منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#50482
ل هناك فرق بين الاحتلال و الغزو؟ سؤال يبدو غريبا و لكن اجابته تفسر الكثير من الحوادث التاريخية . فعندما بدأت أفكر في الغزوات الاسلامية و الفرق بينها وبين الاحتلال الأوربي للشرق ، أكتشفت أنه لغويا يعطي المفهوم العكسي ، و لذلك أخترت عنوان عكسي للمقالة لتستقيم الأوضاع .
فالاحتلال معناه أن تحتل بقعة من الأرض و تستقر فيها و تصير محلا لك و لأولادك من بعدك ، أما الغزو فهو اجتياح مؤقت لدولة أخرى ، أو مكان آخر لا يستمر عبر القرون الطوال و لا يتوارثه الأحفاد من الأجداد ، ومن هذا المنطلق فما فعله القبيلة الاسلامية لدول الشرق الأدنى و شمال أفريقيا و حتى حدود الصين شرقا ، هو نوع من الاحتلال أكثر منه غزو على الرغم من الاصطلاح الدارج بالغزوات الاسلامية ، و في الوقت ذاته ما فعلته الدول الأوروبية من احتلال لكثير من دول العالم الثالث لا يعدو كونه غزو مؤقت لأنه لم يدوم لأكثر من قرنين على الأكثر مع اختلاف الدول الغازية و اختلاف مدد الاستعمار .
ولكن لماذا السؤال من الاساس؟ ما فائدة أن نعرف الفرق؟
معرفة الفرق يوضح الكثير من الاحداث المعاصرة و الماضية ، و يجعلنا نفكر و بقوة في الفرق الحقيقي بين ثقافتين متجاورتين كلاهما له نصيب لا بأس به الحروب و الدموية. و كذلك يعطينا معنى و تفسير لنجاح الاستعمار الاسلامي الاحتلالي و فشل الاستعمار الغربي.
الهروب من الجحيم أم الخروج من الجنة؟
لعل الفرق الاول الذي يطرق الذهن هو فرق بيئي جغرافي ، فما الذي يجعل الاعرابي يخرج ليحتل و يستقر و يستمر في بقائه والنشوة تملأه ، بينما يخرج الغربي إلى الحرب مجبرا مكروها لا ينوي البقاء بأي حال من الأحوال . هذا الدافع هو طبيعة المجتمع الأصلي للعرب ، فالعربي الذي كان يسكن الخيام و يحلم بالقصور ، يفترش الرمال الصفراء و يحلم بالجنات الخضراء ، تلسعه حرارة الصحراء و يشتهي ظلال الاشجار الوارفة. كان الخروج من جحيم الصحراء العربية إلى جنات النيل و الفرات و سهول البقاع و أودية الهند الخضراء حلما ، كان هروبا من الجحيم و لا دافع للعودة ، فلماذا يعود ، و يترك جنات تجري من حولها الانهار .
و من الناحية الاخرى كانت طبيعة المجتمع الغربي (الأوربي أو الأمريكي) ثرية بالطبيعة و اللون الأخضر ، و بعد النهضة الصناعية صارت ثرية بالحضارة و المعنى ، فكان خروج الغربي للحرب جحيما لا ينتهي إلا بالعودة للوطن ، فالدافع للحرب يتعدد و لكن حنينه للأسرة و الأرض التي تركها خلفه يجعل الحرب حالة مؤقتة من الطوارئ ، يحلم فيها بأرضه التي حرم منها و أسرته التي يشتاق إليها وحياته التي اعتاد عليها.
إله الجهاد أم إله السلام؟
أما الفرق الثاني الذي يقرع الذهن هو الدافع الديني ، فالفكرة الاسلامية دموية النشأة و الطابع لم تفقد الكثير من أصولها البدوية الجاهلية ، وما فعله الاسلام هو أن حول بقوة السيف و إغراء السلائب و الأغنام و السبايا الحسان إنتماء العربي من القبيلة الصغرى في الجاهلية إلى قبيلة كبرى إسلامية ، و بهذه القبيلة استعاد العرب الدافع الغيبي الذي يحفزه الدين ، فالعربي في الجهاد مقدر له مصير من اثنين ، إما النصر و معه غنائم كسرى و قيصر و ما يتبعه ذلك من هروب من جحيم الصحراء ، أو الموت في الحرب و ما يتبعه ذلك من جنات تجري من تحتها الانهار ، و أنهار تفيض لبنا و عسلا ، و خمر غلمان و حور عين أبكار ، و بإضافة الدافع الأخروي إلى الدوافع المادية تحولت القبيلة الاسلامية إلى آلة حربية لم يرد مثلها في التاريخ البشري ، و تحول موقف العربي في الحرب إلى مكسب في جميع الحالات سواء في الدنيا أو الأخرة.
أما الثقافة الأوربية و الأمريكية الغربية كانت ذات جذور مسيحية و التي لا تملك الفكرة الدموية على الاطلاق ، و بالتالي كان الخروج إلى الحرب عبئا ثقيلا على ضمائر الشعوب الغربية ، مما جعلهم دائمى النقد الذاتي لأنفسهم ، كثيري الشك فيما يتعلق بالحروب ، دائمي التفكير في حقوق الأخر بشكل قد يصل ببعض المنظمات الانسانية الغربية إلى حدود العصاب ، وعلى الرغم من خروج الكثير من السفاحين من الحضارة الغربية من أمثال هتلر و موسيليني ، إلا أنهم لم يتحولهم إلى أبطال ، بل رماهم المثقف الغربي في مزبلة التاريخ . وهذا على العكس من تمجيد الثقافة العربية لأشخاص لا يقلون في قسوتهم و تحويلهم إلى أبطال، وبالتالي بينما كان ضمير العربي سعيدا بالحرب و الغزو لأنه يرضي إلهه بالجهاد و إعلاء دين الحق الاسلام ، كان ضمير الغربي مثقلا بارتكاب خطيئة عظمى تجاه إله ثقافته- المسيح -الذي نادى بالسلام و تحويل الخد الآخر للضاربين.
حروب البدو أم حروب الحضر؟
من أهم الفروق التي تطرق الذهن أيضا ، الدافع الثقافي ، فالاسلام بحكم النشأة قبلي ، و كما سبق أن قلت حول انتماء العربي من القبيلة الصغرى "قبيلته الاصلية" إلى القبيلة الكبرى الاسلامية ، و من صفات القبيلة دوام الترحال و عدم الارتباط بالأرض ، و لهذا كان من السهل عليهم أن يتركوا أرضهم و يستقروا في بلاد أخرى ، طالما كانت هذه البلاد وافرة الخيرات ، و هذا يقود إلى الصفة الأخرى في الثقافة العربية الاسلامية ، "صفة الجراد" ، فالعربي قبل الاسلام و بعده استمر ينتقل إلى حيث المغنم و الكلأ ، و الخير ، و لكن علاقته بالارض تنتهي بإنتهاء خيراتها ، فيتحول إلى أرض أخرى ، فهي طبيعة استهلاكية غير قادرة على الانتاج ، و هذه العلاقة المؤقتة بالأرض أدت إلى ثلاث نتائج أساسية:
1) قدرة العربي على ترك أرضه و احتلال أرض الغير طالما كان قادرا على استحلابها، كما حدث في موجات الغزو العربي الأولى.
2) الرغبة المستمرة في التاريخ الاسلامي في التوسع المستمر لجلب المزيد من الغنائم و الاسلاب و من دافعي الجزية ، فالاسهل هو البحث عن مغانم جديدة بدلا من تأسيس حضارة انتاجية مبنية على الصناعة و الزراعة، كما تحقق في فترات العصور الوسطى من التاريخ الاسلامي (العصر العباسي و المملوكي-العثماني)
3) تحول الكثير من العرب ذوي الميول الاسلامية من شيوخ التكفير في الهجرة إلى الغرب الكافر (في العصر الحديث) ، ليس بهدف البحث عن الحرية أو مساحة أكبر من المعنى ، بل لرغبة استهلاك النساء و الأموال من هذه المجتمعات ، بعد أن تحولت الاراضي التي عاش فيها أجدادهم من المستعمرين العرب إلى بقاع جرداء ، و هنا تتأكد صفة الجراد ، العربي المسلم يملك قدرة إلهية مبنية على نص قرآني ، على استهلاك دول بأكملها و الهجرة إلى دول أخرى أكثر غناءا ، و لا أنسى مقولة من مقولات الشيخ الشعراوي الذي أكد أن الله منح المسلم البترول لكي يستهلك ابداعات الحضارة الغربية دونما مجهود التفكير أو عناء الابداع ، فهم يتعبون و يبدعون ، و المسلم يستهلك كهارون الرشيد !! ولو أخذنا دولة لمصر ، بعد أن كانت سلة قمح العالم للرومان و الأغريق و البطالمة و الفرس ، تحولت على يد الاحتلال الاسلامي إلى دولة مستوردة للقمح و في أسوأ حالاتها الاقتصادية.
من الجهة الأخرى ، نشأت الحضارة الغربية في بداياتها في بيئة زراعية أكثر منها رعوية ، و في البيئات الزراعية ، يرتبط الزارع أو الفلاح بأرضه التي تمثل الوطن بالنسبة له ، و لذلك كان عليه أن يرعى و ينتج من هذه الأرض دونما الكثير من التطلع إلى أراضي الغير إلا في حالات المجاعات و الظروف الطارئة التي تدفعه إلى البحث عن ملجأ آخر مع حنين مستمر للوطن ، كما أنه من الجهة الحضارية كان للغرب باع طويل في ابداع الفلسفة و المنطق و الهندسة منذ أيام اليونان القديمة ، و التي جعلت حضارته الوارث الطبيعي للفراعنة و حضارة الهلال الخصيب ، فكان المنتج الحضاري للغرب ليس غريبا عن البيئة.