطن تتضح بقوة، إذ جملة القول ـ كما قال أديب إسحق ـ أن الوطن من موجبات الحب والحرص والغيرة ثلاثة تشبه أن تكون حدوداً:
الأول أنه السكن الذي فيه الغذاء والوفاء والأهل والولد،
الثاني أنه مكان الحقوق والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية، وهما حسيان ظاهريان؛
الثالث أنه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسان ويَعزُّ أو يَسْفُل أو يذل، وهو معنوي محضاً(5).
فالوطن ـ وفق هذه الأبعاد الطبيعية والاجتماعية والثقافية ـ لم يعد مجرد كلمة جوفاء، ولا كلمة عابرة تلوكها الألسنة وتمضي؛ ولم يعد مجرد تراب أصمَّ لا يحمل من المعاني إلا دلالته المادية ؛إنه التراب / المحلُّ المجبول بذكريات أهله وعاداتهم وحياتهم؛ والممزوج بخبز يومهم، والدم الذي يجري في شرايينهم؛ إليه ترنو العيون، وفيه تهيم القلوب، ومنه تنبثق المعاني الأصيلة وتتطور.
وقد عبر الجاحظ عن ذلك كله في (رسالة الحنين إلى الأوطان) فقال: إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه وقال على لسان أحد الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن(6).
وأكد القرآن الكريم حب الوطن ودياره فقال سبحانه: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم (البقرة 2/ 246) وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عمَّر الله البلدان بحب الأوطان وكان يقال: لولا حب الناس الأوطان لخسرت البلدان(7)
ولهذا كله تعلّق الشعراء بأوطانهم ـ مهما كانت قساوتها؛ وتغنوا بسحرها الحلال، ووصفوها وصفاً يؤكد حبهم لها، وإذا ارتحلوا عنها حملوا بعض ترابها ليستنشقوه؛ إذا نزل بهم زكام أو صداع. وإذا طال غياب الإنسان عن وطنه حَنّ إليه حنين الأم الولْهَى بأطفالها؛ وحنين الإبل إلى أعطانها، ولن يُشْفَى إلا بالعودة إليه وقيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان، قيل: فما الذلة؟ قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان(8).
ومن هنا انبثق من خلال حب الوطن والتعلق به ـ منذ القديم ـ ما عرف بأدب الاغتراب والغربة، والغربة: البعد عن الوطن، واغترب وتغرّب: ابتعد عن الوطن، بعداً مكانياً أو نفسياً(9).
وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك. وقيل: الغربة كربة، والقلة ذِلّة(10). وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك فلا تنسَ نصيبك من الذلة(11).فالغريب عن دياره ووطنه لا يستعذب مكاناً غيره. وفي ضوء ذلك كله تصبح العلاقة بين الوطن وأبنائه مستندة إلى الحقوق والواجبات وفق علاقة تبادل فطرية تؤكد الانتماء، على اعتبار أن الوطن غدا جزءاً من الإنسان والإنسان جزءاً منه مادة ومعنى، وكل موطن أحب إلى صاحبه من غيره. فالوطن يمثل مفهوم الانتماء إلى الأرض وصيانته بأهداب العيون وحراسته من كل أذى، فهو الأرض والعرض والشرف والوفاء والإخلاص والصدق والحرية والقيم والأصالة، ومنه تتوهج معاني البطولة والتضحية والشهادة.
فهو بهذه المعاني وغيرها لم يعد مجرد حيّز جغرافي ينتسب إليه الإنسان سواء تمثل بالقرية أم المدينة أم المحافظة أم الدولة أم الأمة، إنه الجزء الأهم في كينونة الإنسان وحيويته وتميزه.
وفي صميم ذلك تتجلى علاقة المواطنة بين الوطن والمواطن من جهة؛ وبين أبناء الوطن على أساس المشاركة الوطنية في كل ماله وعليه من جهة ثانية، وبينهم وبين غيرهم على جهة الاحترام المتبادل والمتكافئ والمثاقفة الحرة من جهة ثالثة. فالمواطنة عقد اجتماعي بين الوطن وأبنائه يتجلى من خلال المشاركة المؤطرة بما يعرف اليوم الحقوق والواجبات؛ التي كفلها الدستور. وهذه الصيغة اللغوية تتماهى بالفطرة النقية لدلالة اللفظ ـ في العربية ـ على المشاركة، وتؤكد كرامة الإنسان وتعزز الحفاظ على حياته حراً أبياً، علماً أن الإنسان يفضل وطنه على نفسه مهما قسى عليه كما قال الشاعر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة * * * وأهلي وإن ضَنُّوا عليَّ كرامُ
فالوطن لأبنائه جميعهم وفق مبدأ العدل والمساواة الذي يتحقق من خلال سيادة القانون، فهم متساوون في الحقوق والواجبات على الصُّعُد كافة. وتتحدد المهمة الأساسية للدولة برعاية ذلك كله من أجل مصالح المواطنين. لهذا ذهب فرنسيس فتح الله مراش المولود في حلب
(1836م) والمتوفى بها (1973م) إلى أن المواطنة هي سَرَيان قوانين الدولة بدرجة واحدة على كل المواطنين دون أدنى تفرقة بينهم، ودون اعتبار للفارق في الوضع… وينبغي التعامل مع الجميع بشكل متكافئ حتى لا ينتهك القانون. وإذا كان الزعماء الميسورون قوة موحدة، فالصغار والفقراء موجِّهون لهذه القوة… إذ لولا الإنسان الصغير لما كان بوسع الكبير أن يفعل أي شيء، ولولا كدح الفقراء لما تمتّع الأغنياء بالخيرات، ولما صان أحد ثرواتهم، ولمّا شيّد لهم أحد قصوراً مشيّدة(12).
ومن ثم فالقانون يمثل لحظة فارقة في تكوين الوعي الدقيق للمواطنة باعتباره مبدأًً أساسياً لنشوء الدولة أو الأمة والتعامل بينها وبين مواطنيها.
وبناء على ما تقدم فإنني أرفض تقسيم أبناء الوطن على أساس الفقر والغنى؛ وإنما أعتمد مبدأً آخر يقوم على الالتزام بمبدأ المواطنة ـ سواء في ذلك الانتماء إلى دولة عربية ما كسورية أم الانتماء إلى العروبة أرضاً وهوية ـ؛ إنها المواطنة التي تعني مشاركة جميع أبنائه في بنائه وتقدمه. وهو التزام طوعي للإنسان عمقاً وأفقاً لا يقوم بالإكراه، وإنما يعمر بالمحبة والتعاون ويعبّر عن العلاقة الدافئة بين طاقة الإنسان الخيّرة، وعناصر الأرض الخيّرة، ليظل الوطن حراً وكريماً عزيزاً، وحبُّ الوطن من الإيمان.
ومن هنا فإن أبناء الوطن يوزعون بين قسمين، قسم ينتمي إلى فئة الأحرار الشرفاء الذين يرون قيمة الانتماء إلى الوطن قيمة مقدسة يبذلون من أجلها كل غالٍ ونفيس ويجودون بأنفسهم من أجله، والجود بالنفس أقصى غاية الوجود، ومن ثمة تصبح الشهادة أعلى مقاماً في سلم القيم. وفي هذا المقام قال عبد الحميد الزهراوي الحمصي المولد والنشأة (1855-
1916م): والخلاصة أن جمهور الناس محبّون لأوطانهم، وأنّ مَنْ سلموا من العلل التي تورث الشذوذ لا يحتاجون في حب الوطن إلى كونه جميلاً أو طيّب الهواء، وإنما يحبونه بسائق طبيعي(13).
أما القسم الثاني فهو يمثل المواطنين المرتزقة، كيفما كان الارتزاق حلالاً أم حراماً، ولو على حساب الوطن وكرامته وحريته. ولعل من أشد الأمور مرارة في النفس هذه الأيام شيوع ظاهرة الارتزاق والمرتزقة، وانتشار فكرة الوطن المزرعة بدل فكرة وطن المواطن. وعليه لم يكن للمرتزقة همٌّ إلا استحلاب خيراته رشوة وسرقة، فساداً وإفساداً؛ إنهم يلوثون هواءه حتى تتضخم أهواؤهم كتضخم حجم نفاقهم.
فالمرتزقة لا يضحّون من أجل الوطن لأنهم لا يحبّون إلا ذواتهم، ليس بينهم وبينه أي علاقة من محبة، قتلوا كل نوازع الصدق والإخلاص معه، لأن علاقتهم به لم تعد إلا مجرّد علاقة تجارية في سوق النخاسة البخس، ما يجعلهم يبيعونه في أول مزاد يعرض عليهم؛ وعلاوة على هذا كله فهم أكثر الناس ثرثرة وتلوناً، تراهم يميلون مع كل موجة، ونسمة، ونغمة، وصبوة. فإذا ما تأملناهم مطولاً رأيناهم يغيّرون أفكارهم ومشاعرهم وفق كل مصلحة لهم أو كل ثقافة قادمة من وراء البحار تحت مزاعم واهية وعجيبة، ليس لها هدف إلا الإتجار بالوطن والمواطن للوصول إلى مآربهم الخاصة ومنافعهم الذاتية.
ولهذا تراهم يصمّون آذاننا بالحديث عن كرامة الإنسان وحريته، وحقوقه الإنسانية التي كفلتها الأديان والشرائع والمواثيق الدولية، وراحوا يتباكون على المجتمع المدني الحر، ويفندون الأحاديث في استبداد نظام ما للسلطة مهما كان نوعها. فأمثال هؤلاء فَصمُوا عرى القيم الأخلاقية بين كرامة الإنسان والوطن؛ بل فصموا عُرى العلاقة الصادقة بين الحقوق والواجبات، وقد أخلّوا بمبدأ التوازن الروحي والإنساني، فقتلوا التفاعل الخلاّق بين ارتباط المواطن وأرضه ومجتمعه، ولاسيما حين لبست دعواتهم مفاهيم السيادة الوطنية، ومبادئ العدل والحرية والمساواة وفق مفهوم الحقوق والواجبات.
والرأي عندنا أنّهم أحلّوا الخلاف على مبادئ الحقوق المجردة للإنسان محل الحقوق والواجبات التي كفلها الدستور والقانون، ولاسيما أن مبادئ الحقوق المجردة من دون إرجاعها إلى مبدأ المواطنة غدت ظاهرة كلامية يمارسها الإعلام الغربي ومن يسير في ركابه لفصم عُرى العلاقة الوطنية بين الوطن ومواطنيه وقتل روح التضحية في سبيله؛ وإلا فلن يكون إنساناً حضارياً ومتمدناً.
وتعدّ هذه الدعوة من أخطر الدعوات في عالم اليوم، لا يضاهيها خطورة إلا تلك التي تربط الوطن بالدعوات الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو العشائرية أو الفئوية أو…. والإخلاص لهذه الجماعة أو تلك إنما صار يعني الإخلاص للوطن.
وإذا كانت الدعوات المضلِّلة والمزيفة قد نجحت ـ مرحلياً ـ في فَصْم عُرى العلاقة بين الهوية الصُّغرى لعدد من أبناء العروبة وبين انتمائهم الأرحب إلى العروبة، إذ صار كل من يتمسك بهويته القومية مثار استهجان عندهم ـ وهي عدوى انتقلت إلى بعض الألسنة والأقلام من ذوي الرأي والفكر ـ فإنها لا تستطيع أن تمسح مفهوم الانتماء القومي من ذاكرة أبناء الأمة.
وجملة القول أَنَّ هذه الأفكار تحتاج منّا إلى إعادة إحياء في الذهن العربي، وحينما نُعيد فعل ذلك لا يعني أننا نريد إيقاظ الهمم من جديد، وإنما نريد تأسيس الوعي بالوطن والمواطنة من أجل بناء نهضتنا الوطنية والقومية العصرية التي تستند إلى مشروعية القانون، وبناء المؤسسات وفق أركان المواطنة الحقيقية. وتتجلى هذه الأركان بما تقدّم وبما يأتي، ونلخصها بالنقاط التالية:
1) المواطنة عدل وإخاء:
يجب أن تؤسس المواطنة لمفهوم الحقوق والواجبات وفق مبدأ الارتباط بوحدة الانتماء واللغة والمشاعر والمشاركة القائمة على العدل والمساواة في إطار سيادة القانون. فحدّ المواطنة الأهم أن يكون للمرء حقوق وواجبات سياسية، واجتماعية واقتصادية تستند إلى المؤاخاة والعدل والقدرة والكفاءة والتوازن، لأن الوطن ـ كما قال عبد الحميد الزهراوي ـ يعدّ المكان الجامع لنا جميعاً سواء جمعتنا الدول المتجاورة، أم الألسنة المُتَّفقة، أم الضمائر المتحدة، أم المصالح المتقارنة… الوطن هو المنبثق الأوّل لما يسمّى الحقوق والواجبات، وهو لا يزال مدار الاجتماع والسياسة وحولهما تدور الحقوق والواجبات(14). وفي هذه الحال ينبغي ألا يغيب عن بال أحد منا أن الحقوق والواجبات الوطنية ينبغي أن ترتبط بالحالة الإنسانية الأخلاقية التي كفلتها مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الراعية لحقوق الإنسان، بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
2) المواطنة حرية:
تتأسس المواطنة على مفهوم الحرية الواعية والأخلاقية المنضبطة والمسؤولة والملتزمة بقوانين متمدنة، وهي حرية يمارسها أبناء الوطن بشكل ديمقراطي منظّم يعي كل التحولات السياسية والفكرية والاجتماعية، إذ لا وطن إلا مع الحرية كما قال حكماء الرومان ذات يوم، ولا وطن في حالة الاستبداد كما قال الحكيم الفرنسي. فالاستبداد يقتل كرامة الإنسان. ولذا قال الكواكبي: الاستبداد المشؤوم لم يرضَ أن يقتل الإنسانُ الإنسانَ ذبحاً ليأكل لحمه أكلاً كما يفعل الهمج الأوّلون، بل تفنن في الظلم: فالمستبدون يأسرون جماعتهم، ويذبحونهم فَصْداً بمبضع الظلم، ويمتصّون دماء حياتهم بغَصْب أموالهم، ويقصّرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم(15).
ولا تكمن المشكلة فقط في إنفراد نظام ما بالسلطة، ومصادرة الحريات العامة، وممارسة الاعتقال والتصفية؛ وإنما تكمن في عدم إمكانية المؤسسات المدنية، والسلطة التشريعية من محاسبة السلطة، اللهم إلا إذا كانت غير موجودة. وهذا كله ما يؤدي إلى فقدان المواطنة الحقيقية بين السلطة ومواطنيها، لأن السلطة السياسية المستبدة تبقى خارج المحاسبة على حين تعدُّ المواطنة في أعلى أنماطها ألقاً معبرة عن الحرية والديمقراطية. أما من يضع المواطنة في حالة صدام مع الحرية، تحت أي مزاعم كمواجهة الخطر الخارجي، أو الحفاظ على الوحدة الوطنية فإنما يهدم الوحدة الوطنية؛ ولا ينتصر للدفاع عن استقلال الوطن وحريته. فالمواطنة حرية؛ والحرية تعني كراهية الاستبداد واقتلاعه، بمثل ما تعني محاربة الاستعمار الخارجي، والتصدي لكل أشكال الهيمنة الخارجية، والمواطنون الأحرار وحدهم من يواجه ذلك كله.
ولعل أخطر ما في الوجود على حرية الأوطان أن تستباح من قبل الغرباء الأجانب الطامعين في خيراتها، ما يعني أن الحرية الكبرى إنما هي حرية الوطن المؤكدة لحرية الإنسان فيه وحقه في العيش الكريم بطمأنينة وهدوء. وهنا تتجلى المواطنة الأصيلة للأحرار والشرفاء من أبناء الوطن سواء كانوا فقراء أم أغنياء. ولهذا يوجه عبد الحميد الزهراوي خطابه إلى الأغنياء خاصة قائلاً لهم: أخاطب الأغنياء منكم وأذكرهم ـ إن كانوا ذاهلين ـ أنه يوجد من هم أكثر منهم أموالاً، ولكنهم مع تلك الأموال لا تطيب لهم الحياة تحت يد الأجنبي ثم قال: أدعوكم إلى التفكير في شأن الأوطان(16). وإننا إذ نتحدث عن مثل هذه الحالة ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن حرية الأمة ـ اليوم ـ مهددة بالمخططات الأمبريالية عامة والأمريكية خاصة، فضلاً عن الخطر الصهيوني العظيم الذي يسعى إلى ابتلاع المنطقة العربية في مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ ما يجعل الانتماء الوطني والقومي على السواء أثراً بعد عين. وهذا ينقلنا إلى مفهوم المواطنة الجامع للحالة الوطنية والقومية.
3 ـ المواطنة حالة وطنية وقومية:
تعني المواطنة التمسك بالوحدة الوطنية، ومن ثم وحدة الأمة على أساس التراكم الثقافي المعرفي التاريخي السيوسيولوجي والأنثولوجي، لأن المواطنة حالة ثقافية وطنية قومية، وإنسانية؛ وهي حالة اجتماعية تقدمية. إذ لا يجوز لأحد أن يفهم المواطنة في حدودها القطرية، على أهمية تنميتها في داخل كل قطر، بل عليه أن يعزز المفهوم الأوسع لها باعتبارها حالة قومية؛ وعلى اعتبار أن هناك مصيراً واحداً وحتمياً بين أقطار الوطن العربي. وليس الأوربيون بعيدين في تجربتهم عنا، إذ وفقوا بين وحدة دولهم الوطنية والتكامل الأوربي، على الرغم من تعدد أعراقهم.
وتتحقق هذه الوحدة بالممارسة الحقيقية الصادقة البريئة والمنزهة عن كل الدعوات الضالة المضللة كالإقليمية والجهوية والفئوية والمذهبية والعشائرية والطائفية، كما تتحقق ـ في الوقت ذاته ـ بالتحرر من كل أشكال التخلف والانحراف والاستعباد.
فالمواطنة ـ بهذا التصور ـ انتماء نفسي وثقافي أصيل حر ومسؤول, انتماء إلى الأرض والتاريخ المشترك، والآمال الواحدة التي يتفاعل فيها المواطن مع أبناء مجتمعه ويشاركهم آلامهم بإرادة صابرة، وعقلية واعية، وروح مخلصة، ومعرفة عملية وعلمية ذات مضمون أخلاقي وإنساني، ما يعني أن دلالة المواطنة لا تعني مجرد التوافق والاتفاق على فعل ما في حيّز جغرافي وطني محدود؛ وإنما هي صورة فاعلة وحقيقية لمجموعة القواعد السياسية والأخلاقية والإنسانية التي يجتمع عليها أبناء الوطن في وحدة وطنية متآلفة وراقية. وهي وحدة قومية بالضرورة؛ إذ لا يمكن أن يكون لأي قطر عربي شخصية وطنية فاعلة في الوسط العالمي إذا هو نأى بنفسه عن الانتماء القومي. فمن لم يمارس ذاته القومية لا يمكنه أن يمارس ذاته الوطنية، ولا وجوده الفاعل ممارسة كاملة وحرة. ولعل ما يجري على ساحة الوطن العربي يؤكد خطورة حجم الوباء الذي أصاب الجسم الوطني والقومي. فهناك احتراب وصراع قاتل بين أبناء الوطن الواحد على فكرة المواطنة ثم هناك اختلاف في فهم الهوية وحدود ارتباطها بالمواطنة التي تؤصل انتماء أبنائها إلى الأمة الواحدة بفصائلها السياسية والفكرية المتعددة. وبدلاً من أن تكون التعددية إثراء وارتقاء في مفهوم المواطنة أصبحت مادة هدم لها، على الرغم من وجود العوامل المشتركة المكونة لها، مؤكدين أن ما بين العرب من عناصر الالتقاء أكبر بكثير مما بين الأوربيين، علماً أن القوى الخارجية ـ فضلاً عن المشروع الصهيوني ـ لا تزال تعمل على إسقاط المواطنة القومية، من خلال سياسة منهجية مدروسة لتأجيج الحقد والبغضاء بين أبناء الأمة العربية، وتأسيس الإقليمية المجزئة للمشروع القومي. وهذا يعني أن نعمل على إلغاء التعصب القطري والإقليمي والفئوي الذي أخذ يشيع في أيامنا هذه، والعمل على التوفيق بين ما هو وطني وما هو قومي، أي أن نحدد بدقة ومنهجية جملة من المصطلحات التي لا زالت موضع خلاف بين المثقفين والقادة والسياسيين.
عليهم جميعاً أن يخلقوا حالة وطنية جامعة لكل أطياف المجتمع وفق إطار مصلحة الوطن، ثم الأمة؛ وإلا انتهى كل قطر عربي إلى تكوين حالات انفصالية للأعراق الداخلة فيه، وهو ما تعمل عليه الإدارة الأمريكية في العراق والسودان، وربما غيرهما، مستفيدة من الأخطاء السياسية والفكرية التي وقعت فيها الحكومات المتعاقبة.
علينا جميعاً أن نحقق حالة الثقافة الوطنية العادلة التي تتجه إلى التكامل الديمغرافي والتاريخي والثقافي لأبناء الأمة العربية، بالاعتماد على منهج معرفي علمي دقيق وواضح.
4 ـ المواطنة قيمة أخلاقية وإنسانية راقية:
في ضوء ما تقدم ندرك أن المواطنة تعدُّ قيمة أخلاقية وإنسانية راقية؛ فضلاً عن كونها تمثل روح التعاليم الدينية. فإذا كان فقدان الحرية في الوطن واستبداد فئة ما به وبأبنائه يمثّل كل معاني الشر والظلم والإساءة والغدر والذل والفقر والجهل والمرض والجهالة والبطالة فإن تفريغ المواطنة من مبادئها الخيرة، وصفاتها الأخلاقية والإنسانية يقتل في الإنسان النقاء والصلاح وصدق الانتماء إلى الوطن فيفقد حبه ويخسر التضحية في سبيله. ينتشر النفاق والرياء والغش والتدليس، والخيانة، والانتهازية والوصولية، والسرقة والنهب والفساد والإفساد. وكل من يتصف بهذه الصفات لا يختلف عن أولئك الشذاذ الذين قطعوا الطرق وسفكوا الدماء، وأباحوا لأنفسهم قوانين خاصة تحقق مصالحهم.
فالمواطنة بهذه المضامين الأخلاقية لم تعد مجرد دلالة تعبر عن قوانين وحدود تستجيب للولادة والنشأة، ولم تعد مجرد حقوق وواجبات، وإنما هي كينونة وجود فاعل وحيوي تمثل خصائص الإنسان الباني للحياة؛ الساعي إلى تطويرها، والمحافظ على كرامة أخيه الإنسان وسعادته وحريته.
فالمواطنة انتماء عقلي موضوعي وأصيل لقيم الحق والخير؛ وكلما ارتفع المواطن في درجة المسؤولية وجب عليه أن يكون قدوة، وعن قناعة، وعليه أن يعيش حسّ المواطنة بحالة وجدانية عالية لكي يكون قادراً على تحمل المسؤولية، وبذل العطاء والتضحية بأريحية، لأن المواطن ـ في الأصل ـ متشبه بالقيم السامية، ومشحون بحب الوطن وقضاياه.
5 ـ المواطنة حوار موضوعي ومسؤول:
إذا كانت المواطنة تؤسس الانتماء العقلي الواعي الساعي إلى إقامة الحق والعدل من أجل تنمية الشخصية الوطنية للمواطن المجبول بحب المساواة والمؤاخاة والحرية والمؤمن بفكرة التنوع والتعددية السياسية والفكرية فإن ذلك لن يتحقق إلا بالحوار الواعي الموضوعي والمسؤول بين أبناء الوطن، الحوار الفاعل المستند إلى الاحترام المتبادل، للوصول إلى الحقيقة المطلقة؛ ولن يكون الحوار إيجابياً وفاعلاً إلا من خلال المثاقفة فيما بينهم أولاً، وفيما بينهم وبين الآخر المغاير ثانياً. وأي خلاف ينشأ بين الأطراف السياسية والفكرية ينبغي أن يزول على طاولة الحوار الوطني؛ وتحريم أي عنف أو اقتتال من أي نوع كان. فالحوار بالسيف والبندقية لا يعني إلا قتل المواطنة الشريفة. ومن ثم فالمواطنة لا تبنى بالإقصاء والإلغاء للآخر؛ بل باحترامه وتبادل الرأي معه، أياً كان الخلاف كبيراً؛ فكل رأي قابل للنقاش ما دام الجميع قد تآلفوا في الوطن الواحد، واتفقوا عليه. وينبغي أن تظل المنافسة بين التيارات السياسية والفكرية حرّة ونزيهة، وأن تسير في طريق الحوار الموضوعي المتسامح والمسؤول.
خلاصة ونتيجة
بناء على ما تقدم كله نرى أن كل مواطن في وطنه إنما يلتزم بصفة الانتماء الأصيل إليه، وعليه أن يتحمل مسؤوليته كاملاً نحوه. ومن ثم لا بد من العمل الجاد والدؤوب لمعالجة أي فساد أو اقتتال واقتلاعهما من الذات الفردية والجماعية لأن إصلاح الوطن لا يكون سليماً من دون إصلاح النفس أولاً، والبيت والجماعة ثانياً، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج.
فعلى الأفراد ـ أينما كان موقعهم ـ وعلى الأسر والمؤسسات التربوية والعلمية والإعلامية والثقافية… وعلى المجتمع والدولة أن يسعوا ـ كل من مكانه ـ إلى عملية إصلاح كبرى تبدأ بالذات وتنتهي بالآخر. فالمواطنة لا تكون إلا بممارسة جادة ومسؤولة وموضوعية، ممارسة تنطلق من حب الوطن؛ لا من حب المنافع الخاصة.
فالتربية الوطنية لا تتوقف عند فئة دون أخرى، ولكن يظل لأصحاب الفكر النقدي الإبداعي الموضوعي مزية خاصة في تربية المواطنة وتثقيفها باعتبارهم القدوة الحسنة؛ لا باعتبارهم النخبة الاجتماعية الرفيعة. ومن هنا يصبح على المثقفين والأدباء والكتاب والمفكرين والقادة والسياسيين المتنورين، والأحزاب والتيارات الفكرية، ومؤسسات الإعلام خاصة مهمة كبرى وعالية في إعادة الوعي بالمواطنة. ويظل للسلطة السياسية الأثر الأكبر في ذلك كله، فهي التي ينبغي عليها أن تصون مصالح مواطنيها، وتقوم على تطبيق القوانين، والسهر على أَمْن الوطن والمواطن. وإذا لم تقم بمسؤولياتها وفق مبدأ العدل والمساواة، والعمل على إشاعة الحرية وكرامة الإنسان فعلى المواطنين ـ وبأساليب ديمقراطية سلمية وموضوعية ـ الإتيان بسلطة تعنى بشؤونهم وترعاهم الرعاية الكاملة.
(1) لسان العرب (وطن) ـ دار صادر ـ بيروت ـ وانظر المُعجم الفلسفي 2/ 580، د. جميل صليبا ـ دار الكتاب اللبناني ـ بيروت ـ 1979م.
(2) المعجم الفلسفي 2 / 580.
(3) الفكر العربي الحديث 217، رئيف خوري ـ تحقيق وتقديم محمد كامل الخطيب ـ ط3 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق ـ 1993م.
(4) رسائل الجاحظ 1/16 ـ شرح وتقديم عبد الأمير مهنا ـ دار الحداثة ـ بيروت ـ 1988م.
(5) الفكر العربي الحديث 220.
(6) رسائل الجاحظ، 2/244 ـ وانظر المنازل والديار (فصل في ذكر الأوطان 219 ـ 241).
(7) رسائل الجاحظ 2/245.
(8) رسائل الجاحظ 2/257.
(9) لسان العرب (غرب).
(10) رسائل الجاحظ 2/246.
(11) رسائل الجاحظ 2/247.
(12) الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسورية ومصر ص (167) ـ ز.ل. ليفين ـ ترجمة بشير السباعي ـ دار ابن خلدون ـ بيروت ـ 1978م.
(13) الأعمال الكاملة ـ عبد الحميد الزهراوي ـ 357 ـ جمعها الدكتور جودت الركابي، والدكتور جميل سلطان ـ وزارة الثقافة السورية ـ دمشق ـ 1996م.
(14) الأعمال الكاملة ـ عبد الحميد الزهراوي ـ 357 وانظر الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسورية ومصرـ ص77.
(15) طبائع الاستبداد، ص70.
(16) الأعمال الكاملة ـ عبد الحميد الزهراوي ـ 362-363.