بعض أوجه النقاشات الحديثة والمعاصرة في الحضارة والثقافة
مرسل: الثلاثاء مايو 08, 2012 10:30 pm
بعض أوجه النقاشات الحديثة والمعاصرة في الحضارة:
بين المؤرخين توينبي وبروديل
للحضارة مؤرخوها، كما للحضارة إيديولوجيوها. وللحضارة دعاتها، كما للحضارة مدينوها. وللحضارة مبشروها، كما للحضارة نعاتها: تاريخ الحضارة، فلسفة الحضارة، الدعوة إلى الحضارة، إدانة الحضارة، موت الحضارة... هي ذي الموضوعات التي دار عليها النظر الحديث في أمر (الحضارة) ولا زال يدور.
وكم هو جنائزي فكر اليوم! كم أعلن من موت، وكم اكتشف من جثة! تموت فيه الثقافات بألف موت، وتموت فيه الحضارات ميتات عديدة. فمنذ أن دعا مؤرخ الحضارة الفرنسي غيزو Guirzot (1787-1874)، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى اعتبار (الحضارة) (واقعة) أمرها أمر باقي الوقائع، تقبل أن تدرس الدرس، قائلا: (إنما الحضارة واقعة شأنها في ذلك شأن سائر الوقائع لا فرق)، ومن ثم والناظرون في أمر (الحضارة) يعتبرونها أمرا واقعا (يقبل أن يُدرس وأن يوصف وأن يُروى). ولقد كان أن تأدى درس الحضارة، من بين ما تأدى إليه، إلى القول بموت الحضارة، بله موت الحضارات. فما كاد يمضي على قول غيزو ربع قرن من الزمان حتى كتب الكاتب والدبلوماسي والمفكر الاجتماعي الفرنسي غوبينو Gobineau (1816-1882) عام 1853م: (إن سقوط الحضارات لهو من أشد ظواهر التاريخ إثارة للتدبر، وإنه لفي الوقت ذاته أشدها غموضا). أين هذا القول من قول سلفه سنة 1828م: (إن على شجرة الحضارة، مع مر الزمن، أن تبسط على الأرض برمتها أوراقها)؟
هذا، ولقد كان لاحظ رائد مدرسة الحوليات والمفكر التاريخي الفرنسي لوسيان فيفر (Lucien Febvre) أنه لأزيد من نصف قرن ظل الحديث، لدى مفكري ومؤرخي الحضارة في الغرب، دائرا على (الحضارة) بصيغة المفرد، وذلك إلى حدود سنة 1819م، ثم من حينها بدأ إعمال المفهوم بصيغة الجمع -الحضارات. لقد تم بهذا تقسيم (إمبراطورية الحضارة) الكبرى إلى (أقاليم حضارية) -عرقية وتاريخية. وتساءل: ما الذي طرأ حتى يتغير اعتبار الحضارة من اعتبار المفرد إلى اعتبار الجمع؟ وأجاب: لقد تعلم الناس الذين عايشوا عهد الثورة والإمبراطورية -بفرنسا- شيئا لم يتعلمه أسلافهم عندما كانوا قد أشاعوا إعمال لفظ (الحضارة) بالمفرد حوالي عام 1770م. تعلموا أن حضارة ما يمكنها أن تموت. وما تعلموا هذا من كتب، لا ولا من قيل وقال، وإنما تعلموه بخبرة ومشاهدة ومعاينة وترحال. إنما تعلموه هم من الأسفار(1).
ولقد وافقه الرأي العلامة المؤرخ الفرنسي زميله في مدرسة الحوليات فرناند بروديل (Fernand Braudel)، في كتابه (نَحْوُ الحضارات)، وإن هو خالفه التاريخ، فذكر أنه حوالي عام 1890م تم الانتقال من إعمال مفهوم (الحضارة) بصيغة المفرد إلى إعماله بوفق صيغة الجمع -(الحضارات). وبهذا صير إلى الحديث عن (حضارات البشرية)، وليس عن (الحضارة البشرية)، على خلاف ما كان الأمر عليه من ذي قبل. قال المفكر التاريخي: (الحق أنه لا مجال لإنكار أن ثمة حضارات وما ثمة حضارة واحدة فحسب)(2). ذلك أنه حدث تصدع في النظرة الأنوارية -نظرة القرن الثامن عشر- التي كانت تتحدث عن (الحضارة) -بصيغة المفرد- وقد تم التوحيد بين دلالتها ودلالة (التقدم)، وتم وقفها على جماعة بشرية معينة دون سواها (أهل أوربا) -الغرب. أما في القرن العشرين، فقد صير إلى التخلص من هذه النظرة الأوربية المركزية، كما صير إلى التخلص من العديد من أحكام القيمة التي كانت تتحدث عن (أفضل الحضارات) و(أحسنها) و(أرقاها) و(أعلاها). وبهذا فقدت (الحضارة) -بصيغة المفرد- ألقها وبريقها ووهجها، فما عادت هي أعلى قيمة أخلاقية وفكرية، على خلاف ما كان يتصوره بها أهل القرن الثامن عشر. وما عادت اليوم، مثلا، توصف جريمة شنعاء بمثل ما كانت توصف به في ما تقدم من الزمن الحديث -بأنها (جريمة ضد الحضارة)-وإنما صار بالأَوْلى أن يقال عنها: (إنها جريمة ضد الإنسانية). ولربما صار الأحرى بنا، اليوم، القول: إن الحضارة -بوفق صيغة المفرد- هي المشترك البشري بين الحضارات المتباينة -نعني النار والكتابة والحساب وتأنيس النبات واستئناس الحيوان- بما لا يدل على أصل واحد للحضارة حكر على أمة بعينها، وإنما صارت هذه (خيرات حضارية جماعية مشتركة متقاسمة)(3).
في الحضارة:
أنظار أرنولد توينبي
ألقى المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) في 20 فبراير عام 1947م محاضرة عن (إرث روسيا البيزنطي)، ثم أعاد عنونتها بعنوان (الحضارة على المحك)، ونشرها فيما بعد ضمن جملة مقالات اختار لها العنوان نفسه. وكان العام ذاته قد ألقى محاضرة تحت عنوان دال: (لقاءات الحضارات) (أبريل 1947م). عند أول وهلة لا يكاد يفرق توينبي بين مفهوم (الحضارة) ومفهوم (المجمع البشري)، فهما عنده -على طريقة الانجليز- سواء. وهو عادة ما يكتب: (منذ الظهور الأول لممثلي شكل المجتمع البشري الذي نسميه (حضارة)...)، أو يكتب: (إن التاريخ، بمعنى تاريخ المجتمعات البشرية التي نسميها حضارات...)، أو يكتب عن (... الظهور الأول لنماذج من المجتمعات البشرية التي نسميها الحضارة)(4).
لكن على التدقيق ليس ثمة سوية، إذ عادة ما يتحدث الحديث الحصري عما يسميه: (المجتمعات المدعوة حضارة). فمهل تشكل هذه ضربا خاصا من المجتمعات؟ وما (الحضارة)؟ وهل وجدت من قبلها مجتمعات بلا حضارة؟
يتساءل توينبي (ما الذي نعنيه بالحضارة؟ ويجيب إجابة غير عامة وغير مباشرة بالقول: إن حديثنا عن حضارات متباينة ليثير في الذهن فكرة تمثلات متمايزة عن الدين والمعمار والرسم والعادات والعوائد. ثم يطلب لإشارته هذه التدقيق، فيعقب: (على أنه يفضل بنا تدقيق الدلالة التي نعطيها لكلمة لطالما نحن استعملناها. أعتقد أنني أعرف ما أقصده بلفظ الحضارة، أو على الأقل أنا واثق من أني أعرف كيف اهتديت إلى الفكرة التي لي عنها). ويضيف مباشرة: (أعني بالحضارة أصغر وحدة دراسة تاريخية يصل إليها المرء عندما يريد فهم تاريخ بلد شأن الولايات المتحدة مثلا أو المملكة المتحدة). فلو أنت رمت دراسة تاريخ الولايات المتحدة لذاته فإنك لن تفهمه - لن تفهم الدور الذي تلعبه الحكومة الفيدرالية في الحياة الأمريكية، ولا الحكومة التمثيلية، ولا التصنيع ولا قصر الزواج على الزواج بواحدة لا ولا المسيحية - اللهم إلا إن أنت تشوفت إلى ما وراء حدود البلد، إلى أوربا الغربية...أي إلى المسيحية الغربية أو الحضارة الغربية أو المجتمع الغربي أو العالم الغربي. وبالمثل، فإنك لست تفهم تاريخ اليونان أو روسيا أو صربيا ما لم تهتد إلى المسيحية الارثدوكسية. وقس على ذلك دراستك المغرب أو أفغانستان، فإنها لن تتأتى على وجهها الأكمل من دون أن تتقدم فتدرس العالم الإسلامي، وبالمثل لن تدرك تاريخ البنغال دون فهم العالم الهندي، لا ولا الصين ولا اليابان دونما درك عالم الشرق الأقصى.
ولعل أول سمة الحضارة (التعالي). فهي تتعالى على الأوطان الضيقة: للحضارة الغربية حوالي ثلاثة عشر مائة سنة بينما ليس لمملكة إنجلترا إلا ألف سنة وللمملكة المتحدة أقل من قرنين ونصف وللولايات المتحدة أقل من قرنين. ولهذا فإنه يدعو إلى النظر في التاريخ بإعمال اصطلاح (الحضارة) لا اصطلاح (الدولة)، وإلى النظر إلى الدول كما لو كانت هي ثانوية وعابرة في حياة الحضارات التي تظهر في تضاعيفها وتختفي(5). ولعل ثاني أهم سمة للحضارة هي سمة (الحياة). إذ أن: (الحضارة كائن حي من شأنه أن يعيد إنتاج نفسه...)(6).
بناء عليه، يتضح أن مفهوم (الحضارة) يعم ويخص. فهو بعم تاريخ جملة بلدان، لكنه لا يخص تواريخ غابرة؛ أي تواريخ ما يسميه (المجتمعات البدائية) التي لا ينطبق عليها مفهوم (الحضارة)، وإنما يطلق وسم (الحضارة) - أو قل: (الحضارات)- على الصنف الثاني من المجتمعات الذي حل محلها(7).
والذي عنده، أنه على مؤرخ الحضارة ومفكرها أن يبدلا وسعهما، ويشحذا خيالهما، ويجندا إرادتهما ليهربا من جدران سجن التواريخ المحلية؛ أي لينفلتا من قبضة تواريخ بلدانهما وثقافاتها القصيرة الصغرى، وأن عليهما أن يُعوِّدا نفسيهما على نظرة شمولية إلى التاريخ مأخوذ في جملته. فتصير بذلك مهمتهما تصور تاريخ كل الحضارات المعروفة، الحية منها وغير الحية، وعرضه بوسمه وحدة جامعة(8). كما أن الذي عنده أيضا أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بسلوك أحد مسلكين: إما دراسة (اللقاءات بين الحضارات) وما تولد عنها من أديان، وإما دراسة كل الحضارات المعروفة دراسة واحدة وبيان أشكال ميلادها وانحلالها وأفولها الدراسة المقارنة الكاشفة عن أوجه الائتلاف فيها وأوجه تفردها.
هذا ولقد اكتشف توينبي آراء سلفه مؤرخ الحضارات الألماني أوزفالد شبنجلر (Oswald Sengler) صيف عام 1920م بقراءته لكتابه الشهير: (أفول الغرب). ولقد اكتشف فيه ذاك النزوع الذي كان دوما يراوده إلى اعتبار أن أصغر مجالات الاستقصاء التاريخي التي يمكن الاهتمام بها إنما هي المجتمعات -المدعوة (حضارات) -وليست المجتمعات المعزولة منها والمختزلة شأن المدن -الدول اليونانية القديمة أو الدول- الأمم الحديثة. لكن خيبة أمله من لقياه حدثت لما هو أراد فهم كيف تنشأ الحضارات وكيف تنتهي. ذلك أنه بدا لتلميذ تصانيف شبنجلر أن هذا لا يقدم الجواب الشافي على هذا الإشكال، وإنما يظل جوابه (دوغمائيا وجبريا). فبحسبه نشأت الحضارات ونمت وتطورت وتدهورت وأفلت بوفق برنامج ثابت لا يتغير في الزمن لا ولا هو يقبل أن يفسر بالأحرى والأولى والأجدر. إنما قصارانا أن نقول عنه: إنه قانون طبيعة لك أن تكتشفه، وليس لك أن تستفسر عنه، وإنما لك أن تؤمن به قولا للأستاذ لا يأتيه الباطل Ipse dixit وحجة سلطة لا تنقمع. والحال أنه كان هذا القانون -القدر الاعتباطي- مما خيب آمال التلميذ في أستاذه(9).
وسبب ثان خيب آمال توينبي في شبنجلر هو أن هذا أراد بتشخيصه لموت الحضارات النبوءة بموت الحضارة الغربية، بينما رأى التلميذ أن الكشف عن الحضارات الميتة لا يؤدي، بالضرورة، إلى النبوءة بموت الحضارة الغربية الحية القائمة. إذ لئن كانت التحديات المسترسلة المتصلة هي ما من شأنه أن ينهك الحضارات وأن يقودها لكي تلقى مصيرها الطبيعي -الهلاك- فليس يمنع هذا من أن تقود سلسلة التحديات التي تجابهها حضارة ما إلى سلسلة من الاستجابات المنتصرة وليس إلى ما لا يتناهى (Ad infinitum). ومهما أبانت الملاحظة التاريخية عن وحدة الكيفية التي تسقط بها الحضارات وتضمحل وتنمحي وتنمحق، فإن هذا لا يشهد على حتمية المصير وإنما يشهد هو على نمطية الاندحار، أما فعل الحضارة فإنه فعل حر، ومن شأن الأفعال الحرة ألا تتآلف وإنما أن تتخالف، وليس للتحديات المتشابهة استجابات مماثلة، وإنما كل حضارة تبدع، بما قد لا يتناهى، شكل ردها على التحديات(10).
ويحصي توينبي ما يقارب تسعة عشر حضارة أتت على البشرية منذ أن كانت البشرية؛ أي منذ حوالي ستة آلاف سنة: ثمانية عشر منها غير غريبة، أربعة عشر ماتت والبقية تحيا. ونحن نعاصر منها حضارات متبقية خمس: ثمة، أولا: الحضارة المسيحية الارثدوكسية. وهي تشمل القارة الأوربية من بحر البلطيق إلى البحر الهادئ ومن البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الشمالي، وتشغل النصف الشمالي من آسيا والنصف الشرقي من شبه الجزيرة الأوربية بآسيا. والدولة المحور فيها هي روسيا، ولها شرفات تراقب بها العالم الغربي (بولونيا وألسكا) بواسطة روسيا البيضاء وسيبيريا من الشمال الشرقي، وتراقب العالم الإسلامي والهندي بواسطة من القوقاز وآسيا الوسطى، وتراقب عالم الشرق الأقصى بواسطة من سيبيريا الوسطى والشرقية. وثمة، ثانيا: (أختنا غير الشقيقة) في الحضارة: يعني الإسلام. ويمتد فضاؤه من قلب القارة الآسيوية في الصين الشمالية الغربية بلا توقف إلى الشاطئ الغربي لشبه القارة الأوربي الممتد بآسيا. ثم هناك، ثالثا: الحضارة الهندية. ورابعا: حضارة الشرق الأقصى. وإذ يعترف توينبي للحضارة المسيحية الغربية -خامس الحضارات- بقوة الانتشار، فإن اعترافه لها يتعلق بالكم لا بالنوع. فليس يمتنع، عنده، أن ينحصر مداها الانحصار، فتتساوى هذه الحضارات الخمس وتتوازن في تأثيرها لدى الأجيال القادمة وفي القرون الآتية(11).
أكثر من هذا، اقترح توينبي علينا تجربة ذهنية عجيبة: ما الحدث الأبرز في عصرنا (يقصد النصف الأول من القرن العشرين، ويتخذ معلمة له سنة محاضرته عن (لقاءات الحضارات) 1947م)؟ وهو سؤال يطرحه على مؤرخي المستقبل. والذي يراه أنه بعد مرور حوالي قرن -أي حوالي عام 2047م- فإن الجواب عن السؤال المطروح سوف يكون، لا محالة، على النحو التالي: إن الحدث الأبرز في القرن الذي مضى هو صدمة الحضارة الغربية وأثرها المزلزل على المجتمعات الحية الأخرى في عالم اليوم. ثم يستأنف السؤال: ماذا سيقول مؤرخو عام 3047م؟ ويجيب: أغلب الظن أنهم سينتبهون إلى ردات الفعل الرهيبة التي سيكون المعتدى عليهم من طرف الحضارة الغربية قد أحدثوها في حياة المعتدين عليهم، وذلك حتى تصير معالم هذه الحضارة مجاهل لا تعرف ولا تميز، وذلك بسبب من التأثير المضاد الذي سوف تحدثه فيها الحضارات الأخرى -الكنسية الأرثدوكسية والإسلام والهندوسية والشرق الأقصى. وفي عام 4047م سوف يحدث التوازن بحيث ينمحي التمايز الحاصل اليوم بين الحضارة الغربية- المعتدية -والحضارات الأخرى - الضحية - وذلك بفضل التأثيرات المضادة. وإذن فإن صدمة الحضارة الغربية إنما كانت خطوة أولى نحو توحيد بني البشر في مجتمع واحد. وماذا سيقول مؤرخو عام 5047م؟ يتصور أنهم سيقولون بأنه ليس ينبغي البحث عن توحيد البشرية في المجالين التقني والاقتصادي، كما يُظن عادة، لا ولا في مجال الحرب والسياسة، كما يعتقد طورا، وإنما في مجال الدين على عكس ما يظن(12). إنما الدين هو ما ينتج عن لقاءات الحضارة بالأولى.
ويبدو أن توينبي يعمم أنموذجه النظري التاريخي المعروف -تحدي/استجابة -على تاريخ الحضارات. فلا حضارة حية تتحداها حضارة أخرى إلا والشأن فيها، إن هي أرادت الحياة، أن ترد على التحدي، وأن تدفع المعتدي، وإلا هوت هي إلى أسفل سافلين. ومن ثمة عادة ما يتحدث عن (الهجوم) و(الهجوم المضاد) في تضاعيف الحديث عن (تفاعلات الحضارات). وهو يميز في هجمات الحضارات على بعضها البعض بين العنيف وغير العنيف، وبين الحربي والروحي، وبين تلك التي تدك الأسوار والأقاليم، وتلك التي تأسر القلوب والعقول. والمهم في (لقاءات الحضارات)، عنده، ما كانت هي الآثار السياسية والاقتصادية المباشرة، وإنما الآثار الدينية والروحية كانت.
في الحضارة:
أنظار فرناند بروديل
لا ينكر فرناند بروديل أهمية التأريخ للحضارة، لكنه ينبه إلى مخاطر الوقوع في تعميمات يستسهلها فلاسفة التاريخ ويستصعبها المؤرخون، بحيث تنتهي هذه الفلسفات في الحضارة، لربما من حيث تدري أو لا تدري، إلى تاريخ متصور متخيل وليس إلى تاريخ مجرب مختبر. ومن هنا يحترز المؤرخون بحق من مسافرين مغامرين بأشد ما تكون روح المغامرة شأن شبنغلر وتوينبي. فما من تاريخ يذهب إلى حد التفسير العام إلا ويقتضي أوبات متصلة دائمة إلى الواقع المتحقق وإلى الأرقام والخرائط والمرويات التاريخية الدقيقة بغاية إجراء تحققات دائمة(13)، ولا تاريخ حق يستنيم إلى التعميمات.
ولعل من بين تلك التعميمات التي توجس منها بروديل نظرية توينبي في الحضارات التي تعتبر أن الحضارة استجابة بشرية لتحد طبيعي، بوفق منطق: التحدي/الاستجابة. إذ يشكك بروديل في مدى إمكان انطباق هذه الأرسومة على الحضارات بلا استثناء. وإذا كان توينبي يقطع ولا يستثني، فإن بروديل يقطع ويستثني. وهو يتساءل: لو نحن ذهبنا مع هذه النظرية إلى حدودها القصوى، أفيمكننا أن نستشف أنه كلما كان التحدي أكبر كان الرد البشري أكبر؟ ويعترض بسؤال إنكاري: وما القول في أن الإنسان وإن هو أَنَّسَ المناطق القطبية، فإنه ما بنى بها حضارات حقة، لا ولا هو طورها؟ لهذا ينتهي إلى القول: (التحدي: نعم، والرد: نعم، لكن هذا ليس يعني بالضرورة أن تكون ثمة حضارة)(14). فهو يقبل بقانون التحدي إلى حدود معينة، لكنه ليس يقبل بإطلاقية الاستجابة إلى التحدي.
هذا على جهة اختلاف الأنظار، أما على جهة ائتلافها، فإنه تكاد نظرة بروديل إلى (الحضارة) توافق نظرة توينبي، كلاهما يعتبر أن المفهوم دلالة على وحدة تاريخية ذات أمد طويل. فللحضارات عند بروديل دلالة على استمرارات تاريخية طويلة الأمد، ليست تنتهي. إنما الحضارة بذلك هي (أطول التواريخ الطوال)(15). إذ التواريخ إما تكون قصارا (أيام محدودة) أو وساطا (تواريخ عشريات وحقب) أو طوالا (تواريخ قرون). وليس يمكن الحديث عن (حضارات) إلا حين اعتبار الأزمنة الطويلة، وليست تدرك الحضارة إلا في الزمن المديد والأجيال المتصلة. شأنها، بحسب استعارة المفكر والأديب الفرنسي فونتنيل (Fontenelle)، ألا تتعلق بتاريخ الورود، مهما كانت هي جميلة، وإنما بتاريخ البستاني الذي تعتقد الورود أنه خالد، فكذلك تبدو الحضارات للمجتمعات، وليست الاقتصادات والحوادث التاريخية القصار، وكأنها لا تموت.
وعنده أن ما من حضارة إلا وتقوم على (بُنى)، وأن العلائق بين هذه (البنى) تنتسج وتنتسخ وتعقد وتنكت. وهو ما يسميه، تأسيا بعلماء اللغة، (نَحْو الحضارات). فعنده أن الحضارات، إذا ما نظر إليها بمنظور العلوم الإنسانية، تبدت، أول ما تبدت، على أنها (فضاءات). إنما الحضارات هبات الفضاء. ومن ثمة كان منها النهري والبحري. ومهما هي تنوعت واختلفت، فإنها حضارات رواج وحراك. إذ (لا حضارة تحيا بلا حركة، وكل واحدة تغتني بالتبادلات والصدامات التي تجلبها الحضارات المجاورة المثمرة). فليس يمكن تصور حضارة الإسلام، مثلا، بلا حركات قوافل تعبر تلك (البحار من غير ماء)، وبلا إبحارات في المتوسط والهندي إلى حدود الصين، وذلك بما لا يجعل من الحضارة هبة الفضاء فحبس منفعلة وإنما خالقة لفضائها فاعلة له وبه. ولما كان ما من حضارة إلا وشأنها أن ترتبط بفضاء وبحدود مستقرة باستقرار نسبي، فإن لكل حضارة جغرافيتها الخاصة التي تتضمن جملة إمكانات وإكراهات بعضها شبه دائم، لكنها تباين خواص حضارة أخرى. أكثر من هذا، هي فضاءات وباحات ثقافية معنية -بالمعنى الانتربولوجي لكلمة (ثقافة) -شأن (الحضارة الغربية) المتخالفة من حيث هي وحدات صغرى المتجانسة من حيث هي وحدة كبرى. على أنها ما كانت هي بالوحدات المغلقة، وإنما هي وحدات مفتوحة تستورد (خيرات ثقافية) من غيرها شأن البوصلة والبارود والنسق الفلسفي والعبادة والدين والأغنية. إنما الحدود الثقافية لا تغيم، فشأنها أنها تشف. وقد تنادرت قديما بحكم مشاق السفر، واندفقت اليوم بحكم التسارع في حوار حضاري بين الحضارة والحضارات.
والحضارة، ثاني ما تتبدى، مجتمعات. إذ لا حضارات بلا مجتمعات تسندها وتحييها. أَوَ ليست الحضارة الغربية اليوم متعلقة بمفهوم (لمجتمع الصناعي) حتى صارت هي هو؟ والحال أن المدن تلعب دورا مهما في التمييز بين الثقافات (البدائية) والحضارات (اللاحقة) حتى وإن تضمنت الحضارات (المدنية) ثقافات (بدوية) في حوار متصل لا ينقطع بين الحاضرة والبادية. على أن المجتمعات أسرع تغيرا -على المدى الطويل -من الحضارات، حتى لا يتم الخلط بينهما.
وشأن الحضارات أن تتبدى، ثالث ما تتبدى، على أنها اقتصادات. إذ ما من حضارة إلا وشأنها أن تتعلق بمعطيات اقتصادية وتكنولوجية وبيولوجية وديمغرافية. فقد قامت حضارة الصين القديمة على جهد البشر، وقامت الحضارة اليونانية الرومانية على جهد العبيد، ونهضت الحضارة الغربية الحديثة على (جهد) الآلة.
والحضارات، رابعا، ذهنيات جماعية. فكل حضارة تنم عن تمثل معين للعالم وللأشياء، وذلك بحيث تنعش عقلية جماعية معينة كتلة المجتمع بأكملها. وليست هي تنبع كالفطر، وإنما تكون إرثا لماضي متصل يشكل ضربا من اللاوعي الجمعي. والحال أن هذه القيم الأساسية، وهذه البنى الذهنية أو النفسية، هي ما يميز الحضارات عن بعضها البعض ويخصصها ويعينها، وإن كانت من باب ما لا ينعبر. ويلعب الدين هنا -مثلما لعبه عند توينبي لما اعتبر أن (الحضارات خادمة الدين)(16)- الدور الأبرز. على أن ما يميز الحضارة الغربية -على هذا المستوى- إطراد ميل إلى العقلانية (الدنيوية) واطراد بعد عن الحياة الدينية (الدينونة). وهذا ما لم يحدث في أية حضارة أخرى، يقطع بروديل ولا يستثني، اللهم إلا لدى بعض سفسطائيي الصين ولدى بعض متحررة فلاسفة الإسلام في القرن الثاني عشر الميلادي. أما باقي الحضارات فكلها تقريبا يغمرها الديني والغيبي والسحري، وهي تحيا منذ أمد طويل على هذه الأمور وتنهل منها أقوى دواعي نفسانياتها الخاصة.
الإكراهات التي يمارسها الفضاء بلا نهاية، والتراتبات الاجتماعية، والضرورات الاقتصادية، والسيكولوجيات الجمعية: هي ذي قوى عميقة، يصعب التعرف عليها عند أول وهلة، لا سيما لدى أهلها الذين يحيون بداخلها إذ تتبدى لهم أمرا بدهيا ليس يستشكل... وهي الحقائق التي صارت تسمى اليوم، بلغة أهل العصر، (البُنَى). إنما الحركات السطحية والأحداث الطارئة والأفراد والأبطال كلها تنمحي وتبقى البنى الموعى بها أو غير الموعى دائمة أو شبه دائمة. هي ذي (أعمدة) أو لنقل (بنى) الحضارات: الإحساس الديني مثلا، واستقرارات الفلاحين، والمواقف اتجاه الموت والشغل والمتعة والحياة الأسرية... كيف نتعرف عليها؟ يتطلب الحذر الابستمولوجي من كل باحث أن يبتعد، ذهنيا على الأقل، عن الحضارة التي ينتمي إليها انتماء والتي ينغرس فيها انغراسا. والذي ينبهنا إليها معيار بالسلب: منطق الاقتباس المتبادل -أو قل التقابس-والتأثير والتأثر- أو قل التآثر- الموجود بين الحضارات. فما من حضارة -على التعميم- إلا وشأنها أن تتبنى (خيرات ثقافية) قد تزعزع بناها العميقة، ومن هنا بعض أشكال العداءات السرية، التي عادة ما تكون نادرة، بين الثقافات؛ لأنَّها تؤدي إلى قلب بعضها قلبا.
والحق أن ما من يوم يمر إلا وحضارة تقتبس من جاراتها وتستدمج. وعند أول النظر، تبدو حضارة ما وكأنها محطة بضائع لا تني تستورد مختلفات وتصدر مختلفات. لكن قد يحدث أن ترفض حضارة ما أن تستورد منتوجا بعينه. وقد لاحظ العلامة الاجتماعي مارسيل موس Marcel Mauss ذلك بقوله: ما من حضارة تستحق هذا الاسم إلا ولها مطارحها ومرافضها. وفي كل مرة يكون الرفض تتويجا لسلسلة طويلة من الترددات والتجارب.
أكثر من هذا، ليست تمارس الحضارة هذا القبول أو الرفض على غيرها فحسب، وإنما تمارسه على ذاتها (ماضيها) أيضا، وإن كان ذلك يتم ببطء. وهي ممارسة عادة ما تكون لا تعي بها الحضارة إلا قليلا أو لا تعي بها المرة. كما أنها سبب تحول حضارة ما عندما (تنشرخ) و(تنفصل) عن جزء من ماضيها الخاص. فما تفتأ تؤوب حضارة ما إلى نفسها منقبة في ماضيها مفتشة، متخيرة متخلية، لإعادة تأليف وجهها لذي لا هو يصير أبدا جديدا كل الجدة، ولا هو يبقى أبدا هو هو. والحال أن أشكال الرفض الداخلية هذه قد تكون صريحة وقد تكون انفصامية، وقد تكون دائمة وقد تكون عابرة. وحدها الأدوم هي الأهم، وقد تحدث هي ندوبا ليست تلتئم.
أما فيما يخص الصدامات بين الحضارات، فقد افترض البعض أن شأن الحضارات أن تدخل في صلة سلمية مع بعضها البعض، وأنها تكون حرة في اختياراتها. أَوَ ما قال المفكر والفيلسوف الفرنسي كوندورسي (Condorcet): (كلما سوف تنتشر الحضارة على وجه الأرض، ستختفي آنذاك الحرب والغزوات، كما ستختفي العبودية والبؤس)؟ ولا كما افترضوا؛ لأنَّ الصلات العنيفة هي التي غالبا ما شكلت القاعدة. ولئن هي عادة ما كانت مأساوية، فإنها تبدت غير مجدية على المدى البعيد(17).
- 2 -
بعض أوجه النقاش الدائر اليوم حول الثقافة والحقوق الثقافية
أنظار الفيلسوفين تشارلز تايلور وويل كيمليكا
لم تطرح مسألة (التعدد الثقافي) -وما تدور عليه من مفاهيم شأن (الهوية) و(الخصوصية) و(الاعتراف)... -في المجتمعات الليبرالية الكلاسيكية بالشكل الملح الذي صارت تطرح به اليوم. وذلك لأن البوادر الأولى للمجتمع الليبرالي، بأمريكا القرن الثامن عشر وبانجلترا القرن التاسع عشر، لم تكن لتجد مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات، وإنما مجتمعات منسجمة بانسجام يكاد يكون تاما: وحدة في اللسان والأصل العرقي والهوية القومية، بل وحتى في الإيمان المسيحي... وما كانت الأقليات العرقية والدينية والثقافية بالقاعدة ولا العمدة، وإنما كانت الاستثناء والفضلة. لكن الغريب في الأمر أن الليبرالية -الداعية إلى قيمتي (الحرية) و(المساواة) الكونيتين -كانت هي نفسها من أسهم في بناء الدولة الوطنية الصاهرة لهوية الأفراد الثقافية في بوتقة واحدة، وما زالت تفعل حتى صير إلى الحديث عن (قومية ليبرالية) ألفت بين حدين ليس يأتلفان من حيث المبدأ. هو ذا ما يسميه المفكر الكندي ميشيل سيمور Michel Seymour باسم (مفارقة الليبرالية)(18)، وما يسمه الفيلسوف الكندي ويل كيمليكا Will Kymlicka بسمة (مفارقة القومية الليبرالية)، وما يوسمه الباحثان الفرنسيان سيلفي موزير Sylvie Mesure وألان رونو Alain Renault بميسم (مفارقة الهوية الحديثة)؛ وذلك بحيث صار الإنسان المعاصر يحيا، في آن، برغبة في هوية (ليبرالية) وبتوق إلى اختلاف (قومي)؛ أي أنه صار يحيا في إطار ضرب من (الهوية المختلفة)؛ إذ ما من فرد محدث إلا وأمسى هو يطمح إلى أن يعترف به بوسمه هوية واختلافا في آن. وذلك لدرجة أن إحدى الباحثات -مارغريت كونوفان Margaret Conovan- ذهبت إلى حد القول: (لقد عمد المفكرون الليبراليون دوما إلى التعمية على انتماءات الأفراد اللسانية والثقافية والقومية، وما ناقشوها هم البتة. وذلك لأنهم افترضوا على الدوام وجود انتماء قومي واحد في الدولة الواحدة. أَوَ ليست الصعوبة تكمن على الدوام في صعوبة التفكير فيما هو قريب منا حد التعامي عنه التعامي كله؟)(19). أََوَ ليس أبعد البعداء من كان بعيدا وهو القريب بأشد قرب يكون؟ أَوَ ليست نظرية العدالة لصاحبها الفيلسوف السياسي الأمريكي جون راولز John Rawls، مثلا، تفترض ضمنا -على مستوى الدولة الواحدة- مجتمعا منسجما لسانيا وقوميا؟ وأليست تفترض هي -على مستوى المجتمع الدولي- أن تعدد الشعوب إنما ينهض على مبدأ أن لكل شعب دولته الخصوصية بحيث لا توجد شعوب متكثرة لدولة واحدة لا ولا هي توجد، بالتلقاء، دولة لشعوب مختلفة؟
على أن الذي أيقظ الليبراليين من سباتهم الوحدوي العميق مفارقة صارخة ما تفتأ المجتمعات الغربية المعاصرة تشهد عليها: كلما اتجهت الثقافة المعاصرة إلى الليبرالية، تعلق الناس بهوية ثقافية؛ وكلما توحدت قيم المواطنين السياسية الجوهرية (الديمقراطية، دولة الحق، الحريات الأساسية...) طالبوا هم باستقلالهم الذاتي وراموا تأسيس جماعتهم السياسية والثقافية المخصوصة! أكثر من هذا، كلما تقدم المجتمع نحو الليبرالية برزت القوميات المختلفة داخل الدولة الواحدة!
والحال أنه كان من أثر هذه المفارقات الصارخة أن صار ثمة مسيس حاجة إلى مراجعة الموقف الليبرالي الكلاسيكي على ضوء هذه المستجدات، ومحاولة تبين أشكال الوشائج بين الليبرالية، من جهة، والوحدة والتعدد الثقافي من جهة أخرى.
هذا ولقد بدأ النقاش حول هذه المسألة -أول ما بدأ- في حقل الفلسفة السياسية بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا، خلال الربع الأخير من القرن الماضي، حين اتخذ صورة نقاش حول مدى أولوية الحرية الفردية في الاعتبار. فكان أن تمت المواجهة بين أهل الحرية الفردية (الليبراليون) وأهل الجماعة المندمجة (الجمعويون). إذ اعتبر الأوائل أن الأصل في الأفراد أن يكونوا أحرارا، بالأولى والأجدر والأحق، في أن يحددوا بأنفسهم تصورهم الخاص لما يعتقدون أنه الحياة الطبية. إذ لا دخل للدولة، لا ولا للجماعة، في تحديد هذا التصور، إنما هو قناعة شخصية ورضا ذاتي. ومن ثمة اعتد الفردانيون الليبراليون بأولية (الفرد) على (الجماعة)، واحتجوا بأحقية (الذات) على (النحن)، وتأيدوا بأهمية (الأنا) على (الهم)، وما كان للجماعة من أهمية، في نظرهم، إلا بقدر ما تخدم الفرد ولذاذة عيشه، وإذا ما حدث أن ما عاد الأفراد يطيقون طوق الجماعة ولا يقدرون عوائد الجماعة الثقافية، فإنه ليس يكون لهذه الجماعة أن تكرههم على ذلك، لا ولا حتى أن تصارع وتقاوم وتكافح من أجل الحفاظ على هذه العوائد، لا ولا كان لها الحق –بالأولى- في أن تمنع الأفراد من تغيير هذه العوائد الثقافية أو التخلي عنها بالمرة أو رفضها الرفض الراديكالي.
وعلى الضد من هؤلاء، فإن الثواني -أقصد (أهل الجماعة)- رفضوا فكرة (الفرد المستقل) هذه التي لطالما اعتد بها الفردانيون من الليبراليين. إذ الذي عندهم أنه ما كان الفرد عن جماعته بمعزل ومبعد ومنأى، وإنما هو -شاء ذلك أم أبى- في الجماعة وبالجماعة كان بها وبها يكون. فلا كينونة إلا الكينونة الجمعية، لا كينونة بالبينونة. إنما شأن الفرد أن يكون منخرطا في العلائق الجمعية منهمكا فيها منغمرا مستهلكا، وإنما الشأن فيه أن يؤدي أدوارا اجتماعية محددة متعينة. فما كان الأشخاص الأفراد على شيء، لا وكانوا بالتبع هم من يشكل تصوره عن الحياة الطيبة، ولا بالأحرى هم الذين يعدلون هذا التصور، إنما شأنهم أن يرثوه وأن يستهدوا به ويقتدوا ويتسوا. وبالبدل من أن يعتبر أهل الجماعة هؤلاء من المفكرين الجماعيين أن العوائد الاجتماعية، إذا ما حقق أمرها، نتاج اختيارات فردية، فإنهم يعتبرون أن الأفراد ما كانوا إلا نتاجا لهذه العوائد الاجتماعية والثقافية. وفضلا عن هذا، فإنهم تشككوا في أن تكون مصالح الجماعة إن هي إلا مصالح أفرادها ليس إلا. فمصالح الجماعة شيء ومصالح أفرادها شيء آخر. ومن شأن مصالح الجماعة أن تعلو على مصالح الأفراد. وبعد، في تولية حرية الأفراد واستقلاليتهم المنزلة الأولى تدمير للجماعات. إنما الجماعة السليمة من تحقق التوازن بين الاختيار الفردي وحماية نمط العيش الجماعي، بما يتطلبه ذلك من أن يتم الحد من الآثار التدميرية للأولى على الثانية(20).
ولقد ساد الاعتقاد لردح من الزمن غير يسير أن حقوق الأقليات -لا سيما منها الحقوق الثقافية- متعلقة بما إذا كان المفكر الناظر في الأمر يتبنى وجهة النظر الليبرالية أم وجهة النظر الجماعية. فإذا ما كان من الأوائل، وكان هواه مع حرية الفرد، فإنه لا محالة رافض لحقوق الأقليات بتعلة أن من شأنها أن تمس بأولوية الفرد المشروعة، وإذا ما كان المفكر جماعيا، وكان هواه مع ثقافة الجماعة، اعتبر، بالضد، أن حقوق الأقليات وسيلة مناسبة لحماية الجماعات ضد تدمير استقلالية الفرد لعوائدهم، لا سيما ما تعلق منها بالحقوق الإثنية والثقافية، وأن الإثنيات (العرقيات) الثقافية لهي ما يستحق مثل هذه الحماية، وذلك لداعيين اثنين: لأنها أكثر من سواها عرضة إلى مخاطر الاندثار، ولأنها تصون نمط حياة جماعية يتطلب أن يحمى.
لكن بدا عرض الأمر على هذا النحو من العرض لمفكري الحقوق الثقافية شديد التبسيط حد الاختزال. إذ ما كانت حقوق الأقلية بالضرورة حقوقا جماعية، ثم إن مطالب الجماعة الحقوقية ليست موجهة -بالضرورة- ضد الليبرالية والحداثة، بل قد تكون باسم هذين تتم. فالقيم السياسية لبعض الجماعات، شأن الكاتلانيين بإسبانيا مثلا، ليست تختلف عن قيم الاسبانيين عموما. مع بعض الاستثناءات النادرة شأن طائفة الأميش Amich بالولايات المتحدة حيث تتبدى النزعة الجماعية معادية لليبرالية والحداثة بأشد عداء يكون. لكن، لئن هو حق أن أغلب الجماعات الأقلية صارت ليبرالية النزعة والهوى، فلماذا تريد هي حقوقا خاصة بها تتعدى سقف الحريات الفردية المضمونة للجميع بحسب ما تنص عليه مبادئ الليبرالية المعروفة؟ لماذا لا تقنع هي بالحقوق المشتركة التي تنص عليها آداب المواطنة الليبرالية؟
هي ذي الإشكالات التي دارت عليها النقاشات المعاصرة حول مسألة (التعدد الثقافي) و(المجتمعات المتعددة الأعراق). وقد أجمع العديد من مفكري هذا الشأن -من أمثال جوزيف راتز Joseph Ratz وديفيد ميلر David Miller ويائيل تامير Yael Tamir وجيف سبينز Jeff Spiner وتشارلز تايلور Charles Taylor وويل كيمليكا Will Kymlicka وميشيل سيمور Michel Seymour وكوكبة من المفكرين الآخرين ليس يكاد يحصرهم عد -على أهمية (الانتماء الثقافي) أو (الهوية الثقافية القومية) بالنسبة إلى المواطنين المعاصرين، وهي التي لا تمنعهم، في الوقت نفسه، من أن يكونوا متعلقين بالحرية بوفق معناها الليبرالي. بما وشىء، عندهم، كل بوفق محاجته المتفردة، بإمكان التوفيق بين مطالب الهوية الثقافية ومطالب المبادئ الليبرالية. ولما كان هذا الفضاء يضيق عن إحاطة العلم بآراء كل هؤلاء، فقد ألجأنا هذا إلى الوقوف بالنظر على أشهر هذه الآراء وأولاها بالتقدمة.
أنظار تشارلز تايلور في الثقافة والحقوق الثقافية
لنبدأ بموقف الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور. فقد اشتهر بكتابه (سياسة الاعتراف) Politcs of Recognition (1992) والذي فكر فيه في مسألة (التعدد الثقافي) و(حقوق الأقليات الثقافية) بداء من مبدأ (الاعتراف) أو ما صار يعرف تحت مسمى (سياسة الاعتراف). والذي عنده أن مسألة (الاعتراف بحقوق الأقليات)-لا سيما منها الحقوق الثقافية -ما كانت مطروحة في المجتمعات القديمة. فهذه المجتمعات إنما بنيت على مبدأ (الشرف) و(النبل)، لا اعتراف فيها إلا للشريف النبيل أما الخسيس الوضيع فلا اعتراف به. على أنه ما كان للمجتمع القديم أن يدوم إلى الأبد، وإنما كان من شأنه أن يبيد، وإذ ظهرت فكرة (الكرامة) -كرامة كل الناس بصرف النظر عن أصولهم أكانت نفيسة أم خسيسة شريفة أم وضيعة -فإن عصر الأنوار دشن بداية ظهور مفهوم (الهوية الفردية). وهو المفهوم الذي حكم المجتمعات الغربية الحديثة.
على أن المجتمعات الحديثة ألفت نفسها -في العقود الأخيرة- على قرني إحراج: إن مقتضى مبدأ الكرامة -كل الكائنات البشرية تستحق أن تحترم على جهة المساواة بحيث لا فرق- إنما هو تحقيق كونية، بل سوية، بين كل البشر؛ بما ينتج عنه محو التمايزات والتراتبيات القديمة، بل وكل الاختلافات والتباينات. مما يتأدى إلى صهر الكل في بوتقة واحدة بحيث لا تمايز، وإنما هوية أغلبية مهيمنة. هو ذا ما يسميه تايلور (العمى عن الاختلافات). وإن مبدأ (الاعتراف) -الاعتراف بكل إنسان بقطع النظر عن أصوله - ليقود –بالضد- إلى المطالبة بمبدأ (الأصالة)؛ أي إلى المطالبة بأحقية كل فرد، وجماعة، بحفظ اختلافه وتميزه وهويته. بناء على أن (سياسة الاختلاف) إنما بنيت على مبدأ أن لكل إنسان الحق في تشكيل هويته وتحديدها بوصفه فردا وبوصفه ثقافة. والأمر يعرض على هذا النحو: (ما هو متضمن اليوم في مطلب الاعتراف إنما هو مبدأ مساواة كونية شاملة، وإن سياسة الاختلاف لتدين كل أشكال الميز ولترفض كل مواطنة من الدرجة الثانية. مما يجعل من مبدأ المساواة الكونية مدخلا إلى سياسة الكرامة. لكن، عندما نجد أنفسنا في خضم هذه السياسة فإن المطالب (مطالب التميز) يصعب توفيقها مع هذه السياسة. ذلك أن سياسة الكرامة تتطلب بالفعل الاعتراف والإقرار بمنزلة مخصوصة لميزة غير مشتركة بين المواطنين أجمعين وغير معترف بها على جهة الكونية (ميزة خاصة)؛ بمعنى آخر ليس يتم الاعتراف المشروع إلا لأمر حاضر -لكل هويته- وذلك بالاعتراف بما لكل فرد. إن المطلب الكوني ليعصف بالاعتراف بالخصوصية)(21). بهذا نصير أمام أمر مفارق: بينما (سياسة الكرامة البشرية) التي ناضلت من أجل أشكال عدم التمييز تعمى عن أشكال الاختلاف بين المواطنين، فإن (سياسة الاختلاف) تشكك في مفهوم (عدم التمييز) بين المواطنين هذا، وترى أنه هو نفسه مبدأ تمييزي يلغي اختلاف المواطنين. فهو نفسه أساس التمييز. وما جاء لأجل إلغاء التمييز صار هو عينه -ويالسخرية الأقدار!- مبدأ للتمييز. ها هنا نلفي أنفسنا أمام مفارقة صارخة: قد تولدت السياسة الثانية -سياسة الاختلاف- عن سياسة الكرامة، لكن صارت وكأنها تولد المختلف -هوية خاصة- عن المؤتلف -حقوق مشتركة شاملة كونية! من هنا دخول هاتين السياستين -(سياسة الكرامة) و(سياسة الاختلاف)- القائمتين على مبدأ (الاحترام) في تصادم. بالنسبة إلى الأولى، فإن مبدأ (الاحترام للجميع) يتضمن أن نعامل الكل على قدم المساواة، وقد عمينا عن كل الاختلافات؛ أما بالنسبة إلى الثانية، فإنه ينبغي الاعتراف بالخصوصية، بل وتشجيعها. وإن ما تعيبه الأولى على الثانية لهو أنها تخرق مبدأ (عدم التمييز). وإن ما نعيبه الثانية على الأولى لهو إنكار كل هوية وذلك بفرض قالب نمطي على كل الناس ليس يناسبهم(22).
أكثر من هذا، يطرح هذا الأمر تفكيك الفكرة الليبرالية ذاتها بوصفها تعمى عن الاختلافات وتفرض التنميطات. وإن أنصار ضروب (سياسية الاختلاف) الأشد راديكالية -شأن بعض النزعات النسوية مثلا-لتذهب إلى حد اعتبار أن (الليبراليات العمياء) إنما هي نفسها انعكاس لثقافات خاصة. فكيف للخاص أن يمنع الخاص؟ أَوَ ليست الليبرالية هنا -وهي الخصوصية- تتقنع خلف مبدأ كوني؟
وموقف تايلور أنه وإن هو أقر بنقص هذا الضرب من الليبرالية، فإنه لا يذهب إلى حد تبني النقد الراديكالي. فهو يعتبر أنه توجد حقا سياسة احترام متكافئ يصفها بأنها (غير مضيافة)؛ أي غير متسامحة مع الاختلافات وغير رافدة للاختلافات؛ لأنَّها تقوم على تطبيق حرفي للقواعد التي تحدد حقوق الناس، بلا استثناء، ولأنها شديدة الحذر من كل مقاصد جماعية. وبالطبع يقر أن هذه السياسة ليست تسعى –بالقصد- إلى إلغاء الاختلافات الثقافية: فهذه تهمة محالة. وإنما يكتفي بتوسيمها بأنها (غير مضيافة للاختلافات)؛ أي ليست تستضيف التباينات (الثقافية) بين المواطنين. وذلك لأنها لا يمكنها أن تقبل بما يطمح إليه أعضاء الجماعات المتباينة: أن تبقى الجماعة فلا تفنى.
لكن لحسن الحظ توجد أنحاء أخرى للمجتمعات الليبرالية أكثر مضيافية تقبل ببعض الحقوق الثقافية أو تقول بمبدأ (التعدد الثقافي). هناك إذن شكلان لليبرالية: الشكل الأول -ما يسميه (الليبرالية الإجرائية)- منشد أيما أنشداد إلى حقوق الفرد؛ وبالتالي إلى دولة محايدة قيميا وصارمة؛ أي إلى دولة بلا مقاصد ثقافية أو دينية، بل حتى بلا أهداف جماعية مشتركة عدا الحرية الفردية والأمن الشخصي ورغد عيش وسلامة المواطنين. وثانية هي الليبرالية التي تنخرط فيها الدولة في حفظ المجتمع ككل بما فيه ثقافاته المختلفة ودياناته المتباينة، شريطة الحفاظ على حقوق المواطنين الأساسية. ولا خفاء أن تايلور يفضل الضرب الثاني من الليبرالية -وهو الشكل الذي يتوافق مع (سياسة الاعتراف) التي يدعو إليها.
أنظار ويل كيمليكا في الثقافة والحقوق الثقافية
لنثني الآن بنظر المفكر والفيلسوف الكندي ويل كيمليكا. فلقد أوقف الكتب العديدة على مناقشة أمر (التعدد الثقافي) هذا. لعل أشهرها على الإطلاق كتابه (مواطنة التعدد الثقافي)Multicultural Citizenship (1995). والذي عنده أنه ليس يمكن أن نطلب من شعوب متعددة أن تندمج في دولة متعددة القوميات من غير أن تحصل هذه الشعوب -من جهتها- على اعتراف لا مراء فيه بهويتها. فلكي تقبل الشعوب أن تندمج في إطار فيدرالية أو في إطار اندماج يضم مختلف القوميات، يلزم أن تنسج ثمة وشيجة ثقة بينها وبين الدولة الجامعة، ولا إمكان للثقة من غير اعتراف متبادل. فإذن حل المفارقة الليبرالية ليس يتأتى، عند الفيلسوف الليبرالي، إلا بتبني سياسة اعتراف بالحقوق الجماعية للشعوب. فما تكمن الليبرالية في الإقرار بالحقوق الفردية وحدها، وإنما في الحقوق الجماعية أيضا، وفي مقدمتها الحقوق الثقافية. أكثر من هذا، من حقوق الإنسان الأساسية حقه في الثقافة، بل لا وجود لحرية فردية بلا ثقافة(23). هذا مع تقدم العلم أنه يقصد بالثقافة ما يسميه (الثقافة المجتمعية). وقد أفاد به ضربا من الثقافة يمنح لأعضائه أنماط حياة ذات معنى توجه مجمل أنشطتهم في الحياة، وذلك على مستوى المجتمع والتربية والدين والاقتصاد، وسواء في المجال العمومي أو الخصوصي(24)؛ أي باختصار ثقافة لا تتعلق بالذاكرة أو بالقيم المشتركة، وإنما بالمؤسسات والممارسات المشتركة. وعنده أن الإنسان -بل الناس- أساسا مخلوق ثقافي، وأن تعلق الناس بثقافتهم واقعة ليست تكذب. إذ يشعر أغلب الأفراد في أغلب الأوقات بالرباط العميق الذي يصلهم بالثقافة التي ينتسبون إليها(25).
بناء على ما تقدم، يتحصل أنه ليس يعقل ألا تمنح دولة ليبرالية لأفرادها حق الاختيار الثقافي. إذ لا ليبرالية إلا ما كان من ليبرالية الحقوق الجماعية. على أنه يميز بين ضربين من ضروب حقوق الأقليات:ضرب أول؛ هو ضرب يتعلق بحقوق الجماعة ضد أفرادها؛ أي ضد سعي بعض أفرادها إلى التمرد على عوائدها الثقافية التقليدية. يرى كيمليكا -على هذا المستوى- أن الأمر شديد الإشكال إذا ما نحن نظرنا إليه بمنظور ليبرالي؛ وذلك لأن من شأن مثل هذه الحقوق أن تحد من الاستقلال الفردي. فلا نظرية ليبرالية حقة في حقوق الأقليات، إلا وليست تقبل، بالمبدأ، فكرة أن جماعات يمكنها شرعيا أن تحد من الحقوق المدنية والسياسية لأفرادها، وذلك بما في هذه الحقوق الحق في أن يبتعد هؤلاء الأفراد عن جماعتهم نفسها. وضرب ثان من حقوق الأقلية يتعلق هذه المرة بحقوق جماعة ما ضد المجتمع المهيمن. وهي تهدف إلى حماية الجماعة ضد آثار القرارات الخارجية (شأن القرارات الاقتصادية والسياسية التي يتخذها المجتمع المهيمن ولا تكون في صالح جماعة معينة). وعنده أن هذا الضرب من الحقوق عادة ما يقبل أن يتوافق مع مبادئ الليبرالية. أكثر من هذا، ينبغي دراسة هذه الحقوق حالة حالة بغاية تبين إمكان توافقها والمبادئ الليبرالية. ولا مساغ هنا لادعاء أن هذه الحقوق جماعية المبدأ، وبالتالي منافية لروح الليبرالية بحيث تتأدى إلى التعارض مع أقدس أقداس الليبرالية: مبدأ استقلال الفرد.
لكن، أَوَ ليست تعد هذه الحقوق الأقلية امتيازات غير مبررة؟ يجيب كيمليكا بأن رد هذا الاعتراض يقتضي منا النظر في دور الدولة. فالذين يذهبون إلى إبداء هذا الاعتراض يفترضون أن شأن الدولة أنها محايدة من الناحية القيمية، بحيث لا تحيز عرقي أو ثقافي للدولة بالمبدأ، وأن من أمر الدولة أن تتبنى، من حيث المبدأ، موقفا محايدا من الهوية العرقية والثقافية للمواطنين، من غير ما أن تشغل نفسها بمدى مقدرة الجماعات العرقية والثقافية على إدامة نفسها عير عوادي الزمان. فكما أن الأصل في الدولة الليبرالية ألا تناصر دينا بعينه، فكذلك الأصل فيها ألا تشجع ثقافة مجتمعية بذاتها. فما الذي بقي، بعد هذا، للجماعات حتى تطالب به، وقد استرضيت بهذا الحياد المبدئي، اللهم إلا أن تطالب بامتيازات غير مستحقة؟ الحال أن الكثير من الباحثين (تامير، سبينر، كيمليكا) يذهبون إلى حد التشكيك في ادعاء الدول الليبرالية الحياد العرقي والثقافي. والشاهد عندهم على ذلك تشجيع الدولة الأمريكية -نموذج الحياد بامتياز- على تعلم اللسان الإنجليزي (تعليم إجباري للأطفال في المدارس، تعليم المهاجرين (الأقل من خمسين سنة) بغاية الحصول على المواطنة الأمريكية، كما يعد هذا التعليم الإجباري شرطا للحصول على شغل في الإدارة). وذلك من أجل تشجيع (ثقافة مجتمعية) واحدة؛ أي ثقافة متركزة في مجال جغرافي معين، متمحورة على لسان واحد مستعمل استعمالا واسعا في مؤسسات عمومية أو خصوصية كثيرة (مدراس، وسائل إعلام، قضاء، اقتصاد، إدارة...). مع تقدم العلم أن إعمال مفهوم (الثقافة المجتمعية) هنا جاء بغاية توجيه النظر إلى حقيقة أنه يتضمن فكرة اللسان المشترك والمؤسسات الاجتماعية أكثر مما جاء ليوحي بالمعتقدات الدينية المشتركة والعوائد الأسرية أو طريق العيش الفردية. ولئن كانت هذه (الثقافات المجتمعية)، بداخل الديمقراطيات الحديثة والليبرالية، تعددية بالضرورة، ما دامت هي تتضمن، فضلا عن المسيحيين، مسلمين ويهودا وملاحدة... كما أنها نتاج الحقوق والحريات التي تضمن للمواطنين في الدول الليبرالية، فإنها تعددية تقوم على انسجام لساني ومؤسسي متقصد. والحال أن هذا التوحيد، وإن أثبت أحيانا ضرورته وجدواه، لا بد ظالم لبعض الجماعات. ومن ثمة ما عادت هذه الحقوق (امتيازات) وإنما هي (جبر ضرر) واقع حاصل متمكن. وبالجملة، تكون حقوق الأقلية مشروعة متى حمت حرية الأفراد داخل الجماعة، وحققت علاقات مساواة (لا هيمنة لأغلبية على أقلية ولا لأقلية على أغلبية) بين الجماعات.
بين النظرين
عادة ما أشار فيلسوفا حقوق الأقليات الثقافية هذان إلى بعض أوجه الخلاف بينهما. إذ سعى كيمليكا -بحسب ما ذهب إليه تايلور- إلى الدفاع عن ضرب من سياسة الاختلاف لا سيما في صلتها بحقوق الأهالي بكندا، في كتابه عن الليبرالية الجماعية والثقافة (1989)، لكن في إطار نظرية مبنية على أساس مبدأ الحياد الليبرالي. وذلك على الرغم من أن كيمليكا لم ينف تشكيكه في مبدأ حيادية الليبرالية، في ما بعد، وذلك في كتابه عن مواطنة التعدد الثقافي (1995). إذ بنى استدلاله بدءا من الحاجة الثقافية للجماعات -على الأقل لغة ثقافية تمكن جماعة من المواطنين من أن تتحدد وأن تحدد وأن تبحث عن تصور للحياة الطيبة -ففي بعض الظروف، ولدى بعض الساكنة التي تعاني من التمييز، فإنه يباح تخصيصها بموارد وحقوق أكثر من غيرها من الساكنة. على أن تايلور يرى أنه لئن نحن سلمنا جدلا مع كيمليكا بوجاهة هذا الطرح -أي بأحقية هذه الجماعات في تخصيصها ببعض الامتيازات التي لا توجد لدى غيرها- فإن الأمر -حقيقة- ليس يطرح في الحاضر وحال الجماعة حال ضعف اقتصادي واجتماعي -وإنما يطرح في المستقبل: هل سيتم الحفاظ لها على نفس الامتيازات؟ ذلك أن ما يهم الساكنة حقيقة هو مستقبل جماعتها أكثر من حاضرها؛ أي إمكان بقائها في المستقبل كجماعة متميزة مختلفة(26). وهو ما غاب على ذهن كيمليكا.
وبالمثل، سعى الثاني إلى تقويم فكرة تايلور. وقد رأى أن تايلور -الذي يصنف عادة ضمن مذهب أهل الجماعة- يقترب في بعض مواقفه من الحجة الليبرالية الخاصة بحقوق الأقليات. ذلك أنه يدافع عن فكرة أن من حق الناس أن يطالبوا بالاعتراف باختلافاتهم، وذلك لا ضدا على الحرية الفردية، وإنما باعتبار هذه شرط الحرية ذاتها. ولكن مع ذلك، وانطباقا مع الفكرة الجماعية، فإنه يرى أن مصلحة الجماعة في الحفاظ على ثقافتها لا يمكن أن يرد إلى مصالح الأفراد الذين يشكلونها. ومن ثمة فإن من حق الجماعة الحفاظ على عوائدها الجمعية في صلة مع حق الأفراد في اختيار أن يحفظوا تلك العوائد أم لا. ومن هناك، فإنه يعتبر أن موقف تايلور موقف يقع بين الفكرة الجماعية القديمة والحجة الليبرالية الجديدة المتعلقة بحقوق الأقليات، مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك(27).
************************
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من المغرب.
1- Lucien Febvre et al,)Evolution d'un mot et d'un groupe d'idées(in Civilisation: le mot et l’idée, Paris, la Renaissance du Livre, 1930, p. 40 sq.
2-Fernand Braudel, Grammaire des civilisations, Paris, Arthaud Flammarion, 1987, p. 37.
3- Ibid, p. 38.
4-Arnold Toynbee, la civilisation à l’épreuve, traduit de l'anglais par Renée villoteau, Paris, NRF, Gallimard, 1951, pp. 16 – 17, 167, 235, 254, 263.
5- Ibid, p. 242.
6- Ibid,)christianisme et civilisation(, p. 249.
7- Ibid, p. 259.
8- Ibid,)la civilisation à l’épreuve(, p. 174.
9-Arnold Toynbee,)ma vision de l’histoire(in la civilisation à l’épreuve, op, cit., p. 18.
10- Ibid, p. 21.
11- Ibid,)la civilisation à l’épreuve(, p, 174.
12- Ibid,)rencontres des civilisations(, p, 231-234.
13- Fernand Braudel, Grammaire des civilisations, op. cit., p. 68.
14- Ibid, p. 42.
15- Ibid, p. 66.
16-Arnold Toynbee,)christianisme et civilisation(, in la civilisation à l’épreuve, p. 254.
17-Fernand Braudel, Grammaire des civilisations, op. cit., p.
18-Michel Seymour,)le libéralisme, la politique de la reconnaissance et le cas du Québec (in comprendre les identités culturelles, revue: comprendre, n°1, 2000, Paris, Puf.
19- Ibid, p. 122.
20-Will Kymlicka,)les droits des minorités et le multiculturalisme: l'évolution du débat anglo-américain(, in comprendre, op. cit., p. 142-143.
21-Charles Taylor, Multiculturalisme: différence et démocratie, traduit de l’américain par denis-armand canal, Paris, aubier, 1994, p. 58.
22- Ibid, p. 62-63.
23-Will Kymlicka, la citoyenneté multiculturelle, Edition la découverte, coll: textes à l’appui, Paris, 2001, p. 120.
24- Ibid, p. 115.
25- Ibid, p. 134.
26-Taylor, Multiculturalisme: différence et démocratie, op. cit., note1, p. 60.
27-Kymlicka, les droits des minorités et le multiculturalisme: l'évolution du débat anglo-américain(, in comprendre, op. cit., note 3, p. 149.
بين المؤرخين توينبي وبروديل
للحضارة مؤرخوها، كما للحضارة إيديولوجيوها. وللحضارة دعاتها، كما للحضارة مدينوها. وللحضارة مبشروها، كما للحضارة نعاتها: تاريخ الحضارة، فلسفة الحضارة، الدعوة إلى الحضارة، إدانة الحضارة، موت الحضارة... هي ذي الموضوعات التي دار عليها النظر الحديث في أمر (الحضارة) ولا زال يدور.
وكم هو جنائزي فكر اليوم! كم أعلن من موت، وكم اكتشف من جثة! تموت فيه الثقافات بألف موت، وتموت فيه الحضارات ميتات عديدة. فمنذ أن دعا مؤرخ الحضارة الفرنسي غيزو Guirzot (1787-1874)، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى اعتبار (الحضارة) (واقعة) أمرها أمر باقي الوقائع، تقبل أن تدرس الدرس، قائلا: (إنما الحضارة واقعة شأنها في ذلك شأن سائر الوقائع لا فرق)، ومن ثم والناظرون في أمر (الحضارة) يعتبرونها أمرا واقعا (يقبل أن يُدرس وأن يوصف وأن يُروى). ولقد كان أن تأدى درس الحضارة، من بين ما تأدى إليه، إلى القول بموت الحضارة، بله موت الحضارات. فما كاد يمضي على قول غيزو ربع قرن من الزمان حتى كتب الكاتب والدبلوماسي والمفكر الاجتماعي الفرنسي غوبينو Gobineau (1816-1882) عام 1853م: (إن سقوط الحضارات لهو من أشد ظواهر التاريخ إثارة للتدبر، وإنه لفي الوقت ذاته أشدها غموضا). أين هذا القول من قول سلفه سنة 1828م: (إن على شجرة الحضارة، مع مر الزمن، أن تبسط على الأرض برمتها أوراقها)؟
هذا، ولقد كان لاحظ رائد مدرسة الحوليات والمفكر التاريخي الفرنسي لوسيان فيفر (Lucien Febvre) أنه لأزيد من نصف قرن ظل الحديث، لدى مفكري ومؤرخي الحضارة في الغرب، دائرا على (الحضارة) بصيغة المفرد، وذلك إلى حدود سنة 1819م، ثم من حينها بدأ إعمال المفهوم بصيغة الجمع -الحضارات. لقد تم بهذا تقسيم (إمبراطورية الحضارة) الكبرى إلى (أقاليم حضارية) -عرقية وتاريخية. وتساءل: ما الذي طرأ حتى يتغير اعتبار الحضارة من اعتبار المفرد إلى اعتبار الجمع؟ وأجاب: لقد تعلم الناس الذين عايشوا عهد الثورة والإمبراطورية -بفرنسا- شيئا لم يتعلمه أسلافهم عندما كانوا قد أشاعوا إعمال لفظ (الحضارة) بالمفرد حوالي عام 1770م. تعلموا أن حضارة ما يمكنها أن تموت. وما تعلموا هذا من كتب، لا ولا من قيل وقال، وإنما تعلموه بخبرة ومشاهدة ومعاينة وترحال. إنما تعلموه هم من الأسفار(1).
ولقد وافقه الرأي العلامة المؤرخ الفرنسي زميله في مدرسة الحوليات فرناند بروديل (Fernand Braudel)، في كتابه (نَحْوُ الحضارات)، وإن هو خالفه التاريخ، فذكر أنه حوالي عام 1890م تم الانتقال من إعمال مفهوم (الحضارة) بصيغة المفرد إلى إعماله بوفق صيغة الجمع -(الحضارات). وبهذا صير إلى الحديث عن (حضارات البشرية)، وليس عن (الحضارة البشرية)، على خلاف ما كان الأمر عليه من ذي قبل. قال المفكر التاريخي: (الحق أنه لا مجال لإنكار أن ثمة حضارات وما ثمة حضارة واحدة فحسب)(2). ذلك أنه حدث تصدع في النظرة الأنوارية -نظرة القرن الثامن عشر- التي كانت تتحدث عن (الحضارة) -بصيغة المفرد- وقد تم التوحيد بين دلالتها ودلالة (التقدم)، وتم وقفها على جماعة بشرية معينة دون سواها (أهل أوربا) -الغرب. أما في القرن العشرين، فقد صير إلى التخلص من هذه النظرة الأوربية المركزية، كما صير إلى التخلص من العديد من أحكام القيمة التي كانت تتحدث عن (أفضل الحضارات) و(أحسنها) و(أرقاها) و(أعلاها). وبهذا فقدت (الحضارة) -بصيغة المفرد- ألقها وبريقها ووهجها، فما عادت هي أعلى قيمة أخلاقية وفكرية، على خلاف ما كان يتصوره بها أهل القرن الثامن عشر. وما عادت اليوم، مثلا، توصف جريمة شنعاء بمثل ما كانت توصف به في ما تقدم من الزمن الحديث -بأنها (جريمة ضد الحضارة)-وإنما صار بالأَوْلى أن يقال عنها: (إنها جريمة ضد الإنسانية). ولربما صار الأحرى بنا، اليوم، القول: إن الحضارة -بوفق صيغة المفرد- هي المشترك البشري بين الحضارات المتباينة -نعني النار والكتابة والحساب وتأنيس النبات واستئناس الحيوان- بما لا يدل على أصل واحد للحضارة حكر على أمة بعينها، وإنما صارت هذه (خيرات حضارية جماعية مشتركة متقاسمة)(3).
في الحضارة:
أنظار أرنولد توينبي
ألقى المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) في 20 فبراير عام 1947م محاضرة عن (إرث روسيا البيزنطي)، ثم أعاد عنونتها بعنوان (الحضارة على المحك)، ونشرها فيما بعد ضمن جملة مقالات اختار لها العنوان نفسه. وكان العام ذاته قد ألقى محاضرة تحت عنوان دال: (لقاءات الحضارات) (أبريل 1947م). عند أول وهلة لا يكاد يفرق توينبي بين مفهوم (الحضارة) ومفهوم (المجمع البشري)، فهما عنده -على طريقة الانجليز- سواء. وهو عادة ما يكتب: (منذ الظهور الأول لممثلي شكل المجتمع البشري الذي نسميه (حضارة)...)، أو يكتب: (إن التاريخ، بمعنى تاريخ المجتمعات البشرية التي نسميها حضارات...)، أو يكتب عن (... الظهور الأول لنماذج من المجتمعات البشرية التي نسميها الحضارة)(4).
لكن على التدقيق ليس ثمة سوية، إذ عادة ما يتحدث الحديث الحصري عما يسميه: (المجتمعات المدعوة حضارة). فمهل تشكل هذه ضربا خاصا من المجتمعات؟ وما (الحضارة)؟ وهل وجدت من قبلها مجتمعات بلا حضارة؟
يتساءل توينبي (ما الذي نعنيه بالحضارة؟ ويجيب إجابة غير عامة وغير مباشرة بالقول: إن حديثنا عن حضارات متباينة ليثير في الذهن فكرة تمثلات متمايزة عن الدين والمعمار والرسم والعادات والعوائد. ثم يطلب لإشارته هذه التدقيق، فيعقب: (على أنه يفضل بنا تدقيق الدلالة التي نعطيها لكلمة لطالما نحن استعملناها. أعتقد أنني أعرف ما أقصده بلفظ الحضارة، أو على الأقل أنا واثق من أني أعرف كيف اهتديت إلى الفكرة التي لي عنها). ويضيف مباشرة: (أعني بالحضارة أصغر وحدة دراسة تاريخية يصل إليها المرء عندما يريد فهم تاريخ بلد شأن الولايات المتحدة مثلا أو المملكة المتحدة). فلو أنت رمت دراسة تاريخ الولايات المتحدة لذاته فإنك لن تفهمه - لن تفهم الدور الذي تلعبه الحكومة الفيدرالية في الحياة الأمريكية، ولا الحكومة التمثيلية، ولا التصنيع ولا قصر الزواج على الزواج بواحدة لا ولا المسيحية - اللهم إلا إن أنت تشوفت إلى ما وراء حدود البلد، إلى أوربا الغربية...أي إلى المسيحية الغربية أو الحضارة الغربية أو المجتمع الغربي أو العالم الغربي. وبالمثل، فإنك لست تفهم تاريخ اليونان أو روسيا أو صربيا ما لم تهتد إلى المسيحية الارثدوكسية. وقس على ذلك دراستك المغرب أو أفغانستان، فإنها لن تتأتى على وجهها الأكمل من دون أن تتقدم فتدرس العالم الإسلامي، وبالمثل لن تدرك تاريخ البنغال دون فهم العالم الهندي، لا ولا الصين ولا اليابان دونما درك عالم الشرق الأقصى.
ولعل أول سمة الحضارة (التعالي). فهي تتعالى على الأوطان الضيقة: للحضارة الغربية حوالي ثلاثة عشر مائة سنة بينما ليس لمملكة إنجلترا إلا ألف سنة وللمملكة المتحدة أقل من قرنين ونصف وللولايات المتحدة أقل من قرنين. ولهذا فإنه يدعو إلى النظر في التاريخ بإعمال اصطلاح (الحضارة) لا اصطلاح (الدولة)، وإلى النظر إلى الدول كما لو كانت هي ثانوية وعابرة في حياة الحضارات التي تظهر في تضاعيفها وتختفي(5). ولعل ثاني أهم سمة للحضارة هي سمة (الحياة). إذ أن: (الحضارة كائن حي من شأنه أن يعيد إنتاج نفسه...)(6).
بناء عليه، يتضح أن مفهوم (الحضارة) يعم ويخص. فهو بعم تاريخ جملة بلدان، لكنه لا يخص تواريخ غابرة؛ أي تواريخ ما يسميه (المجتمعات البدائية) التي لا ينطبق عليها مفهوم (الحضارة)، وإنما يطلق وسم (الحضارة) - أو قل: (الحضارات)- على الصنف الثاني من المجتمعات الذي حل محلها(7).
والذي عنده، أنه على مؤرخ الحضارة ومفكرها أن يبدلا وسعهما، ويشحذا خيالهما، ويجندا إرادتهما ليهربا من جدران سجن التواريخ المحلية؛ أي لينفلتا من قبضة تواريخ بلدانهما وثقافاتها القصيرة الصغرى، وأن عليهما أن يُعوِّدا نفسيهما على نظرة شمولية إلى التاريخ مأخوذ في جملته. فتصير بذلك مهمتهما تصور تاريخ كل الحضارات المعروفة، الحية منها وغير الحية، وعرضه بوسمه وحدة جامعة(8). كما أن الذي عنده أيضا أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بسلوك أحد مسلكين: إما دراسة (اللقاءات بين الحضارات) وما تولد عنها من أديان، وإما دراسة كل الحضارات المعروفة دراسة واحدة وبيان أشكال ميلادها وانحلالها وأفولها الدراسة المقارنة الكاشفة عن أوجه الائتلاف فيها وأوجه تفردها.
هذا ولقد اكتشف توينبي آراء سلفه مؤرخ الحضارات الألماني أوزفالد شبنجلر (Oswald Sengler) صيف عام 1920م بقراءته لكتابه الشهير: (أفول الغرب). ولقد اكتشف فيه ذاك النزوع الذي كان دوما يراوده إلى اعتبار أن أصغر مجالات الاستقصاء التاريخي التي يمكن الاهتمام بها إنما هي المجتمعات -المدعوة (حضارات) -وليست المجتمعات المعزولة منها والمختزلة شأن المدن -الدول اليونانية القديمة أو الدول- الأمم الحديثة. لكن خيبة أمله من لقياه حدثت لما هو أراد فهم كيف تنشأ الحضارات وكيف تنتهي. ذلك أنه بدا لتلميذ تصانيف شبنجلر أن هذا لا يقدم الجواب الشافي على هذا الإشكال، وإنما يظل جوابه (دوغمائيا وجبريا). فبحسبه نشأت الحضارات ونمت وتطورت وتدهورت وأفلت بوفق برنامج ثابت لا يتغير في الزمن لا ولا هو يقبل أن يفسر بالأحرى والأولى والأجدر. إنما قصارانا أن نقول عنه: إنه قانون طبيعة لك أن تكتشفه، وليس لك أن تستفسر عنه، وإنما لك أن تؤمن به قولا للأستاذ لا يأتيه الباطل Ipse dixit وحجة سلطة لا تنقمع. والحال أنه كان هذا القانون -القدر الاعتباطي- مما خيب آمال التلميذ في أستاذه(9).
وسبب ثان خيب آمال توينبي في شبنجلر هو أن هذا أراد بتشخيصه لموت الحضارات النبوءة بموت الحضارة الغربية، بينما رأى التلميذ أن الكشف عن الحضارات الميتة لا يؤدي، بالضرورة، إلى النبوءة بموت الحضارة الغربية الحية القائمة. إذ لئن كانت التحديات المسترسلة المتصلة هي ما من شأنه أن ينهك الحضارات وأن يقودها لكي تلقى مصيرها الطبيعي -الهلاك- فليس يمنع هذا من أن تقود سلسلة التحديات التي تجابهها حضارة ما إلى سلسلة من الاستجابات المنتصرة وليس إلى ما لا يتناهى (Ad infinitum). ومهما أبانت الملاحظة التاريخية عن وحدة الكيفية التي تسقط بها الحضارات وتضمحل وتنمحي وتنمحق، فإن هذا لا يشهد على حتمية المصير وإنما يشهد هو على نمطية الاندحار، أما فعل الحضارة فإنه فعل حر، ومن شأن الأفعال الحرة ألا تتآلف وإنما أن تتخالف، وليس للتحديات المتشابهة استجابات مماثلة، وإنما كل حضارة تبدع، بما قد لا يتناهى، شكل ردها على التحديات(10).
ويحصي توينبي ما يقارب تسعة عشر حضارة أتت على البشرية منذ أن كانت البشرية؛ أي منذ حوالي ستة آلاف سنة: ثمانية عشر منها غير غريبة، أربعة عشر ماتت والبقية تحيا. ونحن نعاصر منها حضارات متبقية خمس: ثمة، أولا: الحضارة المسيحية الارثدوكسية. وهي تشمل القارة الأوربية من بحر البلطيق إلى البحر الهادئ ومن البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الشمالي، وتشغل النصف الشمالي من آسيا والنصف الشرقي من شبه الجزيرة الأوربية بآسيا. والدولة المحور فيها هي روسيا، ولها شرفات تراقب بها العالم الغربي (بولونيا وألسكا) بواسطة روسيا البيضاء وسيبيريا من الشمال الشرقي، وتراقب العالم الإسلامي والهندي بواسطة من القوقاز وآسيا الوسطى، وتراقب عالم الشرق الأقصى بواسطة من سيبيريا الوسطى والشرقية. وثمة، ثانيا: (أختنا غير الشقيقة) في الحضارة: يعني الإسلام. ويمتد فضاؤه من قلب القارة الآسيوية في الصين الشمالية الغربية بلا توقف إلى الشاطئ الغربي لشبه القارة الأوربي الممتد بآسيا. ثم هناك، ثالثا: الحضارة الهندية. ورابعا: حضارة الشرق الأقصى. وإذ يعترف توينبي للحضارة المسيحية الغربية -خامس الحضارات- بقوة الانتشار، فإن اعترافه لها يتعلق بالكم لا بالنوع. فليس يمتنع، عنده، أن ينحصر مداها الانحصار، فتتساوى هذه الحضارات الخمس وتتوازن في تأثيرها لدى الأجيال القادمة وفي القرون الآتية(11).
أكثر من هذا، اقترح توينبي علينا تجربة ذهنية عجيبة: ما الحدث الأبرز في عصرنا (يقصد النصف الأول من القرن العشرين، ويتخذ معلمة له سنة محاضرته عن (لقاءات الحضارات) 1947م)؟ وهو سؤال يطرحه على مؤرخي المستقبل. والذي يراه أنه بعد مرور حوالي قرن -أي حوالي عام 2047م- فإن الجواب عن السؤال المطروح سوف يكون، لا محالة، على النحو التالي: إن الحدث الأبرز في القرن الذي مضى هو صدمة الحضارة الغربية وأثرها المزلزل على المجتمعات الحية الأخرى في عالم اليوم. ثم يستأنف السؤال: ماذا سيقول مؤرخو عام 3047م؟ ويجيب: أغلب الظن أنهم سينتبهون إلى ردات الفعل الرهيبة التي سيكون المعتدى عليهم من طرف الحضارة الغربية قد أحدثوها في حياة المعتدين عليهم، وذلك حتى تصير معالم هذه الحضارة مجاهل لا تعرف ولا تميز، وذلك بسبب من التأثير المضاد الذي سوف تحدثه فيها الحضارات الأخرى -الكنسية الأرثدوكسية والإسلام والهندوسية والشرق الأقصى. وفي عام 4047م سوف يحدث التوازن بحيث ينمحي التمايز الحاصل اليوم بين الحضارة الغربية- المعتدية -والحضارات الأخرى - الضحية - وذلك بفضل التأثيرات المضادة. وإذن فإن صدمة الحضارة الغربية إنما كانت خطوة أولى نحو توحيد بني البشر في مجتمع واحد. وماذا سيقول مؤرخو عام 5047م؟ يتصور أنهم سيقولون بأنه ليس ينبغي البحث عن توحيد البشرية في المجالين التقني والاقتصادي، كما يُظن عادة، لا ولا في مجال الحرب والسياسة، كما يعتقد طورا، وإنما في مجال الدين على عكس ما يظن(12). إنما الدين هو ما ينتج عن لقاءات الحضارة بالأولى.
ويبدو أن توينبي يعمم أنموذجه النظري التاريخي المعروف -تحدي/استجابة -على تاريخ الحضارات. فلا حضارة حية تتحداها حضارة أخرى إلا والشأن فيها، إن هي أرادت الحياة، أن ترد على التحدي، وأن تدفع المعتدي، وإلا هوت هي إلى أسفل سافلين. ومن ثمة عادة ما يتحدث عن (الهجوم) و(الهجوم المضاد) في تضاعيف الحديث عن (تفاعلات الحضارات). وهو يميز في هجمات الحضارات على بعضها البعض بين العنيف وغير العنيف، وبين الحربي والروحي، وبين تلك التي تدك الأسوار والأقاليم، وتلك التي تأسر القلوب والعقول. والمهم في (لقاءات الحضارات)، عنده، ما كانت هي الآثار السياسية والاقتصادية المباشرة، وإنما الآثار الدينية والروحية كانت.
في الحضارة:
أنظار فرناند بروديل
لا ينكر فرناند بروديل أهمية التأريخ للحضارة، لكنه ينبه إلى مخاطر الوقوع في تعميمات يستسهلها فلاسفة التاريخ ويستصعبها المؤرخون، بحيث تنتهي هذه الفلسفات في الحضارة، لربما من حيث تدري أو لا تدري، إلى تاريخ متصور متخيل وليس إلى تاريخ مجرب مختبر. ومن هنا يحترز المؤرخون بحق من مسافرين مغامرين بأشد ما تكون روح المغامرة شأن شبنغلر وتوينبي. فما من تاريخ يذهب إلى حد التفسير العام إلا ويقتضي أوبات متصلة دائمة إلى الواقع المتحقق وإلى الأرقام والخرائط والمرويات التاريخية الدقيقة بغاية إجراء تحققات دائمة(13)، ولا تاريخ حق يستنيم إلى التعميمات.
ولعل من بين تلك التعميمات التي توجس منها بروديل نظرية توينبي في الحضارات التي تعتبر أن الحضارة استجابة بشرية لتحد طبيعي، بوفق منطق: التحدي/الاستجابة. إذ يشكك بروديل في مدى إمكان انطباق هذه الأرسومة على الحضارات بلا استثناء. وإذا كان توينبي يقطع ولا يستثني، فإن بروديل يقطع ويستثني. وهو يتساءل: لو نحن ذهبنا مع هذه النظرية إلى حدودها القصوى، أفيمكننا أن نستشف أنه كلما كان التحدي أكبر كان الرد البشري أكبر؟ ويعترض بسؤال إنكاري: وما القول في أن الإنسان وإن هو أَنَّسَ المناطق القطبية، فإنه ما بنى بها حضارات حقة، لا ولا هو طورها؟ لهذا ينتهي إلى القول: (التحدي: نعم، والرد: نعم، لكن هذا ليس يعني بالضرورة أن تكون ثمة حضارة)(14). فهو يقبل بقانون التحدي إلى حدود معينة، لكنه ليس يقبل بإطلاقية الاستجابة إلى التحدي.
هذا على جهة اختلاف الأنظار، أما على جهة ائتلافها، فإنه تكاد نظرة بروديل إلى (الحضارة) توافق نظرة توينبي، كلاهما يعتبر أن المفهوم دلالة على وحدة تاريخية ذات أمد طويل. فللحضارات عند بروديل دلالة على استمرارات تاريخية طويلة الأمد، ليست تنتهي. إنما الحضارة بذلك هي (أطول التواريخ الطوال)(15). إذ التواريخ إما تكون قصارا (أيام محدودة) أو وساطا (تواريخ عشريات وحقب) أو طوالا (تواريخ قرون). وليس يمكن الحديث عن (حضارات) إلا حين اعتبار الأزمنة الطويلة، وليست تدرك الحضارة إلا في الزمن المديد والأجيال المتصلة. شأنها، بحسب استعارة المفكر والأديب الفرنسي فونتنيل (Fontenelle)، ألا تتعلق بتاريخ الورود، مهما كانت هي جميلة، وإنما بتاريخ البستاني الذي تعتقد الورود أنه خالد، فكذلك تبدو الحضارات للمجتمعات، وليست الاقتصادات والحوادث التاريخية القصار، وكأنها لا تموت.
وعنده أن ما من حضارة إلا وتقوم على (بُنى)، وأن العلائق بين هذه (البنى) تنتسج وتنتسخ وتعقد وتنكت. وهو ما يسميه، تأسيا بعلماء اللغة، (نَحْو الحضارات). فعنده أن الحضارات، إذا ما نظر إليها بمنظور العلوم الإنسانية، تبدت، أول ما تبدت، على أنها (فضاءات). إنما الحضارات هبات الفضاء. ومن ثمة كان منها النهري والبحري. ومهما هي تنوعت واختلفت، فإنها حضارات رواج وحراك. إذ (لا حضارة تحيا بلا حركة، وكل واحدة تغتني بالتبادلات والصدامات التي تجلبها الحضارات المجاورة المثمرة). فليس يمكن تصور حضارة الإسلام، مثلا، بلا حركات قوافل تعبر تلك (البحار من غير ماء)، وبلا إبحارات في المتوسط والهندي إلى حدود الصين، وذلك بما لا يجعل من الحضارة هبة الفضاء فحبس منفعلة وإنما خالقة لفضائها فاعلة له وبه. ولما كان ما من حضارة إلا وشأنها أن ترتبط بفضاء وبحدود مستقرة باستقرار نسبي، فإن لكل حضارة جغرافيتها الخاصة التي تتضمن جملة إمكانات وإكراهات بعضها شبه دائم، لكنها تباين خواص حضارة أخرى. أكثر من هذا، هي فضاءات وباحات ثقافية معنية -بالمعنى الانتربولوجي لكلمة (ثقافة) -شأن (الحضارة الغربية) المتخالفة من حيث هي وحدات صغرى المتجانسة من حيث هي وحدة كبرى. على أنها ما كانت هي بالوحدات المغلقة، وإنما هي وحدات مفتوحة تستورد (خيرات ثقافية) من غيرها شأن البوصلة والبارود والنسق الفلسفي والعبادة والدين والأغنية. إنما الحدود الثقافية لا تغيم، فشأنها أنها تشف. وقد تنادرت قديما بحكم مشاق السفر، واندفقت اليوم بحكم التسارع في حوار حضاري بين الحضارة والحضارات.
والحضارة، ثاني ما تتبدى، مجتمعات. إذ لا حضارات بلا مجتمعات تسندها وتحييها. أَوَ ليست الحضارة الغربية اليوم متعلقة بمفهوم (لمجتمع الصناعي) حتى صارت هي هو؟ والحال أن المدن تلعب دورا مهما في التمييز بين الثقافات (البدائية) والحضارات (اللاحقة) حتى وإن تضمنت الحضارات (المدنية) ثقافات (بدوية) في حوار متصل لا ينقطع بين الحاضرة والبادية. على أن المجتمعات أسرع تغيرا -على المدى الطويل -من الحضارات، حتى لا يتم الخلط بينهما.
وشأن الحضارات أن تتبدى، ثالث ما تتبدى، على أنها اقتصادات. إذ ما من حضارة إلا وشأنها أن تتعلق بمعطيات اقتصادية وتكنولوجية وبيولوجية وديمغرافية. فقد قامت حضارة الصين القديمة على جهد البشر، وقامت الحضارة اليونانية الرومانية على جهد العبيد، ونهضت الحضارة الغربية الحديثة على (جهد) الآلة.
والحضارات، رابعا، ذهنيات جماعية. فكل حضارة تنم عن تمثل معين للعالم وللأشياء، وذلك بحيث تنعش عقلية جماعية معينة كتلة المجتمع بأكملها. وليست هي تنبع كالفطر، وإنما تكون إرثا لماضي متصل يشكل ضربا من اللاوعي الجمعي. والحال أن هذه القيم الأساسية، وهذه البنى الذهنية أو النفسية، هي ما يميز الحضارات عن بعضها البعض ويخصصها ويعينها، وإن كانت من باب ما لا ينعبر. ويلعب الدين هنا -مثلما لعبه عند توينبي لما اعتبر أن (الحضارات خادمة الدين)(16)- الدور الأبرز. على أن ما يميز الحضارة الغربية -على هذا المستوى- إطراد ميل إلى العقلانية (الدنيوية) واطراد بعد عن الحياة الدينية (الدينونة). وهذا ما لم يحدث في أية حضارة أخرى، يقطع بروديل ولا يستثني، اللهم إلا لدى بعض سفسطائيي الصين ولدى بعض متحررة فلاسفة الإسلام في القرن الثاني عشر الميلادي. أما باقي الحضارات فكلها تقريبا يغمرها الديني والغيبي والسحري، وهي تحيا منذ أمد طويل على هذه الأمور وتنهل منها أقوى دواعي نفسانياتها الخاصة.
الإكراهات التي يمارسها الفضاء بلا نهاية، والتراتبات الاجتماعية، والضرورات الاقتصادية، والسيكولوجيات الجمعية: هي ذي قوى عميقة، يصعب التعرف عليها عند أول وهلة، لا سيما لدى أهلها الذين يحيون بداخلها إذ تتبدى لهم أمرا بدهيا ليس يستشكل... وهي الحقائق التي صارت تسمى اليوم، بلغة أهل العصر، (البُنَى). إنما الحركات السطحية والأحداث الطارئة والأفراد والأبطال كلها تنمحي وتبقى البنى الموعى بها أو غير الموعى دائمة أو شبه دائمة. هي ذي (أعمدة) أو لنقل (بنى) الحضارات: الإحساس الديني مثلا، واستقرارات الفلاحين، والمواقف اتجاه الموت والشغل والمتعة والحياة الأسرية... كيف نتعرف عليها؟ يتطلب الحذر الابستمولوجي من كل باحث أن يبتعد، ذهنيا على الأقل، عن الحضارة التي ينتمي إليها انتماء والتي ينغرس فيها انغراسا. والذي ينبهنا إليها معيار بالسلب: منطق الاقتباس المتبادل -أو قل التقابس-والتأثير والتأثر- أو قل التآثر- الموجود بين الحضارات. فما من حضارة -على التعميم- إلا وشأنها أن تتبنى (خيرات ثقافية) قد تزعزع بناها العميقة، ومن هنا بعض أشكال العداءات السرية، التي عادة ما تكون نادرة، بين الثقافات؛ لأنَّها تؤدي إلى قلب بعضها قلبا.
والحق أن ما من يوم يمر إلا وحضارة تقتبس من جاراتها وتستدمج. وعند أول النظر، تبدو حضارة ما وكأنها محطة بضائع لا تني تستورد مختلفات وتصدر مختلفات. لكن قد يحدث أن ترفض حضارة ما أن تستورد منتوجا بعينه. وقد لاحظ العلامة الاجتماعي مارسيل موس Marcel Mauss ذلك بقوله: ما من حضارة تستحق هذا الاسم إلا ولها مطارحها ومرافضها. وفي كل مرة يكون الرفض تتويجا لسلسلة طويلة من الترددات والتجارب.
أكثر من هذا، ليست تمارس الحضارة هذا القبول أو الرفض على غيرها فحسب، وإنما تمارسه على ذاتها (ماضيها) أيضا، وإن كان ذلك يتم ببطء. وهي ممارسة عادة ما تكون لا تعي بها الحضارة إلا قليلا أو لا تعي بها المرة. كما أنها سبب تحول حضارة ما عندما (تنشرخ) و(تنفصل) عن جزء من ماضيها الخاص. فما تفتأ تؤوب حضارة ما إلى نفسها منقبة في ماضيها مفتشة، متخيرة متخلية، لإعادة تأليف وجهها لذي لا هو يصير أبدا جديدا كل الجدة، ولا هو يبقى أبدا هو هو. والحال أن أشكال الرفض الداخلية هذه قد تكون صريحة وقد تكون انفصامية، وقد تكون دائمة وقد تكون عابرة. وحدها الأدوم هي الأهم، وقد تحدث هي ندوبا ليست تلتئم.
أما فيما يخص الصدامات بين الحضارات، فقد افترض البعض أن شأن الحضارات أن تدخل في صلة سلمية مع بعضها البعض، وأنها تكون حرة في اختياراتها. أَوَ ما قال المفكر والفيلسوف الفرنسي كوندورسي (Condorcet): (كلما سوف تنتشر الحضارة على وجه الأرض، ستختفي آنذاك الحرب والغزوات، كما ستختفي العبودية والبؤس)؟ ولا كما افترضوا؛ لأنَّ الصلات العنيفة هي التي غالبا ما شكلت القاعدة. ولئن هي عادة ما كانت مأساوية، فإنها تبدت غير مجدية على المدى البعيد(17).
- 2 -
بعض أوجه النقاش الدائر اليوم حول الثقافة والحقوق الثقافية
أنظار الفيلسوفين تشارلز تايلور وويل كيمليكا
لم تطرح مسألة (التعدد الثقافي) -وما تدور عليه من مفاهيم شأن (الهوية) و(الخصوصية) و(الاعتراف)... -في المجتمعات الليبرالية الكلاسيكية بالشكل الملح الذي صارت تطرح به اليوم. وذلك لأن البوادر الأولى للمجتمع الليبرالي، بأمريكا القرن الثامن عشر وبانجلترا القرن التاسع عشر، لم تكن لتجد مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات، وإنما مجتمعات منسجمة بانسجام يكاد يكون تاما: وحدة في اللسان والأصل العرقي والهوية القومية، بل وحتى في الإيمان المسيحي... وما كانت الأقليات العرقية والدينية والثقافية بالقاعدة ولا العمدة، وإنما كانت الاستثناء والفضلة. لكن الغريب في الأمر أن الليبرالية -الداعية إلى قيمتي (الحرية) و(المساواة) الكونيتين -كانت هي نفسها من أسهم في بناء الدولة الوطنية الصاهرة لهوية الأفراد الثقافية في بوتقة واحدة، وما زالت تفعل حتى صير إلى الحديث عن (قومية ليبرالية) ألفت بين حدين ليس يأتلفان من حيث المبدأ. هو ذا ما يسميه المفكر الكندي ميشيل سيمور Michel Seymour باسم (مفارقة الليبرالية)(18)، وما يسمه الفيلسوف الكندي ويل كيمليكا Will Kymlicka بسمة (مفارقة القومية الليبرالية)، وما يوسمه الباحثان الفرنسيان سيلفي موزير Sylvie Mesure وألان رونو Alain Renault بميسم (مفارقة الهوية الحديثة)؛ وذلك بحيث صار الإنسان المعاصر يحيا، في آن، برغبة في هوية (ليبرالية) وبتوق إلى اختلاف (قومي)؛ أي أنه صار يحيا في إطار ضرب من (الهوية المختلفة)؛ إذ ما من فرد محدث إلا وأمسى هو يطمح إلى أن يعترف به بوسمه هوية واختلافا في آن. وذلك لدرجة أن إحدى الباحثات -مارغريت كونوفان Margaret Conovan- ذهبت إلى حد القول: (لقد عمد المفكرون الليبراليون دوما إلى التعمية على انتماءات الأفراد اللسانية والثقافية والقومية، وما ناقشوها هم البتة. وذلك لأنهم افترضوا على الدوام وجود انتماء قومي واحد في الدولة الواحدة. أَوَ ليست الصعوبة تكمن على الدوام في صعوبة التفكير فيما هو قريب منا حد التعامي عنه التعامي كله؟)(19). أََوَ ليس أبعد البعداء من كان بعيدا وهو القريب بأشد قرب يكون؟ أَوَ ليست نظرية العدالة لصاحبها الفيلسوف السياسي الأمريكي جون راولز John Rawls، مثلا، تفترض ضمنا -على مستوى الدولة الواحدة- مجتمعا منسجما لسانيا وقوميا؟ وأليست تفترض هي -على مستوى المجتمع الدولي- أن تعدد الشعوب إنما ينهض على مبدأ أن لكل شعب دولته الخصوصية بحيث لا توجد شعوب متكثرة لدولة واحدة لا ولا هي توجد، بالتلقاء، دولة لشعوب مختلفة؟
على أن الذي أيقظ الليبراليين من سباتهم الوحدوي العميق مفارقة صارخة ما تفتأ المجتمعات الغربية المعاصرة تشهد عليها: كلما اتجهت الثقافة المعاصرة إلى الليبرالية، تعلق الناس بهوية ثقافية؛ وكلما توحدت قيم المواطنين السياسية الجوهرية (الديمقراطية، دولة الحق، الحريات الأساسية...) طالبوا هم باستقلالهم الذاتي وراموا تأسيس جماعتهم السياسية والثقافية المخصوصة! أكثر من هذا، كلما تقدم المجتمع نحو الليبرالية برزت القوميات المختلفة داخل الدولة الواحدة!
والحال أنه كان من أثر هذه المفارقات الصارخة أن صار ثمة مسيس حاجة إلى مراجعة الموقف الليبرالي الكلاسيكي على ضوء هذه المستجدات، ومحاولة تبين أشكال الوشائج بين الليبرالية، من جهة، والوحدة والتعدد الثقافي من جهة أخرى.
هذا ولقد بدأ النقاش حول هذه المسألة -أول ما بدأ- في حقل الفلسفة السياسية بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا، خلال الربع الأخير من القرن الماضي، حين اتخذ صورة نقاش حول مدى أولوية الحرية الفردية في الاعتبار. فكان أن تمت المواجهة بين أهل الحرية الفردية (الليبراليون) وأهل الجماعة المندمجة (الجمعويون). إذ اعتبر الأوائل أن الأصل في الأفراد أن يكونوا أحرارا، بالأولى والأجدر والأحق، في أن يحددوا بأنفسهم تصورهم الخاص لما يعتقدون أنه الحياة الطبية. إذ لا دخل للدولة، لا ولا للجماعة، في تحديد هذا التصور، إنما هو قناعة شخصية ورضا ذاتي. ومن ثمة اعتد الفردانيون الليبراليون بأولية (الفرد) على (الجماعة)، واحتجوا بأحقية (الذات) على (النحن)، وتأيدوا بأهمية (الأنا) على (الهم)، وما كان للجماعة من أهمية، في نظرهم، إلا بقدر ما تخدم الفرد ولذاذة عيشه، وإذا ما حدث أن ما عاد الأفراد يطيقون طوق الجماعة ولا يقدرون عوائد الجماعة الثقافية، فإنه ليس يكون لهذه الجماعة أن تكرههم على ذلك، لا ولا حتى أن تصارع وتقاوم وتكافح من أجل الحفاظ على هذه العوائد، لا ولا كان لها الحق –بالأولى- في أن تمنع الأفراد من تغيير هذه العوائد الثقافية أو التخلي عنها بالمرة أو رفضها الرفض الراديكالي.
وعلى الضد من هؤلاء، فإن الثواني -أقصد (أهل الجماعة)- رفضوا فكرة (الفرد المستقل) هذه التي لطالما اعتد بها الفردانيون من الليبراليين. إذ الذي عندهم أنه ما كان الفرد عن جماعته بمعزل ومبعد ومنأى، وإنما هو -شاء ذلك أم أبى- في الجماعة وبالجماعة كان بها وبها يكون. فلا كينونة إلا الكينونة الجمعية، لا كينونة بالبينونة. إنما شأن الفرد أن يكون منخرطا في العلائق الجمعية منهمكا فيها منغمرا مستهلكا، وإنما الشأن فيه أن يؤدي أدوارا اجتماعية محددة متعينة. فما كان الأشخاص الأفراد على شيء، لا وكانوا بالتبع هم من يشكل تصوره عن الحياة الطيبة، ولا بالأحرى هم الذين يعدلون هذا التصور، إنما شأنهم أن يرثوه وأن يستهدوا به ويقتدوا ويتسوا. وبالبدل من أن يعتبر أهل الجماعة هؤلاء من المفكرين الجماعيين أن العوائد الاجتماعية، إذا ما حقق أمرها، نتاج اختيارات فردية، فإنهم يعتبرون أن الأفراد ما كانوا إلا نتاجا لهذه العوائد الاجتماعية والثقافية. وفضلا عن هذا، فإنهم تشككوا في أن تكون مصالح الجماعة إن هي إلا مصالح أفرادها ليس إلا. فمصالح الجماعة شيء ومصالح أفرادها شيء آخر. ومن شأن مصالح الجماعة أن تعلو على مصالح الأفراد. وبعد، في تولية حرية الأفراد واستقلاليتهم المنزلة الأولى تدمير للجماعات. إنما الجماعة السليمة من تحقق التوازن بين الاختيار الفردي وحماية نمط العيش الجماعي، بما يتطلبه ذلك من أن يتم الحد من الآثار التدميرية للأولى على الثانية(20).
ولقد ساد الاعتقاد لردح من الزمن غير يسير أن حقوق الأقليات -لا سيما منها الحقوق الثقافية- متعلقة بما إذا كان المفكر الناظر في الأمر يتبنى وجهة النظر الليبرالية أم وجهة النظر الجماعية. فإذا ما كان من الأوائل، وكان هواه مع حرية الفرد، فإنه لا محالة رافض لحقوق الأقليات بتعلة أن من شأنها أن تمس بأولوية الفرد المشروعة، وإذا ما كان المفكر جماعيا، وكان هواه مع ثقافة الجماعة، اعتبر، بالضد، أن حقوق الأقليات وسيلة مناسبة لحماية الجماعات ضد تدمير استقلالية الفرد لعوائدهم، لا سيما ما تعلق منها بالحقوق الإثنية والثقافية، وأن الإثنيات (العرقيات) الثقافية لهي ما يستحق مثل هذه الحماية، وذلك لداعيين اثنين: لأنها أكثر من سواها عرضة إلى مخاطر الاندثار، ولأنها تصون نمط حياة جماعية يتطلب أن يحمى.
لكن بدا عرض الأمر على هذا النحو من العرض لمفكري الحقوق الثقافية شديد التبسيط حد الاختزال. إذ ما كانت حقوق الأقلية بالضرورة حقوقا جماعية، ثم إن مطالب الجماعة الحقوقية ليست موجهة -بالضرورة- ضد الليبرالية والحداثة، بل قد تكون باسم هذين تتم. فالقيم السياسية لبعض الجماعات، شأن الكاتلانيين بإسبانيا مثلا، ليست تختلف عن قيم الاسبانيين عموما. مع بعض الاستثناءات النادرة شأن طائفة الأميش Amich بالولايات المتحدة حيث تتبدى النزعة الجماعية معادية لليبرالية والحداثة بأشد عداء يكون. لكن، لئن هو حق أن أغلب الجماعات الأقلية صارت ليبرالية النزعة والهوى، فلماذا تريد هي حقوقا خاصة بها تتعدى سقف الحريات الفردية المضمونة للجميع بحسب ما تنص عليه مبادئ الليبرالية المعروفة؟ لماذا لا تقنع هي بالحقوق المشتركة التي تنص عليها آداب المواطنة الليبرالية؟
هي ذي الإشكالات التي دارت عليها النقاشات المعاصرة حول مسألة (التعدد الثقافي) و(المجتمعات المتعددة الأعراق). وقد أجمع العديد من مفكري هذا الشأن -من أمثال جوزيف راتز Joseph Ratz وديفيد ميلر David Miller ويائيل تامير Yael Tamir وجيف سبينز Jeff Spiner وتشارلز تايلور Charles Taylor وويل كيمليكا Will Kymlicka وميشيل سيمور Michel Seymour وكوكبة من المفكرين الآخرين ليس يكاد يحصرهم عد -على أهمية (الانتماء الثقافي) أو (الهوية الثقافية القومية) بالنسبة إلى المواطنين المعاصرين، وهي التي لا تمنعهم، في الوقت نفسه، من أن يكونوا متعلقين بالحرية بوفق معناها الليبرالي. بما وشىء، عندهم، كل بوفق محاجته المتفردة، بإمكان التوفيق بين مطالب الهوية الثقافية ومطالب المبادئ الليبرالية. ولما كان هذا الفضاء يضيق عن إحاطة العلم بآراء كل هؤلاء، فقد ألجأنا هذا إلى الوقوف بالنظر على أشهر هذه الآراء وأولاها بالتقدمة.
أنظار تشارلز تايلور في الثقافة والحقوق الثقافية
لنبدأ بموقف الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور. فقد اشتهر بكتابه (سياسة الاعتراف) Politcs of Recognition (1992) والذي فكر فيه في مسألة (التعدد الثقافي) و(حقوق الأقليات الثقافية) بداء من مبدأ (الاعتراف) أو ما صار يعرف تحت مسمى (سياسة الاعتراف). والذي عنده أن مسألة (الاعتراف بحقوق الأقليات)-لا سيما منها الحقوق الثقافية -ما كانت مطروحة في المجتمعات القديمة. فهذه المجتمعات إنما بنيت على مبدأ (الشرف) و(النبل)، لا اعتراف فيها إلا للشريف النبيل أما الخسيس الوضيع فلا اعتراف به. على أنه ما كان للمجتمع القديم أن يدوم إلى الأبد، وإنما كان من شأنه أن يبيد، وإذ ظهرت فكرة (الكرامة) -كرامة كل الناس بصرف النظر عن أصولهم أكانت نفيسة أم خسيسة شريفة أم وضيعة -فإن عصر الأنوار دشن بداية ظهور مفهوم (الهوية الفردية). وهو المفهوم الذي حكم المجتمعات الغربية الحديثة.
على أن المجتمعات الحديثة ألفت نفسها -في العقود الأخيرة- على قرني إحراج: إن مقتضى مبدأ الكرامة -كل الكائنات البشرية تستحق أن تحترم على جهة المساواة بحيث لا فرق- إنما هو تحقيق كونية، بل سوية، بين كل البشر؛ بما ينتج عنه محو التمايزات والتراتبيات القديمة، بل وكل الاختلافات والتباينات. مما يتأدى إلى صهر الكل في بوتقة واحدة بحيث لا تمايز، وإنما هوية أغلبية مهيمنة. هو ذا ما يسميه تايلور (العمى عن الاختلافات). وإن مبدأ (الاعتراف) -الاعتراف بكل إنسان بقطع النظر عن أصوله - ليقود –بالضد- إلى المطالبة بمبدأ (الأصالة)؛ أي إلى المطالبة بأحقية كل فرد، وجماعة، بحفظ اختلافه وتميزه وهويته. بناء على أن (سياسة الاختلاف) إنما بنيت على مبدأ أن لكل إنسان الحق في تشكيل هويته وتحديدها بوصفه فردا وبوصفه ثقافة. والأمر يعرض على هذا النحو: (ما هو متضمن اليوم في مطلب الاعتراف إنما هو مبدأ مساواة كونية شاملة، وإن سياسة الاختلاف لتدين كل أشكال الميز ولترفض كل مواطنة من الدرجة الثانية. مما يجعل من مبدأ المساواة الكونية مدخلا إلى سياسة الكرامة. لكن، عندما نجد أنفسنا في خضم هذه السياسة فإن المطالب (مطالب التميز) يصعب توفيقها مع هذه السياسة. ذلك أن سياسة الكرامة تتطلب بالفعل الاعتراف والإقرار بمنزلة مخصوصة لميزة غير مشتركة بين المواطنين أجمعين وغير معترف بها على جهة الكونية (ميزة خاصة)؛ بمعنى آخر ليس يتم الاعتراف المشروع إلا لأمر حاضر -لكل هويته- وذلك بالاعتراف بما لكل فرد. إن المطلب الكوني ليعصف بالاعتراف بالخصوصية)(21). بهذا نصير أمام أمر مفارق: بينما (سياسة الكرامة البشرية) التي ناضلت من أجل أشكال عدم التمييز تعمى عن أشكال الاختلاف بين المواطنين، فإن (سياسة الاختلاف) تشكك في مفهوم (عدم التمييز) بين المواطنين هذا، وترى أنه هو نفسه مبدأ تمييزي يلغي اختلاف المواطنين. فهو نفسه أساس التمييز. وما جاء لأجل إلغاء التمييز صار هو عينه -ويالسخرية الأقدار!- مبدأ للتمييز. ها هنا نلفي أنفسنا أمام مفارقة صارخة: قد تولدت السياسة الثانية -سياسة الاختلاف- عن سياسة الكرامة، لكن صارت وكأنها تولد المختلف -هوية خاصة- عن المؤتلف -حقوق مشتركة شاملة كونية! من هنا دخول هاتين السياستين -(سياسة الكرامة) و(سياسة الاختلاف)- القائمتين على مبدأ (الاحترام) في تصادم. بالنسبة إلى الأولى، فإن مبدأ (الاحترام للجميع) يتضمن أن نعامل الكل على قدم المساواة، وقد عمينا عن كل الاختلافات؛ أما بالنسبة إلى الثانية، فإنه ينبغي الاعتراف بالخصوصية، بل وتشجيعها. وإن ما تعيبه الأولى على الثانية لهو أنها تخرق مبدأ (عدم التمييز). وإن ما نعيبه الثانية على الأولى لهو إنكار كل هوية وذلك بفرض قالب نمطي على كل الناس ليس يناسبهم(22).
أكثر من هذا، يطرح هذا الأمر تفكيك الفكرة الليبرالية ذاتها بوصفها تعمى عن الاختلافات وتفرض التنميطات. وإن أنصار ضروب (سياسية الاختلاف) الأشد راديكالية -شأن بعض النزعات النسوية مثلا-لتذهب إلى حد اعتبار أن (الليبراليات العمياء) إنما هي نفسها انعكاس لثقافات خاصة. فكيف للخاص أن يمنع الخاص؟ أَوَ ليست الليبرالية هنا -وهي الخصوصية- تتقنع خلف مبدأ كوني؟
وموقف تايلور أنه وإن هو أقر بنقص هذا الضرب من الليبرالية، فإنه لا يذهب إلى حد تبني النقد الراديكالي. فهو يعتبر أنه توجد حقا سياسة احترام متكافئ يصفها بأنها (غير مضيافة)؛ أي غير متسامحة مع الاختلافات وغير رافدة للاختلافات؛ لأنَّها تقوم على تطبيق حرفي للقواعد التي تحدد حقوق الناس، بلا استثناء، ولأنها شديدة الحذر من كل مقاصد جماعية. وبالطبع يقر أن هذه السياسة ليست تسعى –بالقصد- إلى إلغاء الاختلافات الثقافية: فهذه تهمة محالة. وإنما يكتفي بتوسيمها بأنها (غير مضيافة للاختلافات)؛ أي ليست تستضيف التباينات (الثقافية) بين المواطنين. وذلك لأنها لا يمكنها أن تقبل بما يطمح إليه أعضاء الجماعات المتباينة: أن تبقى الجماعة فلا تفنى.
لكن لحسن الحظ توجد أنحاء أخرى للمجتمعات الليبرالية أكثر مضيافية تقبل ببعض الحقوق الثقافية أو تقول بمبدأ (التعدد الثقافي). هناك إذن شكلان لليبرالية: الشكل الأول -ما يسميه (الليبرالية الإجرائية)- منشد أيما أنشداد إلى حقوق الفرد؛ وبالتالي إلى دولة محايدة قيميا وصارمة؛ أي إلى دولة بلا مقاصد ثقافية أو دينية، بل حتى بلا أهداف جماعية مشتركة عدا الحرية الفردية والأمن الشخصي ورغد عيش وسلامة المواطنين. وثانية هي الليبرالية التي تنخرط فيها الدولة في حفظ المجتمع ككل بما فيه ثقافاته المختلفة ودياناته المتباينة، شريطة الحفاظ على حقوق المواطنين الأساسية. ولا خفاء أن تايلور يفضل الضرب الثاني من الليبرالية -وهو الشكل الذي يتوافق مع (سياسة الاعتراف) التي يدعو إليها.
أنظار ويل كيمليكا في الثقافة والحقوق الثقافية
لنثني الآن بنظر المفكر والفيلسوف الكندي ويل كيمليكا. فلقد أوقف الكتب العديدة على مناقشة أمر (التعدد الثقافي) هذا. لعل أشهرها على الإطلاق كتابه (مواطنة التعدد الثقافي)Multicultural Citizenship (1995). والذي عنده أنه ليس يمكن أن نطلب من شعوب متعددة أن تندمج في دولة متعددة القوميات من غير أن تحصل هذه الشعوب -من جهتها- على اعتراف لا مراء فيه بهويتها. فلكي تقبل الشعوب أن تندمج في إطار فيدرالية أو في إطار اندماج يضم مختلف القوميات، يلزم أن تنسج ثمة وشيجة ثقة بينها وبين الدولة الجامعة، ولا إمكان للثقة من غير اعتراف متبادل. فإذن حل المفارقة الليبرالية ليس يتأتى، عند الفيلسوف الليبرالي، إلا بتبني سياسة اعتراف بالحقوق الجماعية للشعوب. فما تكمن الليبرالية في الإقرار بالحقوق الفردية وحدها، وإنما في الحقوق الجماعية أيضا، وفي مقدمتها الحقوق الثقافية. أكثر من هذا، من حقوق الإنسان الأساسية حقه في الثقافة، بل لا وجود لحرية فردية بلا ثقافة(23). هذا مع تقدم العلم أنه يقصد بالثقافة ما يسميه (الثقافة المجتمعية). وقد أفاد به ضربا من الثقافة يمنح لأعضائه أنماط حياة ذات معنى توجه مجمل أنشطتهم في الحياة، وذلك على مستوى المجتمع والتربية والدين والاقتصاد، وسواء في المجال العمومي أو الخصوصي(24)؛ أي باختصار ثقافة لا تتعلق بالذاكرة أو بالقيم المشتركة، وإنما بالمؤسسات والممارسات المشتركة. وعنده أن الإنسان -بل الناس- أساسا مخلوق ثقافي، وأن تعلق الناس بثقافتهم واقعة ليست تكذب. إذ يشعر أغلب الأفراد في أغلب الأوقات بالرباط العميق الذي يصلهم بالثقافة التي ينتسبون إليها(25).
بناء على ما تقدم، يتحصل أنه ليس يعقل ألا تمنح دولة ليبرالية لأفرادها حق الاختيار الثقافي. إذ لا ليبرالية إلا ما كان من ليبرالية الحقوق الجماعية. على أنه يميز بين ضربين من ضروب حقوق الأقليات:ضرب أول؛ هو ضرب يتعلق بحقوق الجماعة ضد أفرادها؛ أي ضد سعي بعض أفرادها إلى التمرد على عوائدها الثقافية التقليدية. يرى كيمليكا -على هذا المستوى- أن الأمر شديد الإشكال إذا ما نحن نظرنا إليه بمنظور ليبرالي؛ وذلك لأن من شأن مثل هذه الحقوق أن تحد من الاستقلال الفردي. فلا نظرية ليبرالية حقة في حقوق الأقليات، إلا وليست تقبل، بالمبدأ، فكرة أن جماعات يمكنها شرعيا أن تحد من الحقوق المدنية والسياسية لأفرادها، وذلك بما في هذه الحقوق الحق في أن يبتعد هؤلاء الأفراد عن جماعتهم نفسها. وضرب ثان من حقوق الأقلية يتعلق هذه المرة بحقوق جماعة ما ضد المجتمع المهيمن. وهي تهدف إلى حماية الجماعة ضد آثار القرارات الخارجية (شأن القرارات الاقتصادية والسياسية التي يتخذها المجتمع المهيمن ولا تكون في صالح جماعة معينة). وعنده أن هذا الضرب من الحقوق عادة ما يقبل أن يتوافق مع مبادئ الليبرالية. أكثر من هذا، ينبغي دراسة هذه الحقوق حالة حالة بغاية تبين إمكان توافقها والمبادئ الليبرالية. ولا مساغ هنا لادعاء أن هذه الحقوق جماعية المبدأ، وبالتالي منافية لروح الليبرالية بحيث تتأدى إلى التعارض مع أقدس أقداس الليبرالية: مبدأ استقلال الفرد.
لكن، أَوَ ليست تعد هذه الحقوق الأقلية امتيازات غير مبررة؟ يجيب كيمليكا بأن رد هذا الاعتراض يقتضي منا النظر في دور الدولة. فالذين يذهبون إلى إبداء هذا الاعتراض يفترضون أن شأن الدولة أنها محايدة من الناحية القيمية، بحيث لا تحيز عرقي أو ثقافي للدولة بالمبدأ، وأن من أمر الدولة أن تتبنى، من حيث المبدأ، موقفا محايدا من الهوية العرقية والثقافية للمواطنين، من غير ما أن تشغل نفسها بمدى مقدرة الجماعات العرقية والثقافية على إدامة نفسها عير عوادي الزمان. فكما أن الأصل في الدولة الليبرالية ألا تناصر دينا بعينه، فكذلك الأصل فيها ألا تشجع ثقافة مجتمعية بذاتها. فما الذي بقي، بعد هذا، للجماعات حتى تطالب به، وقد استرضيت بهذا الحياد المبدئي، اللهم إلا أن تطالب بامتيازات غير مستحقة؟ الحال أن الكثير من الباحثين (تامير، سبينر، كيمليكا) يذهبون إلى حد التشكيك في ادعاء الدول الليبرالية الحياد العرقي والثقافي. والشاهد عندهم على ذلك تشجيع الدولة الأمريكية -نموذج الحياد بامتياز- على تعلم اللسان الإنجليزي (تعليم إجباري للأطفال في المدارس، تعليم المهاجرين (الأقل من خمسين سنة) بغاية الحصول على المواطنة الأمريكية، كما يعد هذا التعليم الإجباري شرطا للحصول على شغل في الإدارة). وذلك من أجل تشجيع (ثقافة مجتمعية) واحدة؛ أي ثقافة متركزة في مجال جغرافي معين، متمحورة على لسان واحد مستعمل استعمالا واسعا في مؤسسات عمومية أو خصوصية كثيرة (مدراس، وسائل إعلام، قضاء، اقتصاد، إدارة...). مع تقدم العلم أن إعمال مفهوم (الثقافة المجتمعية) هنا جاء بغاية توجيه النظر إلى حقيقة أنه يتضمن فكرة اللسان المشترك والمؤسسات الاجتماعية أكثر مما جاء ليوحي بالمعتقدات الدينية المشتركة والعوائد الأسرية أو طريق العيش الفردية. ولئن كانت هذه (الثقافات المجتمعية)، بداخل الديمقراطيات الحديثة والليبرالية، تعددية بالضرورة، ما دامت هي تتضمن، فضلا عن المسيحيين، مسلمين ويهودا وملاحدة... كما أنها نتاج الحقوق والحريات التي تضمن للمواطنين في الدول الليبرالية، فإنها تعددية تقوم على انسجام لساني ومؤسسي متقصد. والحال أن هذا التوحيد، وإن أثبت أحيانا ضرورته وجدواه، لا بد ظالم لبعض الجماعات. ومن ثمة ما عادت هذه الحقوق (امتيازات) وإنما هي (جبر ضرر) واقع حاصل متمكن. وبالجملة، تكون حقوق الأقلية مشروعة متى حمت حرية الأفراد داخل الجماعة، وحققت علاقات مساواة (لا هيمنة لأغلبية على أقلية ولا لأقلية على أغلبية) بين الجماعات.
بين النظرين
عادة ما أشار فيلسوفا حقوق الأقليات الثقافية هذان إلى بعض أوجه الخلاف بينهما. إذ سعى كيمليكا -بحسب ما ذهب إليه تايلور- إلى الدفاع عن ضرب من سياسة الاختلاف لا سيما في صلتها بحقوق الأهالي بكندا، في كتابه عن الليبرالية الجماعية والثقافة (1989)، لكن في إطار نظرية مبنية على أساس مبدأ الحياد الليبرالي. وذلك على الرغم من أن كيمليكا لم ينف تشكيكه في مبدأ حيادية الليبرالية، في ما بعد، وذلك في كتابه عن مواطنة التعدد الثقافي (1995). إذ بنى استدلاله بدءا من الحاجة الثقافية للجماعات -على الأقل لغة ثقافية تمكن جماعة من المواطنين من أن تتحدد وأن تحدد وأن تبحث عن تصور للحياة الطيبة -ففي بعض الظروف، ولدى بعض الساكنة التي تعاني من التمييز، فإنه يباح تخصيصها بموارد وحقوق أكثر من غيرها من الساكنة. على أن تايلور يرى أنه لئن نحن سلمنا جدلا مع كيمليكا بوجاهة هذا الطرح -أي بأحقية هذه الجماعات في تخصيصها ببعض الامتيازات التي لا توجد لدى غيرها- فإن الأمر -حقيقة- ليس يطرح في الحاضر وحال الجماعة حال ضعف اقتصادي واجتماعي -وإنما يطرح في المستقبل: هل سيتم الحفاظ لها على نفس الامتيازات؟ ذلك أن ما يهم الساكنة حقيقة هو مستقبل جماعتها أكثر من حاضرها؛ أي إمكان بقائها في المستقبل كجماعة متميزة مختلفة(26). وهو ما غاب على ذهن كيمليكا.
وبالمثل، سعى الثاني إلى تقويم فكرة تايلور. وقد رأى أن تايلور -الذي يصنف عادة ضمن مذهب أهل الجماعة- يقترب في بعض مواقفه من الحجة الليبرالية الخاصة بحقوق الأقليات. ذلك أنه يدافع عن فكرة أن من حق الناس أن يطالبوا بالاعتراف باختلافاتهم، وذلك لا ضدا على الحرية الفردية، وإنما باعتبار هذه شرط الحرية ذاتها. ولكن مع ذلك، وانطباقا مع الفكرة الجماعية، فإنه يرى أن مصلحة الجماعة في الحفاظ على ثقافتها لا يمكن أن يرد إلى مصالح الأفراد الذين يشكلونها. ومن ثمة فإن من حق الجماعة الحفاظ على عوائدها الجمعية في صلة مع حق الأفراد في اختيار أن يحفظوا تلك العوائد أم لا. ومن هناك، فإنه يعتبر أن موقف تايلور موقف يقع بين الفكرة الجماعية القديمة والحجة الليبرالية الجديدة المتعلقة بحقوق الأقليات، مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك(27).
************************
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من المغرب.
1- Lucien Febvre et al,)Evolution d'un mot et d'un groupe d'idées(in Civilisation: le mot et l’idée, Paris, la Renaissance du Livre, 1930, p. 40 sq.
2-Fernand Braudel, Grammaire des civilisations, Paris, Arthaud Flammarion, 1987, p. 37.
3- Ibid, p. 38.
4-Arnold Toynbee, la civilisation à l’épreuve, traduit de l'anglais par Renée villoteau, Paris, NRF, Gallimard, 1951, pp. 16 – 17, 167, 235, 254, 263.
5- Ibid, p. 242.
6- Ibid,)christianisme et civilisation(, p. 249.
7- Ibid, p. 259.
8- Ibid,)la civilisation à l’épreuve(, p. 174.
9-Arnold Toynbee,)ma vision de l’histoire(in la civilisation à l’épreuve, op, cit., p. 18.
10- Ibid, p. 21.
11- Ibid,)la civilisation à l’épreuve(, p, 174.
12- Ibid,)rencontres des civilisations(, p, 231-234.
13- Fernand Braudel, Grammaire des civilisations, op. cit., p. 68.
14- Ibid, p. 42.
15- Ibid, p. 66.
16-Arnold Toynbee,)christianisme et civilisation(, in la civilisation à l’épreuve, p. 254.
17-Fernand Braudel, Grammaire des civilisations, op. cit., p.
18-Michel Seymour,)le libéralisme, la politique de la reconnaissance et le cas du Québec (in comprendre les identités culturelles, revue: comprendre, n°1, 2000, Paris, Puf.
19- Ibid, p. 122.
20-Will Kymlicka,)les droits des minorités et le multiculturalisme: l'évolution du débat anglo-américain(, in comprendre, op. cit., p. 142-143.
21-Charles Taylor, Multiculturalisme: différence et démocratie, traduit de l’américain par denis-armand canal, Paris, aubier, 1994, p. 58.
22- Ibid, p. 62-63.
23-Will Kymlicka, la citoyenneté multiculturelle, Edition la découverte, coll: textes à l’appui, Paris, 2001, p. 120.
24- Ibid, p. 115.
25- Ibid, p. 134.
26-Taylor, Multiculturalisme: différence et démocratie, op. cit., note1, p. 60.
27-Kymlicka, les droits des minorités et le multiculturalisme: l'évolution du débat anglo-américain(, in comprendre, op. cit., note 3, p. 149.