- الأحد مايو 06, 2012 1:48 pm
#50469
1.في آب من عام 1953 توفي إيفان بونين (1870 ـ 1953).. الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 1933.. وقد اشتهر بونين بشغفه بالشرق مما دفعه أكثر من مرة إلى زيارة بلدانه المختلفة، حيث تعرّف على حياة شعوبها وعلى عادات أبنائها وتقاليدها.. وقد انعكس إعجابه بالشرق وبأهله في أشعاره وفي قصصه ومذكراته..
امتد طريق الإبداع عند ذلك الإنسان حوالي 70 عاماً، إذ صدر لـه أول ديوان شعر في منتصف الثمانينات من القرن التاسع عشر. وقد اتسم الإبداع الفني لإيفان بونين في ذروة عطائه بسعة الأفق و بعمق النظر إلى درجة مدهشة...
فقد صارت قريبة إلى عقله وقلبه جميع الأزمان والبلدان، المبادئ الإنسانية العامة بخصوص الخير، الجمال والعدل. لم يكن هناك، على الأرجح،كاتب مماثل استطاع أن يتحسس بدرجة عالية وأن يستوعب وعيه بالحدية نفسها تلك العصور البعيدة ما قبل التاريخية، روسيا، الغرب والشرق. وقد ساعد في إنضاج وتفتح مواهبه ترحاله المستمر ـ تنقلاته في بلدان العالم. في عام 1907، وخلال استعداداته للسفر إلى الشرق الأوسط، من أجل القيام برحلة حج نوعاً ما إلى "الأراضي المقدسة"، قام بونين بدراسة وتعلم الإنجيل والقرآن، وبالاطلاع على الدراسات المتعلقة بالشرق القديم ـ بمصر، القدس، فلسطين. أثناء تنقله لم تكن تفارقه قصائد الشاعر الصوفي المفضّل لديه سعدي، الذي كانت حياته موضع إعجاب الكاتب الروسي: "بعد ولادته، استثمر ثلاثين عاماً لاكتساب المعرفة،ثلاثين عاماً في الترحال وثلاثين أخرى في التفكر، التأمل والإبداع". وقد عبّر الكاتب عن الغاية من تنقلاته مستعيراً كلمات الشاعر المسلم العظيم: "...أنا، كما قال سعدي، سعيت لكي أتعرف على الدنيا ولكي أترك فيها انسكابة من روحي". لقد زار بونين أكثر من مرة كلاً من تركيا، شواطئ آسيا الوسطى، اليونان، مصر بما في ذلك بلاد النوبة، كما تنقل عبر سوريا، فلسطين، وزار الجزائر، تونس وأطراف الصحراء الغربية؛ سافر بحراً إلى سيلان، وبراً عبر كل أوروبا. "أما بخصوص تنقلاتي وأسفاري، فقد نشأت لدي فلسفة خاصة ـ كتب بونين في عام 1912 ـ أنا لا أعرف ما هو أفضل من الترحال".
البحث عن أجوبة على الأسئلة التي تهم البشرية جمعاء بشكل دائم: حول معنى الحياة، حول الغاية من خلق الإنسان، عن العلاقة المتبادلة والارتباط المتبادل بين أشكال الوجود ككل، حول المغزى من التاريخ، حول أسباب نهوض وموت الحضارات، وكذلك الأفكار حول الاعتقاد والإيمان،حول سعي الشعوب إلى الحقيقة، الخير والجمال، وفي ذات الوقت التعطش الدائم لأن يرى بنفسه العالم الشديد التنوع ـ كل هذا كان يغذي الخيال الجامح للفنان، يوقد فكره وكلمته.
وأكثر ما جذبت اهتمام بونين تلك البلدان والعصور، حيث التقت البدايات والنهايات، حيث تجذّرت "منابع الأيام"، حيث تصادمت الطاقة الخلاقة للروح مع البربرية، الإبداع والاستبداد. لقد شاهد أنقاض البارثينون اليوناني وقرطاجة الفينيقية، الأهرامات الهائلة في مصر، أضرحة الفراعنة الموغلة في القدم، أطلال حيفا في فلسطين مع الجدران الضخمة ومقابر يفوق عمرها أربعين قرناً. لكن أكثر ما أدهشته بعلبك، بقايا معبد الشمس، "الذي تفوق مقاييسه كل ما أنجزته يد الإنسان". لقد سحرت بونين تلك المنحوتات الصخرية، التي كانت قد صنعت في تلك الأزمان الغابرة، "عندما كانت الأساطير عن العمالقة ما زالت تضج بالحياة".
"معبد الشمس" ـ هذه هي التسمية التي أطلقها على الطبعة الأولى من ديوان قصصه النثرية التي كتبها خلال أسفاره، والذي أسماه في طبعته الثانية بطريقة لا تقل شاعرية" "ظلّ الطير". الغريب هو أن الروايات ـ الأسفار الشرق أوسطية كتبها بونين بالتزامن مع الكتابات ذات الطابع الروحي الروسي الأصيل مثل "القرية" وغيرها، تلك التي كتبها خلال الأعوام 1907 ـ 1911. لقد وضعها بونين إلى جانب بعضها وخصّها باعتبارها الأكثر أهمية. في بعضها ـ روسيا، الحياة الروسية اليومية. في البعض الآخر ـ الشرق، الطبيعة الخلابة، العراقة والعاديات. هذه هي العناوين العربية لقصائده: "ليلة القدر"، "محمد في المنفى (الهجرة)"، "امرؤ القيس"، "البدوي"، "القاهرة"، "القافلة". وهذه بعض قصصه عن الشرق الأوسط: "الدلتا"، "بحر الآلهة"، "اليهودية"، ظِلّ الطير"، "معبد الشمس"، صحراء الشيطان ـ كلها تحكي عن مصر، لبنان، فلسطين، عن الخلود ولحظية الحياة.
أما القصائد "الإسلامية" فهي كثيرة جداً عند بونين لدرجة أنه لو لم تكن معروفة تفاصيل حياته اليومية وكينونته، لكان من الممكن الاعتقاد أن هذا الأخير بين الكتاب الروس الكلاسيكيين العظام ـ لم يكن يفارق القرآن أبداً، كما لو أنه كان يحمله معه في حقيبة سفره طوال حياته. بل إن الواقع هو كذلك. فقد كانت نسخة من القرآن بترجمة أ. نيكولاييف (لقد تم التثبت من أنها نسخة صادرة في موسكو عام 1901) بالنسبة لأيفان الكسييفيتش بمثابة واحد من أهم وأكثر الكتب المقروءة لديه. ففي القصائد، المملوءة بنفحة الشرق الإسلامي، نجد أن الشاعر الروسي كان يتبع القرآن بشكل مباشر، وأحياناً كان يكرر آيات الكتاب المقدس للمسلمين. عدا ذلك، إن بونين قد تابع بإحساس الوارث الشرعي الخاص تقاليد بوشكين و"محاكاته للقرآن".
ومع ذلك، إن قصائد بونين الشرقية لا تعتمد مصادر كتابية وحسب. ففي تلك الأشعار يمكن تلمّس ليس فقط الافتتان بالزخرفة لوحدها، التي تمتاز بها عادة القصائد السطحية للشعراء ـ الرمزيين.
لقد سافر بونين في أرجاء الدنيا أكثر بكثير من جميع أولئك الشعراء. ورغم ذلك، فإنه كان من جديد يلبي النداء القاهر ويعود إلى بلاد الإسلام... لكن القصائد، التي تم نظمها أثناء الرحلات أو التي ظهرت إلى الحياة عن طريق الذكريات، كانت تخرج قبل كل شيء من الإحساس المباشر بالأرض والهواء في البلدان المكتشفة، المدن والبلدات، الحدائق والصحارى التي
أغرم بها.
2.هنا مملكة الأحلام. على امتداد مئات الفراسخ
الشواطئ مقفرة عارية مالحة.
لكن الماء فيها بلون الزمرد والسماء
والحرير الأبيض أشد بياضاً من الثلج.
في حرير الرمال مجرد نبات الشيح الأزرق
يرعاه الله لأجل قطعان الغنم الرّحل،
والسماوات هنا زرقاء لدرجة لا تصدق،
والشمس فيها ـ كما نار جهنم، سقر.
وفي ساعة القيظ، حين السراب المصقول
يُغْرقُ العالمَ بأكمله في نوم عميق،
في بريق لا نهائي، خلف حدود الأرض الحزينة،
يحمل الروح إلى حدائق الجنة.
وهناك يجري، هناك يصب خلف الضباب
نهرُ كل الأنهار، الكوثر اللازوردية،
ولكل الأرض، لكل القبائل والبلدان
يمنح الهدوء. اصبر، صلِّ ـ وآمن.
إن قصائد بونين (وكما هي قصصه، بالمناسبة) كانت تستند بشكل أساسي على المعاناة الشخصية العميقة. بغض النظر عن الموضوع. فقد كان قادراً على أن يكتب في اليوم نفسه عن سماوات الشمال الروسي، شواطئ نهر الدنيبر أو نهر أوكا، كنائس صقليا وغابات سيلان... ففي العشرات من قصائده نجد هذا المسيحي الأرثوزكسي الغيور، الذي يفاخر بأصوله الروسية النبيلة، وقد استطاع أن يتقمص بالكامل شخصية المسلم، الدرويش المتجول، والحاج إلى المقدسات... وتارة يتحول إلى مغنِّ يتغنى بالهناء في أجواء الحريم، وأحياناً أخرى إلى شاهد على خلق العالم من قبل الله وشاهد عيان على يوم الحساب العظيم.
لقد شاهد بونين مختلف جوانب العقيدة الإسلامية والحياة الإسلامية. كان مستعداً، وهو في رمال الليالي، أن يثق بالمثل العربي: "أيها المسافر، لا تخفْ! هناك في الصحراء كثير من الروعة والسحر. هذه ليست أعاصير، بل إنها الجن تُقِلق الصحراء. هذا هو الملاك، خادم الرب الرحيم، قد قذف شياطين الليل بسهم ذهبي". ففي بعض القصائد، مثل "ليلة القدر"، "تسبيح"، "الحجر الأسود للكعبة"، المقام المقدس"، "أبراهام. القرآن، السورة السادسة)، "إبليس والإله"، "الطير"، "محمد في المنفى"، "الفقير"، "الخالد"، "عرش سليمان"، "الحجيج"، يوم الحساب" وفي مجموعة أخرى من القصائد المكتوبة في أعوام مختلفة، نجد أن الشاعر الروسي يتحول إلى روحاني إسلامي متحمس، بل ويظهر كمتصوف حقيقي.. وتعتبر قصيدة "السر" من عيون الكنوز الشعرية عند بونين، تلك القصيدة المرفقة باقتباس من القرآن: "ألم..".
زفر على المِدية ـ وإذ بشفرةِ
خنجرهِ السوري
تلمع في الدخان الأزرق:
وفي الدخان لمعت بوضوح أكبر
على الفولاذ رسوم ذهبية
محفورة بزخرفة من ذهب.
"باسم الله والنبي،
اقرأ، يا عبد السماء والقدر،
نداءك المهين: قل، بأي
شعار قد زُيّن خنجرك؟"
قال هو: "شعاري رهيب.
إنه ـ سر الأسرار: ألف. لام. ميم".
"ألف. لام. ميم؟ ولكنها إشارات مبهمة
كما الطريق في ظلمة الحياة الآخرة:
أخفى سرّها محمد..."
"اصمت، اصمت! ـ قال بحدة ـ
لا إله إلا الله،
أكثر الأسرار بأساً ـ لا سرّ أكبر".
قال، لامس بالسيف ذي الحدين
الجبين تحت عمامة الحرير،
وألقى على أتميدان القائظ
نظرة فاحصة كسولة كطير جارح ـ
وأخفض رموشه الزرقاء الهادئة
من جديد على السيف ذي الحدين.
كما أن قصائد بونين الكثيرة في الغزل هي الأخرى حسنة، والتي تبرز فيها ألحان وصور إسلامية. مثلاً، قصيدتان عن الحسناء ـ اليهودية صفية، زوجة الرسول. في إحداهما، الثمانية الرائعة والتي تسلب شغاف القلب، نجد كيف أن نبرة الدنيوية، الخفيفة بعض الشيء، تتحول فجأة إلى احتفالية:
صفيّة، وقد استيقظت، راحت تجدل بيد
زرقاء ماهرة خصلات الجدائل السود:
"الكل يعيرني، يا محمد، باليهودية" ـ
تتكلم عبر الدموع، ودون أن تمسح الدموع.
محمد، وهو ينظر مع ابتسامة ساخرة وبحب،
يجيب بوادعة: "قولي لهم، يا صديقتي:
أبراهام ـ أبي، موسى ـ عمي، ومحمد ـ زوجي".
إن النبيّ وبكلمات قليلة يؤكد صلته بالتوراة، والتعاقبية في رسالته. لقد امتزجت الألحان والموضوعات الإسلامية في إبداع بونين مع ألحان وموضوعات التوراة والإنجيل. وبمعنى ما إن "الديانات السماوية" الثلاث كانت بالنسبة لـه ديانة واحدة. لكن بونين استطاع أن يشعر بخصوصية الإسلام. ففي قصيدته "الراية الخضراء"، والتي تبدو كما لو أنها دعوة غير متوقعة نهائياً من فم مسيحي أرثوزكسي ـ إلى الجهاد المقدس، نرى الشاعر مغموراً بإلهام حانق:
..لقد غفوتِ، لكن نومك ـ أحلام ذهبية.
أنتِ عبْرَ أربعين ثوباً من الحرير
تتنشقينَ رائحة الورود وتتنفسين العفونة ـ
عطر القرون.
ولكنّك تنامين بسلام، يا مجد الشرق!
وقد فتنتِ القلوب
إلى الأبد. ألستِ أنتِ التي شيّدَكِ جبرائيل
فوق رأس النبيّ؟
وألستِ أنتِ تسبحين فوق الشرق إلى اليوم؟
استديري، انهضي ـ
وسينهض الإسلام، كما لو "سموم" الصحراء،
إلى الجهاد المقدس!
إن القرن العشرين المليء بالكوارث البشرية قد غيّر بشكل جذري حياة الشعوب الإسلامية. فقد انعكست عميقاً في شعر بونين الأمواج العاتية للعصر الحديث؛ وكانت بعض قصائده مثل "أمواج" و"أحفاد النبيّ" عبارة عن صدى مباشر لما يحدث في السياسة العالمية. لقد كانت عزيزة على قلب الشاعر الروسي مشاعر الاعتزاز والكرامة لدى المسلم في وجه المحتلين والمستعمرين الأوروبيين. وقد ظلَّ بونين حتى نهاية عمره يحلم بذلك التمازج الساحر بين الحكاية الشرقية والحياة المنفتحة وكانت تدعوه باستمرار إلى السفر:
الصحراء في ضوء خافت، ملتهب.
وخلفها ـ ظلمة وردية.
هناك مآذن ومساجد،
وقببها المزخرفة.
هناك صخب النهر، السوق المسقوفة،
حلم الأزقة، ظلال الحدائق ـ
و، هي تغفو، تفوح بالعسل
على الأسطح أوراق الزهور.
نجد أن إدراك الطبيعة، الشواهد الأثرية القديمة والحياة المعاصرة لشعوب الشرق الأوسط يتماهى في سلسلة اليوميات ـ الروايات الشعرية "ظلّ الطير" مع تأملات مستفيضة ـ فلسفية، تاريخية، دينية، أخلاقية وجمالية. هكذا تتحول الرحلة في المكان إلى ارتحال في الزمان أيضاً. إذ أن بونين يزيل حدود الزمان والفضاء، يجعل من قرائه مشاركين لـه في مختلف التنقيبات عند الشعوب بدءاً من أيام أبراهام قبل التاريخية وحتى أيامنا هذه.
امتد طريق الإبداع عند ذلك الإنسان حوالي 70 عاماً، إذ صدر لـه أول ديوان شعر في منتصف الثمانينات من القرن التاسع عشر. وقد اتسم الإبداع الفني لإيفان بونين في ذروة عطائه بسعة الأفق و بعمق النظر إلى درجة مدهشة...
فقد صارت قريبة إلى عقله وقلبه جميع الأزمان والبلدان، المبادئ الإنسانية العامة بخصوص الخير، الجمال والعدل. لم يكن هناك، على الأرجح،كاتب مماثل استطاع أن يتحسس بدرجة عالية وأن يستوعب وعيه بالحدية نفسها تلك العصور البعيدة ما قبل التاريخية، روسيا، الغرب والشرق. وقد ساعد في إنضاج وتفتح مواهبه ترحاله المستمر ـ تنقلاته في بلدان العالم. في عام 1907، وخلال استعداداته للسفر إلى الشرق الأوسط، من أجل القيام برحلة حج نوعاً ما إلى "الأراضي المقدسة"، قام بونين بدراسة وتعلم الإنجيل والقرآن، وبالاطلاع على الدراسات المتعلقة بالشرق القديم ـ بمصر، القدس، فلسطين. أثناء تنقله لم تكن تفارقه قصائد الشاعر الصوفي المفضّل لديه سعدي، الذي كانت حياته موضع إعجاب الكاتب الروسي: "بعد ولادته، استثمر ثلاثين عاماً لاكتساب المعرفة،ثلاثين عاماً في الترحال وثلاثين أخرى في التفكر، التأمل والإبداع". وقد عبّر الكاتب عن الغاية من تنقلاته مستعيراً كلمات الشاعر المسلم العظيم: "...أنا، كما قال سعدي، سعيت لكي أتعرف على الدنيا ولكي أترك فيها انسكابة من روحي". لقد زار بونين أكثر من مرة كلاً من تركيا، شواطئ آسيا الوسطى، اليونان، مصر بما في ذلك بلاد النوبة، كما تنقل عبر سوريا، فلسطين، وزار الجزائر، تونس وأطراف الصحراء الغربية؛ سافر بحراً إلى سيلان، وبراً عبر كل أوروبا. "أما بخصوص تنقلاتي وأسفاري، فقد نشأت لدي فلسفة خاصة ـ كتب بونين في عام 1912 ـ أنا لا أعرف ما هو أفضل من الترحال".
البحث عن أجوبة على الأسئلة التي تهم البشرية جمعاء بشكل دائم: حول معنى الحياة، حول الغاية من خلق الإنسان، عن العلاقة المتبادلة والارتباط المتبادل بين أشكال الوجود ككل، حول المغزى من التاريخ، حول أسباب نهوض وموت الحضارات، وكذلك الأفكار حول الاعتقاد والإيمان،حول سعي الشعوب إلى الحقيقة، الخير والجمال، وفي ذات الوقت التعطش الدائم لأن يرى بنفسه العالم الشديد التنوع ـ كل هذا كان يغذي الخيال الجامح للفنان، يوقد فكره وكلمته.
وأكثر ما جذبت اهتمام بونين تلك البلدان والعصور، حيث التقت البدايات والنهايات، حيث تجذّرت "منابع الأيام"، حيث تصادمت الطاقة الخلاقة للروح مع البربرية، الإبداع والاستبداد. لقد شاهد أنقاض البارثينون اليوناني وقرطاجة الفينيقية، الأهرامات الهائلة في مصر، أضرحة الفراعنة الموغلة في القدم، أطلال حيفا في فلسطين مع الجدران الضخمة ومقابر يفوق عمرها أربعين قرناً. لكن أكثر ما أدهشته بعلبك، بقايا معبد الشمس، "الذي تفوق مقاييسه كل ما أنجزته يد الإنسان". لقد سحرت بونين تلك المنحوتات الصخرية، التي كانت قد صنعت في تلك الأزمان الغابرة، "عندما كانت الأساطير عن العمالقة ما زالت تضج بالحياة".
"معبد الشمس" ـ هذه هي التسمية التي أطلقها على الطبعة الأولى من ديوان قصصه النثرية التي كتبها خلال أسفاره، والذي أسماه في طبعته الثانية بطريقة لا تقل شاعرية" "ظلّ الطير". الغريب هو أن الروايات ـ الأسفار الشرق أوسطية كتبها بونين بالتزامن مع الكتابات ذات الطابع الروحي الروسي الأصيل مثل "القرية" وغيرها، تلك التي كتبها خلال الأعوام 1907 ـ 1911. لقد وضعها بونين إلى جانب بعضها وخصّها باعتبارها الأكثر أهمية. في بعضها ـ روسيا، الحياة الروسية اليومية. في البعض الآخر ـ الشرق، الطبيعة الخلابة، العراقة والعاديات. هذه هي العناوين العربية لقصائده: "ليلة القدر"، "محمد في المنفى (الهجرة)"، "امرؤ القيس"، "البدوي"، "القاهرة"، "القافلة". وهذه بعض قصصه عن الشرق الأوسط: "الدلتا"، "بحر الآلهة"، "اليهودية"، ظِلّ الطير"، "معبد الشمس"، صحراء الشيطان ـ كلها تحكي عن مصر، لبنان، فلسطين، عن الخلود ولحظية الحياة.
أما القصائد "الإسلامية" فهي كثيرة جداً عند بونين لدرجة أنه لو لم تكن معروفة تفاصيل حياته اليومية وكينونته، لكان من الممكن الاعتقاد أن هذا الأخير بين الكتاب الروس الكلاسيكيين العظام ـ لم يكن يفارق القرآن أبداً، كما لو أنه كان يحمله معه في حقيبة سفره طوال حياته. بل إن الواقع هو كذلك. فقد كانت نسخة من القرآن بترجمة أ. نيكولاييف (لقد تم التثبت من أنها نسخة صادرة في موسكو عام 1901) بالنسبة لأيفان الكسييفيتش بمثابة واحد من أهم وأكثر الكتب المقروءة لديه. ففي القصائد، المملوءة بنفحة الشرق الإسلامي، نجد أن الشاعر الروسي كان يتبع القرآن بشكل مباشر، وأحياناً كان يكرر آيات الكتاب المقدس للمسلمين. عدا ذلك، إن بونين قد تابع بإحساس الوارث الشرعي الخاص تقاليد بوشكين و"محاكاته للقرآن".
ومع ذلك، إن قصائد بونين الشرقية لا تعتمد مصادر كتابية وحسب. ففي تلك الأشعار يمكن تلمّس ليس فقط الافتتان بالزخرفة لوحدها، التي تمتاز بها عادة القصائد السطحية للشعراء ـ الرمزيين.
لقد سافر بونين في أرجاء الدنيا أكثر بكثير من جميع أولئك الشعراء. ورغم ذلك، فإنه كان من جديد يلبي النداء القاهر ويعود إلى بلاد الإسلام... لكن القصائد، التي تم نظمها أثناء الرحلات أو التي ظهرت إلى الحياة عن طريق الذكريات، كانت تخرج قبل كل شيء من الإحساس المباشر بالأرض والهواء في البلدان المكتشفة، المدن والبلدات، الحدائق والصحارى التي
أغرم بها.
2.هنا مملكة الأحلام. على امتداد مئات الفراسخ
الشواطئ مقفرة عارية مالحة.
لكن الماء فيها بلون الزمرد والسماء
والحرير الأبيض أشد بياضاً من الثلج.
في حرير الرمال مجرد نبات الشيح الأزرق
يرعاه الله لأجل قطعان الغنم الرّحل،
والسماوات هنا زرقاء لدرجة لا تصدق،
والشمس فيها ـ كما نار جهنم، سقر.
وفي ساعة القيظ، حين السراب المصقول
يُغْرقُ العالمَ بأكمله في نوم عميق،
في بريق لا نهائي، خلف حدود الأرض الحزينة،
يحمل الروح إلى حدائق الجنة.
وهناك يجري، هناك يصب خلف الضباب
نهرُ كل الأنهار، الكوثر اللازوردية،
ولكل الأرض، لكل القبائل والبلدان
يمنح الهدوء. اصبر، صلِّ ـ وآمن.
إن قصائد بونين (وكما هي قصصه، بالمناسبة) كانت تستند بشكل أساسي على المعاناة الشخصية العميقة. بغض النظر عن الموضوع. فقد كان قادراً على أن يكتب في اليوم نفسه عن سماوات الشمال الروسي، شواطئ نهر الدنيبر أو نهر أوكا، كنائس صقليا وغابات سيلان... ففي العشرات من قصائده نجد هذا المسيحي الأرثوزكسي الغيور، الذي يفاخر بأصوله الروسية النبيلة، وقد استطاع أن يتقمص بالكامل شخصية المسلم، الدرويش المتجول، والحاج إلى المقدسات... وتارة يتحول إلى مغنِّ يتغنى بالهناء في أجواء الحريم، وأحياناً أخرى إلى شاهد على خلق العالم من قبل الله وشاهد عيان على يوم الحساب العظيم.
لقد شاهد بونين مختلف جوانب العقيدة الإسلامية والحياة الإسلامية. كان مستعداً، وهو في رمال الليالي، أن يثق بالمثل العربي: "أيها المسافر، لا تخفْ! هناك في الصحراء كثير من الروعة والسحر. هذه ليست أعاصير، بل إنها الجن تُقِلق الصحراء. هذا هو الملاك، خادم الرب الرحيم، قد قذف شياطين الليل بسهم ذهبي". ففي بعض القصائد، مثل "ليلة القدر"، "تسبيح"، "الحجر الأسود للكعبة"، المقام المقدس"، "أبراهام. القرآن، السورة السادسة)، "إبليس والإله"، "الطير"، "محمد في المنفى"، "الفقير"، "الخالد"، "عرش سليمان"، "الحجيج"، يوم الحساب" وفي مجموعة أخرى من القصائد المكتوبة في أعوام مختلفة، نجد أن الشاعر الروسي يتحول إلى روحاني إسلامي متحمس، بل ويظهر كمتصوف حقيقي.. وتعتبر قصيدة "السر" من عيون الكنوز الشعرية عند بونين، تلك القصيدة المرفقة باقتباس من القرآن: "ألم..".
زفر على المِدية ـ وإذ بشفرةِ
خنجرهِ السوري
تلمع في الدخان الأزرق:
وفي الدخان لمعت بوضوح أكبر
على الفولاذ رسوم ذهبية
محفورة بزخرفة من ذهب.
"باسم الله والنبي،
اقرأ، يا عبد السماء والقدر،
نداءك المهين: قل، بأي
شعار قد زُيّن خنجرك؟"
قال هو: "شعاري رهيب.
إنه ـ سر الأسرار: ألف. لام. ميم".
"ألف. لام. ميم؟ ولكنها إشارات مبهمة
كما الطريق في ظلمة الحياة الآخرة:
أخفى سرّها محمد..."
"اصمت، اصمت! ـ قال بحدة ـ
لا إله إلا الله،
أكثر الأسرار بأساً ـ لا سرّ أكبر".
قال، لامس بالسيف ذي الحدين
الجبين تحت عمامة الحرير،
وألقى على أتميدان القائظ
نظرة فاحصة كسولة كطير جارح ـ
وأخفض رموشه الزرقاء الهادئة
من جديد على السيف ذي الحدين.
كما أن قصائد بونين الكثيرة في الغزل هي الأخرى حسنة، والتي تبرز فيها ألحان وصور إسلامية. مثلاً، قصيدتان عن الحسناء ـ اليهودية صفية، زوجة الرسول. في إحداهما، الثمانية الرائعة والتي تسلب شغاف القلب، نجد كيف أن نبرة الدنيوية، الخفيفة بعض الشيء، تتحول فجأة إلى احتفالية:
صفيّة، وقد استيقظت، راحت تجدل بيد
زرقاء ماهرة خصلات الجدائل السود:
"الكل يعيرني، يا محمد، باليهودية" ـ
تتكلم عبر الدموع، ودون أن تمسح الدموع.
محمد، وهو ينظر مع ابتسامة ساخرة وبحب،
يجيب بوادعة: "قولي لهم، يا صديقتي:
أبراهام ـ أبي، موسى ـ عمي، ومحمد ـ زوجي".
إن النبيّ وبكلمات قليلة يؤكد صلته بالتوراة، والتعاقبية في رسالته. لقد امتزجت الألحان والموضوعات الإسلامية في إبداع بونين مع ألحان وموضوعات التوراة والإنجيل. وبمعنى ما إن "الديانات السماوية" الثلاث كانت بالنسبة لـه ديانة واحدة. لكن بونين استطاع أن يشعر بخصوصية الإسلام. ففي قصيدته "الراية الخضراء"، والتي تبدو كما لو أنها دعوة غير متوقعة نهائياً من فم مسيحي أرثوزكسي ـ إلى الجهاد المقدس، نرى الشاعر مغموراً بإلهام حانق:
..لقد غفوتِ، لكن نومك ـ أحلام ذهبية.
أنتِ عبْرَ أربعين ثوباً من الحرير
تتنشقينَ رائحة الورود وتتنفسين العفونة ـ
عطر القرون.
ولكنّك تنامين بسلام، يا مجد الشرق!
وقد فتنتِ القلوب
إلى الأبد. ألستِ أنتِ التي شيّدَكِ جبرائيل
فوق رأس النبيّ؟
وألستِ أنتِ تسبحين فوق الشرق إلى اليوم؟
استديري، انهضي ـ
وسينهض الإسلام، كما لو "سموم" الصحراء،
إلى الجهاد المقدس!
إن القرن العشرين المليء بالكوارث البشرية قد غيّر بشكل جذري حياة الشعوب الإسلامية. فقد انعكست عميقاً في شعر بونين الأمواج العاتية للعصر الحديث؛ وكانت بعض قصائده مثل "أمواج" و"أحفاد النبيّ" عبارة عن صدى مباشر لما يحدث في السياسة العالمية. لقد كانت عزيزة على قلب الشاعر الروسي مشاعر الاعتزاز والكرامة لدى المسلم في وجه المحتلين والمستعمرين الأوروبيين. وقد ظلَّ بونين حتى نهاية عمره يحلم بذلك التمازج الساحر بين الحكاية الشرقية والحياة المنفتحة وكانت تدعوه باستمرار إلى السفر:
الصحراء في ضوء خافت، ملتهب.
وخلفها ـ ظلمة وردية.
هناك مآذن ومساجد،
وقببها المزخرفة.
هناك صخب النهر، السوق المسقوفة،
حلم الأزقة، ظلال الحدائق ـ
و، هي تغفو، تفوح بالعسل
على الأسطح أوراق الزهور.
نجد أن إدراك الطبيعة، الشواهد الأثرية القديمة والحياة المعاصرة لشعوب الشرق الأوسط يتماهى في سلسلة اليوميات ـ الروايات الشعرية "ظلّ الطير" مع تأملات مستفيضة ـ فلسفية، تاريخية، دينية، أخلاقية وجمالية. هكذا تتحول الرحلة في المكان إلى ارتحال في الزمان أيضاً. إذ أن بونين يزيل حدود الزمان والفضاء، يجعل من قرائه مشاركين لـه في مختلف التنقيبات عند الشعوب بدءاً من أيام أبراهام قبل التاريخية وحتى أيامنا هذه.