كيف تدار العلاقات الاقليمية في الفترة القادمة ؟
مرسل: الاثنين مايو 07, 2012 6:43 pm
إن الإجابة الأكثر أمنا، من الناحية التحليلية للسؤال المطروح، هي أنه "لا أحد يعرف"، فقد تم الاعتياد، حتي قبل مرحلة الثورات، علي الحديث عن حالات السيولة والفترات الانتقالية، ومفترقات الطرق والسنوات الحاسمة، التي يصعب معها تحديد عوامل ثابتة تكفي لبناء تقدير يتماسك لعدة شهور تالية، حتي إن تيارا في نظرية العلاقات الدولية بدأ يطرح أفكارا حول كيفية التعايش تحليليا مع المتغيرات الدائمة، واكتشاف بعض الثوابت التي يمكن التعويل عيها في "نموذج السير العشوائي" لتقديم شيء حول "ما بعد" فترات التحول الهائلة.
لقد كان من درسوا العلوم السياسية يفضلون دائما أن يعتقدوا أن السياسة "علم"، وليست شيئا آخر، وأنه يمكن اكتشاف قوانين -استنادا إلي دراسات تجريبية ودراسات حالة - تنطبق علي حالات متعددة، إذا بدا أنها تتضمن ملامح متشابهة. لكن ما حدث في المنطقة العربية تسبب في صدمة نظرية، فلم يكن أحد قادرا علي التنبؤ بما حدث، رغم وجود نظريات "العدوي السياسية" و"نماذج الدومينو". ولم يتصور التيار الرئيسي في مصر، مثلا، أن ما جري في تونس قد يتكرر في مصر. لكن بعد أن تكرر في مصر، أصبح هناك يقين بأنه سينتقل إلي الدول الأخري في المنطقة، كلها، وحتي إلي ديمقراطيات مستقرة خارج الإقليم.
المحصلة، كما قال د. أسامة الغزالي حرب، خلال لقاء التسليم والتسلم لـ "السياسة الدولية"، قبل يوم واحد من جمعة الغضب في مصر، وبينما كان النقاش يدور حول ما إذا كان النظام سوف ينهار أم لا، يوم 28 يناير 2011، "يبدو أن علينا أن نعيد النظر فيما تقوله نظريات العلوم السياسية، فلدينا أوضاع جديدة تتطلب أساليب تفكير غير تقليدية"، وكان رأيه - فيما يشبه الرؤية - أن النظام سوف ينهار، تحت ضغط الثورة الداخلية، حتي لو لم يحدث انشقاق داخل مؤسساته، بخلاف الافتراضات النظرية، وقد حدث. لكن تظل هناك دائما "نقطة استدراك"، فربما كان انشقاقا قد جري، وبالتالي لا توجد نهاية لعملية التقدير وإعادة التقدير، فلا يوجد حكم نهائي، إلي أن تتحول السياسة إلي تاريخ.
إن الفكرة المركزية التي تقوم عليها الموضوعات التي تتعلق بالثورات العربية، وهي التي تسيطر علي هذا العدد، هي أن العلاقة بين الداخل والخارج ستكون من مفاتيح التفكير الرئيسية في تحليل طبيعة العلاقات الإقليمية في المرحلة القادمة. فعلي الرغم من أن "الداخل" لم يكن يحدد دائما اتجاهات العلاقات الخارجية، فما يسمي "البيئة الاستراتيجية" قد تفرض علي الدولة تخصيص موارد تضعها في مواجهة معضلة "الخبز أم البنادق". وعلي الرغم من أن المسألة كانت تتوقف علي ما تعتبره النخب الحاكمة "الداخل" كمفهوم وأولوية، كما حدث في حالة مصر بصورة صارخة، فإنه تم افتراض "أن كل السياسات داخلية"، أو ستكون كذلك في المدي القصير. وهنا، يمكن الإشارة إلي ثلاث نقاط بشأن انعكاسات التحولات الداخلية علي العلاقات الإقليمية في المرحلة المقبلة.
الأولي: إن تحولات رئيسية، من تلك النوعية التي تمارس تأثيراتها في نمط العلاقات الإقليمية، سواء كان المقصود بها هو المنطقة العربية، أو إقليم الشرق الأوسط، قد بدأت قبل انفجار موجة الثورات الكبري والاحتجاجات الجماهيرية في المنطقة العربية، عام 2011.فقد كانت السمة التقليدية للإقليم هي أنه أكثر مناطق العالم توترا، فهو غير مستقر، ويشهد صراعات سياسية وعسكرية حادة طويلة المدي، وتفجرت علي ساحته حروب واضطرابات مسلحة ذات جذور عميقة تاريخيا. وكان من الواضح منذ عام 2001 أنه يسير -وفقا لمنطق دراسات الأمن التي تركز علي مفهوم الاستقرار- في اتجاه "سيناريوهات" لحالات أكثر سوءا مما كان معتادا علي ساحتها.
لم تكن مشكلة تلك المنطقة تتعلق بعدد حالات الصراع التي تشهدها. فوفقا لمقياس الصراعات الذي يعده "معهد هيدلبرج" في ألمانيا، جاءت المنطقة، عام 2007 مثلا، في المرتبة الرابعة من حيث عدد الحالات الصراعية التي شهدتها، بعد المنطقة الآسيوية، وإفريقيا جنوب الصحراء، بل والقارة الأوروبية ذاتها، ولم تكن هناك منطقة تالية لها سوي الأمريكتين. ومع ذلك، فإن التقييمات السائدة في الإقليم لحالتها ظلت تؤكد أنها الأسوأ من حيث حالة عدم الاستقرار، بل ساد تيار يقرر أنها تنجرف نحو الفوضي.
إن جوهر حالة عدم الاستقرار في المنطقة كان يتعلق في الأساس بنوعية الصراعات التي تتفجر علي ساحتها. فخلال السنوات العشر الأخيرة، تنامي عدد الصراعات الداخلية بشدة، مقارنة بالصراعات الإقليمية التي تنشب بين الدول، والصراعات الدولية التي تتفجر مع "دول كبري". كما أصبحت تلك الصراعات أكثر تعقيدا في أطرافها وقضاياها، وتصاعدت ميول اللجوء إلي القوة المسلحة في إدارتها، كما أصبحت حدة الصراعات تتصاعد، وطال مداها الزمني لدرجة أصبحت معها "مزمنة"، ووضح أن معظمها يستعصي علي الحل.
في تلك الفترة، ارتبط نمط العلاقات بين أطراف الإقليم بعدة تحولات هيكلية، كانت تشير إلي "انفجار داخلي" في المنطقة، أهمها مايلي:
1- إن فكرة الدولة الموحدة كانت قد بدأت تواجه مشكلة في بعض الحالات، لتظهر ترتيبات تتعلق بدول فيدرالية أو كونفيدرالية، أو دول متعددة الاقليات، مع صعود للعامل الثقافي العرقي أو الديني أو المذهبي، وبالتالي بدأت حالة من تعدد "الأقاليم الجغرافية" داخل الدول في الاتساع، كما جري في حالتي العراق والسودان.
2- إن ميراث الدولة المركزية قد بدأ يهتز، في ظل عدم قدرة العواصم علي السيطرة علي مناطق الدولة الجغرافية، أو قطاعات مواطنيها، أو تشكيلاتها الاجتماعية، لتظهر "دول داخل الدول" كحالة لبنان، وفاعلين غير رسميين، مع انقسام السلطة أحيانا (كحالة فلسطين)، وصولا إلي تعبير "الدولة الفاشلة" الذي ارتبط بحالات قائمة كالصومال، أو حالات محتملة (وقتها) مثل اليمن.
3- إن مسألة العروبة ذاتها، كانتماء ثقافي، قد بدأت تخضع للنقاش، في إطار صياغة بعض الدساتير الجديدة، أو الاتفاق علي ترتيبات سياسية مختلفة، أو التداول حول حقوق ثقافية معينة، أو حتي وصف ماهو قائم ديموجرافيا داخل الدول، وتمتد الحالات من المغرب إلي الإمارات العربية.
في تلك الفترة، كان العامل الخارجي، الدولي أو الإقليمي، إضافة إلي الفاعلين العابرين للحدود، يلعب دورا مؤثرا في تشكيل خريطة المنطقة العربية تحديدا، مرتبطا بأدوار أطراف كالولايات المتحدة، وإيران، وإثيوبيا وأوغندا والقاعدة، ونشأت محاور (كالاعتدال والممانعة) عابرة للمنطقة، بخلاف ما جري في بدايات الفترة التالية، عندما سيطر الداخل في البداية، قبل أن تجري تدخلات خارجية في حالات ليبيا والبحرين.
الثانية: إن معظم الدول العربية قد بدأت تشهد أوضاعا استثنائية في إدارتها لعلاقاتها الخارجية خلال فترات الثورات، وهو ما يصعب التعويل عليه في تحليل ما قد يجري خلال الفترات التالية. فما يتم حاليا هو "توجهات تجريبية"، مؤقتة، إذ اهتزت مراكز السلطة السيادية داخل الدول بشدة، تحت ضغط الاحتجاجات الداخلية، ومنها إدارات السياسة الخارجية، التي طالتها التغييرات، بحيث أصبحت في حاجة إلي استعادة توازنها قبل أن تحدد توجهاتها، أو تصبح مستعدة لذلك، ووصلت حدة الاهتزازات أحيانا لدرجة بدت معها بعض الدول، وكأنها أصبحت مؤقتا "بدون سياسة خارجية".
إن إدارات السياسة الخارجية كلها قد واجهت مشكلة. فوزارات الخارجية المسئولة عن النشاط الدبلوماسي قد واجهت حالات عدم استقرار إداري، في حالات كتونس، وانشقاقات سياسية في بعض الحالات، مثل ليبيا، ووزارات الدفاع وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع مهام تتعلق بالحفاظ علي كيان الدولة في مواجهة تحولات داخلية، بعيدة عن الحدود. ولا يعرف أحد ماذا جري داخل مؤسسات الأمن القومي "المغلقة"، لكن لابد أنها أيضا تعاني توابع الزلازل الداخلية.
في هذا السياق، فإنه حتي لو لم تهتز تلك المؤسسات، فإنها عادة ما تواجه مجموعة من الإشكاليات التي تحيطها ببيئة تؤدي إلي نتائج محددة، أهمها:
1- تراجع فكرة "الخارج"، فالأولويات التي لا يمكن تجنبها، في إطار حالات عدم الاستقرار الحادة، هي الداخل ثم الداخل ثم الداخل. وفي ظل الضغوط السياسية، والانهيارات الأمنية، والمشكلات الاقتصادية، فإن القدرة علي التركيز من جانب صناع القرار القلقين، واتجاهات تخصيص الموارد المتاحة، والحذر من الحركات غير المحسوبة، تدفع في اتجاه استمرار شلل السياسة الخارجية لفترة تستمر، إلي أن يتم التحول من الثورة إلي الدولة.
2- سيطرة المهام الداخلية، فالثورات ذاتها تدفع في اتجاه سيطرة تيار جارف من الإشكاليات العاجلة ذات الطابع القانوني غالبا، والتي تمثل حاجة ملحة، فيما يتعلق بأوضاع معاهدات دولية، يطرح تساؤل بشأن مدي الالتزام بها، أو اتفاقات خارجية يوجد تذمر داخلي تجاهها، أوترتيبات قانونية لضبط حركة الأموال، أو استعادتها من الخارج، والتعامل مع أوضاع رموز النظام المنهار، وحلفائها أو مناوئيها في الإقليم والعالم.
3- مأزق التغييرات المتوازية، فبينما تشهد مصر، علي سبيل المثال، تغيرات ثورية حادة، يكون عليها أن تفكر في الكيفية التي يتم بها التعامل مع حالة تقسيم جغرافي متزامنة مع ذلك في السودان، أو اضطرابات مسلحة مزمنة داخل ليبيا، أو حالات "استئساد" في منطقة حوض النيل. وهي سيناريوهات كانت ستعتبر، في الأوقات العادية، تهديدات حقيقية لأمن مصر القومي، تتطلب التفكير في خيارات غير تقليدية، تصل إلي التدخل المباشر، الذي لا يعد خيارا ممكنا في فترات الثورات.
في ظل تلك الأوضاع، تحاول مؤسسات السياسة الخارجية أن تحافظ علي بقائها، باعتبارها رموزا لسيادة الدولة، إذا لم تنهر الأوضاع بشكل كامل، مع محاولة القيام بمهامها، بينما تحاول مراعاة حساسيات وتوجهات الأطراف المحركة للثورات، تجاه القضايا التقليدية للعلاقات الخارجية، وتجد نفسها أحيانا في مواقف لا تحسد عليها. فهي تدرك كل الحكم الذائعة من أنها إذا لم تهتم بالعالم، فإن العالم سوف يهتم بها، وأن الضعف يغري بالعدوان، وأن عدم الاستقرار يؤدي إلي تدخلات خارجية أو "اختبارات إرادة" يومية، تتعلق بالمصالح القومية العليا، بينما هي تحاول فقط أن تتوازن في فترة انتقالية، مستخدمة عبارات عامة.
الثالثة: إنه حسب عنوان الكتاب الشهير للأستاذ الراحل محمد سيد أحمد "بعد أن تسكت المدافع"، ستبدأ عوامل هيكلية في التأثير في العلاقات الإقليمية، بصورة تؤدي إلي تحولها تماما في اتجاهات لا يوجد يقين بشأنها، تتعلق بهيكل الدولة وهوية المجتمع وشكل النظام وتأثير القادة ومزاج الجماهير، إضافة إلي ما يحيط بكل دولة، أي "تأثيرات المواقف الخارجية". وهو ما يمكن رصد عدة نقاط حوله:
1- هيكل الدولة، فالدول أصلا لم تعد الفاعل الوحيد في النظام الدولي، لكن تم التوافق نظريا علي أنها لا تزال الفاعل الأقوي. إلا أن الثورات ثؤدي إلي ظهور فاعلين أقوياء تطرح مع وجودهم فكرة "خصخصة السياسة الخارجية"، بحيث قد تظهر "دويلات داخل الدولة"، أو جماعات مصالح داخلية قوية، تفرض، وربما تمارس، توجها خارجيا معينا، بشكل عام، أو تجاه قضية محددة.
كما أن الظاهرة الجماهيرية المرتبطة بالثورات قد تجعل المؤسسات حساسة إزاء توجهات الرأي العام، أو ما هو أعقد الجماهير، بما قد يؤدي إلي شلل للسياسة الخارجية، أو تردد خلال فترات الأزمات التي يهتم خلالها الرأي العام بالسياسة الخارجية، بحيث يتم اللجوء أحيانا إلي الاستشارات الواسعة، أو "الاستفتاءات"، ففكرة الطابع الواحدي أو الرسمي للسياسة الخارجية قد تتأثر.
2- هوية المجتمع، فالثورات تؤدي إلي سيطرة -حسبما يشير أحد موضوعات العدد- ثنائيات حادة، تتعلق بما إذا كان ما سينشأ في النهاية هو دولة مدنية، أم دولة دينية، أم دولة فاشية. وفي كل حالة، ستكون هناك سياسة خارجية، وبالتالي علاقات إقليمية مختلفة. فقد يسيطر التيار المدني الديمقراطي، بما يحمله من ميل لاتساع دائرة صنع قرار السياسة الخارجية، وعدم الميل إلي الصدام مع الأطراف الأخري، فالديمقراطيات لاتحارب بعضها. وقد يسيطر التيار الديني، بما يحمله من توجهات تتعلق بالتعامل بشكل مختلف مع قوي خارجية مجاورة أو بعيدة. أما سيطرة التيار القومي السلطوي، فإنها تؤدي إلي نتائج غير محسوبة أيضا علي ساحة الإقليم، كما حدث خلال فترة الرئيس عبدالناصر في مصر، وفترة حكم صدام حسين في العراق، فقد أتي النظامان إثر ثورات.
3- شكل النظام، ففي حالة إرساء دول مدنية، يفترض أن تصبح قرارات السياسة الخارجية أكثر رشدا، مع تعقيدات تتعلق بشكل النظام السياسي، وماإذا كان رئاسيا يحتفظ لقادة الدولة بدور مؤثر في توجهاتها، أم برلمانيا تتدخل من خلاله الهيئات التشريعية في تحديد توجهات الدولة، من خلال الإقرار والتمويل والنقاش. وقد يتم اتباع نماذج لنظم مزدوجة كالنظام الأمريكي أو النظام الفرنسي.
أما في حالة سيطرة نظم غير مدنية وغير ديمقراطية، فإن السياسة الخارجية قد تجنح إلي إحداث انقلاب في توجهات السياسة الخارجية، أو حتي "تصدير الثورة" بقيم محددة، أو تصدير الأزمات، أو التدخل واسع النطاق في الإقليم. وإن كان ما يبدو، حتي الآن، هو أن التيارات الدينية لديها إدراك نسبي لحقائق موازين القوة الإقليمية أو الدولية. وفي كل الأحوال، فإن الحكومات الجديدة -إذا ما استقر الداخل- قد تتمتع بقوة أكبر علي الحركة بحكم "الشرعية"، لكنها ستظل تعمل تحت ضغوط مستمرة، وقد تكون أيضا أكثر عرضة للأخطاء.
4- التأثيرات الشخصية، فقد انتهت، فيما يبدو، عصور الزعماء الذين يحملون ملامح كاريزمية، وتوجهات خاصة، وسيتحول كثير من القادة الجدد إلي مايشبه "رؤساء مجالس إدارات" للدول. لكن المنطقة سوف تنقسم بين قادة وصلوا إلي الحكم بطريقة ديمقراطية إثر ثورات، مع وجود بيروقراطيات مختلفة داخل مؤسسات صنع السياسة حولهم، وقيادات تمكنت من "كتم" الثورات، عبر إجراءات مختلفة، لكنها ستظل تعاني "ملامح نفسية" حادة، تؤثر في القرارات. وفي الحقيقة، فإن هذا العامل تحديدا هو أقلها من حيث القدرة علي التنبؤ بتأثيراته. إلا أن الحد الأدني هو أنه في نهاية عام 2011، سيكون هناك عدد كبير أو جيل آخر من "القادة الجدد".
يبقي في النهاية أن يتم تأكيد محددات "الموقف" المتعلقة بما يفرزه النظام الإقليمي الذي هو أعقد من مجرد تجميع حاصل سلوكيات أطرافه، والنظام الدولي الذي قد يؤثر في شبكة تفاعلات مرحلة ما بعد الثورات بأكثر مما أثر خلال الثورات ذاتها. فهي تمثل أهمية خاصة في تحليل شكل العلاقات الإقليمية في المرحلة المقبلة، وفق أنماط شديدة التعقيد، خاصة عندما تخرج المنطقة من "حالة الأزمة" إلي "نمط التفاعل المعتاد"، بعد أن تكون كل الدول الرئيسية في المنطقة قد مارست كل اختبارات القوة الممكنة ضد بعضها بعضا. فلنراقب الإقليم.
لقد كان من درسوا العلوم السياسية يفضلون دائما أن يعتقدوا أن السياسة "علم"، وليست شيئا آخر، وأنه يمكن اكتشاف قوانين -استنادا إلي دراسات تجريبية ودراسات حالة - تنطبق علي حالات متعددة، إذا بدا أنها تتضمن ملامح متشابهة. لكن ما حدث في المنطقة العربية تسبب في صدمة نظرية، فلم يكن أحد قادرا علي التنبؤ بما حدث، رغم وجود نظريات "العدوي السياسية" و"نماذج الدومينو". ولم يتصور التيار الرئيسي في مصر، مثلا، أن ما جري في تونس قد يتكرر في مصر. لكن بعد أن تكرر في مصر، أصبح هناك يقين بأنه سينتقل إلي الدول الأخري في المنطقة، كلها، وحتي إلي ديمقراطيات مستقرة خارج الإقليم.
المحصلة، كما قال د. أسامة الغزالي حرب، خلال لقاء التسليم والتسلم لـ "السياسة الدولية"، قبل يوم واحد من جمعة الغضب في مصر، وبينما كان النقاش يدور حول ما إذا كان النظام سوف ينهار أم لا، يوم 28 يناير 2011، "يبدو أن علينا أن نعيد النظر فيما تقوله نظريات العلوم السياسية، فلدينا أوضاع جديدة تتطلب أساليب تفكير غير تقليدية"، وكان رأيه - فيما يشبه الرؤية - أن النظام سوف ينهار، تحت ضغط الثورة الداخلية، حتي لو لم يحدث انشقاق داخل مؤسساته، بخلاف الافتراضات النظرية، وقد حدث. لكن تظل هناك دائما "نقطة استدراك"، فربما كان انشقاقا قد جري، وبالتالي لا توجد نهاية لعملية التقدير وإعادة التقدير، فلا يوجد حكم نهائي، إلي أن تتحول السياسة إلي تاريخ.
إن الفكرة المركزية التي تقوم عليها الموضوعات التي تتعلق بالثورات العربية، وهي التي تسيطر علي هذا العدد، هي أن العلاقة بين الداخل والخارج ستكون من مفاتيح التفكير الرئيسية في تحليل طبيعة العلاقات الإقليمية في المرحلة القادمة. فعلي الرغم من أن "الداخل" لم يكن يحدد دائما اتجاهات العلاقات الخارجية، فما يسمي "البيئة الاستراتيجية" قد تفرض علي الدولة تخصيص موارد تضعها في مواجهة معضلة "الخبز أم البنادق". وعلي الرغم من أن المسألة كانت تتوقف علي ما تعتبره النخب الحاكمة "الداخل" كمفهوم وأولوية، كما حدث في حالة مصر بصورة صارخة، فإنه تم افتراض "أن كل السياسات داخلية"، أو ستكون كذلك في المدي القصير. وهنا، يمكن الإشارة إلي ثلاث نقاط بشأن انعكاسات التحولات الداخلية علي العلاقات الإقليمية في المرحلة المقبلة.
الأولي: إن تحولات رئيسية، من تلك النوعية التي تمارس تأثيراتها في نمط العلاقات الإقليمية، سواء كان المقصود بها هو المنطقة العربية، أو إقليم الشرق الأوسط، قد بدأت قبل انفجار موجة الثورات الكبري والاحتجاجات الجماهيرية في المنطقة العربية، عام 2011.فقد كانت السمة التقليدية للإقليم هي أنه أكثر مناطق العالم توترا، فهو غير مستقر، ويشهد صراعات سياسية وعسكرية حادة طويلة المدي، وتفجرت علي ساحته حروب واضطرابات مسلحة ذات جذور عميقة تاريخيا. وكان من الواضح منذ عام 2001 أنه يسير -وفقا لمنطق دراسات الأمن التي تركز علي مفهوم الاستقرار- في اتجاه "سيناريوهات" لحالات أكثر سوءا مما كان معتادا علي ساحتها.
لم تكن مشكلة تلك المنطقة تتعلق بعدد حالات الصراع التي تشهدها. فوفقا لمقياس الصراعات الذي يعده "معهد هيدلبرج" في ألمانيا، جاءت المنطقة، عام 2007 مثلا، في المرتبة الرابعة من حيث عدد الحالات الصراعية التي شهدتها، بعد المنطقة الآسيوية، وإفريقيا جنوب الصحراء، بل والقارة الأوروبية ذاتها، ولم تكن هناك منطقة تالية لها سوي الأمريكتين. ومع ذلك، فإن التقييمات السائدة في الإقليم لحالتها ظلت تؤكد أنها الأسوأ من حيث حالة عدم الاستقرار، بل ساد تيار يقرر أنها تنجرف نحو الفوضي.
إن جوهر حالة عدم الاستقرار في المنطقة كان يتعلق في الأساس بنوعية الصراعات التي تتفجر علي ساحتها. فخلال السنوات العشر الأخيرة، تنامي عدد الصراعات الداخلية بشدة، مقارنة بالصراعات الإقليمية التي تنشب بين الدول، والصراعات الدولية التي تتفجر مع "دول كبري". كما أصبحت تلك الصراعات أكثر تعقيدا في أطرافها وقضاياها، وتصاعدت ميول اللجوء إلي القوة المسلحة في إدارتها، كما أصبحت حدة الصراعات تتصاعد، وطال مداها الزمني لدرجة أصبحت معها "مزمنة"، ووضح أن معظمها يستعصي علي الحل.
في تلك الفترة، ارتبط نمط العلاقات بين أطراف الإقليم بعدة تحولات هيكلية، كانت تشير إلي "انفجار داخلي" في المنطقة، أهمها مايلي:
1- إن فكرة الدولة الموحدة كانت قد بدأت تواجه مشكلة في بعض الحالات، لتظهر ترتيبات تتعلق بدول فيدرالية أو كونفيدرالية، أو دول متعددة الاقليات، مع صعود للعامل الثقافي العرقي أو الديني أو المذهبي، وبالتالي بدأت حالة من تعدد "الأقاليم الجغرافية" داخل الدول في الاتساع، كما جري في حالتي العراق والسودان.
2- إن ميراث الدولة المركزية قد بدأ يهتز، في ظل عدم قدرة العواصم علي السيطرة علي مناطق الدولة الجغرافية، أو قطاعات مواطنيها، أو تشكيلاتها الاجتماعية، لتظهر "دول داخل الدول" كحالة لبنان، وفاعلين غير رسميين، مع انقسام السلطة أحيانا (كحالة فلسطين)، وصولا إلي تعبير "الدولة الفاشلة" الذي ارتبط بحالات قائمة كالصومال، أو حالات محتملة (وقتها) مثل اليمن.
3- إن مسألة العروبة ذاتها، كانتماء ثقافي، قد بدأت تخضع للنقاش، في إطار صياغة بعض الدساتير الجديدة، أو الاتفاق علي ترتيبات سياسية مختلفة، أو التداول حول حقوق ثقافية معينة، أو حتي وصف ماهو قائم ديموجرافيا داخل الدول، وتمتد الحالات من المغرب إلي الإمارات العربية.
في تلك الفترة، كان العامل الخارجي، الدولي أو الإقليمي، إضافة إلي الفاعلين العابرين للحدود، يلعب دورا مؤثرا في تشكيل خريطة المنطقة العربية تحديدا، مرتبطا بأدوار أطراف كالولايات المتحدة، وإيران، وإثيوبيا وأوغندا والقاعدة، ونشأت محاور (كالاعتدال والممانعة) عابرة للمنطقة، بخلاف ما جري في بدايات الفترة التالية، عندما سيطر الداخل في البداية، قبل أن تجري تدخلات خارجية في حالات ليبيا والبحرين.
الثانية: إن معظم الدول العربية قد بدأت تشهد أوضاعا استثنائية في إدارتها لعلاقاتها الخارجية خلال فترات الثورات، وهو ما يصعب التعويل عليه في تحليل ما قد يجري خلال الفترات التالية. فما يتم حاليا هو "توجهات تجريبية"، مؤقتة، إذ اهتزت مراكز السلطة السيادية داخل الدول بشدة، تحت ضغط الاحتجاجات الداخلية، ومنها إدارات السياسة الخارجية، التي طالتها التغييرات، بحيث أصبحت في حاجة إلي استعادة توازنها قبل أن تحدد توجهاتها، أو تصبح مستعدة لذلك، ووصلت حدة الاهتزازات أحيانا لدرجة بدت معها بعض الدول، وكأنها أصبحت مؤقتا "بدون سياسة خارجية".
إن إدارات السياسة الخارجية كلها قد واجهت مشكلة. فوزارات الخارجية المسئولة عن النشاط الدبلوماسي قد واجهت حالات عدم استقرار إداري، في حالات كتونس، وانشقاقات سياسية في بعض الحالات، مثل ليبيا، ووزارات الدفاع وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع مهام تتعلق بالحفاظ علي كيان الدولة في مواجهة تحولات داخلية، بعيدة عن الحدود. ولا يعرف أحد ماذا جري داخل مؤسسات الأمن القومي "المغلقة"، لكن لابد أنها أيضا تعاني توابع الزلازل الداخلية.
في هذا السياق، فإنه حتي لو لم تهتز تلك المؤسسات، فإنها عادة ما تواجه مجموعة من الإشكاليات التي تحيطها ببيئة تؤدي إلي نتائج محددة، أهمها:
1- تراجع فكرة "الخارج"، فالأولويات التي لا يمكن تجنبها، في إطار حالات عدم الاستقرار الحادة، هي الداخل ثم الداخل ثم الداخل. وفي ظل الضغوط السياسية، والانهيارات الأمنية، والمشكلات الاقتصادية، فإن القدرة علي التركيز من جانب صناع القرار القلقين، واتجاهات تخصيص الموارد المتاحة، والحذر من الحركات غير المحسوبة، تدفع في اتجاه استمرار شلل السياسة الخارجية لفترة تستمر، إلي أن يتم التحول من الثورة إلي الدولة.
2- سيطرة المهام الداخلية، فالثورات ذاتها تدفع في اتجاه سيطرة تيار جارف من الإشكاليات العاجلة ذات الطابع القانوني غالبا، والتي تمثل حاجة ملحة، فيما يتعلق بأوضاع معاهدات دولية، يطرح تساؤل بشأن مدي الالتزام بها، أو اتفاقات خارجية يوجد تذمر داخلي تجاهها، أوترتيبات قانونية لضبط حركة الأموال، أو استعادتها من الخارج، والتعامل مع أوضاع رموز النظام المنهار، وحلفائها أو مناوئيها في الإقليم والعالم.
3- مأزق التغييرات المتوازية، فبينما تشهد مصر، علي سبيل المثال، تغيرات ثورية حادة، يكون عليها أن تفكر في الكيفية التي يتم بها التعامل مع حالة تقسيم جغرافي متزامنة مع ذلك في السودان، أو اضطرابات مسلحة مزمنة داخل ليبيا، أو حالات "استئساد" في منطقة حوض النيل. وهي سيناريوهات كانت ستعتبر، في الأوقات العادية، تهديدات حقيقية لأمن مصر القومي، تتطلب التفكير في خيارات غير تقليدية، تصل إلي التدخل المباشر، الذي لا يعد خيارا ممكنا في فترات الثورات.
في ظل تلك الأوضاع، تحاول مؤسسات السياسة الخارجية أن تحافظ علي بقائها، باعتبارها رموزا لسيادة الدولة، إذا لم تنهر الأوضاع بشكل كامل، مع محاولة القيام بمهامها، بينما تحاول مراعاة حساسيات وتوجهات الأطراف المحركة للثورات، تجاه القضايا التقليدية للعلاقات الخارجية، وتجد نفسها أحيانا في مواقف لا تحسد عليها. فهي تدرك كل الحكم الذائعة من أنها إذا لم تهتم بالعالم، فإن العالم سوف يهتم بها، وأن الضعف يغري بالعدوان، وأن عدم الاستقرار يؤدي إلي تدخلات خارجية أو "اختبارات إرادة" يومية، تتعلق بالمصالح القومية العليا، بينما هي تحاول فقط أن تتوازن في فترة انتقالية، مستخدمة عبارات عامة.
الثالثة: إنه حسب عنوان الكتاب الشهير للأستاذ الراحل محمد سيد أحمد "بعد أن تسكت المدافع"، ستبدأ عوامل هيكلية في التأثير في العلاقات الإقليمية، بصورة تؤدي إلي تحولها تماما في اتجاهات لا يوجد يقين بشأنها، تتعلق بهيكل الدولة وهوية المجتمع وشكل النظام وتأثير القادة ومزاج الجماهير، إضافة إلي ما يحيط بكل دولة، أي "تأثيرات المواقف الخارجية". وهو ما يمكن رصد عدة نقاط حوله:
1- هيكل الدولة، فالدول أصلا لم تعد الفاعل الوحيد في النظام الدولي، لكن تم التوافق نظريا علي أنها لا تزال الفاعل الأقوي. إلا أن الثورات ثؤدي إلي ظهور فاعلين أقوياء تطرح مع وجودهم فكرة "خصخصة السياسة الخارجية"، بحيث قد تظهر "دويلات داخل الدولة"، أو جماعات مصالح داخلية قوية، تفرض، وربما تمارس، توجها خارجيا معينا، بشكل عام، أو تجاه قضية محددة.
كما أن الظاهرة الجماهيرية المرتبطة بالثورات قد تجعل المؤسسات حساسة إزاء توجهات الرأي العام، أو ما هو أعقد الجماهير، بما قد يؤدي إلي شلل للسياسة الخارجية، أو تردد خلال فترات الأزمات التي يهتم خلالها الرأي العام بالسياسة الخارجية، بحيث يتم اللجوء أحيانا إلي الاستشارات الواسعة، أو "الاستفتاءات"، ففكرة الطابع الواحدي أو الرسمي للسياسة الخارجية قد تتأثر.
2- هوية المجتمع، فالثورات تؤدي إلي سيطرة -حسبما يشير أحد موضوعات العدد- ثنائيات حادة، تتعلق بما إذا كان ما سينشأ في النهاية هو دولة مدنية، أم دولة دينية، أم دولة فاشية. وفي كل حالة، ستكون هناك سياسة خارجية، وبالتالي علاقات إقليمية مختلفة. فقد يسيطر التيار المدني الديمقراطي، بما يحمله من ميل لاتساع دائرة صنع قرار السياسة الخارجية، وعدم الميل إلي الصدام مع الأطراف الأخري، فالديمقراطيات لاتحارب بعضها. وقد يسيطر التيار الديني، بما يحمله من توجهات تتعلق بالتعامل بشكل مختلف مع قوي خارجية مجاورة أو بعيدة. أما سيطرة التيار القومي السلطوي، فإنها تؤدي إلي نتائج غير محسوبة أيضا علي ساحة الإقليم، كما حدث خلال فترة الرئيس عبدالناصر في مصر، وفترة حكم صدام حسين في العراق، فقد أتي النظامان إثر ثورات.
3- شكل النظام، ففي حالة إرساء دول مدنية، يفترض أن تصبح قرارات السياسة الخارجية أكثر رشدا، مع تعقيدات تتعلق بشكل النظام السياسي، وماإذا كان رئاسيا يحتفظ لقادة الدولة بدور مؤثر في توجهاتها، أم برلمانيا تتدخل من خلاله الهيئات التشريعية في تحديد توجهات الدولة، من خلال الإقرار والتمويل والنقاش. وقد يتم اتباع نماذج لنظم مزدوجة كالنظام الأمريكي أو النظام الفرنسي.
أما في حالة سيطرة نظم غير مدنية وغير ديمقراطية، فإن السياسة الخارجية قد تجنح إلي إحداث انقلاب في توجهات السياسة الخارجية، أو حتي "تصدير الثورة" بقيم محددة، أو تصدير الأزمات، أو التدخل واسع النطاق في الإقليم. وإن كان ما يبدو، حتي الآن، هو أن التيارات الدينية لديها إدراك نسبي لحقائق موازين القوة الإقليمية أو الدولية. وفي كل الأحوال، فإن الحكومات الجديدة -إذا ما استقر الداخل- قد تتمتع بقوة أكبر علي الحركة بحكم "الشرعية"، لكنها ستظل تعمل تحت ضغوط مستمرة، وقد تكون أيضا أكثر عرضة للأخطاء.
4- التأثيرات الشخصية، فقد انتهت، فيما يبدو، عصور الزعماء الذين يحملون ملامح كاريزمية، وتوجهات خاصة، وسيتحول كثير من القادة الجدد إلي مايشبه "رؤساء مجالس إدارات" للدول. لكن المنطقة سوف تنقسم بين قادة وصلوا إلي الحكم بطريقة ديمقراطية إثر ثورات، مع وجود بيروقراطيات مختلفة داخل مؤسسات صنع السياسة حولهم، وقيادات تمكنت من "كتم" الثورات، عبر إجراءات مختلفة، لكنها ستظل تعاني "ملامح نفسية" حادة، تؤثر في القرارات. وفي الحقيقة، فإن هذا العامل تحديدا هو أقلها من حيث القدرة علي التنبؤ بتأثيراته. إلا أن الحد الأدني هو أنه في نهاية عام 2011، سيكون هناك عدد كبير أو جيل آخر من "القادة الجدد".
يبقي في النهاية أن يتم تأكيد محددات "الموقف" المتعلقة بما يفرزه النظام الإقليمي الذي هو أعقد من مجرد تجميع حاصل سلوكيات أطرافه، والنظام الدولي الذي قد يؤثر في شبكة تفاعلات مرحلة ما بعد الثورات بأكثر مما أثر خلال الثورات ذاتها. فهي تمثل أهمية خاصة في تحليل شكل العلاقات الإقليمية في المرحلة المقبلة، وفق أنماط شديدة التعقيد، خاصة عندما تخرج المنطقة من "حالة الأزمة" إلي "نمط التفاعل المعتاد"، بعد أن تكون كل الدول الرئيسية في المنطقة قد مارست كل اختبارات القوة الممكنة ضد بعضها بعضا. فلنراقب الإقليم.