- الجمعة يونيو 15, 2012 8:18 am
#51654
أحمد محمد أبو زيد
صاحب حالة الثورة،التي شهدتها المنطقة العربية، تزايد انتشار ظاهرة البلطجة Thuggery،حتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من سياسات الشارع العربي. وقد تنوعت مسميات هذه الظاهرة من دولة لأخرى. فعلي سبيل المثال،أطلق عليها النظام في مصر اسم "البلطجية". ومع تزايد الاحتجاجات في سوريا،تردد اسم"الشبيحة" ليعبر عن جماعات مسلحة معروف انتماؤها لطائفة معينة،هي الطائفة العلوية،تقوم بمهاجمة منظمة للمتظاهرين السوريين. كما تعرف هذه الجماعات في اليمن باسم"البلاطجة"(1). ولم تكن هذه الظاهرة بعيدة عن دول المغرب العربي،حيث يعرفون في الجزائر باسم"فوايو"Voyous أي الخارجون علي القانون. وفي المغرب،يعرفون باسم"شومارة"،وهي كلمة مشتقة من الكلمة الفرنسية Chaumage ،وتعني المتعطل عن العمل،وخريج الإصلاحيات والسجون(2).
وظاهرة البلطجة ليست جديدة علي الدول العربية،كما أنها ليست مرتبطة بالثورات التي نجحت في إسقاط النظم،كما هو الحال في مصر وليبيا. فعلى سبيل المثال،شهدت مصر هذه الظاهرة منذ زمن بعيد،وكانت جماعات البلطجة تعرف حينها باسم الفتوات. وقد صورهم الأديب العالمي،نجيب محفوظ،في الكثير من رواياته علي أنهم يعبرون عن ظاهرة اعتيادية ومقبولة اجتماعيا،خاصة في المناطق الشعبية والفقيرة،حيث كانوا هم من يدافعون عن حقوق الضعفاء،وينشرون الأمن والنظام داخل الحارة المصرية،دون أن ينفي ذلك الطبيعةغير القانونية وغير المشروعة لما يقومون به.
ورغم قدم ظاهرة البلطجة،فإن حالة ضعف الدولة في مراحل ما بعد الثورات،التي تمر بها بعض الدول العربية،أدت إلى تطور هذه الظاهرة ،وتكشفت عنها أبعاد لم تكن معروفة من قبل. وفي هذا الإطار،تحاول هذه الورقة تحليل الأبعاد المختلفة لظاهرة البلطجة في فترات ما بعد الثورات في المنطقة العربية،بحيث تناقش المقصود بظاهرة البلطجة،وأسبابها،ومداخل دراستها،وأبعاد تطورها،مع التركيز علي الحالة المصرية.
البلطجة.. التعريف والأنماط:
يمكن تعريف البلطجة بأنها"استخدام العنف أو الإكراه بصورةغير مشروعة من جانب أطرافغير رسمية،من أجل فرض إرادتهم علي الآخرين"(3). وتشمل البلطجة الأنشطة التي تمثل انتهاكا للقانون،مثل أعمال السرقة،والنهب،والاعتداء على الملكيات العامة. كما تشمل الأعمال المصحوبة بالاستخدام المتعمد للعنف،وبإلحاق الأذي الجسدي بالآخرين،والتي تهدف لتحقيق أغراض وأهداف خاصة بالبلطجي نفسه،أو للآخرين،مقابل عائد مادي يدفع له.
ويختلف البلطجي عن القتلة واللصوص،سواء كانوا منظمين أوغير منظمين،من حيث إن البلطجي يستخدم العنف كوسيلة وليس كغاية،فهو يقوم بتأجير نفسه لمن يدفع له للقيام بممارسة هذا العنف ضد الآخرين لتحقيقغايات محددة،أو يستغل هو نفسه هذا العنف كوسيلة لتحصيل المكاسب المادية. كما أن لجوء البلطجي للعنف أمر حتمي، وليس ظرفيا،كما هو الحال مع اللصوص.
كما تختلف جماعات البلطجة عن جماعات أخري تمارس العنف وتنتهك القانون،مثل المطاريد. فعلى سبيل المثال،انتشر في صعيد مصر جماعات المطاريد،منذ أوائل القرن العشرين،وهم عبارة عن مجموعة من الخارجين علي القانون والمطلوبين للعدالة،الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع بالاختباء في الجبال،وفي حقول قصب السكر،هربا من الشرطة. ودأبت هذه الجماعات علي مهاجمة القرى القريبة منها،والاعتداء على الأهالي،وسرقة محاصيلهم ومواشيهم،وإجبارهم على دفع إتاوات. ومن أشهر المطاريد"خط الصعيد"،وهو لقب يطلق علي أكثر المطاريد خطورة وتهديدا،ولعل أشهرهم هو محمد منصور،الذي ظهر في 1914، وطاردته الشرطة المصرية في جبال أسيوط حتي قتلته عام 1940.
وقد شهدت الدول العربية قبل ربيع الثورات وبعده أنماطا مختلفة من البلطجة. ففي بعض الدول،مثل مصر،كان يتم توظيف البلطجية من قبل النظام الحاكم لترويع وإرهاب المعارضة السياسية،ومحاربة أعداء النظام،وتنظيم المظاهرات لتأييد النظام ورجاله،وكان يتم استخدامهم في إنجاحهم في الانتخابات. وفي مقابل هذه الخدمات،كانت الأجهزة الأمنية تغض الطرف عن أنشطتهمغير المشروعة والمخالفة للقانون،مثل الابتزاز،والسرقة بالإكراه،وتجارة المخدرات،والتهريب،والقتل،وغيرها من الأنشطة الإجرامية (4).
مداخل دراسة ظاهرة البلطجة:
أصبحت الظواهر الاجتماعية تتسم بالتداخل والتعقيد،سواء علي مستوي الوحداتUnit Level أي داخل الدولة الواحدةIntra-state،أو علي مستوي النظام System Level أي في العلاقات بين الدول Inter-state وقد دفع ذلك الباحثين إلي استخدام أكثر من مدخل لدراسة تلك الظواهر،حيث أصبح لزاما استخدام أسلوب التعدد المنهجي،وهذا ينطبق علي ظاهرة البلطجة،التي تعد ظاهرة فرعية Sub- phenomenon تتفرع من ظواهر رئيسية أخرى.
ويمكن التمييز بين ثلاثة مداخل في دراسة ظاهرة البلطجة. يتمثل المدخل الأول في المدخل السياسي،ويحلل هذا المدخل جماعات البلطجة ،باعتبارها جماعات خارجة علي الشرعية،ومصدرا من مصادر عدم الاستقرار والفوضي،والخروج علي النظام،ولا يهتم بالمسببات والعوامل التي أدت إلي نشأة هذه الجماعات،أو لجوئها إلي استخدام العنف. وفي إطار هذا المدخل، يري البعض أن أسباب هذه الظاهرة مرتبطة بعدم قدرة الدولة علي توفير المتطلبات الأساسية للمواطنين،وهو ما يؤدي إلى تشكل هذه الجماعات كفاعلين غير رسميين لتلبية تلك الاحتياجات،خاصة توفير الأمن في الأحياء والمدن.
واستنادا لهذا المدخل، تنتشر هذه الظاهرة مع انتشار الفساد السياسي والإداري والقضائي داخل مؤسسات الدولة،بحيث يتراجع احترام القانون ،وتتراجع قدرة مؤسسات الدولة على تنفيذ أحكام القضاء،وهو ما يزيد من لجوء الأفراد إلى جماعات البلطجة لتعيد لهم حقوقهم،وتتولى الدفاع عنهم. ومن هنا، تصبح القوة هي معيار التعامل في الشارع،وليس القانون أو القضاء(5). وترتبط مقولات هذا المدخل بما انتهى إليه جويل مجدال في كتابه" مجتمعات قوية ودول ضعيفة.. علاقة الدولة بالمجتمع وإمكانات الدولة في العالم الثالث"،من أنماط العلاقة بين المجتمع والدولة. فتلك الأنماط ارتبطت بمستوى قوة الدولة أو ضعفها،وبالتالي مدي قدرتها علي ردع وكبح جماح الجماعات المختلفة في المجتمع،التي تميل لاستخدام العنف بصورةغير رسمية وخارجة على القانون.
فقوة الدولة،وفقا لآراء مجدال،تقاس بمدى قدرتها وهيمنتها علي نماذج السيطرة الاجتماعيةSocial Control. والتي تعني التحكم في منح الضروريات المعيشية لحياة الناس،وتشكيل قيمهم،وتوجيه سلوكهم وترشيده،وضمان تطبيق القانون واحترامه(6). فالدولة تكون قوية،حينما تكون أنماط السيطرة الاجتماعية موحدة،وخاضعة لها،وحين تمتلك إمكانيات تخطيطية،وقدرة علي صنع السياسة وتنفيذها،وقدرة على ضم كافة الطوائف المجتمعية تحت مظلة الدولة.
أما في حالة الدولة الضعيفة،فإن الدولة ومؤسساتها تكون خاضعة لقوي وتنظيمات مجتمعية،كالجماعات العرقية والقبلية،والزعامات الدينية،خاصة في حالة افتقارها إلى القدرات الكافية لتفعيل إرادتها،وفرض سيطرتها علي كافة قوي المجتمع(7). وفي ظل وجود دولة ضعيفة ومجتمع ضعيف،تنتشر ظاهرة البلطجة. فغياب الدولة،أو اهتزاز هيبتها،يؤدي إلى فقدانها السيطرة والقدرة علي إكراه المجتمع علي طاعة القانون واحترام شرعيته،وهذا يوفر تربة ملائمة لتنامي تأثير جماعات البلطجة.
ويتمثل المدخل الثاني في المدخل الاقتصادي،الذي يحلل ظاهرة البلطجة باعتبارها ناتجة عن قلة موارد الدولة،وعن الفجوة في توزيع الدخل والثروة بين الفقراء والأغنياء،وعن التفاوت الطبقي بين المواطنين. ويجادل بأن عدم قدرة الدولة علي الالتزام بتوفير الاحتياجات الأساسية العامة للمواطنين يجبرهم على انتهاج طرقغير شرعية أوغير قانونية لتلبية هذه الاحتياجات.وفي هذا السياق، تظهر بعض سلوكيات البلطجة،من قبيل الهجوم علي الممتلكات العامة والخاصة،وممارسة السرقات والنهب،من أجل توفير الاحتياجات التي عجزت مؤسسات الدولة عن توفيرها(8).
أما المدخل الثالث، فهو المدخل الاجتماعي،الذي يعد أفضل المداخل لفهم هذه الظاهرة. ويمكن التمييز في هذا المدخل بين اتجاهين رئيسيين. يعبر عن الاتجاه الأول فريق يرى أن البلطجة هي إفراز طبيعي لسيادة أجواء عدم احترام القانون،وانتهاك سيادة الدولة ومؤسساتها،فضلا عن انتهاك العقد الاجتماعي المنعقد بين الدولة والشعب،والذي بموجبه تنازل الشعب عن حقه في اللجوء للعنف والتعدي على القانون، مقابل قيام الدولة ومؤسساتها بحمايته وتوفير الخدمات العامة له،وردع الجماعات الخارجة علي القانون.
وبالتالي،فعندما تنتهك الدولة شروط وبنود هذا العقد وتتجاوزه وتتخطاه بلجوئها إلي استخدام العنف المفرط ضد المواطنين من جانب، وعندما لا تحترم القواعد والبني القانونية والتشريعية المنظمة للمجتمع من جانب آخر،فإن الدولة وتماسكها الوظيفي الداخلي يصاب بالضعف،وتبدأ هيبتها تتراجع تدريجيا في نظر المجتمع والأفراد،وهو ما يشجعهم على تحدي سلطة الدولة،وتحدي شرعية احتكارها استخدام العنف. وقد يقود ذلك تدريجيا إلي حالة سقوط الدولة أو ما يعرف بمجتمع اللادولة Stateless Society،أي المجتمع الذي لا تحكمه دولة(9).
ويعبر عن الاتجاه الثاني فريق آخر،يري أن ظهور البلطجية وكافة الجماعات الرافضة للدولةAnti-state Movements هو نتيجة حتمية لما يعرف بالاستبعاد الاجتماعي Social Exclusion. ، وبالتالي،فإن ظاهرة البلطجة هي صورة من صور الاستبعاد الاجتماعي،الذي يعني الانسحاب من الالتزام بالقواعد والقوانين المنظمة للمجتمع،وعدم الالتزام بالتسلسل الهرمي للأوضاع الاجتماعية،وللسلطوية المستقرة في المجتمع،بفعل ظروف قد تكون قاهرة،ولا يستطيع الأفراد مواجهتها(10). وهذا الوضع شهدته بعض دول أمريكا اللاتينية،مثل بوليفيا وباراجواي والإكوادور(11).
واستنادا لهذا الاتجاه،يعد الشخص مستبعدا اجتماعيا،عندما تتوافر فيه مجموعة من السمات،منها أن يكون مقيما في منطقة معينة من المجتمع، مثل المناطق العشوائية،وألا يستطيع المشاركة في الأنشطة العادية في المجتمع كباقي المواطنين،بالرغم من أنه قد تكون لديه الرغبة في المشاركة والانخراط (12). وتتألف جماعات البلطجة،كفئة مستبعدة اجتماعيا،من الأفراد الذين سقطوا من شبكة الرعاية الاجتماعيةSocially Abandon بصورة رسمية،مثل المجرمين والمسجلين الخطرين ومعتادي الإجرام.
والاستبعاد الاجتماعي ليس أمرا شخصيا،ولا يرجع لتدني القدرات الفردية فقط،بقدر ما هو حصاد بنية اجتماعية معينة تجعل الفرد غير قادر علي الاندماج في المجتمع. كما أنه ليس موقفا سياسيا أو طبقيا فقط،وليس شأن الفقراء وحدهم،أو الأغنياء فقط،وإنما هو مشكلة الجميع،ولا سبيل لتحجيمه سوي بتعظيم الاندماج،وتحقيق الاستيعاب الكامل للجميع،أي تحقيق"المواطنة الكاملة" (13).
تفسير ظاهرة البلطجة
وفي إطار المدخل الاجتماعي،تطورت ثلاث مدارس في تفسير ظاهرة البلطجة. تركز المدرسة الأولي علي المستوي الفردي،حيث تري هذه المدرسة أن البلطجية مسئولون عن استبعادهم،بسبب سلوكهم الذي لا يحترم القانون والقواعد،والمعايير الأخلاقية والسلوكية السائدة والمنظمة للحياة العامة في المجتمع،وبسبب خروجهم علي الأعراف،والتقاليد السائدة في المجتمع،بسبب استخدامهم العنف والإكراه بصورةغير شرعية،وإرهاب المواطنين وتهديدهم. وغالبا ما يلجأ أنصار هذه المدرسة إلي تنميط الرؤية نحو جماعات أو طبقات بعينها،مثل الربط بين سكان العشوائيات في مصر وظاهرة البلطجة (14). ولكن رأي هذه المدرسة يمكن الرد عليه،بأنه يمكن أن ينسحب الأفراد من المشاركة في المجتمع الأوسع كرد فعل علي المعاناة،والعداء والتحيز ضدهم،سواء لأسباب عرقية،أو طائفية،أو طبقية (15).
وتهتم المدرسة الثانية بدراسة الاتجاهات والسلوكيات النظمية Systemic،حيث تجادل هذه المدرسة بأن نمط توزيع الثروات والدخول،ونظام توفير الاحتياجات والمنافع العامة،ودور الجماعات القوية والنخبة في تدعيم أو تقويض الاندماج والاستبعاد الاجتماعي،يؤثر في حجم المستبعدين اجتماعيا (16).
أما المدرسة الثالثة، فتهتم بدراسة دور المؤسسات،وعمليات التغير الاجتماعي المتسارعة التي تمزق الأشكال التقليدية للتماسك الاجتماعي،مثل الحراك الاجتماعي والسياسي،وتغير مستوي التعليم والتطور التكنولوجي. فإذا كانت هذه العمليات تشجع وتحفز علي الاندماج الاجتماعي،من خلال تشجيعها علي المشاركة في الحياة العامة، فإنها قد تقيد الفرص المتاحة أمام بعض الأفراد والجماعات. وفي هذه الحالة،تكون كافة صور الاستبعاد الاجتماعي خارج نطاق سيطرة الأفراد، ولا يملك هؤلاء المستبعدون اجتماعيا أوغيرهم فرصة لمعالجة أو تغيير أوضاعهم. وبالتالي،فإن الأسباب التي أوجدت الاستبعاد الاجتماعي ما هي إلا انعكاس لجوانب كثيرة من طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه(17).ويعد هذا المدخل بمدارسه هو الأكثر ارتباطا بحالة الدول العربية،وفق تقدير الباحث.
تطور ظاهرة البلطجة.. حالة مصر:
إن ظاهرة البلطجة في مصر ليست مرتبطة بحالة الانفلات الأمني التي أعقبت ثورة 25 يناير،فهي ظاهرة وجدت من قبل في المجتمع المصري،وإن مرت بتحولات وتطورات كثيرة،ربما كان أكثرها وضوحا ما ارتبط بالفترة التالية علي الثورة. ورغم قدم هذه الظاهرة في مصر،فإن الدراسات التي اهتمت بدراستها وتحليلها محدودة. ومن أهم هذه الدراسات،دراسة فادية أبو شهبة،الخاصة بالخصائص العمرية والنوعية للمسجلين خطر خلال عام 2010 (18)، حيث تمثل طائفة المسجلين خطر أغلبية البلطجية في مصر.
وقد انتهت هذه الدراسة إلي أن نحو 50% من البلطجية تتراوح أعمارهم بين18 و30 سنة،وهو ما يعني أنها ظاهرة تجذب من هم في سن المراهقة والمراحل الأولي من الشباب. كما انتهت إلي أن ثلثي هؤلاء البلطجية من الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة،أي أن هناك علاقة عكسية بين درجة التعليم والميل للقيام بأعمال البلطجة. وانتهت الدراسة كذلك إلي أن النشاط الإجرامي الأساسي للعينة التي تمت دراستها هو السرقة بالإكراه بنسبة81%، ثم الإتجار بالمخدرات بنسبة 72% (19).
ويمكن رصد بعض أبعاد التطور الذي طرأ علي ظاهرة البلطجة في مصر بعد الثورة. فمن ناحية،طرأ تطور نوعي علي الأسلحة المستخدمة من قبل جماعات البلطجة. فحتي نهاية الحرب العالمية الثانية، كان السلاح الرئيسي لهذه الجماعات هو العصي أو"النبوت". بينما لوحظ خلال الأشهر التي تلت الثورة،امتلاك بعض البلطجية لأسلحة ثقيلة ومتقدمة للغاية. وقد ساعد علي ذلك انهيار النظام السياسي وجهاز الشرطة،وضعف التحكم في حدود الدولة المصرية،مما سهل عملية تهريب الأسلحة إلي داخل مصر عن طريق دول مجاورة،مثل ليبيا والسودان(20).
ومن ناحية ثانية، كانت ساحات القتال لجماعات البلطجة في السابق تقتصر علي الحارات الشعبية والأسواق،وكان الغرض من الاقتتال واستخدام العنف،خاصة في عصر الفتوات،إما استرجاع الحقوق المنهوبة،وردع الفتوات الآخرين المعتدين،أو الحفاظ علي مناطق النفوذ. وبعد ثورة يناير،امتد عمل البلطجية إلي الشوارع الرئيسية والعامة،ومن ذلك عمليات سرقة السيارات التي كانت تتم علي الطريق الدائري.كما وصلت البلطجة إلي داخل الحرم الجامعي،حيث ذكرت بعض التقارير الصحفية أن بعض الأساتذة من جامعة المنصورة استعانوا ببعض البلطجية لفض مظاهرات الطلاب داخل الحرم الجامعي،التي نظمت اعتراضا علي استمرار بعض القيادات الجامعية التي عينها النظام السابق.
من ناحية ثالثة، كانت السمة المميزة للبلطجية،خلال الفترة السابقة علي الثورة،هيغلبة أسلوب العمل الفردي واللاجماعي،كما أوضحت ذلك دراسة الدكتورة فادية أبو شهبة السابق الإشارة إليها. وبعد الثورة،بدأت أعمال البلطجة تأخذ شكلا جماعيا وأكثر تنظيمية،حيث انتشرت ظاهرة وجود زعيم للبلطجية،يتولي التخطيط لأعمال البلطجة،وأتباع له ينفذون أعمال السطو والسرقة. ومن الأمثلة علي ذلك،علي عبد الشكور الشهير بـ"خنوفة امبراطور البلطجة في القاهرة" الذي قبض عليه في أغسطس الماضي،وأيمن الطوخي في كفر الزيات الذي قتلته الشرطة في أكتوبر الماضي، وياسر الحمبولي في الأقصر،والذي تم القبض عليه.
خاتمة:
إن السبب الرئيسي وراء تزايد أعداد البلطجية في المراحل الانتقالية،واتساعها في الشارع المصري خاصة،والعربي عامة،يرجع بالأساس إلى ضعف الدولة ومؤسساتها الرسمية،وسيادة قيم عدم احترام القانون،وتآكل هيبة الدولة،وغلبة الشعور بالاستبعاد الاجتماعي علي الشعور بالاندماج في المجتمع(21). فظاهرة البلطجة هي نتيجة حتمية لما يعرف في أدبيات التنمية الدولية بالدولة الرخوة،والتي تعني الدولة التي تصدر القوانين ولا تطبقها،ليس فقط لما فيها من ثغرات،ولكن لأنه لا أحد يحترم القانون(22).
إن استمرار أوضاع عدم الاستقرار والاضطراب المجتمعي في مصر وغيرها من الدول العربية،التي تمر بمراحل مشابهة،سيسهم في استمرار هذه الظاهرة وتوسعها،علي نحو قد يهدد الأمن القومي للدولة،وربما الوجود المادي للدولة ذاتها. وقد تتطور جماعات البلطجة في المستقبل من كونها جماعة من المجرمين والمسجلين خطر إلي جماعات وأمراء حروب Warlords،أو إلي عصابات جريمة منظمة Organized Crime Gangs، لديهم من القدرات والإمكانيات التسليحية ما قد يؤهلهم لمواجهة الدولة،وربما لهزيمتها. وهذا التطور قد ينقل الصراع بين البلطجية والدولة إلي مستوي أكثر تعقيدا. فهذه الجماعات لم تعد تسعى إلى فرض سطوتها علي الشارع فقط،وإنما علي الدولة ذاتها (23). كما قد يتحول البلطجية إلي فاعل رئيسي في المجتمع،وفي العملية السياسية،بصورة قد تصل معها لأن يكونوا خصما للدولة ذاتها.
صاحب حالة الثورة،التي شهدتها المنطقة العربية، تزايد انتشار ظاهرة البلطجة Thuggery،حتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من سياسات الشارع العربي. وقد تنوعت مسميات هذه الظاهرة من دولة لأخرى. فعلي سبيل المثال،أطلق عليها النظام في مصر اسم "البلطجية". ومع تزايد الاحتجاجات في سوريا،تردد اسم"الشبيحة" ليعبر عن جماعات مسلحة معروف انتماؤها لطائفة معينة،هي الطائفة العلوية،تقوم بمهاجمة منظمة للمتظاهرين السوريين. كما تعرف هذه الجماعات في اليمن باسم"البلاطجة"(1). ولم تكن هذه الظاهرة بعيدة عن دول المغرب العربي،حيث يعرفون في الجزائر باسم"فوايو"Voyous أي الخارجون علي القانون. وفي المغرب،يعرفون باسم"شومارة"،وهي كلمة مشتقة من الكلمة الفرنسية Chaumage ،وتعني المتعطل عن العمل،وخريج الإصلاحيات والسجون(2).
وظاهرة البلطجة ليست جديدة علي الدول العربية،كما أنها ليست مرتبطة بالثورات التي نجحت في إسقاط النظم،كما هو الحال في مصر وليبيا. فعلى سبيل المثال،شهدت مصر هذه الظاهرة منذ زمن بعيد،وكانت جماعات البلطجة تعرف حينها باسم الفتوات. وقد صورهم الأديب العالمي،نجيب محفوظ،في الكثير من رواياته علي أنهم يعبرون عن ظاهرة اعتيادية ومقبولة اجتماعيا،خاصة في المناطق الشعبية والفقيرة،حيث كانوا هم من يدافعون عن حقوق الضعفاء،وينشرون الأمن والنظام داخل الحارة المصرية،دون أن ينفي ذلك الطبيعةغير القانونية وغير المشروعة لما يقومون به.
ورغم قدم ظاهرة البلطجة،فإن حالة ضعف الدولة في مراحل ما بعد الثورات،التي تمر بها بعض الدول العربية،أدت إلى تطور هذه الظاهرة ،وتكشفت عنها أبعاد لم تكن معروفة من قبل. وفي هذا الإطار،تحاول هذه الورقة تحليل الأبعاد المختلفة لظاهرة البلطجة في فترات ما بعد الثورات في المنطقة العربية،بحيث تناقش المقصود بظاهرة البلطجة،وأسبابها،ومداخل دراستها،وأبعاد تطورها،مع التركيز علي الحالة المصرية.
البلطجة.. التعريف والأنماط:
يمكن تعريف البلطجة بأنها"استخدام العنف أو الإكراه بصورةغير مشروعة من جانب أطرافغير رسمية،من أجل فرض إرادتهم علي الآخرين"(3). وتشمل البلطجة الأنشطة التي تمثل انتهاكا للقانون،مثل أعمال السرقة،والنهب،والاعتداء على الملكيات العامة. كما تشمل الأعمال المصحوبة بالاستخدام المتعمد للعنف،وبإلحاق الأذي الجسدي بالآخرين،والتي تهدف لتحقيق أغراض وأهداف خاصة بالبلطجي نفسه،أو للآخرين،مقابل عائد مادي يدفع له.
ويختلف البلطجي عن القتلة واللصوص،سواء كانوا منظمين أوغير منظمين،من حيث إن البلطجي يستخدم العنف كوسيلة وليس كغاية،فهو يقوم بتأجير نفسه لمن يدفع له للقيام بممارسة هذا العنف ضد الآخرين لتحقيقغايات محددة،أو يستغل هو نفسه هذا العنف كوسيلة لتحصيل المكاسب المادية. كما أن لجوء البلطجي للعنف أمر حتمي، وليس ظرفيا،كما هو الحال مع اللصوص.
كما تختلف جماعات البلطجة عن جماعات أخري تمارس العنف وتنتهك القانون،مثل المطاريد. فعلى سبيل المثال،انتشر في صعيد مصر جماعات المطاريد،منذ أوائل القرن العشرين،وهم عبارة عن مجموعة من الخارجين علي القانون والمطلوبين للعدالة،الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع بالاختباء في الجبال،وفي حقول قصب السكر،هربا من الشرطة. ودأبت هذه الجماعات علي مهاجمة القرى القريبة منها،والاعتداء على الأهالي،وسرقة محاصيلهم ومواشيهم،وإجبارهم على دفع إتاوات. ومن أشهر المطاريد"خط الصعيد"،وهو لقب يطلق علي أكثر المطاريد خطورة وتهديدا،ولعل أشهرهم هو محمد منصور،الذي ظهر في 1914، وطاردته الشرطة المصرية في جبال أسيوط حتي قتلته عام 1940.
وقد شهدت الدول العربية قبل ربيع الثورات وبعده أنماطا مختلفة من البلطجة. ففي بعض الدول،مثل مصر،كان يتم توظيف البلطجية من قبل النظام الحاكم لترويع وإرهاب المعارضة السياسية،ومحاربة أعداء النظام،وتنظيم المظاهرات لتأييد النظام ورجاله،وكان يتم استخدامهم في إنجاحهم في الانتخابات. وفي مقابل هذه الخدمات،كانت الأجهزة الأمنية تغض الطرف عن أنشطتهمغير المشروعة والمخالفة للقانون،مثل الابتزاز،والسرقة بالإكراه،وتجارة المخدرات،والتهريب،والقتل،وغيرها من الأنشطة الإجرامية (4).
مداخل دراسة ظاهرة البلطجة:
أصبحت الظواهر الاجتماعية تتسم بالتداخل والتعقيد،سواء علي مستوي الوحداتUnit Level أي داخل الدولة الواحدةIntra-state،أو علي مستوي النظام System Level أي في العلاقات بين الدول Inter-state وقد دفع ذلك الباحثين إلي استخدام أكثر من مدخل لدراسة تلك الظواهر،حيث أصبح لزاما استخدام أسلوب التعدد المنهجي،وهذا ينطبق علي ظاهرة البلطجة،التي تعد ظاهرة فرعية Sub- phenomenon تتفرع من ظواهر رئيسية أخرى.
ويمكن التمييز بين ثلاثة مداخل في دراسة ظاهرة البلطجة. يتمثل المدخل الأول في المدخل السياسي،ويحلل هذا المدخل جماعات البلطجة ،باعتبارها جماعات خارجة علي الشرعية،ومصدرا من مصادر عدم الاستقرار والفوضي،والخروج علي النظام،ولا يهتم بالمسببات والعوامل التي أدت إلي نشأة هذه الجماعات،أو لجوئها إلي استخدام العنف. وفي إطار هذا المدخل، يري البعض أن أسباب هذه الظاهرة مرتبطة بعدم قدرة الدولة علي توفير المتطلبات الأساسية للمواطنين،وهو ما يؤدي إلى تشكل هذه الجماعات كفاعلين غير رسميين لتلبية تلك الاحتياجات،خاصة توفير الأمن في الأحياء والمدن.
واستنادا لهذا المدخل، تنتشر هذه الظاهرة مع انتشار الفساد السياسي والإداري والقضائي داخل مؤسسات الدولة،بحيث يتراجع احترام القانون ،وتتراجع قدرة مؤسسات الدولة على تنفيذ أحكام القضاء،وهو ما يزيد من لجوء الأفراد إلى جماعات البلطجة لتعيد لهم حقوقهم،وتتولى الدفاع عنهم. ومن هنا، تصبح القوة هي معيار التعامل في الشارع،وليس القانون أو القضاء(5). وترتبط مقولات هذا المدخل بما انتهى إليه جويل مجدال في كتابه" مجتمعات قوية ودول ضعيفة.. علاقة الدولة بالمجتمع وإمكانات الدولة في العالم الثالث"،من أنماط العلاقة بين المجتمع والدولة. فتلك الأنماط ارتبطت بمستوى قوة الدولة أو ضعفها،وبالتالي مدي قدرتها علي ردع وكبح جماح الجماعات المختلفة في المجتمع،التي تميل لاستخدام العنف بصورةغير رسمية وخارجة على القانون.
فقوة الدولة،وفقا لآراء مجدال،تقاس بمدى قدرتها وهيمنتها علي نماذج السيطرة الاجتماعيةSocial Control. والتي تعني التحكم في منح الضروريات المعيشية لحياة الناس،وتشكيل قيمهم،وتوجيه سلوكهم وترشيده،وضمان تطبيق القانون واحترامه(6). فالدولة تكون قوية،حينما تكون أنماط السيطرة الاجتماعية موحدة،وخاضعة لها،وحين تمتلك إمكانيات تخطيطية،وقدرة علي صنع السياسة وتنفيذها،وقدرة على ضم كافة الطوائف المجتمعية تحت مظلة الدولة.
أما في حالة الدولة الضعيفة،فإن الدولة ومؤسساتها تكون خاضعة لقوي وتنظيمات مجتمعية،كالجماعات العرقية والقبلية،والزعامات الدينية،خاصة في حالة افتقارها إلى القدرات الكافية لتفعيل إرادتها،وفرض سيطرتها علي كافة قوي المجتمع(7). وفي ظل وجود دولة ضعيفة ومجتمع ضعيف،تنتشر ظاهرة البلطجة. فغياب الدولة،أو اهتزاز هيبتها،يؤدي إلى فقدانها السيطرة والقدرة علي إكراه المجتمع علي طاعة القانون واحترام شرعيته،وهذا يوفر تربة ملائمة لتنامي تأثير جماعات البلطجة.
ويتمثل المدخل الثاني في المدخل الاقتصادي،الذي يحلل ظاهرة البلطجة باعتبارها ناتجة عن قلة موارد الدولة،وعن الفجوة في توزيع الدخل والثروة بين الفقراء والأغنياء،وعن التفاوت الطبقي بين المواطنين. ويجادل بأن عدم قدرة الدولة علي الالتزام بتوفير الاحتياجات الأساسية العامة للمواطنين يجبرهم على انتهاج طرقغير شرعية أوغير قانونية لتلبية هذه الاحتياجات.وفي هذا السياق، تظهر بعض سلوكيات البلطجة،من قبيل الهجوم علي الممتلكات العامة والخاصة،وممارسة السرقات والنهب،من أجل توفير الاحتياجات التي عجزت مؤسسات الدولة عن توفيرها(8).
أما المدخل الثالث، فهو المدخل الاجتماعي،الذي يعد أفضل المداخل لفهم هذه الظاهرة. ويمكن التمييز في هذا المدخل بين اتجاهين رئيسيين. يعبر عن الاتجاه الأول فريق يرى أن البلطجة هي إفراز طبيعي لسيادة أجواء عدم احترام القانون،وانتهاك سيادة الدولة ومؤسساتها،فضلا عن انتهاك العقد الاجتماعي المنعقد بين الدولة والشعب،والذي بموجبه تنازل الشعب عن حقه في اللجوء للعنف والتعدي على القانون، مقابل قيام الدولة ومؤسساتها بحمايته وتوفير الخدمات العامة له،وردع الجماعات الخارجة علي القانون.
وبالتالي،فعندما تنتهك الدولة شروط وبنود هذا العقد وتتجاوزه وتتخطاه بلجوئها إلي استخدام العنف المفرط ضد المواطنين من جانب، وعندما لا تحترم القواعد والبني القانونية والتشريعية المنظمة للمجتمع من جانب آخر،فإن الدولة وتماسكها الوظيفي الداخلي يصاب بالضعف،وتبدأ هيبتها تتراجع تدريجيا في نظر المجتمع والأفراد،وهو ما يشجعهم على تحدي سلطة الدولة،وتحدي شرعية احتكارها استخدام العنف. وقد يقود ذلك تدريجيا إلي حالة سقوط الدولة أو ما يعرف بمجتمع اللادولة Stateless Society،أي المجتمع الذي لا تحكمه دولة(9).
ويعبر عن الاتجاه الثاني فريق آخر،يري أن ظهور البلطجية وكافة الجماعات الرافضة للدولةAnti-state Movements هو نتيجة حتمية لما يعرف بالاستبعاد الاجتماعي Social Exclusion. ، وبالتالي،فإن ظاهرة البلطجة هي صورة من صور الاستبعاد الاجتماعي،الذي يعني الانسحاب من الالتزام بالقواعد والقوانين المنظمة للمجتمع،وعدم الالتزام بالتسلسل الهرمي للأوضاع الاجتماعية،وللسلطوية المستقرة في المجتمع،بفعل ظروف قد تكون قاهرة،ولا يستطيع الأفراد مواجهتها(10). وهذا الوضع شهدته بعض دول أمريكا اللاتينية،مثل بوليفيا وباراجواي والإكوادور(11).
واستنادا لهذا الاتجاه،يعد الشخص مستبعدا اجتماعيا،عندما تتوافر فيه مجموعة من السمات،منها أن يكون مقيما في منطقة معينة من المجتمع، مثل المناطق العشوائية،وألا يستطيع المشاركة في الأنشطة العادية في المجتمع كباقي المواطنين،بالرغم من أنه قد تكون لديه الرغبة في المشاركة والانخراط (12). وتتألف جماعات البلطجة،كفئة مستبعدة اجتماعيا،من الأفراد الذين سقطوا من شبكة الرعاية الاجتماعيةSocially Abandon بصورة رسمية،مثل المجرمين والمسجلين الخطرين ومعتادي الإجرام.
والاستبعاد الاجتماعي ليس أمرا شخصيا،ولا يرجع لتدني القدرات الفردية فقط،بقدر ما هو حصاد بنية اجتماعية معينة تجعل الفرد غير قادر علي الاندماج في المجتمع. كما أنه ليس موقفا سياسيا أو طبقيا فقط،وليس شأن الفقراء وحدهم،أو الأغنياء فقط،وإنما هو مشكلة الجميع،ولا سبيل لتحجيمه سوي بتعظيم الاندماج،وتحقيق الاستيعاب الكامل للجميع،أي تحقيق"المواطنة الكاملة" (13).
تفسير ظاهرة البلطجة
وفي إطار المدخل الاجتماعي،تطورت ثلاث مدارس في تفسير ظاهرة البلطجة. تركز المدرسة الأولي علي المستوي الفردي،حيث تري هذه المدرسة أن البلطجية مسئولون عن استبعادهم،بسبب سلوكهم الذي لا يحترم القانون والقواعد،والمعايير الأخلاقية والسلوكية السائدة والمنظمة للحياة العامة في المجتمع،وبسبب خروجهم علي الأعراف،والتقاليد السائدة في المجتمع،بسبب استخدامهم العنف والإكراه بصورةغير شرعية،وإرهاب المواطنين وتهديدهم. وغالبا ما يلجأ أنصار هذه المدرسة إلي تنميط الرؤية نحو جماعات أو طبقات بعينها،مثل الربط بين سكان العشوائيات في مصر وظاهرة البلطجة (14). ولكن رأي هذه المدرسة يمكن الرد عليه،بأنه يمكن أن ينسحب الأفراد من المشاركة في المجتمع الأوسع كرد فعل علي المعاناة،والعداء والتحيز ضدهم،سواء لأسباب عرقية،أو طائفية،أو طبقية (15).
وتهتم المدرسة الثانية بدراسة الاتجاهات والسلوكيات النظمية Systemic،حيث تجادل هذه المدرسة بأن نمط توزيع الثروات والدخول،ونظام توفير الاحتياجات والمنافع العامة،ودور الجماعات القوية والنخبة في تدعيم أو تقويض الاندماج والاستبعاد الاجتماعي،يؤثر في حجم المستبعدين اجتماعيا (16).
أما المدرسة الثالثة، فتهتم بدراسة دور المؤسسات،وعمليات التغير الاجتماعي المتسارعة التي تمزق الأشكال التقليدية للتماسك الاجتماعي،مثل الحراك الاجتماعي والسياسي،وتغير مستوي التعليم والتطور التكنولوجي. فإذا كانت هذه العمليات تشجع وتحفز علي الاندماج الاجتماعي،من خلال تشجيعها علي المشاركة في الحياة العامة، فإنها قد تقيد الفرص المتاحة أمام بعض الأفراد والجماعات. وفي هذه الحالة،تكون كافة صور الاستبعاد الاجتماعي خارج نطاق سيطرة الأفراد، ولا يملك هؤلاء المستبعدون اجتماعيا أوغيرهم فرصة لمعالجة أو تغيير أوضاعهم. وبالتالي،فإن الأسباب التي أوجدت الاستبعاد الاجتماعي ما هي إلا انعكاس لجوانب كثيرة من طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه(17).ويعد هذا المدخل بمدارسه هو الأكثر ارتباطا بحالة الدول العربية،وفق تقدير الباحث.
تطور ظاهرة البلطجة.. حالة مصر:
إن ظاهرة البلطجة في مصر ليست مرتبطة بحالة الانفلات الأمني التي أعقبت ثورة 25 يناير،فهي ظاهرة وجدت من قبل في المجتمع المصري،وإن مرت بتحولات وتطورات كثيرة،ربما كان أكثرها وضوحا ما ارتبط بالفترة التالية علي الثورة. ورغم قدم هذه الظاهرة في مصر،فإن الدراسات التي اهتمت بدراستها وتحليلها محدودة. ومن أهم هذه الدراسات،دراسة فادية أبو شهبة،الخاصة بالخصائص العمرية والنوعية للمسجلين خطر خلال عام 2010 (18)، حيث تمثل طائفة المسجلين خطر أغلبية البلطجية في مصر.
وقد انتهت هذه الدراسة إلي أن نحو 50% من البلطجية تتراوح أعمارهم بين18 و30 سنة،وهو ما يعني أنها ظاهرة تجذب من هم في سن المراهقة والمراحل الأولي من الشباب. كما انتهت إلي أن ثلثي هؤلاء البلطجية من الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة،أي أن هناك علاقة عكسية بين درجة التعليم والميل للقيام بأعمال البلطجة. وانتهت الدراسة كذلك إلي أن النشاط الإجرامي الأساسي للعينة التي تمت دراستها هو السرقة بالإكراه بنسبة81%، ثم الإتجار بالمخدرات بنسبة 72% (19).
ويمكن رصد بعض أبعاد التطور الذي طرأ علي ظاهرة البلطجة في مصر بعد الثورة. فمن ناحية،طرأ تطور نوعي علي الأسلحة المستخدمة من قبل جماعات البلطجة. فحتي نهاية الحرب العالمية الثانية، كان السلاح الرئيسي لهذه الجماعات هو العصي أو"النبوت". بينما لوحظ خلال الأشهر التي تلت الثورة،امتلاك بعض البلطجية لأسلحة ثقيلة ومتقدمة للغاية. وقد ساعد علي ذلك انهيار النظام السياسي وجهاز الشرطة،وضعف التحكم في حدود الدولة المصرية،مما سهل عملية تهريب الأسلحة إلي داخل مصر عن طريق دول مجاورة،مثل ليبيا والسودان(20).
ومن ناحية ثانية، كانت ساحات القتال لجماعات البلطجة في السابق تقتصر علي الحارات الشعبية والأسواق،وكان الغرض من الاقتتال واستخدام العنف،خاصة في عصر الفتوات،إما استرجاع الحقوق المنهوبة،وردع الفتوات الآخرين المعتدين،أو الحفاظ علي مناطق النفوذ. وبعد ثورة يناير،امتد عمل البلطجية إلي الشوارع الرئيسية والعامة،ومن ذلك عمليات سرقة السيارات التي كانت تتم علي الطريق الدائري.كما وصلت البلطجة إلي داخل الحرم الجامعي،حيث ذكرت بعض التقارير الصحفية أن بعض الأساتذة من جامعة المنصورة استعانوا ببعض البلطجية لفض مظاهرات الطلاب داخل الحرم الجامعي،التي نظمت اعتراضا علي استمرار بعض القيادات الجامعية التي عينها النظام السابق.
من ناحية ثالثة، كانت السمة المميزة للبلطجية،خلال الفترة السابقة علي الثورة،هيغلبة أسلوب العمل الفردي واللاجماعي،كما أوضحت ذلك دراسة الدكتورة فادية أبو شهبة السابق الإشارة إليها. وبعد الثورة،بدأت أعمال البلطجة تأخذ شكلا جماعيا وأكثر تنظيمية،حيث انتشرت ظاهرة وجود زعيم للبلطجية،يتولي التخطيط لأعمال البلطجة،وأتباع له ينفذون أعمال السطو والسرقة. ومن الأمثلة علي ذلك،علي عبد الشكور الشهير بـ"خنوفة امبراطور البلطجة في القاهرة" الذي قبض عليه في أغسطس الماضي،وأيمن الطوخي في كفر الزيات الذي قتلته الشرطة في أكتوبر الماضي، وياسر الحمبولي في الأقصر،والذي تم القبض عليه.
خاتمة:
إن السبب الرئيسي وراء تزايد أعداد البلطجية في المراحل الانتقالية،واتساعها في الشارع المصري خاصة،والعربي عامة،يرجع بالأساس إلى ضعف الدولة ومؤسساتها الرسمية،وسيادة قيم عدم احترام القانون،وتآكل هيبة الدولة،وغلبة الشعور بالاستبعاد الاجتماعي علي الشعور بالاندماج في المجتمع(21). فظاهرة البلطجة هي نتيجة حتمية لما يعرف في أدبيات التنمية الدولية بالدولة الرخوة،والتي تعني الدولة التي تصدر القوانين ولا تطبقها،ليس فقط لما فيها من ثغرات،ولكن لأنه لا أحد يحترم القانون(22).
إن استمرار أوضاع عدم الاستقرار والاضطراب المجتمعي في مصر وغيرها من الدول العربية،التي تمر بمراحل مشابهة،سيسهم في استمرار هذه الظاهرة وتوسعها،علي نحو قد يهدد الأمن القومي للدولة،وربما الوجود المادي للدولة ذاتها. وقد تتطور جماعات البلطجة في المستقبل من كونها جماعة من المجرمين والمسجلين خطر إلي جماعات وأمراء حروب Warlords،أو إلي عصابات جريمة منظمة Organized Crime Gangs، لديهم من القدرات والإمكانيات التسليحية ما قد يؤهلهم لمواجهة الدولة،وربما لهزيمتها. وهذا التطور قد ينقل الصراع بين البلطجية والدولة إلي مستوي أكثر تعقيدا. فهذه الجماعات لم تعد تسعى إلى فرض سطوتها علي الشارع فقط،وإنما علي الدولة ذاتها (23). كما قد يتحول البلطجية إلي فاعل رئيسي في المجتمع،وفي العملية السياسية،بصورة قد تصل معها لأن يكونوا خصما للدولة ذاتها.