منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#51087
انطلاقا من اهتمام المملكة بالمحافظة على التضامن العربي، سعت المملكة للتوسط في الكثير من الخلافات العربية الداخلية والإقليمية، وقامت في هذه الفترة بجهود توفيقية ضخمة هدفها إزالة الخلافات العربية الجانبية والتي تفت في عضد وحدة الصف العربي. فالتضامن العربي (خصوصا بين أركانه الثلاثة المهمة مصر / السعودية / سوريا ) الذي قامت عليه حرب أكتوبر 1973م أثبت جدواه للمجهود العربي في مواجهة إسرائيل. لكن بعد هذه الحرب بفترة قصيرة، حصل عدد من التطورات التي أدت إلى توتر العلاقات العربية، خصوصًا بين مصر وسوريا وإلى انشغال العرب عن مواجهة إسرائيل بصراعات عربية داخلية، مما ألقى على المملكة بحكم دورها القيادي في هذه الفترة (خصوصا بعد 1973م) المبني على إمكاناتها الكبيرة ورؤيتها لأهمية التضامن العربي مسؤولية التوسط لإنهاء هذه الخلافات وإعادة بناء التضامن العربي. من أهم هذه التطورات ما حدث في عام 1975م، من توقيع مصر لاتفاقية سيناء الثانية مع إسرائيل وبداية الحرب الأهلية اللبنانية.

فالمملكة مؤهلة للقيام بجهود توفيقية هدفها إزالة الخلافات العربية (لعب دور الوسيط) وذلك للاعتبارات التالية: << 229 >> 1 ) التصورات: هذا الدور ينسجم ولدرجة كبيرة مع التصورات السعودية لأسس العلاقات العربية، والتي من أهمها دعواتها الدائمة لنبذ الخلافات الجانبية العربية والتضامن لمواجهة التحديات المحيطة بالعرب وأهمها التحدي الإسرائيلي، وتأكيدها المستمر قولا وممارسة على أهمية مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وحل النزاعات بالطرق السلمية لتضامن وأمن واستقرار العالم العربي. يقول فهد: "لماذا يقاتل العربي أخاه العربي؟ لماذا يراق الدم العربي بيد يجري في عروقها الدم نفسه؟ لماذا يحرق العربي أرضه ويشتت أهله وينسف داره؟ كيف نقنع دول العالم بعدالة قضيتنا وكيف نطالبه بالوقوف معنا لاسترداد أرضنا وحقوقنا وأوطاننا إذا نحن لم نستطع أن نعدل بين أنفسنا لنصرة قضايانا".

2 ) الإمكانات: المملكة في هذه الفترة كان لديها الإمكانات السياسية والاقتصادية للعب هذا الدور. كما أن انتهاء الخلافات الأيديولوجية وتحسن أجواء العلاقات العربية، كما رأينا، عزز من هذه الإمكانات السعودية.

3 ) المصداقية: من أهم الشروط الموضوعية للقيام بدور الوساطة، أن يكون الوسيط مقبولا لدى أطراف النزاع. ولذلك تسعى المملكة بسياستها الخارجية المعتدلة والهادئة إلى جعل نفسها مقبولة من قبل أطراف أي نزاع عربي، لما في ذلك من تزايد احتمال نجاح وساطتها، وكل هذا يصب في النهاية في مصلحة العرب العليا، ومن أجل جعل وساطتها مقبولة، تسعى المملكة في بعض الحالات (كما بين أحد الباحثين بأمثلة من توسط المملكة في بعض النزاعات العربية، منها الخلاف السوري العراقي حول مياه الفرات، والخلاف الجزائري المغربي) لتحسين علاقاتها بأطراف النزاع، وذلك لتزيد من احتمالات نجاح وساطتها. كما تحاول المملكة ثانيا أن تتخذ مواقف حيادية في الخلافات العربية، لما في ذلك من مصلحة لدورها كوسيط يخدم التضامن العربي، يقول مسؤول سعودي كبير، تعليقا على حياد المملكة << 230 >> وتحفظها إزاء بعض الخلافات العربية: "إن المملكة عندما تصبح طرفا في أي نزاع عربي، فمعنى ذلك أنها ستفقد تلقائيا دورها كوسيط ودورها في إعادة التضامن العربي عندما يصبح هذا التضامن واجبًا"، وأضاف: "إنه عندما تصل المبادرة إلى نهايتها، ويصبح من واجبنا التدخل لإنقاذ العرب من المزيد من الانقسام سنتدخل وسيكون رأينا مسموعا لأننا لم نكن طرفا".

ويمكن رؤية دور المملكة التوفيقي في العديد من النزاعات العربية، سواء الداخلي منها (وأبرز مثال عليه هو الصراع اللبناني 1975م - 1990م) أو الإقليمي (والأمثلة البارزة على هذا النوع كثيرة، منها التوسط بين مصر وسوريا، العراق وسوريا، الجزائر والمغرب، الخ).

فعلى المستوى الإقليمي، كما سبق أن أوضحنا (في قسم العوامل المؤثرة في فترة ما بعد 67، العامل الخارجي) أدى عدم وجود إستراتيجية عربية موحدة وواضحة الخطوات لكيفية التعامل مع إسرائيل لإزالة آثار عدوان 67، إلى الكثير من الخلافات الإقليمية العربية بعد حرب 1973م أدت في النهاية إلى المقاطعة العربية للنظام المصري سياسيًا واقتصاديًا وخروج مصر من الصف العربي في 1979م.

وقد قامت المملكة في جميع المحطات التي قادت لهذه النتيجة بجهود توفيقية مهمة كان هدفها إزالة الخلاف العربي وإحياء التضامن العربي.

فمن المحطات المهمة التي تعكس هذا الجهد السعودي كان الخلاف المصري - السوري حول مساعي وزير الخارجية الأمريكي ( هنري كسينجر السلمية التي بدأت في فبراير ومارس 1975م، وكانت تهدف إلى الوصول إلى اتفاق بين مصر وإسرائيل حول انسحاب جزئي من سيناء.

التوجه المصري للمشاركة في هذه المساعي الأمريكية كان يثير اعتراض سوريا (ومنظمة التحرير) وذلك لتعارضه من وجهة النظر السورية مع قرارات قمة الرباط 1974 م والتي حذرت من الحلول السياسية المنفردة، ودعت إلى تسوية شاملة تضمن انسحاب كامل من جميع الأراضي العربية المحتلة وحصول الشعب الفلسطيني على << 231 >> حقوقه المشروعة. إذا هناك خلاف بين أهم أطراف التضامن العربي في تلك الفترة، يدور حول نوعية التسوية (جزئية أو شاملة) مع إسرائيل ومدى تأثير ذلك في إمكانية إزالة آثار 67 وحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، ويهدد فرص المحافظة على التضامن العربي (تضامن حرب أكتوبر).

لذلك حاولت المملكة ترتيب قمة رباعية بين مصر / سوريا / الأردن / منظمة التحرير، هدفها تنسيق المواقف العربية حول المساعي الجارية.

وأخيرًا تمكنت المملكة من جمع السادات والأسد في الرياض في 21 و 22 أبريل 1975م، وإلى إنهاء سوء التفاهم السوري المصري، وذلك باتفاقهم على إنشاء لجنة مشتركة لتنسيق تحركاتهم السياسية إزاء إسرائيل. لكن الخلاف المصري السوري اتخذ بعدا جديدًا عندما تمكن كسينجر في سبتمبر 1975م من توقيع اتفاقية سيناء الثانية بين مصر وإسرائيل والتي تضمنت انسحابا جزئيًا لإسرائيل من سيناء ولكنها أنهت واقعيا حالة الحرب بين مصر وإسرائيل. لذا لم يكن من المستغرب أن تتسبب هذه الاتفاقية في تجدد الخلافات العربية، خصوصًا بين سوريا ومصر.

وقامت المملكة انطلاقا من حرصها على إبقاء التضامن العربي قائما، بجهود دبلوماسية حيث تمكنت أولا في يونيو 1976م من عقد لقاء تمهيدي للمصالحة بين سوريا ومصر (على مستوى رئيسي الوزراء وبمشاركة وزيري خارجية كل من السعودية والكويت ) والذي جرى الاتفاق فيه على ورقة عمل تتضمن مجموعة من المبادئ تهدف لإعادة التضامن بين سوريا ومصر وضمان استمراره، كما تم الاتفاق على عقد لقاء قمة بين السادات والأسد.

وأخيرًا تمت المصالحة المصرية السورية في اجتماع القمة السداسي الذي عقد في الرياض بناء على دعوة المملكة في الفترة من 16- 18 أكتوبر 1976م وبحضور كل من مصر، سوريا، المملكة، الكويت، لبنان والمنظمة. وقد مهدت إزالة الخلاف السوري المصري في قمة الرياض لعقد القمة العربية الثانية في القاهرة في 26 أكتوبر 1976م. وفي تعليقه على نتائج قمة الرياض، كتب أحد الباحثين: " وهكذا نجحت قمتا الرياض المحدودة والقاهرة << 232 >> الموسعة في رأب الصدع الذي أصاب تكتل أكتوبر ولكن إلى حين.

وكانت هاتان القمتان هما اللتان صاغتا النمط الأساسي للعلاقات العربية لمدة عام تال، نوفمبر 1976م - نوفمبر 1977م، والذي بدا فيه أن تكتل أكتوبر الذي يحظى بتعاطف معظم الدول العربي قد عاد إلى العمل من جديد لكن في ظروف مختلفة، وتجسد ذلك بوضوح في لقاء القمة الثلاثي بالرياض بين الملك خالد والرئيسين السادات والأسد في 19 مايو 1977 م لمناقشة مستقبل التحرك العربي إزاء جهود السلام الرامية إلى عقد مؤتمر جنيف، وهو الذي كان يمثل محور التحركات السياسية العربية والدولية معظم عام 1977 م وحتى قيام الرئيس السادات بزيارة القدس في نوفمبر 1977م والتي أنهت عمليا أي استعداد جدي لعقد مؤتمر جنيف للسلام".

أما على مستوى النزاعات الداخلية، فإن أبرز مثال على جهود المملكة التوفيقية هو الصراع اللبناني. ففي أبريل 1975م، انفجرت في لبنان حرب أهلية، يمكن تقسيم القوى المتحاربة فيها ولو بشيء من التعميم إلى فريق يتكون من قوى يمينية مسيحية تسعى إلى الإبقاء على الوضع السياسي والاقتصادي الراهن في لبنان، وإلى تقييد الوجود العسكري الفلسطيني (المؤثر على السيادة اللبنانية) والنشاط الفدائي الفلسطيني (المؤثر على الأمن والاستقرار اللبناني بسبب الهجمات الإسرائيلية على لبنان ردًا على العمليات الفدائية)، وفريق يتكون من قوى يسارية، عربية، وإسلامية متحالفة مع الفلسطينيين ويسعى إلى إصلاح (في دعوات القوى المحافظة في هذا الفريق) أو تغيير (دعوات القوى اليسارية) الوضع السياسي والاقتصادي الراهن في لبنان، وإلى تأكيد هوية لبنان العربية.

وبعد 1982م تغيرت طبيعة القوى اللبنانية المتحاربة وانتهى الوجود العسكري القوي للفلسطينيين، إلا أن جوهر الصراع حول النظام اللبناني استمر حتى تم تسويته بجهود سعودية (من خلال اللجنة الثلاثية التي شكلها مؤتمر القمة العربي في الدار البيضاء في مايو 1989م، والتي تتكون من المملكة / المغرب / الجزائر ) في الطائف في 1989م.

ففي اجتماع ثنائي لمجلس النواب اللبناني في الفترة من 30 سبتمبر إلى 22 أكتوبر 1989م << 233 >> في مدينة الطائف السعودية تم إقرار وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، والتي تعرف باسم "اتفاق الطائف "، والتي أكدت هوية لبنان العربية وجاءت بعدد من الإصلاحات في النظام السياسي اللبناني.

وفي تعليق عن أحداث مؤتمر الطائف، كتب سياسي لبناني: "أدى الأمير سعود الفيصل (وزير الخارجية السعودي) دورا رائد في تذليل العقبات وتقريب وجهات النظر وطمأنة المتخوفين وتخفيف تعنت المتشددين، وقد عرف أن يكسب ثقة الأطراف كلها. وما كان لهذا المؤتمر أن ينجح لولاه..".

ومن 1975م وحتى الوصول لتطبيق اتفاقية الطائف في 1990م، قامت المملكة بمساع توفيقية كثيرة لحل الصراع اللبناني، ففي الرياض في 1976م، (قمة الرياض السداسية)، وفي جنيف في 1983م (مؤتمر الحوار الوطني اللبناني الأول)، وفي لوزان 1984 م (مؤتمر الحوار الوطني الثاني)، وفي الطائف 1989 م (اتفاقية الطائف )، في كل هذه الأماكن لم يخرج الدور السعودي عن إطاره التوفيقي، سواء بين الأطراف اللبنانية المتحاربة، أو بين هذه الأطراف وبين منظمة التحرير أو سوريا، أو بين الحكومتين السورية واللبنانية. تعليقا على هذه الصفة للدور السعودي، يقول كاتب لبناني: ".. كانت السعودية تلعب دور الجامع والموفق، وتتجنب ممارسة دور الشريك أو الطرف"، ويضيف أن المملكة "… سلكت طوال سنوات المحنة اللبنانية، أسلوبا في التحرك جنبها من جهة أولى خطر التورط في رمال الأزمة المتحركة، وحافظ من جهة ثانية، على مصداقيتها كوسيط لا يمكن الاستغناء عن مبادراته التوفيقية". إن أهم مميزات دور المملكة في لبنان، في كلمات هذا الكاتب، كانت ".. أن هذا الدور وضع لنفسه هدفا ثابتا، وهو تحقيق الوفاق الوطني اللبناني"، ويضيف: "وهذا الهدف هو في حد ذاته مظهر واحد من عدة مظاهر لسياسة سعودية تقوم على أساس تسوية الخلافات العربية - العربية، من أجل تحقيق تضامن عربي حقيقي وشامل يكون القاعدة التي تقوم عليها إستراتيجية التصدي لإسرائيل". كما أن الدور السعودي لقي قبولا وتجاوبا من مختلف الأطراف اللبنانية، وكان الدور الخارجي الوحيد الذي ظل مطلوبا من كل << 234 >> الأطراف اللبنانية رغم ما طرأ من تحولات على مواقف هذه الأطراف وعلى توازن القوى بينها.