- الاثنين مايو 07, 2012 3:17 am
#50647
توازن القوى
توازن القوى Balance of Powers اصطلاح في ميدان العلاقات الدولية، يعود استعماله إلى القرن السادس عشر، ولو أنّ مفهومه العام كان معروفاً منذ أقدم العصور.
يعني هذا الاصطلاح في جوهره الحالة التي تجد فيها إحدى الدول، أو مجموعة من الدول، أنها مضطرة لأن تتخذ الحيطة إزاء نمو دولة أخرى أو مجموعة دول، منافسة لها، أو يحتمل أن تبلغ منافستها لها حدّ تهديد مصالح الدولة أو المجموعة الأولى، أو النيل من استقلالها وسلامتها الإقليمية، فتهرع الدولة أو المجموعة التي تستشعر هذا الخطر إلى استجماع أسباب قوتها ورصّ صفوفها بحيث تكون معادلة في القوّة والاستعداد للدولة أو المجموعة المنافسة، إلى أن يقوم نوع من التوازن بين الفريقين، يفترض فيه أن يحول دون الحرب، لأن التعادل من شأنه أن يبعد إمكان انتصار أحد الفريقين على الآخر، فيجعل صنّاع القرار يفكرّون ملّياً قبل التورّط في حرب سجال طويلة الأمد تكون الخسارة فيها أكثر من الغنيمة.
من هذا المعنى لاصطلاح «توازن القوى»، انطلقت تعريفات وأبحاث الكتّاب. يذهب «إيز كراو» Eyze Crowe نائب وزير الخارجية البريطانية في مذكراته المنشورة في الوثائق البريطانية عن اندلاع الحرب، أي الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، إلى أن التاريخ يدل «على أن الخطر الذي يهدّد استقلال هذه الأمّة أو تلك نشأ على العموم، أو نشأ جزء منه على الأقّل، من تفوّق وقتيٍّ لدولة جارة، قوّية عسكريَّاً وفي الوقت ذاته فعّالة اقتصادياً، تطمح إلى توسيع حدودها أو نشر نفوذها، فالكابح الوحيد لسوء استعمال السيطرة السياسية المتأتية عن مثل هذا التفوّق تمثَّل في التاريخ دوماً بقيام منافس قوّي لهذه الدولة يحد من شططها، أو بمعارضة مركّب مؤلف من عدّة دول تشكل فيما بينها عصبة تدافع عن مصالحها المشتركة. فالتوازن الذي يقوم في أثر هذا التجمع للقوى يعرَّف فنياً بتوازن القوَّة، وصار بمنزلة البديهيّات التاريخية تقريباً تعريف سياسة إنكلترة التقليدية بأنها الحفاظ على هذا التّوازن، بوضع ثقلها تارة في هذه الكّفة من الميزان وتارة في الكفة الأخرى، ولكن دوماً إلى جانب معارضة الدكتاتورية السياسية للدولة المنفردة الأقوى أو لفريق من الدول، في وقت معين».
أمَّا الآلية التي يمكن بها إحلال التوازن عملياً في علاقات الدولتين المنافستين فهي أن تعمد الدولة التي تشعر بالتهديد إمّا إلى زيادة استعدادها العسكري أو زيادة وتائر فاعليتها الاقتصادية، أو اكتساب رقعة جديدة من الأرض، وإمَّا عن طريق استمالة دول أخرى لمشاركتها في هذا الاستعداد مما يؤدي غالباً لقيام الأحلاف[ر]، مثلما تحالفت إنكلترة وبروسية وألمانية لمقاومة توسُّع نابليون.
ومارست بريطانية العظمى بالفعل سياسة توازن القوَّة طوال القرن التاسع عشر في مبتدأ القرن العشرين. كانت الدول الأوربية تتسابق على النفوذ وعلى اكتساب المستعمرات في القارات الأخرى، وأهّلها تفوّق أسطولها البحرّي وحصانة موقعها الجغرافي آنذاك ضّد الغزو وسِبقُها في الثورة الصناعية، أن تكون مفتاح استتباب توازن القوى في أوربة.
أمثلة على توازن القوى
ولئن عرفت فكرة توازن القوى كمخفف لآثار احتكاك القوى الكبرى والامبراطوريات الواسعة منذ القديم فإنها لم تتخذ صيغتها المحددة إلا في العصور الحديثة وعلى الأخص في القارة الأوربية، كما تدل الأمثلة الآتية:
1- في النصف الأول من القرن السابع عشر، أسفرت حروب لويس الرابع عشر، بعد أن زالت سيطرة الامبراطورية النمسوية على المقدّرات الأوربية، عن تفوّق كاسح لفرنسة على الملكيات الأوربية الأخرى، وحين عزم ملك إسبانية في أواخر القرن على أن يخلفه على العرش الإسباني الابن الثاني لولي العهد الفرنسي، خشيت أكثرية الدول الأوربية من هذا الامتداد المتزايد للسيطرة الفرنسية فتحالف إمبراطور ألمانية وملك إنكلترة ودوق سافوا ثم انضم إليهم ملك البرتغال ضد الأطماع الفرنسية، باسم إعادة التوازن، وانتهت الأزمة بتوقيع معاهدة أوترخت سنة 1713 التي قضت على فرنسة وإسبانية بالتخلي عن توحيد العرشين كما قضت على لويس الرابع عشر بالتخلي عن الممتلكات التي كان غزاها، فعاد توازن القوى إلى ما كان عليه واستمرَّ ثلاثة أرباع القرن الثامن عشر إلى أن شبّت الثورة الفرنسية وألغت الملكية وأعلنت النظام الجمهوري.
2- في مؤتمر فيينة الشهير (1814-1815) الذي صفّى تركة حروب نابليون، تعاون اللورد البريطاني كاسترليه مع الأمير النمسوي مترنيخ (باسم احترام شرعّية الحكم واستقلال الدول) على إعادة توحيد مملكة بولونية لتكون ركناً في بناء توازن القوى، بعد أن كانت تتقاسمها روسية وبروسية فأخلَّتا بالتوازن، وبدوافع من الحرص على التوازن، أيّد الوزير الفرنسي الأمير تالّيران أيضاً هذه المبادهة.
3- في النصف الأول للقرن التاسع عشر، كانت الدول الأوربية الكبرى المهيمنة على الحرب والسياسة هي فرنسة وبريطانية العظمى وروسية والنمسة وبروسية، فعمدت روسية سنة 1853 إلى غزو الممتلكات العثمانية وراء الدانوب فتحالفت آنئذ ضد الأطماع الروسية فرنسة وبريطانية العظمى والنمسة وبروسية، ثم أعقب ذلك سنة 1854 تحالف آخر بين فرنسة وبريطانية العظمى تأييداً للامبراطورية العثمانية في وجه الروس وانضم ملك سردينية إلى هذا الحلف، وأسفرت حرب القرم بين روسية والحلفاء عن انتصار الحلفاء فعقدت معاهدة باريس سنة 1856 التي توقف بموجبها التوسع الروسي. ثم جاء بعد ذلك مؤتمر برلين سنة 1878 يجرّد روسية من أكثر الممتلكات التي كانت اكتسبتها وراء حدودها التقليدية.
4- كانت الصفة المهيمنة على العلاقات الأوربية في أواخر القرن التاسع عشر هي بروز الشعور القومي تحقق كلّ من الوحدة الألمانية (بعد حرب سنة 1870) والوحدة الإيطالية، وانتشار القومية السلاّفية في روسية والبلقان فتعّرض مبدأ توازن القوى للاهتزاز، واحتدم الصراع بين جرمان وسلاف، لكن نشوب حروب البلقان وتحرر بلاد البلقان من النير العثماني واحدة بعد الأخرى كبحت جماح التوسع الروسي وهيمنة السلاف. وكان هذا عهد تسابق الدول الأوربية على كسب المستعمرات وراء البحار وتنافسها في الميدان التجاري في أرجاء العالم مما بدأ يعطي لمفهوم توازن القوى بعداً عالمياً.
هذا البعد العالمي للتوازن واختلال التوازن بدأ يتأكد في مطلع القرن العشرين، إلى أن نشبت الحرب العالمية الأولى وانضمت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا إلى صفوف الحلفاء لتعيد التوازن ثم لترجح كفة الحلفاء في ميزان القوة.
5- أمَّا في الحرب العالمية الثانية عادت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا إلى دعم الحلفاء، وإمداد روسية بالمؤن والذخيرة، بعد أن انفرط عقد معاهدة عدم الاعتداء بينها وبين ألمانية، كبحاً لسيطرة دول المحور واليابان، وإيقافاً للمد الجزئي الأولي الذي سجلته المعارك بين الطرفين.
6- على أنّ أحداث القرن العشرين أفرزت مجموعة من توازنات القوى ولم تعد أوربة هي المرتع الوحيد لممارسة سياسة التوازن، وانجلت الحرب العالمية الثانية عن نوع من نظام توازن قوى على المستوى العالمي، فلم تعد العناصر الرئيسية في التوازن مقتصرة على بريطانية وفرنسة وروسية الأوربية من جهة وألمانية والنمسة من جهة أخرى، بل انتقل الثقل إلى كل من الولايات المتحدة في جانب، والاتحاد السوفييتي (أوربي وآسيوي معاً) في جانب آخر، ولكّل جانب معسكره من الدول الحليفة بقواه الحربية وطاقاته الاقتصادية، وعقائده السياسية والاجتماعية، وتبلور هذا التجابه بقيام حلفين متضادين: حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو. فأضحى يطلق على هذا النوع من التوازن، التوازن الثنائي القطب Bipolazied Balance أطلق على هذه المرحلة اسم الحرب الباردة[ر] وظلت سائدة طوال أكثر سنيّ النصف الثاني من القرن العشرين، إلى أن انفرط عقد المعسكر الاشتراكي، وتفككتْ عُرى الاتحاد السوفييتي واستقلّت أكثر مقوماته الآسيوية، فصارت مجموعة من الدول المستقلة أهمها الاتحاد الروسي، ولم يعد هناك معسكر متماسك ولا قوة تعادل القوة الحربية والاقتصادية التقنية للقطب الأمريكي وبدا أن العهد يتصف بأحادية الاستقطاب Jnipolarization.
إنّ ظاهرة التوازن لن تندثر، فالعالم الذي كفي كوراث الحرب الشاملة في النصف الثاني للقرن العشرين، لم ينج من تزاحم القوى الكبرى في التجارة والصناعة واكتساب الثروة، ولن يستطيع القطب الواحد التحكم في ما لم يعد يمكن احتكاره من تطوّر في العلم والتقنية، وما لا يمكن تفاديه من حرية للتجارة العالمية ولانتقال الأموال، وهذا التزاحم ومسبباته وروادعه وحسناته ومخاطره وما يقريه من تموّج واضطراب ثم استقرار ثمّ مدّ وجزر هو كلّه في صلب العناصر التي تكوّن في نهاية المطاف أركان توازن القوى ومختلف أدواته. ويُعد توازن الرعب أو توازن الرعب النووي أحد أحدث مظاهر توازن القوى.
التوازن النووي Nuclear Balance:
في أثر الحرب العالمية الثانية وبعد أن تحددت العلاقة بين القوتين العظميين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي ـ في أحد أشكالهاـ على أساس التصارع والتنافس. كان سباق التسلح النووي المدخل الأكبر إلى ساحة الصراع بينهما.
وما إن اخترعت الولايات المتحدة القنبلة الذرية، واستخدمتها في أواخر الحرب العالمية الثانية عام 1945، حتى لحق الاتحاد السوفييتي بها في عام 1949. ثم تتابع تطوير السلاح النووي وتراكمه واختراع وسائل نقله وإطلاقه مثل الصواريخ وغيرها لدى هاتين الدولتين وغيرهما من القوى العظمى، حتى اشتد التنافس بين النظامين العالميين: الرأسمالي والشيوعي، في ظل الرعب من استخدام السلاح النووي، بوصفه سلاح التدمير الشامل.
أحدث السلاح النووي، بما بلغه من تطور تقني (تكنولوجي) وكمي جد كبير، شعوراً بالرعب لدى مختلف شعوب العالم، ولاسيما لدى الشعوب الأوربية والأمريكية. وأجمع معظم الاستراتيجيين ورجال السياسة في العالم على أن استخدام السلاح النووي سيكون كارثة عالمية شاملة، فهو في منزلة الانتحار المتبادل، ولن يكون هناك غالب ومغلوب، وإنما دمار شامل وقتل غير محدود للإنسان والحضارة.
من هنا نشأ رعب متبادل، اصطلح على تسميته «توازن الرعب النووي» Balance of Nuclear Terror وعُدَّ «مبدأ» وليس «نظرية» بسبب تعرُّضه للتغيرات النوعية الكثيرة التي قد تحدث في إطار القوى الكبرى والعلاقات الدولية. وفي ضوء هذا المبدأ أمكن توليد ضغوط متبادلة ومتعادلة منعت حدوث اختلال مضرٍّ في شبكة العلاقات بين القوى العظمى، مع سعي القوتين العظميين ـ في الوقت ذاته ـ إلى نشر نفوذهما ودعم أحلافهما وعلاقاتهما الدولية، والتصادم في بعض مناطق العالم الثالث، تصادماً لا يرقى قط إلى حد استخدام السلاح النووي، وذلك بالتحكم في إدارة الأزمات والحروب الإقليمية والحروب المحدودة.
إن أعظم نتيجة بلغها توازن الرعب النووي، أنه عطّل استخدام السلاح النووي -وهو ما سمي «العدم النووي»- أو خيار الصفر Zero Choice وأنتج استقراراً أمنياً وسياسياً نسبياً في بعض المناطق التي تعاني توترات سياسية، في حين لم يستطع هذا التوازن أن يلغي استخدام الأسلحة التقليدية، أو يحدّ من استخدامها، في مناطق كثيرة من العالم.
ولأن التصارع بالسلاح النووي في عصر توازن الرعب النووي صار أمراً مستبعداً، شهد العالم مجموعة من الحروب الإقليمية والحروب المحدودة، التي سعت كل من القوتين العظميين من ورائها إلى عدم تمكين القوة الأخرى من السيطرة على العالم كله. ويمكن القول إن هذه الحروب، بالأسلحة التقليدية، كانت بديلاً لكارثة الحرب النووية، إذ كانت المنافذ التي تسعى القوى العظمى من خلالها إلى تحقيق بعض أهدافها في السيطرة والنفوذ، بتزويد أطراف الحرب بالسلاح ودعمها سياسياً ودبلوماسياً. وقد يكون التدخل العسكري لتلك القوى العظمى في الحروب الإقليمية أو المحدودة إلى جانب أطراف النزاع تدخلاً مباشراً ومعلناً، وقد يكون غير مباشر وخفياً.
وفي جميع الأحوال، كانت القوى العظمى تسعى إلى ضبط هذه الحروب، ومراقبة نتائجها، حتى لا تصير مدعاة لإثارة القوى العظمى والاندفاع غير المضبوط في رفع مستوى الصراع إلى حد يخل بمبدأ توازن الرعب النووي.
وكان من أبرز تأثيرات توازن الرعب النووي، سعي القوتين العظميين إلى احتواء الحروب الإقليمية، والمحدودة، فلا يدعانها تجرهما إلى استخدام الأسلحة النووية، ويضبطان عمليات تزويد أطرافها بالأسلحة التقليدية بما لا يجعل انتصار أحد طرفي الحرب انتصاراً ساحقاً، وهزيمة الطرف الآخر هزيمة ماحقة، ويعملان لمنع اتساع نطاق الحرب.
وإذا كان توازن الرعب النووي ردع القوى النووية عن استخدام السلاح النووي، فثمة احتمالات قد تؤدي إلى اختلال ذلك التوازن، بسبب التغيرات النوعية والكمية الكثيرة التي قد تحدث في إطار القوى الدولية الكبرى، فتغيّر بعض معالم النظام لعالمي الراهن. ومن أبرز تلك التغيرات ما شهده العالم في تسعينات القرن العشرين، مثل: حل حلف وارسو[ر] وانهيار كتلة أوربة الشرقية الاشتراكية، وزوال «اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية»[ر] كدولة اتحادية كبرى وقوة دولية عظمى، واستبدال رابطة أخرى به تجمع دولاً مستقلة ذات سيادة، وتغيّر بعض المهام الأساسية لحلف شمال الأطلسي[ر]، وبروز تكتلات وقوى اقتصادية عالمية كبيرة، وغير ذلك من العوامل التي تعرض معالم ميزان الرعب النووي للتغير، إلى حد يبدو معه ذلك الميزان غير متوازن، كما أن بروز قوى نووية أخرى قد لا تكون منضبطة كالكيان الصهيوني والهند لا يجعل من الخيار النووي خياراً معدوماً بالمرة.
ومن جهة أخرى، ثمَّة احتمال أن يتعرض ميزان الرعب النووي لاختلال من مصدر آخر، هو التطور العلمي والتقني. فقد يخترع أحد أطراف الميزان أسلحة قادرة على مضادّة الأسلحة النووية المعادية، أو تعطيل مفعولها، أو يخترع أسلحة دمار شامل جديدة، تتصف بأنها أكثر فتكاً وشمولية ودقة وإحكاماً وسرعة من أسلحة الأطراف الأخرى، كالأسلحة الكيمياوية التي يسميها بعضهم السلاح النووي للدول الفقيرة. وإذا ما حدث ذلك، فإن العناصر التي تكوّن توازن الرعب النووي تتعرض لعوامل التغير والاختلال.
في مواجهة هذه التغيرات المحتملة، يمكن القول إن آلية النظام العالمي، بقواه الكبرى القائمة والناشئة، وبمنظماته الدولية، تسعى دائماً إلى إعادة التوازن إلى ميزان الرعب النووي، حتى يستمر الاستقرار ولا ينهار السلام الدولي. وكما كانت سياسات الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتخفيضها، وتدميرها، سبيلاً يعود الفضل في شقه وتمهيده وسلوكه إلى «الرعب النووي»، فإن هذا الرعب نفسه قد يولّد سبلاً أخرى تجنّب العالم كارثة الدمار الشامل.
رفيق جويجاتي ـ هيثم الكيلاني
توازن القوى Balance of Powers اصطلاح في ميدان العلاقات الدولية، يعود استعماله إلى القرن السادس عشر، ولو أنّ مفهومه العام كان معروفاً منذ أقدم العصور.
يعني هذا الاصطلاح في جوهره الحالة التي تجد فيها إحدى الدول، أو مجموعة من الدول، أنها مضطرة لأن تتخذ الحيطة إزاء نمو دولة أخرى أو مجموعة دول، منافسة لها، أو يحتمل أن تبلغ منافستها لها حدّ تهديد مصالح الدولة أو المجموعة الأولى، أو النيل من استقلالها وسلامتها الإقليمية، فتهرع الدولة أو المجموعة التي تستشعر هذا الخطر إلى استجماع أسباب قوتها ورصّ صفوفها بحيث تكون معادلة في القوّة والاستعداد للدولة أو المجموعة المنافسة، إلى أن يقوم نوع من التوازن بين الفريقين، يفترض فيه أن يحول دون الحرب، لأن التعادل من شأنه أن يبعد إمكان انتصار أحد الفريقين على الآخر، فيجعل صنّاع القرار يفكرّون ملّياً قبل التورّط في حرب سجال طويلة الأمد تكون الخسارة فيها أكثر من الغنيمة.
من هذا المعنى لاصطلاح «توازن القوى»، انطلقت تعريفات وأبحاث الكتّاب. يذهب «إيز كراو» Eyze Crowe نائب وزير الخارجية البريطانية في مذكراته المنشورة في الوثائق البريطانية عن اندلاع الحرب، أي الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، إلى أن التاريخ يدل «على أن الخطر الذي يهدّد استقلال هذه الأمّة أو تلك نشأ على العموم، أو نشأ جزء منه على الأقّل، من تفوّق وقتيٍّ لدولة جارة، قوّية عسكريَّاً وفي الوقت ذاته فعّالة اقتصادياً، تطمح إلى توسيع حدودها أو نشر نفوذها، فالكابح الوحيد لسوء استعمال السيطرة السياسية المتأتية عن مثل هذا التفوّق تمثَّل في التاريخ دوماً بقيام منافس قوّي لهذه الدولة يحد من شططها، أو بمعارضة مركّب مؤلف من عدّة دول تشكل فيما بينها عصبة تدافع عن مصالحها المشتركة. فالتوازن الذي يقوم في أثر هذا التجمع للقوى يعرَّف فنياً بتوازن القوَّة، وصار بمنزلة البديهيّات التاريخية تقريباً تعريف سياسة إنكلترة التقليدية بأنها الحفاظ على هذا التّوازن، بوضع ثقلها تارة في هذه الكّفة من الميزان وتارة في الكفة الأخرى، ولكن دوماً إلى جانب معارضة الدكتاتورية السياسية للدولة المنفردة الأقوى أو لفريق من الدول، في وقت معين».
أمَّا الآلية التي يمكن بها إحلال التوازن عملياً في علاقات الدولتين المنافستين فهي أن تعمد الدولة التي تشعر بالتهديد إمّا إلى زيادة استعدادها العسكري أو زيادة وتائر فاعليتها الاقتصادية، أو اكتساب رقعة جديدة من الأرض، وإمَّا عن طريق استمالة دول أخرى لمشاركتها في هذا الاستعداد مما يؤدي غالباً لقيام الأحلاف[ر]، مثلما تحالفت إنكلترة وبروسية وألمانية لمقاومة توسُّع نابليون.
ومارست بريطانية العظمى بالفعل سياسة توازن القوَّة طوال القرن التاسع عشر في مبتدأ القرن العشرين. كانت الدول الأوربية تتسابق على النفوذ وعلى اكتساب المستعمرات في القارات الأخرى، وأهّلها تفوّق أسطولها البحرّي وحصانة موقعها الجغرافي آنذاك ضّد الغزو وسِبقُها في الثورة الصناعية، أن تكون مفتاح استتباب توازن القوى في أوربة.
أمثلة على توازن القوى
ولئن عرفت فكرة توازن القوى كمخفف لآثار احتكاك القوى الكبرى والامبراطوريات الواسعة منذ القديم فإنها لم تتخذ صيغتها المحددة إلا في العصور الحديثة وعلى الأخص في القارة الأوربية، كما تدل الأمثلة الآتية:
1- في النصف الأول من القرن السابع عشر، أسفرت حروب لويس الرابع عشر، بعد أن زالت سيطرة الامبراطورية النمسوية على المقدّرات الأوربية، عن تفوّق كاسح لفرنسة على الملكيات الأوربية الأخرى، وحين عزم ملك إسبانية في أواخر القرن على أن يخلفه على العرش الإسباني الابن الثاني لولي العهد الفرنسي، خشيت أكثرية الدول الأوربية من هذا الامتداد المتزايد للسيطرة الفرنسية فتحالف إمبراطور ألمانية وملك إنكلترة ودوق سافوا ثم انضم إليهم ملك البرتغال ضد الأطماع الفرنسية، باسم إعادة التوازن، وانتهت الأزمة بتوقيع معاهدة أوترخت سنة 1713 التي قضت على فرنسة وإسبانية بالتخلي عن توحيد العرشين كما قضت على لويس الرابع عشر بالتخلي عن الممتلكات التي كان غزاها، فعاد توازن القوى إلى ما كان عليه واستمرَّ ثلاثة أرباع القرن الثامن عشر إلى أن شبّت الثورة الفرنسية وألغت الملكية وأعلنت النظام الجمهوري.
2- في مؤتمر فيينة الشهير (1814-1815) الذي صفّى تركة حروب نابليون، تعاون اللورد البريطاني كاسترليه مع الأمير النمسوي مترنيخ (باسم احترام شرعّية الحكم واستقلال الدول) على إعادة توحيد مملكة بولونية لتكون ركناً في بناء توازن القوى، بعد أن كانت تتقاسمها روسية وبروسية فأخلَّتا بالتوازن، وبدوافع من الحرص على التوازن، أيّد الوزير الفرنسي الأمير تالّيران أيضاً هذه المبادهة.
3- في النصف الأول للقرن التاسع عشر، كانت الدول الأوربية الكبرى المهيمنة على الحرب والسياسة هي فرنسة وبريطانية العظمى وروسية والنمسة وبروسية، فعمدت روسية سنة 1853 إلى غزو الممتلكات العثمانية وراء الدانوب فتحالفت آنئذ ضد الأطماع الروسية فرنسة وبريطانية العظمى والنمسة وبروسية، ثم أعقب ذلك سنة 1854 تحالف آخر بين فرنسة وبريطانية العظمى تأييداً للامبراطورية العثمانية في وجه الروس وانضم ملك سردينية إلى هذا الحلف، وأسفرت حرب القرم بين روسية والحلفاء عن انتصار الحلفاء فعقدت معاهدة باريس سنة 1856 التي توقف بموجبها التوسع الروسي. ثم جاء بعد ذلك مؤتمر برلين سنة 1878 يجرّد روسية من أكثر الممتلكات التي كانت اكتسبتها وراء حدودها التقليدية.
4- كانت الصفة المهيمنة على العلاقات الأوربية في أواخر القرن التاسع عشر هي بروز الشعور القومي تحقق كلّ من الوحدة الألمانية (بعد حرب سنة 1870) والوحدة الإيطالية، وانتشار القومية السلاّفية في روسية والبلقان فتعّرض مبدأ توازن القوى للاهتزاز، واحتدم الصراع بين جرمان وسلاف، لكن نشوب حروب البلقان وتحرر بلاد البلقان من النير العثماني واحدة بعد الأخرى كبحت جماح التوسع الروسي وهيمنة السلاف. وكان هذا عهد تسابق الدول الأوربية على كسب المستعمرات وراء البحار وتنافسها في الميدان التجاري في أرجاء العالم مما بدأ يعطي لمفهوم توازن القوى بعداً عالمياً.
هذا البعد العالمي للتوازن واختلال التوازن بدأ يتأكد في مطلع القرن العشرين، إلى أن نشبت الحرب العالمية الأولى وانضمت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا إلى صفوف الحلفاء لتعيد التوازن ثم لترجح كفة الحلفاء في ميزان القوة.
5- أمَّا في الحرب العالمية الثانية عادت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا إلى دعم الحلفاء، وإمداد روسية بالمؤن والذخيرة، بعد أن انفرط عقد معاهدة عدم الاعتداء بينها وبين ألمانية، كبحاً لسيطرة دول المحور واليابان، وإيقافاً للمد الجزئي الأولي الذي سجلته المعارك بين الطرفين.
6- على أنّ أحداث القرن العشرين أفرزت مجموعة من توازنات القوى ولم تعد أوربة هي المرتع الوحيد لممارسة سياسة التوازن، وانجلت الحرب العالمية الثانية عن نوع من نظام توازن قوى على المستوى العالمي، فلم تعد العناصر الرئيسية في التوازن مقتصرة على بريطانية وفرنسة وروسية الأوربية من جهة وألمانية والنمسة من جهة أخرى، بل انتقل الثقل إلى كل من الولايات المتحدة في جانب، والاتحاد السوفييتي (أوربي وآسيوي معاً) في جانب آخر، ولكّل جانب معسكره من الدول الحليفة بقواه الحربية وطاقاته الاقتصادية، وعقائده السياسية والاجتماعية، وتبلور هذا التجابه بقيام حلفين متضادين: حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو. فأضحى يطلق على هذا النوع من التوازن، التوازن الثنائي القطب Bipolazied Balance أطلق على هذه المرحلة اسم الحرب الباردة[ر] وظلت سائدة طوال أكثر سنيّ النصف الثاني من القرن العشرين، إلى أن انفرط عقد المعسكر الاشتراكي، وتفككتْ عُرى الاتحاد السوفييتي واستقلّت أكثر مقوماته الآسيوية، فصارت مجموعة من الدول المستقلة أهمها الاتحاد الروسي، ولم يعد هناك معسكر متماسك ولا قوة تعادل القوة الحربية والاقتصادية التقنية للقطب الأمريكي وبدا أن العهد يتصف بأحادية الاستقطاب Jnipolarization.
إنّ ظاهرة التوازن لن تندثر، فالعالم الذي كفي كوراث الحرب الشاملة في النصف الثاني للقرن العشرين، لم ينج من تزاحم القوى الكبرى في التجارة والصناعة واكتساب الثروة، ولن يستطيع القطب الواحد التحكم في ما لم يعد يمكن احتكاره من تطوّر في العلم والتقنية، وما لا يمكن تفاديه من حرية للتجارة العالمية ولانتقال الأموال، وهذا التزاحم ومسبباته وروادعه وحسناته ومخاطره وما يقريه من تموّج واضطراب ثم استقرار ثمّ مدّ وجزر هو كلّه في صلب العناصر التي تكوّن في نهاية المطاف أركان توازن القوى ومختلف أدواته. ويُعد توازن الرعب أو توازن الرعب النووي أحد أحدث مظاهر توازن القوى.
التوازن النووي Nuclear Balance:
في أثر الحرب العالمية الثانية وبعد أن تحددت العلاقة بين القوتين العظميين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي ـ في أحد أشكالهاـ على أساس التصارع والتنافس. كان سباق التسلح النووي المدخل الأكبر إلى ساحة الصراع بينهما.
وما إن اخترعت الولايات المتحدة القنبلة الذرية، واستخدمتها في أواخر الحرب العالمية الثانية عام 1945، حتى لحق الاتحاد السوفييتي بها في عام 1949. ثم تتابع تطوير السلاح النووي وتراكمه واختراع وسائل نقله وإطلاقه مثل الصواريخ وغيرها لدى هاتين الدولتين وغيرهما من القوى العظمى، حتى اشتد التنافس بين النظامين العالميين: الرأسمالي والشيوعي، في ظل الرعب من استخدام السلاح النووي، بوصفه سلاح التدمير الشامل.
أحدث السلاح النووي، بما بلغه من تطور تقني (تكنولوجي) وكمي جد كبير، شعوراً بالرعب لدى مختلف شعوب العالم، ولاسيما لدى الشعوب الأوربية والأمريكية. وأجمع معظم الاستراتيجيين ورجال السياسة في العالم على أن استخدام السلاح النووي سيكون كارثة عالمية شاملة، فهو في منزلة الانتحار المتبادل، ولن يكون هناك غالب ومغلوب، وإنما دمار شامل وقتل غير محدود للإنسان والحضارة.
من هنا نشأ رعب متبادل، اصطلح على تسميته «توازن الرعب النووي» Balance of Nuclear Terror وعُدَّ «مبدأ» وليس «نظرية» بسبب تعرُّضه للتغيرات النوعية الكثيرة التي قد تحدث في إطار القوى الكبرى والعلاقات الدولية. وفي ضوء هذا المبدأ أمكن توليد ضغوط متبادلة ومتعادلة منعت حدوث اختلال مضرٍّ في شبكة العلاقات بين القوى العظمى، مع سعي القوتين العظميين ـ في الوقت ذاته ـ إلى نشر نفوذهما ودعم أحلافهما وعلاقاتهما الدولية، والتصادم في بعض مناطق العالم الثالث، تصادماً لا يرقى قط إلى حد استخدام السلاح النووي، وذلك بالتحكم في إدارة الأزمات والحروب الإقليمية والحروب المحدودة.
إن أعظم نتيجة بلغها توازن الرعب النووي، أنه عطّل استخدام السلاح النووي -وهو ما سمي «العدم النووي»- أو خيار الصفر Zero Choice وأنتج استقراراً أمنياً وسياسياً نسبياً في بعض المناطق التي تعاني توترات سياسية، في حين لم يستطع هذا التوازن أن يلغي استخدام الأسلحة التقليدية، أو يحدّ من استخدامها، في مناطق كثيرة من العالم.
ولأن التصارع بالسلاح النووي في عصر توازن الرعب النووي صار أمراً مستبعداً، شهد العالم مجموعة من الحروب الإقليمية والحروب المحدودة، التي سعت كل من القوتين العظميين من ورائها إلى عدم تمكين القوة الأخرى من السيطرة على العالم كله. ويمكن القول إن هذه الحروب، بالأسلحة التقليدية، كانت بديلاً لكارثة الحرب النووية، إذ كانت المنافذ التي تسعى القوى العظمى من خلالها إلى تحقيق بعض أهدافها في السيطرة والنفوذ، بتزويد أطراف الحرب بالسلاح ودعمها سياسياً ودبلوماسياً. وقد يكون التدخل العسكري لتلك القوى العظمى في الحروب الإقليمية أو المحدودة إلى جانب أطراف النزاع تدخلاً مباشراً ومعلناً، وقد يكون غير مباشر وخفياً.
وفي جميع الأحوال، كانت القوى العظمى تسعى إلى ضبط هذه الحروب، ومراقبة نتائجها، حتى لا تصير مدعاة لإثارة القوى العظمى والاندفاع غير المضبوط في رفع مستوى الصراع إلى حد يخل بمبدأ توازن الرعب النووي.
وكان من أبرز تأثيرات توازن الرعب النووي، سعي القوتين العظميين إلى احتواء الحروب الإقليمية، والمحدودة، فلا يدعانها تجرهما إلى استخدام الأسلحة النووية، ويضبطان عمليات تزويد أطرافها بالأسلحة التقليدية بما لا يجعل انتصار أحد طرفي الحرب انتصاراً ساحقاً، وهزيمة الطرف الآخر هزيمة ماحقة، ويعملان لمنع اتساع نطاق الحرب.
وإذا كان توازن الرعب النووي ردع القوى النووية عن استخدام السلاح النووي، فثمة احتمالات قد تؤدي إلى اختلال ذلك التوازن، بسبب التغيرات النوعية والكمية الكثيرة التي قد تحدث في إطار القوى الدولية الكبرى، فتغيّر بعض معالم النظام لعالمي الراهن. ومن أبرز تلك التغيرات ما شهده العالم في تسعينات القرن العشرين، مثل: حل حلف وارسو[ر] وانهيار كتلة أوربة الشرقية الاشتراكية، وزوال «اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية»[ر] كدولة اتحادية كبرى وقوة دولية عظمى، واستبدال رابطة أخرى به تجمع دولاً مستقلة ذات سيادة، وتغيّر بعض المهام الأساسية لحلف شمال الأطلسي[ر]، وبروز تكتلات وقوى اقتصادية عالمية كبيرة، وغير ذلك من العوامل التي تعرض معالم ميزان الرعب النووي للتغير، إلى حد يبدو معه ذلك الميزان غير متوازن، كما أن بروز قوى نووية أخرى قد لا تكون منضبطة كالكيان الصهيوني والهند لا يجعل من الخيار النووي خياراً معدوماً بالمرة.
ومن جهة أخرى، ثمَّة احتمال أن يتعرض ميزان الرعب النووي لاختلال من مصدر آخر، هو التطور العلمي والتقني. فقد يخترع أحد أطراف الميزان أسلحة قادرة على مضادّة الأسلحة النووية المعادية، أو تعطيل مفعولها، أو يخترع أسلحة دمار شامل جديدة، تتصف بأنها أكثر فتكاً وشمولية ودقة وإحكاماً وسرعة من أسلحة الأطراف الأخرى، كالأسلحة الكيمياوية التي يسميها بعضهم السلاح النووي للدول الفقيرة. وإذا ما حدث ذلك، فإن العناصر التي تكوّن توازن الرعب النووي تتعرض لعوامل التغير والاختلال.
في مواجهة هذه التغيرات المحتملة، يمكن القول إن آلية النظام العالمي، بقواه الكبرى القائمة والناشئة، وبمنظماته الدولية، تسعى دائماً إلى إعادة التوازن إلى ميزان الرعب النووي، حتى يستمر الاستقرار ولا ينهار السلام الدولي. وكما كانت سياسات الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتخفيضها، وتدميرها، سبيلاً يعود الفضل في شقه وتمهيده وسلوكه إلى «الرعب النووي»، فإن هذا الرعب نفسه قد يولّد سبلاً أخرى تجنّب العالم كارثة الدمار الشامل.
رفيق جويجاتي ـ هيثم الكيلاني