صفحة 1 من 1

الفكر القومي بين النقد والنقض

مرسل: الثلاثاء مايو 08, 2012 10:45 am
بواسطة عايد العنزي 0 5
يتعرض الفكر القومي واطروحاته التأسيسية الجوهرية "في الوحدة والحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري" الى محاولات نقض ونفي فكرية الطابع، ومتعددة المنطلقات والابعاد والغايات، وتتمحور في مجملها حول غاية واحدة وهي التشكيك بجوهر ومكونات الفكرة القومية، وتفكيك مرتكزاتها وطابعها التوحيدي، واحداث مساحة فكرية ضبابية يمكن ان تؤسس على ارضيتها بناءات فكرية هجينة وذات طابع انقسامي تفتيتي، وتكون مدخلاً مناسباً لاعادة ترتيب وبناء العقل العربي في مسارات وسياقات زائفة تخدم فكرة الامركة المحققة لاهداف المشروع الصهيوني·
وأود الاشارة هنا الى انني أفرق بوعي بين نقد ومراجعة الفكرة القومية واطروحاتها ومعطياتها بدواعي التطوير واعادة البناء والتجديد والتعبئة القومية في ظل التحولات الراهنة المتسارعة، وبين محاولات تفكيك وتشويه جوهرها والتشكيك في معطياتها لغايات مشبوهة وفاسدة (بالمعنى السياسي والاخلاقي) وتتسق في اطروحاتها مع ما تطرحه فكرة الامركة المتوحشة والمتغلفة بالحداثة والعولمة والتقدم، والتي اصبحت تلح الحاحاً قوياً على مسخ وهدم الافكار القومية الجامعة، وتعتدي على مرجعيات وخصوصيات الشعوب ورؤاها الفكرية والقومية، وتحاول ان تلحقها بهيمنة سياسية واقتصادية وثقافية احادية استتباعية وذات بعد واحد ومغلق !
ولذلك فان ما اريد ان اوجه اليه النظر والانتباه هو رؤية عملية النقض والتجابه الجارية حالياً بين الفكرة القومية ودعاتها الذين يدافعون عن ثوابتها ومشروعيتها وراهنية اطروحاتها، وبين اعداء الفكرة القومية الذين يريدون تقويضها وافقادها لمشروعيتها تمهيداً لاحتلال مجالها، واحلال افكار تفتيتية بديلة تؤسس الارضية المناسبة للاجتثاث والقولبة والاختراقات الامريكية - الصهيونية في المجالين الفكري والواقعي·
لسنا اذن في هذا المجال ازاء عملية معرفية بريئة تريد ان تعبر عن ضرورات فكرية واقعية وموضوعية، وترى انه آن الاوان لطرحها او مراجعتها، لكننا ازاء محاولة نقض ونفي واقصاء فكرة جامعة لصالح فكرة انقسامية تمهد لادخال عناصر اعتباطية ومن خارج سياقات الفكر احياناً، لاحتواء فكرة حافزة يمكن ان تتحول في اي لحظة الى نقطة مراجعة وانطلاق وتجديد ونهوض، ويمكن ان تتحول الى فكرة تعبوية تضع الاستعمار والصهيونية وتغيير الواقع على رأس جدول اولوياتها، وتصبح بهذه المثابة افشالاً للمشروع الامريكي - الصهيوني في المنطقة، وتغييراً لمسارات المواجهة وبداية لتحولات اقليمية وعالمية ايجابية·
لقد اصبحنا نلاحظ هذه الظواهر بوضوح من خلال قراءة ما جرى في العراق، وما يجري الآن في لبنان وسوريا وغيرهما من الاقطار العربية حيث تبدأ العملية الاستعمارية الصهيونية بالتشكيك بالمفاهيم او قولبتها بحيث يصبح الوجود السوري في لبنان احتلالاً من دولة اجنبية، وبحيث ينظر الى الاطروحات القومية السورية على انها ترهات وخزعبلات بعثية من خارج العصر، وعليه يصبح المطلوب - وفقاً لمنطق الاستعمار - ان لا تعود سوريا الى مفاهيم عفى عليها الزمن، وان تطوع سياستها ومفاهيمها لفكر المرحلة الراهن، وهو فكر الاستعمار ومفاهيمه وعناوينه الاعتباطية والهجينة·
وبقدر ما نحاول ابراز الدور الاستعماري الجديد في مواجهة الفكرة القومية ونفتح العين عليه حتى نرى مقاصده الحقيقية، ونرى من داخله الافتراء المغلف بالادعاءات والاكاذيب والاغلوطات الفكرية، فاننا لا نهمل في اية لحظة ضرورة مراجعة فكرتنا القومية ونقدها بما يتناسب والمستجدات والتحديات الجديدة، وبما لا يفتح المجال لانتهاكها وتقويضها تحت عنوان الحق الذي يراد به باطل·· وعليه فان المطلوب الآن يصبح بأن نرد الباطل الاستعماري عن الفكرة القومية، ونفند اطروحاته الزائفة بنقض فكرته التهديمية ونقد فكرنا، وحتى يتحول نقد فكرتنا الى عملية تعبئة وتحصين واستنهاض تضع المقدمات العقلانية والموضوعية للمواجهة ورد الهجمة الاستعمارية·
ويمكن الاشارة هنا الى ان الفكر القومي بعناصره التي ذكرناها في المقدمة قد تعرض في مراحل مختلفة الى عمليات نقد ومراجعة انطلق بعضها من ارضية مضادة ونافية وغير موضوعية، وحاول بعضها الآخر الانطلاق من ارضية نقدية عقلانية تريد لهذا الفكر ان يبقى حيوياً ومعاصراً ومطابقاً لواقعه من اجل تصحيح مساراته وملء ثغراته، وجعله قابلاً للتوظيف والتداول في كل اللحظات التاريخية التي تمر بها الامة وواقعها وفكرها وفي كل تحدياتها وخياراتها·
ويقوم نسق التفكير القومي عند اصحابه ودعاته على اطروحات رئيسية، وهي ان هذا الفكر جاء استجابة تاريخية، وجواباً على تحديات واسئلة طرحها الواقع العربي، ولم يستنسخ عن تجارب خارجية وانه (اي الفكر القومي) نما وارتقى من خلال التجارب النضالية لتي كانت تتغذى على أطروحاته وتستمد نسغها واتجاهاتها منه، وكان الفكر بدوره يعبر عنها حيناً او يكون بعيداً عنها، وعندما كان يعبر عنها ينشأ انسجام وتطابق بين الفكرة والممارسة فتغتذي التجربة بهذا الانسجام، وعندما ينأى عنها يكون الفكر قد ولد تناقضاً أبعده عن السياقات الواقعية للتجربة فأصبح الفكر في واد والتجربة الواقعية في واد اخر·
اما اطروحة الفكر القومي التكوينية الثانية، فهي انه فكر الامة وليس فكر بعض احزابها وتياراتها وهو المعبر عن مسارات النهضة فيها، ولذلك فان الامة بأكملها معنية بفكرها الجامع وهذا الفكر يمثل بالنسبة لها النهر الواسع الذي تصب فيه روافد مختلفة ومتعددة تؤلف نسقه وسياقاته، ولذلك فلا يجوز بأي حال ان ينسب الفكر القومي الى حزب او نظام او شخص وانما لا بد من الاعتقاد بأنه فكر شمولي وجامع ويخص الامة بكافة تياراتها وقطاعاتها ومشاربها الفكرية، لكن الخطأ السياسي هو الذي جعل الفكر القومي يخص جماعة بعينها ولا ينسب الى الامة بمجموعها·
وبسبب هاتين الاطروحتين المؤسستين اصبحت معاداة الفكرة الاستعمارية - الصهيونية للفكرة القومية تتصاعد وتأخذ مجراها الراهن، واصبح المطلوب اخراج الفكرة القومية من مجال التداول السياسي واستبدالها بأنماط من (صهيونية عربية) اصبحت تأخذ بعض الحيز في الكتابات العربية حيث يروج هؤلاء لموت القومية العربية، ويدعون الى تثبيت الحقيقة الصهيونية وتأكيدها فكراً وواقعاً تحت لافتات الاندماج في منطق العصر والعولمة، واستيعاب تغيرات ومستجدات العصر وقد تكاثرت مثل هذه الكتابات في الاونة الاخيرة من خلال نماذج كتابية في جريدة "الحياة" ومن خلال عناوين لكتابات لها طابع النقض والتشويه ووداع العروبة وموت القومية والدعوة الى السلام بالمنطوق الصهيوني·
ولكل ما تقدم لابد من التفريق بين محاولات نقض الفكرة القومية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من المحاولة الاستعمارية لفك وتركيب الوطن العربي واحداث اختلالات بنيوية فيه وتوظيف ذلك لخدمة المشروع الصهيوني وبين نقد الفكرة القومية في أفق انسدادها الراهن بغية الاصلاح والتجديد وملاقاة العصر ومن اجل اجتراح أفق واجابات تخرج الامة من مأزقها الراهن·
وبين النقض والنقد لابد ان تتولد رؤية قومية جديدة تقوم على المقاومة·· مقاومة الاقصاء والتهميش، ومقاومة الكسل الفكري والخوف من المراجعة، ولابد لهذا التراجع ان يتوقف، ونقطة البداية واضحة هي المزيد من المقاومة، كما هو الحال في العراق وفلسطين حتى يتبين الخيط الابيض من الاسود.