منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#49834
ملامح الأفق:النظام السياسي العالمي
لتكن البداية بالبحث فيما حدث في الدول الاشتراكية والاتحاد السوفياتي ثم الانتقال إلى ما يحدث في النظام العالمي كله .وذلك لا يعني أن التحوّلات التي أدّت إلى ظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد محصورة لهذا الحدث،بغض النظر عن التكامل الأوروبي وظهور النمور الآسيوية ،والثورة الصناعية الثالثة.لكن سقوط الاتحاد السوفياتي كان سبباً أساسيّاً ونتيجة.وسنلحق هذا الرأي بربطه بالقوى والعوامل الأخرى التي أدت إلى ظهور التشكيل الحالي للنظام الذي لم يتبلور بعد.
بتقديرنا إن ما حدث في العالم الاشتراكي اليوم،وبعيداً عن الاسقاطات الذاتية والأيديولوجية المحمولة،إنما يشكل عملية مراجعة تصفوية للنظام الدولي ذي الاستقطابين والذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية،وكانت ملامحه تتجلى على النحو التالي:
1- إقامته كنظام استقطاب ثنائي كتلي .
2- تقاسم مراكز النفوذ العالمي .
3- التفاعل عن طريق الأزمات.
4- إقامة نظام عقلاني للسياسة الدولية،وهذه العقلانية تعني فيما تعنيه تجنب الحرب بين العملاقين،واختبار القوى بعيداً عن النطاقات الأمنية لكل من العملاقين،وكذلك إقامة،أو المساهمة في إقامة،نظام ضبط سياسي دولي،تدار من خلاله الأزمات.
والواقع ان ما حدث في النظام الاشتراكي،يمكن أن نلخص توجهاته على النحو التالي:
انه إعادة دمج للفرع الاشتراكي من الحضارة الغربية في جذع الأصل.فالنموذج السياسي الاشتراكي الذي تبلور بعد الثورة الروسية كان في أحد أوجهه محاولة لتخريج مأزق الوجه الرأسمالي للحضارة الغربية. حيث أن النظرية الماركسية لم تنتقد الحضارة الغربية بل أعلنت بوضوح انتماءها إليها،وكل ما قامت به أنها حاولت الخروج من مأزق توزيع الفائض الإنتاجي.أي انها لم تنتقد لبّ النظام الحضاري الرأسمالي الغربي في آليته المتمثلة على النحو:
مال + إنتاج  بضاعة  مال
وهو النظام الذي تجلت إشكالية في (علاقات الإنتاج)،حسبما ترى النظرية الماركسية،حيث اللا عدالة الاجتماعية-الاقتصادية.و كل ما سبق تمت عملية صياغته في إطار نظري تجريدي واسع جداً،حَوّل المسألة إلى خلاص من الخلاصات التي داعبت أفئدة الفلاسفة منذ أن بدأت توليفات الجمع بين (المعرفي والمأمول) منذ أفلاطون إلى الفارابي وصولاً إلى ماركس.
و بهذا فإن ماركس بانتقاداته للنظام الرأسمالي إنما كان يقيم تخريجاً خلاصياً للحضارة الصناعية الانتاجية الغربية بلافتة تحليلية عمومية،تتناول مشكلة الإنسان الاقتصادية برمتها.
إن طروحات ماركس،ببريقها المتماسك،قد تم تصويرها على أنها خلاص للإنسانية برمتها؛ تحت قاعدة الخلاص الاقتصادي.حيث تمت عملية تحليل (بأثر رجعي) للتاريخ اعتماداً على مبدأ مركزية الاقتصاد.و هي ذاتها المركزية التي عرفتها عملية الصعود والتنامي للحالة الحضارية الغربية وهذا التعميم قد كان اعترافاً من الماركسية بانتمائها إلى الغصن الغربي،و تبنيها لتعميم الحالة الغربية.و من هنا كانت التجربة الاشتراكية السوفياتية والمحيطة تجربة للخلاص الحضاري،و قد حملت معها هاجس الخلاص العالمي ولكن دائماً على الطريقة السوفياتية المركزية.والمسألة هنا ليست مسألة نموذج تطبيقي بعينه أُسيء استخدامه ولكنها مسألة انسجام عالٍ مع الطبيعة المركزية للحضارة الأوروبية تحت لافتة إنسانية .
المشكلة قد تجلت لاحقاً في عدة نواح: فالعملية القيصرية لولادة الدولة السوفياتية ومحيطها الأمني (الذي أتى على حاملة عسكرية) قد أقامت نظاماً مناوئاً للنظام الرأسمالي،والذي أشارت الأيديولوجيا الماركسية لتوها بأنه قادم بنقيضه (antithesis) معه وبالتالي قادم بنهاية الحضارة الأوروبية وإياه.و لكن هذا النظام الذي بُكّر بولادته وتمت عملية صناعته ذاتياً قد أغفل عدة نواحٍ:
الأولى: انه لن يكون نظام اللا دولة؛لأن الأخيرة هي معيار العصر بل إنه تتمة موضوعية للسير ورة التاريخية للدولة.بل إنه من الملاحظ أن دعاوى اللا دولة النظرية قد تحولت إلى نموذج ارتكاسي للدولة المتقدمة الغربية.أي أن اللا دولة المأمولة قد أضحت دولة كابوسيّة وتسلطيّة بعد أن كانت دولة شمولية.
الثانية: إن عملية البناء المتسارعة في الدول الاشتراكية قد أضاعت الجانب الإنساني المطروح في ثنايا النظرية،نظراً إلى أنها كانت تعاني من خروج من حرب مدمّرة،إضافة إلى إعلان الحرب الخفية عليها،فضلاً عن أن الموقف النظري المُضحي بالإنسان الفرد لصالح الإنسان النوع قد وجد في الدولة التوتاليتارية (الشمولية)نموذجه التطبيقي الأفضل،والتي غدت بعدئذ دولة تسلّطية.حيث باسم الغد الأفضل للإنسانية كانت عملية قهر الحريات و هي المضمون الحقيقي للدولة القمعية.
الثالثة: إن النظام الرأسمالي قد استطاع أن يوجد تخريجات إيجابية لمآزقه الاقتصادية وبذلك فقد أمكن له أن يضمن استمرارية لاحقة للحضارة الغربية.حيث حلت «النظرية العامة في التشغيل والفائدة» محل النظرية الكلاسيكية التي نقدها ماركس واستند في نتائجه إلى الخلاصات سابقة الذكر.حيث اكتشفت النظرية الحديثة أن انخفاض الأجور لا يؤدي إلى القضاء على البطالة .بل إنها استندت إلى صحة التحليل الماركسي بأن انخفاض الأجر يؤدي إلى قلة الطلب و قلة الإنتاج،وبالتالي المزيد من البطالة،و أضافت إليه أن المنتجين،وعندما ينخفض دخل العمال ويقل استهلاكهم،فإنهم بدورهم يتوقعون انخفاضاً أشد في المستقبل،لذا فإنهم يؤجلون المشاريع حتى يستفيدوا من الانخفاض الأكبر في الأجور مستقبلاً. وقد تمت عملية دراسة التشغيل على أساس الطلب الفعلي الكلي الذي يتوقف على كل من الطلب على سلع الاستهلاك،والطلب على سلع الاستثمار.فالدخل الكبير يشبع الحاجات الاستهلاكية،ويتبقى منه جزء للادخار،ولكن زيادة دخل الفرد تزيد نسبة الاستهلاك بمقدار أقل من زيادة الدخل،أي أنه كلما زاد الدخل زاد الادخار.والادخار عنصر انكماشي يقلّل الطلب على السلع.ونقص الطلب الكلي عن السلع،والناتج عن زيادة الادخار،يؤدي إلى نقص حجم ما ينتجه المنظمون،ومن ثم نقص حجم التشغيل،و بالتالي الوصول إلى البطالة.و قد ركزت هذه النظرية على أهمية الزيادة في الطلب على سلع الاستثمار بإنقاص الادخار.و إنه لكي يتحقق التشغيل الشامل لا بد أن يوجد طلب استثمار مساو للادخار الذي يحققه الاقتصاد كله عند مستوى التشغيل الشامل.و أن يتم تحويل جزء من الادخار إلى الاستثمار.و قد أكدت النظرية ان الاقتصادات الرأسمالية أصبحت تعاني في القرن العشرين من عدم قدرتها على تحقيق التشغيل الشامل لأنها تعاني من ضعف فرص الاستثمار حيث أن معدل تزايد السكان لديها قد أخذ بالتناقص مثيراً مشكلات أخرى،بحيث يكون من الخطر تطبيق ما وصل إليه من نتائج على اقتصاديات أخرى.
هذا على صعيد الخلاص الاقتصادي النظري.و لكن هذه السياسة التدخلية للدولة قد أكدت مسألتين:
1-أن ثمة إمكانية لإحداث نظام اجتماعي بأقل قدر من التفاوت الاجتماعي،رغم أن النظرية المطبقة لم تدع قط أنها تسعى لنظام فردوس أرضي.على اعتبار أن الأخير غير ممكن في عالم متحول رائده الإنسان.
2-أن الدولة ليست نظاماً فوقياً فحسب بل إنها نظام وسطيّ أيضاً.
و بهذا فإن كل تقدم للدولة إنما يعني تخلياً تدريجياً وجزئياً عن الإكراه (FORCE) لصالح ما يسمى الضبط (CONTROL) و إن كان هذا لا يعني التخلي الكلي عن الإكراه.
و لما كان النظام العالمي السابق قائماً،أو قد انتهى على أقل تقدير، إلى الدولة،فإن الدولة في النموذج الاشتراكي لم تستطع أن تكون دولة بالمعنى العصري القادر على أن يكون في عالم الدول:
فهي قد غلّبت الإكراه الفاضح على الضبط المؤسّسي والحياتي،كما أنها لم تعد قادرة على الاضطلاع بمهام إنسانية نذرت النظرية مسوغاتها لها.فالفساد كبير،والتطلع الاجتماعي لم يأخذ ناصية أحادية صوب القيم النفاذة والبيورتانية (النقيّة).بل انه قد تعالى صوب الاستهلاكيات...فضلاً عن أن الاقتصاد قد أُنهك،وهو لا يشكل إمكانية لتقدم مستقبليّ في عالم (الدول-الكتل)...
بالإضافة إلى ذلك،فإن الثمن المطلوب لسياسة الحرب الباردة من نفقات تسليح قد بلغ مستوى كبيراً.فقد أنفق الاتحاد السوفياتي منذ عام 1960 حتى عام 1987 ما مقداره /4600/ مليار دولار بأسعار عام 1984 فضلاً عن أن ما ينفق من الوقود في المجال العسكرية في سنة،كافٍ لتسيير شبكة المواصلات العامة في أمريكا لمدة/22/ سنة.
و إن مراجعةً لمخزون القنابل النووية لدى الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة تبين أنه قد بلغ من الكمية والنوعية ما يكفي لتدمير الحياة الإنسانية على الأرض /32/ مرة.كما أن نفقات التسلّح،بالمقارنة مع ما سبق،ليست منطقية بالقياس إلىالحاجة إلى البناء الاقتصادي.فلقد أنفقت الدول المتقدمة /12900/ مليار دولار (/12.9/تريليون دولار) على البرامج العسكرية،في حين أن اقتصادياتها قد أنتجت نمواً إنتاجياً لم يتجاوز قيمة أل /7200/مليار دولار،كما أن الرقم الاجمالي للمبالغ التي أنفقت على سباق التسلح في العالم كله خلال الفترة المتمددة ما بين /1960-1987/ مذهل إلى أبعد حد: انه /15/ تريلون دولار.
إن الاعتبارات السابقة ليست بلا قيمة بالنسبة لدول تعتمد العقلانية السياسية حتى في أوج ممارساتها التصعيدية،والنتيجة اللاعقلانية التي مُورست هي الانهيار.وهي في بعض أوجهها التي دفعت نحو تجاوز النظام القديم إلى الجديد.
ان التحولات التي جرت في الاتحاد السوفياتي السابق،هي مرآة للنظام العالمي الجديد،وقد أكدت حقيقة مُورست في السياسة،و لكن بشكل غير معلن دائماً،ألا وهي أن الايديولوجيا عامل من العوامل المعطّلة للفعل الديناميكي السياسي،و أن الايديولوجيا ليست إلا أداة تعبئة للكتل الشعبية،وأداة للتورية السياسية.فهي بالنتيجة النهائية تقود إلى الدولة السائدة (دولة المصالح)،رغم كل ادعاءاتها للدولة من نوع آخر،وبالتالي فأهم معيار للنظام العالمي القادم والجديد على الصعيد السياسي إنما يتجسد في (المصلحة).
المرض الأمريكي:
ليس بالإمكان تصور نظام كليّ الهيمنة من قبل طرف واحد في العالم و إلى فترة طويلة و ما تبدو الظروف الحالية تشير إليه من محاولة أمريكا لانتزاع دور تكون الهيمنة فيه كلية لها،ليس أكثر من محاولة أخيرة للخروج من المأزق الأمريكي الذي وضعتها فيه اليابان والنتائج المترتبة على سعي الدول الأوربية للتوحد،وسباق التسلّح المضني مع الاتحاد السوفياتي السابق .و قد تتعدد المحاولات الأمريكية للهيمنة، لكن كل المؤشرات الاقتصادية تشير بشكل أو بآخر إلى تراجع دور أمريكا المستقبلي،وهي بحد ذاتها من المبرّرات الأساسية للتحول التدريجي نحو تشكيل ،أوالدخول في تشكيل، النظام العالمي الجديد.
فإنتاجية الصناعة الأمريكية تقل3مرات عن سرعة إنتاجية الصناعة اليابانية وتقل مرتين عن مثيلتها في أوروبا الغربية كما لم تظهر في الولايات المتحدة الأمريكية أية منتجات جديدة باستثناء المعالج الميكروي (MP) كما أن السلع الاستهلاكية التقليدية لا تصنع بطريقة تحميها من التنافس الحاد. والولايات المتحدة الأمريكية لا تصدّر من أراضيها سيارات أو أجهزة تلفزيونية أو أدوات منزلية رغم كل المحاولات لإعطاء الاقتصاد الأمريكي نوعاً من القدرة على التنافس المصطنع وذلك عن طريق التضخم النقدي،أما المنتجات التكنولوجية التي تمثل ثلثي صادراتها وثلاثة أرباع إنتاجها فإن ميزانها التجاري يزداد عجزاً بها يوماً بعد يوم.كذلك التكنولوجيا العالية جداً لم تحافظ على مكانتها إلا بفضل القطاعات التي كانت لفترة طويلة احتكارية-و لكنها لن تبقى على هذا الوضع و يشمل هذا القطاع: المعلوميات و غزو الفضاء.و كذلك فإن بقية الصناعات تضاعف عجزها ست مرات خلال الأعوام العشرة الماضية وقد خسرت حصة أمريكا في السوق الصناعية العالمية خلال /15/ عاماً ست نقاط بينما كسبت اليابان /15/ نقطة.
و للخروج من هذا العجز لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تسهيل تطوير استخدام الدولار من قبل المستقرضين الأجانب و إلى تعويم عام للعملات وأدى هذا إلى جعل هذه العملة الصعبة عالمية و أداة للقياس وللمدفوعات وللاحتياط. وارتفعت ديون الولايات المتحدة بشكل هائل،حتى أصبحت متفوقة على موجوداتها في الخارج،و باتت عاجزة عن تمويل نفقات الصحة والتعليم والمحافظة على النظام الاجتماعي؛فأصبحت الجسور والمدارس والمستشفيات تعاني من هذا الضعف. ولكي لا تلجأ الحكومة الفيدرالية إلى فرض ضرائب جديدة،عمدت إلى تخفيض النفقات الخاصة بالبنى التحتية،و أخذت تقترض من السوق لكي تموّل عجزها.
و لما كان الادخار، كأساس في الخروج من الأزمات الاقتصادية حسب (كينز)،فإننا نرى أن الادخار الأمريكي قد ازداد ضعفاً مما يؤدي إلى جعل تمويل الاقتصاد أكثر تعسفاً.أما الدورات النقدية الخاصة فتبدو عاجزة عن مقاومة هذا التطور: فهي توجه القروض باتجاه الصناعة التقليدية أكثر من توجيهها نحو صناعات المستقبل ونحو الخارج وهو البديل عن التوجه إلى داخل البلاد،و نحو الشركات الكبرى بدلاً من الشركات الصغرى ونحو الزراعة بدلاً من الصناعة .و أخيراً نذكّر بأن عجز ميزان المدفوعات الأمريكي قد تخطى /150/ بليون دولار سنوياً مما جعل الولايات المتحدة أكبر الدول مديونية في العالم كما قلنا.
ويُلاحظ أن هنالك العديد من المؤشرات التي تدلّ على أن الاقتصاد الأمريكي يتراجع لصالح نظيره الياباني ،ومنها:
• لقد كان الناتج القومي الأمريكي يساوي50%من الناتج العالمي عام 1945 وفي عام 1996أصبح23% منه فيما كان الناتج الياباني عام 1951 يساوي 5% ووصل عام 1996إلى 67% منه.وطبقاً للمفاهيم الاقتصادية فإن تراجع مُعدل النمو الاقتصادي لدولة عُظمى بمعدّل 1%لمدة قرن ،سيؤدي إلى تحولها إلى دولة متوسطة القوة،فما البال بهذا التراجع الكبير لأمريكا.
• عند متابعة المساهمة الأمريكية في المعارف الجديدة نلاحظ أن أمريكا قدمت عام1977مانسبته75% ،بينما انخفضت هذه النسبة إلى 36%عام 1996.
• نسبة عدد الذين يتعاطون الكوكائين في الولايات المتحدة الأمريكية 50% منهم في العالم رغم أن نسبة عدد سكانها إلى مجمل سكان العالم 5%.وهذا مؤشر حضاري-إنتاجي له مفاعيله في ميزان القوى العالمي.
• نسبة عدد الأفراد الذين تزيد أعمارهم على 65 تتزايد،حيث ارتفعت من16.6مليون عام1960إلى 31.7مليون عام1996،وهذا سيعني عبءاً متزايداً باتجاه الإنفاق على قوة غير منتجة.
وثمة محاولة لقلب الجغرافيا الاقتصادية فأمريكا تريد أن تخرج من المجال الباسيفيكي، وهو المنطقة المحيطة بالمحيط الهادي ،كمجال وحيد قد أُسرت فيه،رغم أنها لاتستغني عنه .إلاّ أن التنافس الذي لاينهض لصالحها يجعلها ترى أنها قد حشرت فيه، مع العدو (الحميم) اليابان واستراليا وبلدان جنوب شرق آسيا: كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وتايوان والفليبين وهونغ كونغ وكافة دول بلدان القارة الأمريكية،وطبعاً تستثنى الصين وفيتنام من هذا المجال. وفي هذا المجال تُعطى الأولوية لليابان وتوابعها (التنينات المستقبلية: كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ) فضلاً عن بورما وتايلاند وماليزيا وإندونيسيا.
إن أمريكا تريد أن تخرج من الانحشار الخطير في حدود المجال الباسيفيكي لأنها لم تعد القوة المسيطرة عليه.فتجارة الولايات المتحدة مع أوروبا لا تزيد بنفس وتيرة زيادتها مع الباسفيك (المحيط الهادي) فقد تجاوزت أوروبا في تجارتها (مع هذا المجال) بمقدار النصف عن تجارتها عبر الاطلسي.و الواقع أن تجارة الولايات المتحدة عبر المحيط الهادي هي تجسيد فظّ للانحسار النسبي لأمريكا.حيث العجز الأمريكي مع آسيا يشكل رغم كل زيادة التجارة معها،3/2 من العجز العام ويعادل 3/1 المبادلات أي حوالي مئة مليار دولار سنوياً نصفها مع اليابان وحدها .
اليابان والتنينات الآسيوية
لليابان وحدها المجال الأوسع للتحكم الاقتصادي في المجال الاقتصادي الحيوي لأمريكا.فالشركات اليابانية تنفق ضعف ما تنفقه الشركات الأمريكية على تحديث صناعتها.و تؤمن اليابان حالياً نصف الانتاج العالمي من المعالجات الميكروية مقابل 38% فقط تنتجها الولايات المتحدة و 10% تنتجها أوروبا.علماً بأن قيمة استهلاك السوق العالمية لهذه المعالجات يقدّر بحوالي 500 مليار دولار أي أن اليابان تحصل وحدها على 190 مليار دولار.كما أن الحقائق الثقافية والاقتصادية تدفع اليابانيين أكثر من أي شعب آخر للمراهنة دائماً على المستقبل:
لذلك نجد أن الادخار لديهم أكثر من الاستثمار والشبكات التجارية الخارجية أكثر من التجهيزات الجماعية الداخلية . وقد أصبحت استثماراتها الصناعية في الجزء الآسيوي المجاور للمحيط الهادي تزداد سنوياً بمقدار الثلث،كما أصبحت تسيطر في هذه المنطقة-حالياً-على أكثر من 3/1 الشبكات التجارية وحوالي نصف توزيع سلع الاستهلاك العادية كثيرة الانتشار. لقد ساهم الين الياباني خلال الأعوام العشرة السابقة بجعل القيمة الفعلية لأسهم البورصة اليابانية-أي سوق الأسهم-ترتفع من 10% إلى 55% من مجمل قيمة الأسواق المالية العالمية بينما انخفضت القيمة المالية للاسهم الأمريكية من 40% إلى 20% من مجمل قيمة الأسواق المالية العالمية.
و بفضل صادراتها وحركات رؤوس أموالها تكدس اليابان سنوياً حوالي 200 مليار دولار من الفائض النقدي،و تستثمر بواسطتها شركات جديدة في جميع بلدان العالم ويشكل خاص في الولايات المتحدة (3/2 من المشتريات والالتزامات اليابانية تتم داخل أمريكا). فقد اشترت اليابان حتى الآن الجزء الأساسي من عقارات المكاتب في الولايات المتحدة الأمريكية،بالإضافة إلى العديد من الشركات المتوسطة الأحجام وعلى سبيل المثال: أن مجموعة (MTSUI) اليابانية تمتلك الآن 3/1 رأسمال 75شركة أمريكية،يبلغ حجم أعمالها الإجمالي 17 مليار دولار هذا بالإضافة إلى أن اليابان تقدم،منذ مدة،أكثر من ثلث التكنولوجيات الضرورية لتطوير وتحديث الأسلحة الأمريكية.
إن العجز في الميزان التجاري بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية قد بلغ 41مليار دولار وهو ما يمثّل ثلثي عجز التجارة الخارجية الأمريكية مع العالم . والقوة الاقتصادية اليابانية تتعدى أمريكا إذ أن حجم الصادرات اليابانية بلغ عام 1996 (424 ) بليون دولار بينما بلغت وارداتها عن نفس الفترة274 بليون دولاراً. وهذا يعني أن اليابان وحدها تستحوذ على 10% من إجمالي حجم التجارة العالمية. كما بلغت الاستثمارات اليابانية خارج اليابان 259 بليون دولار لعام 1994 وحده .
ولا شك فإن لليابان إسهامات واضحة ودوراً فاعلاً في مجالات عديدة،و خاصة في البناء الاقتصادي العالمي،فاليابان عضو فاعل و مؤثر في مجموعة الدول الصناعية السبع في العالم G-7 وعضو في منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا و الباسفيك AOEC، و شريك تجاري هام لمجموعة دول الأسيان،و لليابان إسهامات و جهود واضحة في جميع هذه الأنشطة،و الدعم المادي الذي تقدمه اليابان لمعالجة القضايا الدولية الاقتصادية والاجتماعية GLOBAL ISSUES كالسكان و البيئة و التنمية واضح و ملموس،و من هنا فإن مقولة أن اليابان أكبر دول مانحة للمساعدات في العالم صحيحة إلى حد كبير،و لابد و أن نضيف أيضاً في هذا المجال أن اليابان تعتبر المانح الأول للمساعدات والقروض في علاقاتها الثنائية المباشرة لعدد 43 دولة من دول العالم في عام 94 في مختلف أرجاء العالم،فنجد باكستان والهند و إندونيسيا و الصين في آسيا،و نجد غانا و كينيا في أفريقيا،و نجد البرازيل و نيكاراجوا و باراجواي في أمريكا اللاتينية،و أخيراً مساعداتها المتميزة للمساهمة في إعادة تعمير منطقة البلقان ولبنان وكمبوديا وفيتنام،و هي المناطق التي عانت من حروب و دمار لفترات طويلة بالإضافة إلى مساعدة الفلسطينيين في تنمية قدراتهم الإدارية و بنائهم الاقتصادي لدفع جهود السلام في المنطقة مع مشاركتها في تأسيس بنك التنمية الإقليمي للشرق الأوسط و شمال أفريقيا لتنمية المنطقة اقتصاديا.
وإضافة للدور الاقتصادي يمكن رصد الدور الياباني المتنامي في السياسة العالمية على النحو التالي:
أولاً: محاولات اليابان الدائنة لجعل شبه الجزيرة الكورية خالية من الأسلحة النووية،و الاهتمام بمتابعة أمر نزع القدرات النووية لكوريا الشمالية،ووقف برنامج الصواريخ الكوري الشمالي.
ثانياً: تعميق الحوار مع روسيا بهدف توصل اليابان إلى حل لنزاعها حول جزر الكوريل الأربع،التي احتلها الاتحاد السوفيتي السابق في نهاية الحرب العالمية الثانية،و تسعى اليابان حثيثاً لاستعادة سيادتها على هذه الجزر المسلوبة ملوحة لروسيا بإمكانية منح المساعدات الاقتصادية الضخمة المطلوبة لدفع الإقتصاد الروسي،في سبيل إستعادتها لهذه الأراضي.
ثالثا: الإهتمام بتطوير العلاقات اليابانية مع الصين،و إيلاؤها وضعية خاصة في مجال القروض والمنح،بما يحقق تأمين عملية التحول في الصين إلى سياسات الديمقراطية والسوق المفتوح،بأقل خسائر ممكنة،و العمل بصفة خاصة لتفادي انفراط عقد الصين و بعثرة تكاملها القومي.
رابعاً: الإسهام الياباني الملموس مع مجموعة الآسيان ضمن شركاء الحوار التجاريين بهدف تنشيط التبادل التجاري وتعميق الحوار الاقتصادي.و تقوم اليابان بجهد كبير في دفع التقدم الاقتصادي و نقل الخبرة والتكنولوجيا و الاستثمار المشترك مع هذه الدول،الأمر الذي جعلها توصف بالنمور الآسيوية و بأن القرن القادم سيكون مخصصاً لهذه المنطقة بقوتها الاقتصادية الكبيرة المؤثرة في الإقتصاد العالمي.
خامساً:إتساقاً مع ذلك تساهم اليابان في منتدى الأمن الآسيوي (ARF) asian regional forumالذي أنشئ عام 94 بهدف تشجيع تبادل الحوار بين الدول الآسيوية أعضاء التجمع،و بناء الثقة بوضع حلول للمشاكل السياسية و الأمنية تفادياً لخلق بؤر للصراع و تشجيعاً للشفافية العسكرية و الأمنية،و هو ما يعتبر مثيلاً لمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي.
سادساً: إستمرارية و دعم العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة في إطار إتفاقية الأمن المتبادل الموقعة عام 1960 كحجر الزاوية في السياسة الخارجية اليابانية و الاتفاقية الأمنية الأخيرة الموقعة في إبريل 96 والتي أعطت بعداً جديداً للعلاقات بين البلدين تمثل في تقديم قوات الدفاع الذاتي اليابانية الدعم اللوجيستى للقوات الأمريكية في منطقة آسيا و الباسفيك و تزايد مهام القوات اليابانية في تأمين الأراضي اليابانية من أي تهديد محتمل في المنطقة.
سابعاً: تسعى اليابان إلى إعادة هيكلة الأمم المتحدة و ضمان تبوئها وضعية الدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن نظراً لمساهمتها المرتفعة في ميزانيتها و باعتبارها من أكبر الدول المانحة للمساعدات في العالم.
ثامناً: و من مظاهر السياسة الخارجية اليابانية، الاهتمام الواضح بسياسات منع الانتشار النووي على المستويين الإقليمي،و العالمي ويمكن التدليل على ذلك :باستمرار الحوار الياباني مع كل من الهند وباكستان سعياً وراء توقيعهما على إتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية.و الدعوة لوقف التجارب النووية بكافة أشكالها. وحث الدول النووية على سرعة التوصل إلى اتفاق حول حظر التجارب النووية قبل نهاية العام الجاري.
وتعمل اليابان على دعم علاقات الحوار و التفاهم مع التجمع الأوروبي كحجر زاوية مكمل في مثلث علاقاتها مع الولايات المتحدة لتشكيل النظام الدولي الجديد.
و في بلدان كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة تجد الصناعات اليابانية أبواباً واسعة تزيد في سرعة نموها،علماً بأن نسبة معدلات النمو السنوي في هذه البلدان تزيد عن 10% و هي المعروفة (بالتنينات). زد على ذلك أن نسبة زيادة عدد السكان في هذه البلدان مرتفع و هذا يعني زيادة الاستهلاك.
إن البلدان الآسيوية المجاورة للمحيط الهادي تنتج حوالي 6/1 من الدخل القومي العالمي وسوف يتعادل هذا الدخل عام 2000م مع الدخل الوطني الإجمالي لمجمل بلدان أوروبا أو الولايات المتحدة،و قد وصلت إلى حد من التبادل التجاري البيْني وصل إلى 10/1 التجارة العالمية. ووتائر نموها السنوي السريعة لدرجة يمكن أن تجعلها خلال الاعوام العشرة القادمة معادلة لنصف تجارة العالم.
إن كل ما سبق يضع تساؤلاً جدياً حول إمكانية صعود كتلة (اليابان-المحيط هادي) في مواجهة أمريكا و أوروبا وروسيا والصين والهند أو حول إمكانية أن تقبل أمريكا أن تنتقل إلى المركز الثاني في هذه الكتلة بعد اليابان لمواجهة أوروبا الموحدة اقتصادياً والسائرة نحو الوحدة السياسية. أو أن تنقلب المعطيات بشكل جديّ. و قد نرى تحالفاً أمريكياً-روسيا كدولتين ضعيفتين في مواجهة أوروبا واليابان- المحيط الهادي.
الصين:
من المؤكد أن الصين قادمة على الخطوط العالمية. ولكن اشكالياتها السكانية والأيديولوجية والإدارية قد لا تعطيها فرصة في المرحلة اللاحقة،. وإذا كانت قد اختارت الإصلاح الاقتصادي دون شقه السياسي ،فهي لذلك مرشحة،ربما، لأن تشهد فترة أزمات طويلة الأمد.ولكن عودة هونغ كونغ إليها تُساعدها على حسم موقفها الاقتصادي وبالتالي السياسي.
وقد بدأت الصين بالفعل تخطيطاً لتنمية المناطق الداخلية ورفع الكفاءة في العمل وتقليص الأجهزة الإدارية وتغيير نظام شؤون العاملين وتحسين النظام القانوني. وذلك في محاولة لإيجاد الخلفية الإدارية واللوجسيتية لدورها العالمي القادم ،ولكن من المؤكد أن كل شيء متوقف على قدرة على التواءم بين نظامين اقتصاديين أحدهما اشتراكي والآخر رأسمالي (في هونغ كونغ).
إن الاقتصاد الصيني هو الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم.فلا توجد دولة أخرى في العالم تشهد نفس النمو الاقتصادي السنوي الذي عرفه الاقتصاد الصيني خلال أل 17 سنة الأخيرة فمنذ عام 1980 والاقتصاد الصيني ينمو بمعدل سنوي قدره 10% في الوقت الذي تعاني فيه معظم الدول الصناعية الكبرى في العالم من الركود الاقتصادي . كذلك أصبح الاقتصاد الصيني الأول في العالم من حيث اجتذاب الاستثمارات الخارجية التي بلغت 11 مليار دولار عام 1992 فقط،كما قامت الصين بتوقيع اتفاقيات استثمارية جديدة تبلغ 58 مليار دولار خلال عام 1995 الأمر الذي سيرفع عدد المشاريع الاستثمارية الخارجية في الصين إلى حوالي /47000/مشروع. لقد أدى الانفتاح الاقتصادي الصيني على العالم،الذي أخذ يتأكد من خلال انضمامها للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالإضافة إلى طلبها مؤخراً الالتحاق باتفاقية الجات،إلى بروز الصين كرابع أكبر اقتصاد في العالم. لقد بلغ إجمالي الناتج القومي الصيني حالياً حوالي /1.6/ تريليون دولار،أي أكثر من نصف إجمالي الناتج القومي الياباني .لكن عند إضافة القدرات الاقتصادية لهونج كونج و التي انضمت إلى الصين مؤخراً،فإن الاقتصاد الصيني سيصبح عند ذلك الاقتصاد الثالث في العالم،كذلك فإنه إذا ما استمر النمو الاقتصادي الصيني على نفس معدلاته العالية الراهنة،فإن إجمالي الناتج القومي الصيني سيصبح بنفس حجم إجمالي الناتج القومي الياباني بحلول عام 2006،بل إنه إذا استمر هذا المعدل من النمو،فإن الاقتصاد الصيني سيصبح /1.5/ضعف الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2020.
لقد أخذت الصين تقلد بنجاح النموذج الياباني و نموذج النمور الآسيوية الأخرى،في التركيز المطلق على الاقتصاد و النمو الاقتصادي و التحديث العلمي و التكنولوجي من أجل الارتقاء إلى العالمية،و جاءت إصلاحات دينج زيا وينج الراهنة التي تشابه كثيراً إصلاحات الميجا في اليابان،لتضع الصين على طريق النهضة واللحاق بالعصر.لقد قررت القيادة الصينية وضع الأيديولوجيا و الشعارات الأيديولوجية جانباً،كما قررت وضع الطموحات العقائدية و مخططات السياسة الخارجية في أدنى سلم الاهتمامات،بل تمكنت من تخفيف خلافاتها الحدودية مع جيرانها و قررت خفض نفقاتها العسكرية إلى ما لا يزيد على 35 مليار دولار،أي 12% مما تنفقه الولايات المتحدة.كل ذاك من أجل التفرغ للاقتصاد و النمو الاقتصادي السريع.إن المشروع المستقبلي الصيني يتلخص في بند واحد هو الاستمرار في تحقيق أعلى معدل للنمو الاقتصادي،وذلك من أجل اللحاق باليابان اقتصادياً و تجاوزها خلال العقد الأول من القرن القادم الذي تتطلع الصين إلى جعله قرناً صينياً،لكن هذا المشروع الصيني المستقبلي الطموح يواجه أيضاً العديد من التحديات و يأتي في مقدمة هذه التحديات واقع التقنيات الصينية الراهنة التي لا زالت أدنى كما أن البنى التحتية للاقتصاد الصيني متواضعة و أقل من مستوى البنية التحتية في الدول الصناعية،علاوة على ذلك فإن البيروقراطية الصينية ليست بالضرورة بيروقراطية حديثة قادرة على مجاراة متطلبات الانفتاح الحضاري على العصر،بل أنها تظهر حتى الآن و رغم كل إصلاحات دينج زيا وينج،كل عوارض الجمود و الفساد و ربما أصبحت في لحظة من اللحظات عاملاً من عوامل كبح النمو في المجتمع الصيني رغم ذلك فإن المشروع المستقبلي الصيني مدعوم بقدرات و إمكانيات ضخمة و تؤكد كل المعطيات والشواهد على أن الصين قد أخذت تبرز كقوة من القوى الكبرى الجديدة.فبعد سنين من العنف الداخلي و التفكك و عدم الاستقرار والانعزال،بدأت الصين تعيش صحوة جديدة و انتعاشاً حضارياً جديداً.كما أخذت هذه القوة السكانية و الجغرافية الضخمة تخطو خطوات واثقة و متسرعة وملموسة للصعود كقوة اقتصادية تستعد لاستقبال القرن القادم باستراتيجية واضحة تهدف إلى تحويل الصين إلى دولة من الدول العظمى في ظل بروز و تطور النظام العالمي الجديد.
2- أوروبا الموحدة :
ربما إن أوروبا هي اليوم و بعد التصديق على معاهدة ماستريخت عام 1992 القوة الاقتصادية التي تكتب القواعد التجارية للقرن الحادي والعشرين،لقد كان عام 1992 عام تحول مهم في التاريخ السياسي والاقتصادي العالمي،فبحلول هذا العام تحقق التكامل الاقتصادي و أنهت الدول الأوروبية كافة الترتيبات الدستورية والإدارية اللازمة و التي أعطت المجال لأكبر قدر من حركة العمال و السلع والخدمات و رأس المال والتي هي الآن حرة و غير مقيدة بحدود وطنية.
لكن الوحدة الاقتصادية الأوروبية التي هي اليوم حقيقة من حقائق النظام العالمي الجديد جاءت متأنية و أخذت أكثر من أربعين عاماً من العمل التدريجي جاء ميلاد الوحدة الاقتصادية الأوروبية في /18/ إبريل عام 1951 عندما اتفقت ست دول أوروبية (ألمانيا-فرنسا-إيطاليا-بلجيكا-هولندا و لكسمبورج) على تأسيس منظمة متواضعة عرفت باسم المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ .لكن و بعد سبع سنوات من النجاح الذي تحقق لهذه المجموعة،قررت الدول المؤسسة وضع المبادئ للسوق الأوروبية المشتركة و ذلك في مارس 1957.بعد ذاك ب 10سنوات قررت هذه المجموعة من الدول إلغاء جميع الجمارك فيما بينها و اعتماد تعريفة جمركية موحدة تجاه الخارج،و دفعت النجاحات الاقتصادية لهذه الدول الدانمرك وايرلندا و بريطانيا للانضمام في يناير 1973 إلى المجموعة الأوروبية التي اتفقت فيما بينها على تطبيق النظام النقدي الأوروبي بحلول عام 1979.و ازدادت المجموعة الأوروبية توسعاً خلال الأعوام 1981-1986 حينما انضمت كل من اليونان و أسبانيا والبرتغال ليصل عدد أعضائها إلى /12/ دولة أوروبية.و في عام 1989 قررت هذه المجموعة من الدول الأوروبية اتخاذ خطوات لا عودة عنها في اتجاه الوحدة الاقتصادية و النقدية الاندماجية الكاملة،بل جاء في قرارات اجتماع هذه الدول في ماستريخت تحويل المجموعة الأوروبية من مجرد مجموعة اقتصادية إلى وحدة سياسية وذلك بعد انجاز 95% من كل المراسيم والتعليمات الإدارية اللازمة لقيام العملة الأوروبية الموحدة،و السياسة الداخلية الأوروبية الموحدة،و السياسة العدلية الأوروبية الموحدة،و الجنسية الأوروبية الموحدة،و البرلمان الأوروبي الموحد،علاوة على السياسة الخارجية الأوروبية الموحدة التي يتوقع لها أن تدخل حيز الوجود مع نهاية عام 1996.
و رغم المشكلات الصعبة التي كانت ولا زالت تواجه الوحدة الأوروبية (كالقضية الألمانية و الاختلافات الحضارية والقومية و اللغوية بالإضافة إلى الخلافات الأوروبية حول القضايا الأمنية و السياسية وخاصة في مجال السياسة الخارجية)،رغم كل هذه الخلافات والاختلافات،فإن الوحدة الأوروبية لا يمكن إيقافها الآن .بل أنها أخذت تتوسع شرقاً وذلك بعد أن أعربت ست دول من أوروبا الشرقية هي بولندا والمجر وبلغاريا و رومانيا و التشيك وسلوفينيا عن رغبتها الانضمام إلى عضوية السوق الأوروبية المشتركة.إن الدول الأوروبية التي قررت ست من دولها حتى الآن (فرنسا-ألمانيا-أسبانيا-البرتغال-بلجيكا-هولندا-لوكسمبورج) إزالة كافة الحواجز الحدودية فيما بينها،بحاجة إلى كتلة اقتصادية من أجل مواجهة القوة الاقتصادية الأمريكية واليابانية في ظل النظام العالمي الجديد،و بدون الاندماج الاقتصادي و النقدي فإن الدول الأوروبية منفردة ستجد نفسها مهمشة بين هاتين القوتين الاقتصاديتين العالميتين،علاوة على ذلك فإن ما أنجز حتى الآن من تكامل اقتصادي أوروبي يجعل الانسحاب صعباً للغاية بالنسبة لأية دولة أوروبية،بل إن آليات الاندماج الاقتصادي الأوروبي هي الآن من القوة بحيث أن كل خطوة إلى الأمام تتطلب من كل دولة أوروبية بالضرورة خطوات أبعد للأمام لكن المشروع الاندماجي الأوروبي يستمد صلابته الحقيقية من أسسه الاقتصادية الواقعية.إن أكثر ما يميز التجربة الوحدوية الأوروبية هو أنه في الأساس تجربة اقتصادية قائمة على دراسات و بحوث أكدت أن بإمكان الدول الأوروبية بسكانها البالغ عددهم/320/ مليون نسمة والذين يتمتعون بدرجة عالية من التعليم الفني والتخصصي و بمستوى عال من دخل الفرد،و بنواتجها القومي الذي يزيد على /5/ تريلون دولار و بقدراتها التكنولوجية والعلمية الفائقة والتي تضاهي القدرات التكنولوجية والعلمية الأمريكية واليابانية،و بتجاربها الداخلية التي تشكل حوالي /40%/ من إجمالي التجارة العالمية،إن بإمكان هذه الدول أن تتحول إلى القوة الاقتصادية والصناعية الأولى خلال القرن القادم.
لذلك لم يعد أحد يشكك أنه في حالة استمرار اندفاع الاندماج الوحدوي الأوروبي الراهن فإن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً أوروبياً،كما لم يعد أحد يشك أن النموذج الاقتصادي الأوروبي الموحد هو النموذج الصاعد و الذي أخذ يفرض نفسه على العالم و يستأثر باهتمام المجتمع العالمي بدولة المتقدمة و النامية على السواء،فالولايات المتحدة و كندا والمكسيك قررت إقامة منطقة التجارة الحرة فيما بينها والمعروفة باسم نافتا، ودول أمريكا اللاتينية قررت إقامة سوق مشتركة تحت اسم ميركوزور،كما شكلت دول رابطة جنوب شرق آسيا تجمع آسيان كي تعمل على تسريع النمو الاقتصادي لدول هذه المنطقة،رغم ذلك يظل الاتحاد الاندماجي الاقتصادي الأوروبي حالة خاصة على الصعيد العالمي،و ربما كان غير قابل للتقليد أو التكرار نتيجة للتراث الليبرالي والديمقراطي الأوروبي،بيد أن ذلك لا يمنع من وصف العصر القادم بأنه عصر التكتلات الاقتصادية بدلاً من التكتلات العسكرية و السياسية التي كانت من أهم سمات النظام العالمي القديم.لكن أوروبا ليست القوة الكبرى الوحيدة التي تعيش حالياً و للمرة الثانية نهضة جديدة ربما كانت لها نفس النتائج العميقة التي نتجت عن النهضة الأوروبية الأولى كما أنها ليست الوحيدة التي تتطلع لإدارة العالم والنظام العالمي الجديد خلال القرن القادم.
إذاً نحن أمام عالم متقارب في (كُتَلِهِ) من الزاوية الأيديولوجية و ربما السياسية (حيث ستعم الديمقراطية) و لكنه بالتأكيد عالم متنافس اقتصادياً. و قد يتراجع التهديد بالقوة العسكرية (FORCE) أي الإكراه على المستوى الدولي ولكنه سيبقى على المستوى الاقتصادي والسياسي.و قد لا نرى عالماً متوتراً بالحروب المباشرة لكن حروب الاقتصاد والسياسة الدولية ستكون أشد كارثيّة إذا لم يحدث ضرب من تعاون دولي عالمي هو الآن لمحة من فكرة جنينية وهو أيضاً ضرب من حلم إنساني قد لا يكون له معنى إذا لم يصل العمالقة إلى حالة من رؤية أكثر شمولية و أكثر استراتيجية للاحتمالات المتنوعة لتدمير الأرض سواء عسكرياً (وهذا ما وصلوا إليه الآن) أو اقتصادياً (بحمى التنافس) أو غذائياً (بالتصحر المقبل) أو بيئياً (بالكوارث التي أشعلتها حمى التقدم غير المدروس،و حروب التحريك السياسية).
لقد أثبتت الأحداث وخاصة أحداث الثمانينات،تداخل السياسات على نطاق الدول الصناعية،و بينها وبين الدول النامية من ناحية أخرى؛و على الأخص في أزمة انهيار سوق المال العالمي. أي أثبتت الأحداث حالة التشابك المعقد في الأنظمة الاقتصادية على المستوى العالمي.و كم هي شمولية حالة الترابط العالمي. فإذا كانت هنالك إمكانيات إيجابية،ناتجة عن هذا التشابك؛كتوفر إمكانيات تفاهم واتصال أفضل بين دول العالم،فإن هنالك إمكانيات سلبية مثل كون التقسيم الدولي للعمل في ظل نظام عالمي اقتصادي متكامل لا يتضمن منافع متساوية لكل الأطراف بالرغم من أن نمو الأسواق العالمية قد يحّسن تقسيم العمل دولياً و قد يعطي كفاءة أكبر للنظام الاقتصادي العالمي.و لهذا فإن أي اضطراب اقتصادي في النظام العالمي الجديد،سوف ينعكس وينتقل بسرعة عبر الحدود القومية،و هذا بحد ذاته يطرح أحقية الدول غير العظمى في أن يكون لها رأي في الأوضاع العالمية و على رأسها الوضع الاقتصادي.
و من المؤكد أن النمو الصناعي قد أدى إلى عدم استقرار النمو السكاني و أدى إلى مشاكل للهجرة نالت منها الدول المتقدمة الشيء الكثير .بل أن العديد من الدول المتقدمة الصناعية قد قارب مرحلة انعدام النمو السكاني.فهنالك بعض الدول مثل الدانمارك و ألمانيا الغربية والنمسا والمجر قد تخطت مرحلة عدم النمو السكاني إلى مرحلة الانخفاض السكاني وهذا ما سيخلق فجوة ومشاكل فضلاً عن إشكاليتين جديدتين:
1- هجرة الأوروبيين الشرقيين إلى غرب أوروبا طلباً لحياة أفضل وطمعاً بمسموعات الديمقراطية المترسخة والسوق الأكثر استقراراً .هذا بالإضافة إلى عملية توحيد ألمانيا وما سوف تنعكس عنها من إشكاليات.
2- هجرة كميات كبيرة من سكان دول العالم الثالث مستفيدين من ثغرات الهجرة والقوانين في دول العالم المتقدم الأوروبي والأمريكي.
إن هذا الوضع سيثير جملة من الاشكاليات السياسية وسيكون محطة للنزاعات الدولية القادمة بل والنزاعات الداخلية. إنه تحدٍ ديموغرافي كبير- لاستقرار العالم في نظامه العالمي الجديد حيث أن ربع سكان العالم يعيشون في الدول الأكثر تقدماً و4/3 السكان يعيشون في دول أقل تقدماً .ومن المتوقع أنه عام 2020 سكان غرب أوروبا وشمال أمريكا سوف يزدادون بمقدار ضئيل،ولكن عددهم المتوقع في ذلك الوقت والمقدّر ب /557/ مليون نسمة سوف يمثل 7% فقط من إجمالي سكان العالم. وهذه تأثيرات متوقعة على العلاقات المستقبلية في النظام العالمي الجديد المأمول.و هو أمر يضع إشارة استفهام حول مصير ما يسمى بحوار الشمال والجنوب الذي قد يكون أحد السبل لحل إشكاليات النظام القادم.فإذا كان الهدف من النظام العالمي الجديد تقليل الاستقطابات بل تعديدها و منحها صفة الامتداد و اللا توتر،فإن عدم حل الإشكالية السكانية ومشكلة الحياة الاقتصادية لدول العالم الثالث،قد يؤدي إلى عالم أكثر استقطاباً في المستقبل.