هذه هي أمريكا
مرسل: الثلاثاء مايو 08, 2012 9:03 am
بقلم : فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .... من خلال سفرتي الأخيرة تواردت عليّ خواطر كثيرة أردت أن أسجلها في شكل مقالة قصصية، ولأنه لم يسبق لي أن كتبت في هذا الإطار الأدبي أضع هذه المحاولة المتواضعة بين أيدي الإخوة الكرام:
هناك رجل عنده عَشَرَةُ أولاد مختلفون، من حيث الذكاء والمحدودية، والطيب والخبث، والالتزام وعدمُه، ولكل ولد من أولاده ذرية من الذكور والإناث...
أراد الأب أن يعطي أولاده من أمواله ليمتحنهم، وليرى مدى التزامهم بتوجيهاته، فأعطاهم من أمواله بشكل متساوٍ كماً، مختلفٍ نوعاً... فمن بيت إلى محل تجاري إلى أرض إلى سيارة إلى مال سائل
لكن واحداً من أولاده يتمتع بذكاء متقد، وبقدر ذكائه المتقد يتصف بخبث شديد، وبقدر خبثه الشديد ينطوي على أنانية مفرطة، وحب للذات لكن الشيء الذي يلفت النظر أنه كان يتمتع بقدرةٍ عجيبة على أن يظهر بأعلى مظهر أخلاقي علمي حضاري.
ومن أجل أن يوفر لأسرته حياة رغيدة ناعمة مستقرة، لا توفرها له أمواله التي أخذها عن أبيه، ولا الأموال التي يمكن أن يحصلها بكده وعرق جبينه، بدأ بالعدوان على أموال أخوته بشكل مقنّع تارة ومكشوف تارة أخرى، بحسب الظروف المحيطة به، فتارة يغريهم بأن يستثمروا أموالهم في محله التجاري فيحجزُها عنده، ويعطيهم من أرباحها النَذّر اليسير، وتارة يبيعهم سلعاً يزينها لهم ويوهمهم أنهم في أمس الحاجة إليها بأغلى الأثمان، وتارة يشتري ما عندهم من مواد هو في أشد الحاجة إليها بأبخس الأسعار، وتارة يدعي أنه يدافع عن أخوته ضد أخطار موهومة ويتقاضى على دفاعه هذا أكرم أموالهم، وكلما تردد إخوته بإعطائه المال الذي يطلبه منهم، أغرى بعض أعوانه ـ وما أكثرهم ـ بتهديدهم وتخويفهم
وفي نهاية المطاف وبعد أن تمكن من إزاحة منافس له من ساحة الصراع كشر عن أنيابه، وأزاح القناع عن وجهه، واغتصب معظم أموال إخوته، ولم يبق لهم إلا النذر اليسير، وجعلهم يعيشون في فقر مدقع، وفي اضطراب مهلع، والذي أعانه على ذلك أن إخوته مختلفون في ما بينهم، بل إن بعضهم حريص على حسن علاقته معه ؛ لذلك يتفضل عليهم ببعض الفتات الذي هو جزء من مالهم المغتصب، ومع كل الحرص الذي يبدو من بعضهم على حسن العلاقة معه، لم يحصلوا منه شيئاً، بل فقدوا كل شيء، وهكذا 000 بنى مجده على أنقاضهم، وغناه على فقرهم، وأمنه على تخويفهم.
ثم إن هذا الأخ الخبيث اغتصب أرضاً واسعة الأرجاء كثيرة الخيرات وطرد أهلها وشردهم، واشترى أرضاً أخرى بأبخس الأثمان، وبنى عليهما بيتاً عظيم البنيان، واسع الأبهاء، فاخر الأثاث، زوده بكل الوسائل المريحة، والأجهزة العصرية، وألحق به حديقةً غناء فيها من الجمال ما يبهر العيون، وفيها من الثمار ما لذّ وطاب، وجعل لكل ولد من أولاده جناحاً في هذا البيت، ومنحه مركبة، وكل وسائل الحضارة ومنجزات العصر، وكان مولعاً باقتناء الكلاب، وبدافع من إنسانيته ورحمته بالحيوان أجرى لأحد كلابه عملية جراحية في قلبه، كلفته مبالغ طائلة، وبدل لكلب آخر مفصلاً في ركبته، وأصلح لكلب آخر أسنانه وبحث عن طبيب نفسي يعالج كآبة ألمت ببعض كلابه، وكان يطعم كلابه من اللحم في اليوم ما لا يستطيع أولاد إخوته أن يأكلوه في شهر مجتمعين وقد اشترى أرضاً وجعلها مقبرة لبعض كلابه الذين ماتوا من فرط العناية بهم
وأولاد إخوته يعانون من فقر بالدم، وهشاشة بالعظام، لأن غذاءهم من النوع الفقير بالمواد المغذية، وكم من ولد من أولاد أخيه قضى نحبه وهو في أمس الحاجة إلى عمل جراحي حيث امتنع عن مساعدته، وتفريج كربه
فصار بهذا الغنى ناعم الملمس، حسن المظهر، لطيف العبارة، مخملي المعشر، يتأنق في مظهره، ويتقيد في مواعيده، ويحرص على صحته، وصحة أولاده، هيأ لهم الملاعب، واشترى لهم الأجهزة الرياضية، ورفعاً لمعنوياتهم، وتثبيتاً لمكانتهم، سمح لهم أن ينتقدوه، وكان يستشيرهم في كل صغيرة وكبيرة... وأوهمهم أنهم أفضل الناس بسبب ذكائهم المفرط، وعملهم الدؤوب، ومعيشتهم الناعمة، وأخفى عنهم السبب الحقيقي في هذا الغنى الذي ينعمون فيه
وكان إذا التقى بإخوته وجه لهم نقداً لاذعاً، لأنهم عنيفون في طباعهم، خشنون في مظهرهم، متخاصمون فيما بينهم، وتجاهل أنه هو الذي أثار بينهم هذه الخصومات ضماناً لمصالحه، وكان ينتقدهم أيضاً بأنهم لا يعتنون ببيوتهم، ولا يحسنون اختيار ألوان ثيابهم، ولا يتقيدون في مواعيدهم، ولا يتقنون أعمالهم، يتمسكون بقيم ومبادئ هي سبب فقرهم وتخلفهم
فالرجل الذي يتمتع بنظرة ثاقبة، وعاطفة عميقة ؛ أساسها مبدأ صحيح وقيم عالية يقيمه تقييماً.
والرجل الذي يتصف بنظر قاصر، وعاطفة سطحية، وتحكمه المصالح لا القيم يقيمه تقييماً آخر
فقل لي بم تقيم هذا الأخ ـ محور هذا المقال القصصي ـ أقل لك من أنت
لكن الأب يسجل على أبنائه كل حركاتهم و سكناتهم، وفي أية لحظة يراها مناسبة، يأخذ من أولاده كل شيء، ويحاسبهم عن كل شيء، ويجزي كلاً منهم بحسب عمله.
والحمد لله رب العالمين
هناك رجل عنده عَشَرَةُ أولاد مختلفون، من حيث الذكاء والمحدودية، والطيب والخبث، والالتزام وعدمُه، ولكل ولد من أولاده ذرية من الذكور والإناث...
أراد الأب أن يعطي أولاده من أمواله ليمتحنهم، وليرى مدى التزامهم بتوجيهاته، فأعطاهم من أمواله بشكل متساوٍ كماً، مختلفٍ نوعاً... فمن بيت إلى محل تجاري إلى أرض إلى سيارة إلى مال سائل
لكن واحداً من أولاده يتمتع بذكاء متقد، وبقدر ذكائه المتقد يتصف بخبث شديد، وبقدر خبثه الشديد ينطوي على أنانية مفرطة، وحب للذات لكن الشيء الذي يلفت النظر أنه كان يتمتع بقدرةٍ عجيبة على أن يظهر بأعلى مظهر أخلاقي علمي حضاري.
ومن أجل أن يوفر لأسرته حياة رغيدة ناعمة مستقرة، لا توفرها له أمواله التي أخذها عن أبيه، ولا الأموال التي يمكن أن يحصلها بكده وعرق جبينه، بدأ بالعدوان على أموال أخوته بشكل مقنّع تارة ومكشوف تارة أخرى، بحسب الظروف المحيطة به، فتارة يغريهم بأن يستثمروا أموالهم في محله التجاري فيحجزُها عنده، ويعطيهم من أرباحها النَذّر اليسير، وتارة يبيعهم سلعاً يزينها لهم ويوهمهم أنهم في أمس الحاجة إليها بأغلى الأثمان، وتارة يشتري ما عندهم من مواد هو في أشد الحاجة إليها بأبخس الأسعار، وتارة يدعي أنه يدافع عن أخوته ضد أخطار موهومة ويتقاضى على دفاعه هذا أكرم أموالهم، وكلما تردد إخوته بإعطائه المال الذي يطلبه منهم، أغرى بعض أعوانه ـ وما أكثرهم ـ بتهديدهم وتخويفهم
وفي نهاية المطاف وبعد أن تمكن من إزاحة منافس له من ساحة الصراع كشر عن أنيابه، وأزاح القناع عن وجهه، واغتصب معظم أموال إخوته، ولم يبق لهم إلا النذر اليسير، وجعلهم يعيشون في فقر مدقع، وفي اضطراب مهلع، والذي أعانه على ذلك أن إخوته مختلفون في ما بينهم، بل إن بعضهم حريص على حسن علاقته معه ؛ لذلك يتفضل عليهم ببعض الفتات الذي هو جزء من مالهم المغتصب، ومع كل الحرص الذي يبدو من بعضهم على حسن العلاقة معه، لم يحصلوا منه شيئاً، بل فقدوا كل شيء، وهكذا 000 بنى مجده على أنقاضهم، وغناه على فقرهم، وأمنه على تخويفهم.
ثم إن هذا الأخ الخبيث اغتصب أرضاً واسعة الأرجاء كثيرة الخيرات وطرد أهلها وشردهم، واشترى أرضاً أخرى بأبخس الأثمان، وبنى عليهما بيتاً عظيم البنيان، واسع الأبهاء، فاخر الأثاث، زوده بكل الوسائل المريحة، والأجهزة العصرية، وألحق به حديقةً غناء فيها من الجمال ما يبهر العيون، وفيها من الثمار ما لذّ وطاب، وجعل لكل ولد من أولاده جناحاً في هذا البيت، ومنحه مركبة، وكل وسائل الحضارة ومنجزات العصر، وكان مولعاً باقتناء الكلاب، وبدافع من إنسانيته ورحمته بالحيوان أجرى لأحد كلابه عملية جراحية في قلبه، كلفته مبالغ طائلة، وبدل لكلب آخر مفصلاً في ركبته، وأصلح لكلب آخر أسنانه وبحث عن طبيب نفسي يعالج كآبة ألمت ببعض كلابه، وكان يطعم كلابه من اللحم في اليوم ما لا يستطيع أولاد إخوته أن يأكلوه في شهر مجتمعين وقد اشترى أرضاً وجعلها مقبرة لبعض كلابه الذين ماتوا من فرط العناية بهم
وأولاد إخوته يعانون من فقر بالدم، وهشاشة بالعظام، لأن غذاءهم من النوع الفقير بالمواد المغذية، وكم من ولد من أولاد أخيه قضى نحبه وهو في أمس الحاجة إلى عمل جراحي حيث امتنع عن مساعدته، وتفريج كربه
فصار بهذا الغنى ناعم الملمس، حسن المظهر، لطيف العبارة، مخملي المعشر، يتأنق في مظهره، ويتقيد في مواعيده، ويحرص على صحته، وصحة أولاده، هيأ لهم الملاعب، واشترى لهم الأجهزة الرياضية، ورفعاً لمعنوياتهم، وتثبيتاً لمكانتهم، سمح لهم أن ينتقدوه، وكان يستشيرهم في كل صغيرة وكبيرة... وأوهمهم أنهم أفضل الناس بسبب ذكائهم المفرط، وعملهم الدؤوب، ومعيشتهم الناعمة، وأخفى عنهم السبب الحقيقي في هذا الغنى الذي ينعمون فيه
وكان إذا التقى بإخوته وجه لهم نقداً لاذعاً، لأنهم عنيفون في طباعهم، خشنون في مظهرهم، متخاصمون فيما بينهم، وتجاهل أنه هو الذي أثار بينهم هذه الخصومات ضماناً لمصالحه، وكان ينتقدهم أيضاً بأنهم لا يعتنون ببيوتهم، ولا يحسنون اختيار ألوان ثيابهم، ولا يتقيدون في مواعيدهم، ولا يتقنون أعمالهم، يتمسكون بقيم ومبادئ هي سبب فقرهم وتخلفهم
فالرجل الذي يتمتع بنظرة ثاقبة، وعاطفة عميقة ؛ أساسها مبدأ صحيح وقيم عالية يقيمه تقييماً.
والرجل الذي يتصف بنظر قاصر، وعاطفة سطحية، وتحكمه المصالح لا القيم يقيمه تقييماً آخر
فقل لي بم تقيم هذا الأخ ـ محور هذا المقال القصصي ـ أقل لك من أنت
لكن الأب يسجل على أبنائه كل حركاتهم و سكناتهم، وفي أية لحظة يراها مناسبة، يأخذ من أولاده كل شيء، ويحاسبهم عن كل شيء، ويجزي كلاً منهم بحسب عمله.
والحمد لله رب العالمين