منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#50339
شهدت عدة دول عربية،‮ ‬ولا تزال،‮ ‬موجة عارمة من المظاهرات والاعتصامات منذ بدايات ‬2011، ،‮ ‬كانت مفاجئة من حيث التوقيت،‮ ‬ومختلفة من حيث مدى الاستمرارية،‮ ‬وتحولت في بعض الحالات إلى ثورات‮ "‬كاملة‮"‬،‮ ‬أسقطت أنظمة سياسية‮. ‬وفي حالات أخرى،‮ ‬لا تزال في الطريق إلى ذلك،‮ ‬رغم كل القمع الذي يجري بحق المشاركين فيها‮. ‬وحتى الدول التي شهدت ثورات‮ "‬كاملة‮"‬،‮ ‬مثل تونس ومصر وليبيا،‮ ‬لم يخل المشهد فيها من حالة المظاهرات والاعتصامات المستمرة،‮ ‬وهي حالة‮ ‬غابت عن العالم العربي لعقود طويلة،‮ ‬حيث لم يكن معهودا أن تخرج الشعوب العربية في مسيرات عارمة،‮ ‬تطالب بمطالب‮ ‬سياسية واجتماعية واقتصادية‮.‬

ورغم أن المظاهرات والاعتصامات تعد أحد أهم أشكال التعبير عن آراء الشارع ومطالبه،‮ ‬وربما تكون أكثرها مباشرة،‮ ‬فإنها من الظواهر الأقل دراسة‮. ‬فهناك ندرة في الأدبيات العربية التي تتناول هذه الظاهرة بالتحليل،‮ ‬أو التي تناقش الأطر النظرية التي يمكن في ضوئها تحليل تأثير هذه الظاهرة في سياسات الدول‮.‬وتحاول هذه الورقة تحليل المظاهرات بأنواعها والاعتصامات،‮ ‬باعتبارها معبرا عن جزء من الشارع،‮ ‬خاصة في الدول التي تمر بمراحل انتقالية،‮ ‬مثل مصر وتونس وليبيا،‮ ‬وتحليل تأثيرها في السياسات الداخلية والخارجية للدول‮.‬

المظاهرات والاعتصامات‮ .. ‬التعريف والتكتيكات‮:‬

على الرغم من أن بدايات ظهور الاحتجاجات الشعبية ترجع إلى عهد بعيد نسبيا‮(1‬)، فإن أول ظهور لمفهوم الاعتصام أو التظاهر في معناه الحديث كان في منتصف القرن التاسع عشر،‮ ‬وكان أول من استعمل هذا المفهوم هو الكاتب الأمريكي ديفيد هنري ثورو،‮ ‬في مقال شهير له نشر في‮ ‬1849، بعنوان‮ "‬العصيان المدني‮". ‬وقد بدأ الاهتمام بدراسة سلوك التظاهر والاعتصام في منتصف القرن العشرين،‮ ‬وذلك في إطار أدبيات الرأي العام التي تناقش ما اصطلح على تسميته بثقافة الاحتجاج الشعبي‮(‬ 2).

ويلاحظ أن التعريفات المطروحة لمفهومي التظاهر والاعتصام،‮ ‬بعضها يضيق من نطاق سلوك التظاهر والاعتصام،‮ ‬وبعضها الآخر يوسع فيه‮. ‬فعلى سبيل المثال،‮ ‬هناك اتجاه يعرف التظاهر على أنه‮ "‬خروج إلى المجال العام طلبا لإحقاق حق،‮ ‬أو دفع ظلم،‮ ‬فهو خروج من البيت إلى الشارع أو الميدان يعبر عن حالة من عدم الرضا في الحيز الخاص،‮ ‬وحملها إلى الحيز العام‮ (‬ 3). كما أن هناك اتجاها يعرف الاعتصام بأنه مظهر احتجاجي ضد سياسة ما عن طريق الوجود والتجمع السلمي،‮ ‬أمام مكان أو مقر يرمز إلى الجهة التي تمارس السياسة موضع الاحتجاج‮. ‬ويرمز هذا التعريف‮ ‬غالبا إلى الاعتصامات الفئوية التي تختزل مطالبها في نقاط محددة،‮ ‬وغالبا ما تمس احتياجات فئة بعينها من فئات المجتمع،‮ ‬بمعني أنها تعبر عن مطالب ضيقة مرتبطة بجماعات معينة‮. ‬يقدم فريق آخر تعريفا أوسع للاعتصام،‮ ‬حيث يعرفه على أنه مرحلة متقدمة من حركة الاحتجاجات الشعبية،‮ ‬تسبب إزعاجا وضغطا كبيرين على الأنظمة السياسية القائمة،‮ ‬نتيجة لشمولية أهدافها،‮ ‬واتساع نطاق المشاركة فيها‮(‬ 4).

أما فيما يتعلق بالتكتيكات والأساليب المستخدمة في المظاهرات والاعتصامات،‮ ‬فإنه تقليديا كان يتم‮ ‬الاهتمام بشكل أساسي بالشعارات المستخدمة وتحليل مضمونها وما ترمز إليه،‮ ‬ولكن حركة الاحتجاجات التي شهدتها عدد من الدول العربية،‮ ‬منذ بداية ‬2011، كشفت عن أساليب وتكتيكات جديدة لم تكن معروفة من قبل،‮ ‬ومختلفة عما تعودت عليه المجتمعات العربية بل والغربية في هذا الشأن،‮ ‬حتى إن بعض المهتمين دعا إلى تطوير أدب المظاهرات والاعتصامات‮.‬

وهناك ثلاثة التكتيكات(‬5) أولها في الشعار،‮ ‬ويعد من أهم وأبرز التكتيكات التقليدية المستخدمة في المظاهرات والاعتصامات،‮ ‬ويلعب دورا رئيسيا وحاسما في التظاهر‮. ‬ويمثل المضمون السياسي للشعار أحد أهم مكوناته،‮ ‬والذي يجب أن يلخص في كلمات قليلة حالة عامة شاملة،‮ ‬ومن ذلك الشعار الذي تناقلته القوي الثورية في الدول العربية‮ "‬الشعب يريد إسقاط النظام‮".‬

ويتمثل التكتيك الثاني في المكان،‮ ‬وهو من أهم الأساليب المستحدثة في المظاهرات والاعتصامات التي شهدتها بعض الدول العربية أخيرا،‮ ‬حيث مثل التجمع في الميادين العامة سمة مشتركة بينها،‮ ‬مثل ميدان التحرير في القاهرة،‮ ‬والساحة الخضراء في ليبيا،‮ ‬وميدان التحرير بالعاصمة صنعاء في اليمن،‮ ‬وميدان اللؤلؤة في البحرين،‮ ‬وساحة الإرادة في الكويت‮. ‬وهذه الميادين عادة ما تكون لها رمزيتها التاريخية في مجتمعاتها،‮ ‬فضلا عن اتسامها باتساع رقعتها الجغرافية،‮ ‬بما يسمح باستيعاب العديد من المتظاهرين،‮ ‬فضلا عن سهولة وصول وسائل الإعلام إليها‮.‬

ويتعلق التكتيك الثالث بالتنظيم والحشد والتعبئة،‮ ‬حيث لم تكن المظاهرات والاعتصامات التي شهدتها الدول العربية أخيرا عفوية،‮ ‬وإنما اتسمت بالحشد والتعبئة والتنظيم،‮ ‬عبر الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي،‮ ‬التي تبادلت فيما بينها ما تمت تسميته بـ‮ "‬كتالوج‮" ‬أو‮ "‬إرشادات‮" ‬التظاهر،‮ ‬مع سرعة انتقاله من مكان إلى آخر دون إمكانية احتجازه في حدود الأنظمة،‮ ‬مهما بلغت درجة الرقابة فيها‮.‬

كيف يمكن تحليل تأثير المظاهرات والاعتصامات؟

يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات رئيسية في تحليل تأثير المظاهرات والاعتصامات‮(6‬) يتمثل الاتجاه الأول في‮ ‬اتجاه محدودية التأثير،‮ ‬حيث‮ ‬يرى أن تأثير المظاهرات والاعتصامات في عملية صنع القرار،‮ ‬حتى في النظام الديمقراطي،‮ ‬هو محدود بطبيعته‮. ‬ويجادل أنصار هذا الاتجاه بأن الأولوية يجب أن تكون لاستقرار النظام،‮ ‬والحفاظ على الوضع القائم،‮ ‬وليس إشراك المواطنين في عملية صنع القرار‮(‬ 7).

ويتبنى الاتجاه الثاني موقف المبالغة في التأثير،‮ ‬ويهتم هذا الاتجاه بالنظم الديمقراطية تحديدا،‮ ‬ويجادل بأن سلوك التظاهر والاعتصام هو بمثابة استفتاء مستمر على سياسات الحكومة،‮ ‬وهو إحدي الوسائل التي تتيح للجمهور التعبير عن آرائه،‮ ‬وطرح أولوياته،‮ ‬كما أنه يمثل مصدر ضغط مهما على صناع القرار‮. ‬كما يجادل بأن تعقد المشكلات وتزايد الاحتياجات يدفعان صانع القرار إلى الاهتمام بالمزيد من المدخلات القادمة من أفراد المجتمع العاديين،‮ ‬وبالتالي تصبح المظاهرات والاعتصامات وسيلة للتعرف على ما يحدث من تغير في مطالب المواطنين‮(8).

ويرى الاتجاه الثالث أن تأثير المظاهرات والاعتصامات يعتمد على متغير وسيط رئيسي،‮ ‬هو طبيعة النظام السياسي‮. ‬وفي هذا السياق،‮ ‬تبرز نظرية بنية الفرصة السياسية ‮ ‬Political Opportunity Structure التي ترى أن المتغير الرئيسي الذي يحدد تأثير المظاهرات والاعتصامات هو مدى قدرة نظام الحكم على استيعاب حركات الاحتجاج المختلفة،‮ ‬سواء المنظمة أو‮ ‬غير المنظمة‮.‬ ووفقا لهذه النظرية،‮ ‬كلما ازداد انغلاق النظام السياسي في وجه المتظاهرين،‮ ‬زادت احتمالات قمع تلك التظاهرات،‮ ‬وكلما ازداد انفتاح النظام السياسي،‮ ‬زادت احتمالات استيعاب مطالب المتظاهرين‮. ووفقا لهذه النظرية أيضا،‮ ‬لا تتطور في الدول‮ ‬غير الديمقراطية مظاهر مستديمة للاحتجاج للتعبير عن مصالح جماعية،‮ ‬وإنما تنشأ بعض مظاهر الاحتجاج الفئوية،‮ ‬التي تنتهي إما بالقمع،‮ ‬أو بالاستجابة،‮ ‬إذا كانت لا تؤثر في مصالح النظام‮ (‬9).

والتساؤل المطروح هنا‮: ‬هل تصلح هذه المقولات النظرية في فهم المظاهرات والاعتصامات التي تشهدها بعض الدول العربية التي تمر بمراحل انتقالية؟‮.‬

إن هذه المقولات النظرية إما أنها تقوم على ثنائية الاستجابة وعدم الاستجابة،‮ ‬أو على متغير رئيسي وسيط،‮ ‬متمثل في طبيعة النظام السياسي،‮ ‬وهي بذلك تكون ذات فائدة محدودة في تفسير أكبر عدد ممكن من المظاهرات والاعتصامات،‮ ‬فضلا عن أنها لا تتجاوب مع التغير الذي يطرأ على تلك المظاهرات،‮ ‬كما حدث في الدول العربية منذ بداية العام 2011.‬

ومن ثم،‮ ‬فإن المدخل الأكثر ملاءمة يكون من خلال النظر إلى تأثير المظاهرات والاعتصامات من منظور متعدد‮. ‬فهناك العديد من العوامل والمتغيرات الوسيطة التي تحدد نطاق تأثير المظاهرات والاعتصامات‮. ‬فبالإضافة إلى طبيعة النظام السياسي،‮ ‬تبرز عوامل أخرى مهمة،‮ ‬مثل طبيعة القضايا محل التظاهر،‮ ‬ومدى أهميتها،‮ ‬سواء بالنسبة للمتظاهرين والمعتصمين،‮ ‬أو بالنسبة لصانع القرار،‮ ‬وكذلك توقيت المظاهرات‮ ‬والاعتصامات وطبيعتها،‮ ‬ومستوى المشاركة فيها،‮ ‬ومدى إصرار المتظاهرين أو المعتصمين على الاستمرار في هذا السلوك،‮ ‬مهما تكن التكلفة المترتبة على ذلك،‮ ‬والمواقف الخارجية تجاه هذا السلوك‮. ‬ومحصلة التفاعل بين تلك العوامل تنتج لنا أنماطا متعددة ومختلفة من الاستجابة‮.‬

بعبارة أخرى،‮ ‬فإن العلاقة بين المظاهرات والاعتصامات ومدى تأثيرها هي علاقة جدلية يمكن تتبعها من خلال خمسة مستويات تقع بين الاستجابة وعدم الاستجابة‮. ‬يتمثل المستوى الأول في الاستجابة الكاملة،‮ ‬وهذه حالة مثالية يندر تحققها،‮ ‬حتى في أكثر النظم السياسية ديمقراطية‮. ‬ ويتمثل المستوى الثاني في الاستجابة الانتقائية،‮ ‬حيث تتم الاستجابة لمطالب دون أخرى،‮ ‬إما لتبرير سياسة معينة سيتم اتخاذها،‮ ‬أو لاحتواء المظاهرات وعدم اتساع نطاقها،‮ ‬أو لإحداث انقسام داخل المتظاهرين أنفسهم‮. ‬وفي جميع الأحوال،‮ ‬يؤدي هذا النوع من الاستجابة إلى إصلاح جزئي‮(‬ 10).

ويتعلق المستوى الثالث بالاستجابة الرمزية‮ (‬الاستجابة دون الاستجابة‮)‬،‮ ‬حيث قد لا يستجيب صانعو القرار بشكل حقيقي لما يريده المتظاهرون أو المعتصمون،‮ ‬وقد يكون ذلك بهدف إسباغ‮ ‬الشرعية على النظام الحاكم‮. ‬فعلى سبيل المثال،‮ ‬شهدت الكويت،‮ ‬خلال الفترة الماضية،‮ ‬عدة مظاهرات واعتصامات كانت تطالب بتغيير شخص رئيس مجلس الوزراء،‮ ‬الشيخ ناصر المحمد،‮ ‬الذي تم تكليفه منذ فبراير‮ ‬2006.

ولكن في كل مرة،‮ ‬كانت تتم استجابة رمزية لهذا المطلب من خلال قبول استقالة الحكومة،‮ ‬مع إعادة تكليف الشيخ ناصر المحمد بتشكيل الحكومة الجديدة،‮ ‬حيث ترأس على مدى خمس سنوات‮ (‬ 2006 -2011 ) سبع حكومات‮.‬ وينصرف المستوى الرابع إلى الاستجابة عن طريق التلاعب أو التعبئة،‮ ‬فقد يتم التلاعب بمطالب المتظاهرين من قبل صانع القرار،‮ ‬حتى يصبح هناك توافق على ما يتخذه من قرارات في مجال ما،‮ ‬وذلك من خلال تعبئة الرأي العام،‮ ‬سواء عبر النخبة،‮ ‬أو عبر وسائل الإعلام‮. والفكرة الرئيسية هنا أن صانعي القرار قد يمتلكون القدرة على تغيير الرأي العام كي يتوافق مع سياساتهم المفضلة،‮ ‬أكثر من تغيير سياستهم،‮ ‬كي تتوافق مع تفضيلات الرأي العام ‮(‬11).

وينصرف المستوى الخامس إلى عدم الاستجابة‮ (‬التجاهل‮)‬،‮ ‬وهذا النمط هو أكثر الأنماط شيوعا في النظم السلطوية،‮ ‬حيث عادة ما يتم التعامل مع المظاهرات والاعتصامات عن طريق قمعها وتجاهل مطالبها‮.‬

وقد كشفت التحولات الأخيرة التي شهدتها الدول العربية عن نوع جديد من التكلفة المترتبة على عدم الاستجابة،‮ ‬وهو قابلية تحول المظاهرات والاعتصامات إلى ثورات كاملة،‮ ‬حين تتحول مطالب المتظاهرين من المطالبة بالتغيير،‮ ‬في إطار النظام القائم،‮ ‬إلى المطالبة بتغيير النظام كاملا،‮ ‬بسبب رفض النظام التغيير الجزئي الذي يطالب به المتظاهرون‮. ‬ويعد ذلك أحد الشروط الأساسية التي حددها لينين في مقالته الشهيرة‮ "‬انهيار الأممية الثانية‮"‬،‮ ‬لكي تتحول الاحتجاجات الشعبية المحدودة إلى حالة ثورية حقيقية‮. ‬حيث رأى أن من أهم تلك الشروط الرفض المطلق من قبل الأنظمة الحاكمة لإحداث أي تغيير حقيقي يلبي ولو جزءا من مطالب المحتجين،‮ ‬إضافة إلى شروط أخرى تتعلق بالوعي بالمعاناة أو الظلم،‮ ‬والشمولية في حركة المحتجين‮(‬21). ويضيف البعض شرطا آخر،‮ ‬هو أن يكون الرفض أو التجاهل من قبل النظام ليس وليد اللحظة،‮ ‬وإنما نتاج تراكمات عديدة سابقة‮(‬31).

"شروط‮" ‬التأثير في السياسة الخارجية للدول‮:‬

تعد المظاهرات والاعتصامات أحد المحددات التي تؤثر في‮ ‬السياسة الخارجية‮. ‬وفي هذا المجال،‮ ‬يمكن التمييز بين اتجاهين رئيسيين،‮ ‬يعبر عن الاتجاه الأول الفكر الواقعي،‮ ‬الذي يجادل بعدم تأثير المظاهرات والاعتصامات في السياسة الخارجية‮. ‬ويستند في ذلك إلى عدم معرفة وعدم اهتمام الرأي العام عموما بقضايا السياسة الخارجية،‮ ‬حتى في أكثر الدول الديمقراطية،‮ ‬لأن هذه القضايا لا تؤثر مباشرة في توزيع الموارد داخل المجتمع ‮(41).

ويعبر عن الاتجاه الثاني الفكر الليبرالي،‮ ‬الذي يرى أن المظاهرات والاعتصامات تؤثر في السياسة الخارجية من خلال ثلاثة مداخل رئيسية‮. ‬يتمثل المدخل الأول في ضبط الأجندة،‮ ‬فتكرار التظاهرات والاعتصامات حول قضية ما قد يدفع صانع السياسة الخارجية إلى الاهتمام بها دون‮ ‬غيرها،‮ ‬بما قد يسهم في إعادة ترتيب أولويات القضايا لديه‮.‬

ويتمثل المدخل الثاني في تعريف الأطر العامة للسياسة الخارجية،‮ ‬بمعني أن المظاهرات والاعتصامات قد تضع ضوابط معينة على قدرة صانع السياسة الخارجية على اختيار بدائل معينة،‮ ‬أو تحدد له الأطر الرئيسية للخيارات الممكنة‮. ‬وإذا تخطي هذه الضوابط،‮ ‬فقد يواجه باشتداد وتيرة المظاهرات وحدتها ضده‮.‬

ويتمثل المدخل الثالث في‮ ‬تحديد السياسات،‮ ‬حيث تؤثر في نوعية الخيارات السياسية التي يتبناها صانع السياسة الخارجية‮. ‬وغالبا ما يسير هذا التأثير باتجاه منع القائد السياسي من تبني سياسة معينة أكثر من دفعه إلى تبني سياسة بديلة،‮ ‬وهذا النمط من التأثير نادر الحدوث في مجال السياسة الخارجية‮(51‬).في واقع الأمر،‮ ‬تبدو مقولات النظرية الواقعية أقرب إلى التطبيق،‮ ‬حيث تؤكد العديد من التجارب،‮ ‬حتى في الدول الديمقراطية،‮ ‬أن الحكومات لا تخضع للضغوط الشعبية،‮ ‬خاصة فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية والعلاقات الدولية،‮ ‬سيما أن إدارة معظم هذه القضايا يتم في إطار قنوات بالغة السرية،‮ ‬تفاديا لردود الأفعال الجماهيرية،‮ ‬التي قد يكون دافعها عدم درايتها بما يجري خلف الكواليس في مسار العلاقات بين الدول‮ (61).

والمثال الواضح على ذلك هو أحداث السفارة الإسرائيلية التي وقعت في مصر‮. ‬فرغم أنها وقعت في أكثر الفترات التي يؤثر فيها الشارع المصري في السياسات،‮ ‬فإن ما شهدته مصر من مظاهرات،‮ ‬بهذا الخصوص،‮ ‬لم يسفر في النهاية عن تحول استراتيجي‮ ‬ملحوظ في العلاقات بين مصر وإسرائيل،‮ ‬ولم يتجاوز حدود لفت نظر الحكومة‮ ‬إلى ضرورة إعادة ترتيب أوراقها في العلاقة مع تل أبيب،‮ ‬سواء كان ذلك في مسار قضية تصدير الغاز المصري لها،‮ ‬أو الملف الفلسطيني،‮ ‬أو فيما يتعلق بالصراع العربي‮ - ‬الإسرائيلي بشكل عام‮.‬

ولكن مع ذلك،‮ ‬ورغم قوة حجج المدرسة الواقعية،‮ ‬فإنها لا يمكن أن تشكل حكما عاما على تأثير المظاهرات والاعتصامات في السياسة الخارجية‮. ‬فالتأثير ليس أحاديا بسيطا،‮ ‬وإنما له طبيعة مركبة،‮ ‬ويتوقف على عدة‮ ‬شروط تختلف من حالة إلى أخرى،‮ ‬ومنها‮:‬

- مدى اتفاق القيادات السياسية على التعامل مع قضايا السياسة الخارجية‮. ‬فكلما كانت متفقة على اتباع سياسة معينة في قضية ما،‮ ‬قلت درجة استجابتها لضغوط المتظاهرين أو المعتصمين‮. ‬وبعبارة أخرى،‮ ‬فإن تأثير المظاهرات والاعتصامات في قضايا السياسة الخارجية يكون محدودا،‮ ‬إذا تعارضت مع منطلقات ثابتة في هذه السياسة،‮ ‬ومع معتقدات راسخة لدي صانعيها‮.‬

- أهمية القضايا المثارة،‮ ‬حيث يزداد التأثير،‮ ‬إذا كانت القضية المثارة ذات أهمية مركزية بالنسبة للمتظاهرين أو المعتصمين‮.‬

- مدى اتفاق المتظاهرين حول القضايا المثارة‮. ‬فكلما كان هناك توحد في موقف المتظاهرين من القضية،‮ ‬زادت درجة التأثير،‮ ‬والعكس في حالة الانقسام‮.‬

- مصالح الدولة الخارجية‮. ‬فإذا كانت مطالب المتظاهرين أو المعتصمين تمس مصالح حيوية للدولة في الخارج،‮ ‬أو لجماعات مصالح قوية،‮ ‬فإن درجة التأثير تكون محدودة ‮(71).