فظائع غير قابلة للنسيان
مرسل: الخميس يونيو 28, 2012 10:28 am
فظائع.. غير قابلة للنسيان
18 عاما مرت على «الإبادة الجماعية» في رواندا.. والتاريخ يحفظ الكثير من أشكالها
واشنطن: طلحة جبريل
لم يحدث في تاريخ السياسة الاميركية على ما يحفل به هذا التاريخ من غرائب وعجائب، ان وجهت دعوة رسمية لرئيس دولة لحضور عرض فيلم سينمائي في واشنطن. لكن ذلك حدث في أواخر مايو (أيار) 2006، وكان وراء هذا الحدث الاستثنائي قضية «إبادة جماعية».
عادة ما يزور قادة الدول واشنطن للقاء رئيس البيت الابيض، ثم مسؤولين في مجلس الامن القومي، ووزارة الخارجية، او بعض الوزارات الاخرى مثل الطاقة او التجارة، ثم بأعضاء في الكونغرس الاميركي، وفي بعض الاحيان يعرجون على «نادي الصحافة» للالتقاء مع الصحافيين والمراسلين سواء كانوا اميركيين او اجانب يعملون في واشنطن.
لكن برنامج الرئيس الرواندي بول كاجمي كان استثنائياً عندما زار واشنطن في مايو 2006. فقد جاء لحضور عرض خاص لفيلم سينمائي، رفع أسهم الممثلين السود في هوليوود الى عنان السماء، وهو فيلم «فندق رواندا». قال البيت الأبيض يومئذ في بيان، انه «بمناسبة زيارة الرئيس الرواندي الى واشنطن لحضور احتفال خاص بعرض فيلم ـ فندق رواندا ـ يغتنم الرئيس جورج بوش الفرصة لاستقبال الرئيس كاجمي لبحث نزاعات القارة الافريقية وعلى رأسها نزاع دارفور».
لكن لماذا اختار البيت الابيض هذا «الاخراج» لتبرير زيارة الرئيس الرواندي الى واشنطن؟ المؤكد ان تلك واحدة من عدة مبادرات قامت بها الولايات المتحدة للاعتذار للشعب الرواندي عن التزام اميركا الصمت المطبق تجاه «المذابح الجماعية» التي حدثت في رواندا عام 1994، والاعتذار عن ما قاله الرئيس السابق بيل كلينتون تعليقاً على تلك المذابح «إذا لم تستطع حلها.. عليك تركها كما هي» على الرغم من انه اعتذر بعد ذلك للروانديين لانه لم يتدخل لوقف «الابادة الجماعية» التي وقعت في مثل هذه الايام قبل 14 عاما. وهي الحملة التي راح ضحيتها ما بين 800 ألف ومليون شخص من قبائل التوتسي والمعتدلين من قبائل الهوتو واستمرت ثلاثة أشهر عقب مقتل رئيس رواندا الذي كان ينتمي إلى قبائل الهوتو، ونفذ الابادة المتطرفون الهوتو يدعمهم الجيش الرواندي.
وقرر الرئيس بوش الاعتذار مرتين عما فعله سلفه، اولاً بدعوة الرئيس الرواندي بول كاجمي الى البيت الابيض، وثانياً لانه قرر شخصياً ان يزور العاصمة الرواندية كيغالي خلال جولته الشهر الماضي التي شملت خمس دول افريقية، ليضع باقة من الزهور قرب النصب التذكاري الذي يخلد ذكرى ضحايا «الإبادة الجماعية».
ومما أثقل الضمير الاميركي أن وثائق سرية أفرج عنها بعد فترة وجيزة من ارتكاب المذابح، كشفت النقاب عن ان الادارة الاميركية (إدارة الرئيس بيل كلينتون) كانت لديها معلومات تشير الى احتمال حدوث «إبادة جماعية»، وعلى الرغم من ذلك تمسكت باقتراح سحب القوات الاممية من رواندا. وحثت الخارجية الأميركية الأمم المتحدة على سحب قوات حفظ السلام من هناك معللة ذلك بعدم وجود مبرر كاف للاحتفاظ بالقوات الدولية في البلاد. واشارت تلك الوثائق إلى أن مسؤولا في البنتاغون كتب مذكرة بعد خمسة أيام من بدء المذابح محذرا من حمام دم جماعي يزهق مئات الآلاف من الأرواح ويمتد إلى بوروندي المجاورة إذا لم يقتنع الهوتو والتوتسي بالعودة إلى عملية السلام. ولعل من مفارقات واقعة زيارة كاجمي الى واشنطن ان الفيلم السينمائي الذي اتخذ مبرراً لاجراء محادثات في البيت الابيض، لم يعجبه. يتحدث الفيلم (فندق رواندا) عن الدور الذي لعبه مدير فندق «لاي ميل كولين» عندما تجمع في المكان عدد كبير من التوتسي (الاقلية) وبعض الهوتو المذعورين والخائفين لما يحدث من تصفيات، التي كانت تستهدف ابادة التوتسي بالدرجة الاولى، وبذل مدير الفندق وهو من الهوتو (الممثل الاسود دون شيدل) مجهودات كبيرة وحيلا لإنقاذ حياة أزيد من الف شخص من التقتيل الجماعي. وهي قصة حقيقية حدثت مع بداية المجازر.
وتحدث الرئيس الرواندي منتقدا الفيلم بشدة خلال لقاء معه في نادي الصحافة الوطني في واشنطن، وقال إنه «يهدف الى خلق بطل زائف». وكنت سألته في ذلك الوقت بعد نهاية حديثه حول ما إذا كان انتماؤه لقبائل التوتسي جعله يحكم سلباً على بطل الفيلم، فأجاب قائلا: «الفيلم حاول ان يجعل من مدير الفندق بطلاً.. وهذه ليست الحقيقة». وأضاف في تصريحاته تلك لـ»الشرق الاوسط» ان «فندق لاي ميل كولين يشكل مكاناً يرفه فيه قادة مليشيات الهوتو عن أنفسهم في المساء بعد ارتكاب المذابح في النهار وكان مدير الفندق يقدم لهم ما يحتاجونه من خدمات، خاصة ان الفندق كان تحت سيطرة ما تبقى من قوات الامم المتحدة». وقال بلهجة غاضبة وهو في طريقه خارج احدى قاعات نادي الصحافة الوطني «عليكم ان تنتبهوا لان هناك من يريد كتابة تاريخ بلادنا على هواه لكن لا يمكن أن نقبل ذلك».
يقول القانوني محمد عياط (استاذ قانون مغربي) يشارك حالياً في عضوية المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة مرتكبي جرائم «الابادة الجماعية»، ان «مذابح رواندا هي الأكثر فظاعة في التاريخ، لان غياب وسائل الاعلام أدى الى ارتكاب الكثير من البشاعات» وقال عياط الذي ما يزال يمارس مهامه في رواندا لـ«الشرق الاوسط»: «عندما تنشر وقائع المحاكمات سيتبين كل شيء».
هل كانت مذابح رواندا أكثر بشاعة من افران الغاز والمقابر الجماعية لليهود في ما يعرف بـ«الهلوكوست»، وافظع من جرائم نظام بول بوت في كمبوديا، واعمال الابادة في يوغوسلافيا السابقة التي تفككت الى ست دول (صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الاسود، وكوسوفو). تعتبر المنظمات الدولية ان أبشع عمليات إبادة خلال التسعينات هي تلك التي حدثت في رواندا، اثناء الحرب الاهلية وتتراوح التقديرات لضحاياها ما بين 800 الف الى مليون شخص قتلوا على اساس انهم ينتمون الى قبائل التوتسي او الهوتو المعتدلين في فترة لم تتجاوز عدة ايام، وبعد المذابح اتفق الجانبان في اروشا بتنزانيا، على وقف لإطلاق النار بين النظام الذي يهيمن عليه الهوتو، ومليشيات التوتسي. وبعد سيطرة التوتسي على الحكم فر آلاف من الهوتو الى زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حاليا)، وهو ما تسبب في وقوع مذابح هناك. وامتد النزاع بين الهوتو والتوتسي الى بورندي المجاورة التي ارتكبت فيها ايضاً مذابح.
واذا كانت «الابادة الجماعية» في رواندا، حصدت في فترة زمنية قصيرة جداً عددا خرافياً من البشر وبكيفية بشعة، فإن «الإبادة الجماعية» التي ما تزال تحظى بالتركيز الاعلامي على الرغم من مرور ما يقارب من سبعة عقود، هي ولا شك مذابح «الهولوكوست».
ويعتبر متحف «الهولوكوست» في واشنطن، المتحف الذي يسجل وعلى مدار السنة أكبر عدد من الزوار. وينظم المتحف انشطة خارج إطاره التاريخي، ومن ذلك انه كان وراء المظاهرات التي جرت في عدة مدن اميركية للتنديد بالمذابح التي حدثت في دارفور باعتبارها «إبادة جماعية».
ويقدر عدد اليهود الذين قتلوا من طرف النازيين خلال الحرب العالمية الثانية في حدود ستة ملايين شخص، وكانت بداية عمليات التصفية تتم في معسكرات الاعتقال التي يعمل فيها اليهود الى ان يلقوا حتفهم بسبب الإنهاك او المرض. وإضافة الى ذلك كانت هناك أفران الغاز لإعدام اليهود، او عمليات القتل الجماعي التي كانت تقوم بها وحدات خاصة ضمن الرايخ الثالث.
والمفارقة ان اوروبا التي شهدت «الهولوكست»، وانتقدت تلك الظاهرة على اعتبار انها واحدة من أكثر الفظاعات في تاريخ الانسانية، وتعاهدت على أن لا تتكرر، عادت لتعرف عمليات «إبادة جماعية» أخرى في قلب اوروبا عندما تمزقت يوغوسلافيا السابقة عرقياً وخرجت من بين أضلعها ست دول.
بيد ان عمليات الإبادة الجماعية حدثت هناك أثارت جدلاً كبيراً إذ في الوقت الذي ترى فيه حكومة البوسنة والهرسك ان الصرب ارتكبوا مذابح تصل الى حد «الإبادة الجماعية»، في عدد من المدن من بينها «سريبرينيتشا»، التي لقي فيها اكثر من 10 الاف مسلم حتفهم، على يد الصرب، فإن بلغراد تنفي أن تكون نيتها آنذاك هي ابادة المسلمين من شرق البوسنة. وكانت الدول الاوروبية مارست ضغطاً قوياً على صربيا من أجل تسليم زعيم الحرب الصربي البوسني راتكو ملاديتش إلى محكمة جرائم الحرب في لاهاي. حيث ظل مطلوباً للعدالة بتهم تتعلق بمذابح ارتُكبت وراح ضحيتها الآلاف من الرجال والشباب المسلمين في البوسنة أثناء أحداث سيربرينيتشا عام 1995، وخلال حصار العاصمة البوسنية سراييفو. وتعتقد بعض الاطراف ان الصرب ارتكبوا مذابح كانت «تهدف» الى الإبادة الجماعية لكنها لم تكن تصل الى ذاك الحد. واعتبرت المحكمة الدولية لمحاكمة المتورطين في جرائم «إبادة جماعية» ان هناك 30 شخصاً متهمون بارتكاب جرائم «إبادة جماعية» خلال سنوات التسعينات في البوسنة وأدانت راديسلاف كرستيك الذي اعتبر انه ارتكب جرائم «إبادة جماعية»، في حين وجدت محكمة المانية ان ثلاثة أشخاص آخرين متورطون في جرائم إبادة. وكان أبرز من مثل امام المحكمة الدولية في يوغوسلافيا هو الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش الذي توفي في مارس (آذار) اثناء محاكمته، وكان قد اتهم بارتكاب جرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية، وظل يدافع عن نفسه لوحده بعد ان رفض قبول محامين الى ان مات، حيث كان يعاني ارتفاعاً في ضغط الدم.
ويعود تاريخ استعمال تعبير «إبادة جماعية» الى عام 1943، عندما ابتكره الباحث اليهودي البولوندي رافائيل لومكين، بدمج كلمتي «جنوس» الاغريقية التي تعني «جنس او قبيلة» مع كلمة «سايد» التي تعني قتل او مذبحة. ومنذ ذلك الوقت دخل هذا المصطلح في السياسة الدولية، على اعتبار انه أقصى درجات العنف الانساني.
وإذا كانت جميع حالات «الإبادة الجماعية» عبر التاريخ تمت بسبب نزاعات او خلفيات قبلية أو أثنية، فإن «الإبادة الجماعية» التي عرفتها كمبوديا، تكاد تكون هي الاستثناء، إذ انها تمت لاسباب سياسية، حيث قرر نظام «الخمير الحمر» قتل كل من يختلف معهم في الرأي، لذلك يخرجها كثيرون من تصنيف «الابادة الجماعية» ويدخلونها في إطار «البطش السياسي»، على غرار ما فعل نظام صدام حسين مع الاكراد او الشيعة في الجنوب. وعقب استيلاء الخمير الحمر بقيادة بول بوت على السلطة عام 1975 قرروا تفريغ المدن وإجبار سكانها على الانتقال الى الارياف عبر مسيرات إجبارية للعمل في مشاريع زراعية. وبموازاة ذلك قرروا الاستغناء عن الادوية التي تصنع في «الغرب الامبريالي»، وهو ما أدى الى موت مئات الآلاف نتيجة المجاعة وانتشار الاوبئة والأمراض وانعدام العلاج. ويقدر عدد الذين قتلوا في «الإبادة الجماعية» ما بين مليون الى ثلاثة مليون شخص، في حين فر مئات الآلاف الى تايلند المجاورة.
وفي عام 1978 اضطرت فيتنام لاجتياح كمبوديا لايقاف عملية «إبادة جماعية»، ضد الفيتناميين وأولئك الذين يتحدرون من أصول فيتنامية، واستمر القتال دائراً بين الفيتناميين والخمير الحمر حتى توقيع اتفاقية السلام عام 1989.
وبعد ان طوى العالم حقبة الثمانينات والتسعينات التي عرفت «إبادة جماعية» والتي ارتبطت بتشكيل محاكم جنائية دولية، ساد انطباع مع بداية القرن الجديد ان موضوع «الابادات الجماعية» انتهى، لكن دون مقدمات إنفجرت إقليم دارفور اشتعلت الحرب عام 2003 بين حكومة الخرطوم وحركات مسلحة تطالب «وضع حد لتهميش» الاقليم الذي يقع في غرب البلاد، وبعد فترة وجيزة راحت الاحاديث تترى حول وجود مذابح جماعية وإحراق بلدات وقرى بأكملها. وأصبحت الاحاديث لدى بعض الدوائر الاميركية يقيناً، ثم استعملت واشنطن ولاول مرة تعبير «إبادة جماعية» لوصف ما تقوم بها حكومة الخرطوم بدعم من مليشيات قبائل عربية ضد القبائل الافريقية في دارفور. ولا تزال إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش متمسكة بان ما يحدث في الإقليم السوداني الغربي بانه «إبادة جماعية»، كما ان مجموعات يهودية أميركية ناشطة وتتمتع بنفوذ واسع ترى الشيء نفسه. وهناك ثلاث وجهات نظر حول موضوع» الابادة الجماعية». الرواية الاولى تقول بها بعض المصادر المحايدة في دارفور، وهي ليست مع الحكومة ولا تساند الحركات المسلحة، هذه المصادر تقول إن الحكومة مارست تقتيلاً متعمداً ضد قبيلتي «الزغاوة» و«الفور» اللتين تشكلان عماد الحركات المسلحة.
الرواية الثانية يقول بها مني اركو مناوي مساعد الرئيس السوداني رئيس «حركة تحرير السودان»، إذ عندما سألته «الشرق الاوسط» حول ما إذا كان يعتقد بوجود مذابح جماعية، ابان عمله كقائد ميداني، قال «لست قانونياً حتى أقول بوجود او عدم وجود إبادة جماعية، لكن المؤكد ان هناك قرى احرقت بالكامل وأناسا اضطروا الى الفرار من منازلهم وعددا كبيرا من اللاجئين والنازحين».
اما وجهة النظر الثالثة، وهي لمسؤولة افريقيا في منظمة «رايتس واتش»، جوليت قانقا التي قالت لـ«الشرق الاوسط»، ان «التعريف الذي نعتمده في المنظمة للإبادة الجماعية تعني» قتل او إيذاء او منع تكاثر او نقل أطفال الى مجموعة قومية او اثنية او عنصرية او دينية، وأن يكون هناك قرار اتخذ لهذا الغرض». وقالت قانقا إن ما حدث ويحدث في دارفور، ليس عملية إبادة، لكنه يندرج في سياق أعمال العنف والتقتيل. وسواء كانت الحرب «إبادة جماعية» أو «تقتيلاً» فالمؤكد ان اعمال العنف والحروب لم تقدم حلاً لأية مشكلة في التاريخ.
18 عاما مرت على «الإبادة الجماعية» في رواندا.. والتاريخ يحفظ الكثير من أشكالها
واشنطن: طلحة جبريل
لم يحدث في تاريخ السياسة الاميركية على ما يحفل به هذا التاريخ من غرائب وعجائب، ان وجهت دعوة رسمية لرئيس دولة لحضور عرض فيلم سينمائي في واشنطن. لكن ذلك حدث في أواخر مايو (أيار) 2006، وكان وراء هذا الحدث الاستثنائي قضية «إبادة جماعية».
عادة ما يزور قادة الدول واشنطن للقاء رئيس البيت الابيض، ثم مسؤولين في مجلس الامن القومي، ووزارة الخارجية، او بعض الوزارات الاخرى مثل الطاقة او التجارة، ثم بأعضاء في الكونغرس الاميركي، وفي بعض الاحيان يعرجون على «نادي الصحافة» للالتقاء مع الصحافيين والمراسلين سواء كانوا اميركيين او اجانب يعملون في واشنطن.
لكن برنامج الرئيس الرواندي بول كاجمي كان استثنائياً عندما زار واشنطن في مايو 2006. فقد جاء لحضور عرض خاص لفيلم سينمائي، رفع أسهم الممثلين السود في هوليوود الى عنان السماء، وهو فيلم «فندق رواندا». قال البيت الأبيض يومئذ في بيان، انه «بمناسبة زيارة الرئيس الرواندي الى واشنطن لحضور احتفال خاص بعرض فيلم ـ فندق رواندا ـ يغتنم الرئيس جورج بوش الفرصة لاستقبال الرئيس كاجمي لبحث نزاعات القارة الافريقية وعلى رأسها نزاع دارفور».
لكن لماذا اختار البيت الابيض هذا «الاخراج» لتبرير زيارة الرئيس الرواندي الى واشنطن؟ المؤكد ان تلك واحدة من عدة مبادرات قامت بها الولايات المتحدة للاعتذار للشعب الرواندي عن التزام اميركا الصمت المطبق تجاه «المذابح الجماعية» التي حدثت في رواندا عام 1994، والاعتذار عن ما قاله الرئيس السابق بيل كلينتون تعليقاً على تلك المذابح «إذا لم تستطع حلها.. عليك تركها كما هي» على الرغم من انه اعتذر بعد ذلك للروانديين لانه لم يتدخل لوقف «الابادة الجماعية» التي وقعت في مثل هذه الايام قبل 14 عاما. وهي الحملة التي راح ضحيتها ما بين 800 ألف ومليون شخص من قبائل التوتسي والمعتدلين من قبائل الهوتو واستمرت ثلاثة أشهر عقب مقتل رئيس رواندا الذي كان ينتمي إلى قبائل الهوتو، ونفذ الابادة المتطرفون الهوتو يدعمهم الجيش الرواندي.
وقرر الرئيس بوش الاعتذار مرتين عما فعله سلفه، اولاً بدعوة الرئيس الرواندي بول كاجمي الى البيت الابيض، وثانياً لانه قرر شخصياً ان يزور العاصمة الرواندية كيغالي خلال جولته الشهر الماضي التي شملت خمس دول افريقية، ليضع باقة من الزهور قرب النصب التذكاري الذي يخلد ذكرى ضحايا «الإبادة الجماعية».
ومما أثقل الضمير الاميركي أن وثائق سرية أفرج عنها بعد فترة وجيزة من ارتكاب المذابح، كشفت النقاب عن ان الادارة الاميركية (إدارة الرئيس بيل كلينتون) كانت لديها معلومات تشير الى احتمال حدوث «إبادة جماعية»، وعلى الرغم من ذلك تمسكت باقتراح سحب القوات الاممية من رواندا. وحثت الخارجية الأميركية الأمم المتحدة على سحب قوات حفظ السلام من هناك معللة ذلك بعدم وجود مبرر كاف للاحتفاظ بالقوات الدولية في البلاد. واشارت تلك الوثائق إلى أن مسؤولا في البنتاغون كتب مذكرة بعد خمسة أيام من بدء المذابح محذرا من حمام دم جماعي يزهق مئات الآلاف من الأرواح ويمتد إلى بوروندي المجاورة إذا لم يقتنع الهوتو والتوتسي بالعودة إلى عملية السلام. ولعل من مفارقات واقعة زيارة كاجمي الى واشنطن ان الفيلم السينمائي الذي اتخذ مبرراً لاجراء محادثات في البيت الابيض، لم يعجبه. يتحدث الفيلم (فندق رواندا) عن الدور الذي لعبه مدير فندق «لاي ميل كولين» عندما تجمع في المكان عدد كبير من التوتسي (الاقلية) وبعض الهوتو المذعورين والخائفين لما يحدث من تصفيات، التي كانت تستهدف ابادة التوتسي بالدرجة الاولى، وبذل مدير الفندق وهو من الهوتو (الممثل الاسود دون شيدل) مجهودات كبيرة وحيلا لإنقاذ حياة أزيد من الف شخص من التقتيل الجماعي. وهي قصة حقيقية حدثت مع بداية المجازر.
وتحدث الرئيس الرواندي منتقدا الفيلم بشدة خلال لقاء معه في نادي الصحافة الوطني في واشنطن، وقال إنه «يهدف الى خلق بطل زائف». وكنت سألته في ذلك الوقت بعد نهاية حديثه حول ما إذا كان انتماؤه لقبائل التوتسي جعله يحكم سلباً على بطل الفيلم، فأجاب قائلا: «الفيلم حاول ان يجعل من مدير الفندق بطلاً.. وهذه ليست الحقيقة». وأضاف في تصريحاته تلك لـ»الشرق الاوسط» ان «فندق لاي ميل كولين يشكل مكاناً يرفه فيه قادة مليشيات الهوتو عن أنفسهم في المساء بعد ارتكاب المذابح في النهار وكان مدير الفندق يقدم لهم ما يحتاجونه من خدمات، خاصة ان الفندق كان تحت سيطرة ما تبقى من قوات الامم المتحدة». وقال بلهجة غاضبة وهو في طريقه خارج احدى قاعات نادي الصحافة الوطني «عليكم ان تنتبهوا لان هناك من يريد كتابة تاريخ بلادنا على هواه لكن لا يمكن أن نقبل ذلك».
يقول القانوني محمد عياط (استاذ قانون مغربي) يشارك حالياً في عضوية المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة مرتكبي جرائم «الابادة الجماعية»، ان «مذابح رواندا هي الأكثر فظاعة في التاريخ، لان غياب وسائل الاعلام أدى الى ارتكاب الكثير من البشاعات» وقال عياط الذي ما يزال يمارس مهامه في رواندا لـ«الشرق الاوسط»: «عندما تنشر وقائع المحاكمات سيتبين كل شيء».
هل كانت مذابح رواندا أكثر بشاعة من افران الغاز والمقابر الجماعية لليهود في ما يعرف بـ«الهلوكوست»، وافظع من جرائم نظام بول بوت في كمبوديا، واعمال الابادة في يوغوسلافيا السابقة التي تفككت الى ست دول (صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الاسود، وكوسوفو). تعتبر المنظمات الدولية ان أبشع عمليات إبادة خلال التسعينات هي تلك التي حدثت في رواندا، اثناء الحرب الاهلية وتتراوح التقديرات لضحاياها ما بين 800 الف الى مليون شخص قتلوا على اساس انهم ينتمون الى قبائل التوتسي او الهوتو المعتدلين في فترة لم تتجاوز عدة ايام، وبعد المذابح اتفق الجانبان في اروشا بتنزانيا، على وقف لإطلاق النار بين النظام الذي يهيمن عليه الهوتو، ومليشيات التوتسي. وبعد سيطرة التوتسي على الحكم فر آلاف من الهوتو الى زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حاليا)، وهو ما تسبب في وقوع مذابح هناك. وامتد النزاع بين الهوتو والتوتسي الى بورندي المجاورة التي ارتكبت فيها ايضاً مذابح.
واذا كانت «الابادة الجماعية» في رواندا، حصدت في فترة زمنية قصيرة جداً عددا خرافياً من البشر وبكيفية بشعة، فإن «الإبادة الجماعية» التي ما تزال تحظى بالتركيز الاعلامي على الرغم من مرور ما يقارب من سبعة عقود، هي ولا شك مذابح «الهولوكوست».
ويعتبر متحف «الهولوكوست» في واشنطن، المتحف الذي يسجل وعلى مدار السنة أكبر عدد من الزوار. وينظم المتحف انشطة خارج إطاره التاريخي، ومن ذلك انه كان وراء المظاهرات التي جرت في عدة مدن اميركية للتنديد بالمذابح التي حدثت في دارفور باعتبارها «إبادة جماعية».
ويقدر عدد اليهود الذين قتلوا من طرف النازيين خلال الحرب العالمية الثانية في حدود ستة ملايين شخص، وكانت بداية عمليات التصفية تتم في معسكرات الاعتقال التي يعمل فيها اليهود الى ان يلقوا حتفهم بسبب الإنهاك او المرض. وإضافة الى ذلك كانت هناك أفران الغاز لإعدام اليهود، او عمليات القتل الجماعي التي كانت تقوم بها وحدات خاصة ضمن الرايخ الثالث.
والمفارقة ان اوروبا التي شهدت «الهولوكست»، وانتقدت تلك الظاهرة على اعتبار انها واحدة من أكثر الفظاعات في تاريخ الانسانية، وتعاهدت على أن لا تتكرر، عادت لتعرف عمليات «إبادة جماعية» أخرى في قلب اوروبا عندما تمزقت يوغوسلافيا السابقة عرقياً وخرجت من بين أضلعها ست دول.
بيد ان عمليات الإبادة الجماعية حدثت هناك أثارت جدلاً كبيراً إذ في الوقت الذي ترى فيه حكومة البوسنة والهرسك ان الصرب ارتكبوا مذابح تصل الى حد «الإبادة الجماعية»، في عدد من المدن من بينها «سريبرينيتشا»، التي لقي فيها اكثر من 10 الاف مسلم حتفهم، على يد الصرب، فإن بلغراد تنفي أن تكون نيتها آنذاك هي ابادة المسلمين من شرق البوسنة. وكانت الدول الاوروبية مارست ضغطاً قوياً على صربيا من أجل تسليم زعيم الحرب الصربي البوسني راتكو ملاديتش إلى محكمة جرائم الحرب في لاهاي. حيث ظل مطلوباً للعدالة بتهم تتعلق بمذابح ارتُكبت وراح ضحيتها الآلاف من الرجال والشباب المسلمين في البوسنة أثناء أحداث سيربرينيتشا عام 1995، وخلال حصار العاصمة البوسنية سراييفو. وتعتقد بعض الاطراف ان الصرب ارتكبوا مذابح كانت «تهدف» الى الإبادة الجماعية لكنها لم تكن تصل الى ذاك الحد. واعتبرت المحكمة الدولية لمحاكمة المتورطين في جرائم «إبادة جماعية» ان هناك 30 شخصاً متهمون بارتكاب جرائم «إبادة جماعية» خلال سنوات التسعينات في البوسنة وأدانت راديسلاف كرستيك الذي اعتبر انه ارتكب جرائم «إبادة جماعية»، في حين وجدت محكمة المانية ان ثلاثة أشخاص آخرين متورطون في جرائم إبادة. وكان أبرز من مثل امام المحكمة الدولية في يوغوسلافيا هو الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش الذي توفي في مارس (آذار) اثناء محاكمته، وكان قد اتهم بارتكاب جرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية، وظل يدافع عن نفسه لوحده بعد ان رفض قبول محامين الى ان مات، حيث كان يعاني ارتفاعاً في ضغط الدم.
ويعود تاريخ استعمال تعبير «إبادة جماعية» الى عام 1943، عندما ابتكره الباحث اليهودي البولوندي رافائيل لومكين، بدمج كلمتي «جنوس» الاغريقية التي تعني «جنس او قبيلة» مع كلمة «سايد» التي تعني قتل او مذبحة. ومنذ ذلك الوقت دخل هذا المصطلح في السياسة الدولية، على اعتبار انه أقصى درجات العنف الانساني.
وإذا كانت جميع حالات «الإبادة الجماعية» عبر التاريخ تمت بسبب نزاعات او خلفيات قبلية أو أثنية، فإن «الإبادة الجماعية» التي عرفتها كمبوديا، تكاد تكون هي الاستثناء، إذ انها تمت لاسباب سياسية، حيث قرر نظام «الخمير الحمر» قتل كل من يختلف معهم في الرأي، لذلك يخرجها كثيرون من تصنيف «الابادة الجماعية» ويدخلونها في إطار «البطش السياسي»، على غرار ما فعل نظام صدام حسين مع الاكراد او الشيعة في الجنوب. وعقب استيلاء الخمير الحمر بقيادة بول بوت على السلطة عام 1975 قرروا تفريغ المدن وإجبار سكانها على الانتقال الى الارياف عبر مسيرات إجبارية للعمل في مشاريع زراعية. وبموازاة ذلك قرروا الاستغناء عن الادوية التي تصنع في «الغرب الامبريالي»، وهو ما أدى الى موت مئات الآلاف نتيجة المجاعة وانتشار الاوبئة والأمراض وانعدام العلاج. ويقدر عدد الذين قتلوا في «الإبادة الجماعية» ما بين مليون الى ثلاثة مليون شخص، في حين فر مئات الآلاف الى تايلند المجاورة.
وفي عام 1978 اضطرت فيتنام لاجتياح كمبوديا لايقاف عملية «إبادة جماعية»، ضد الفيتناميين وأولئك الذين يتحدرون من أصول فيتنامية، واستمر القتال دائراً بين الفيتناميين والخمير الحمر حتى توقيع اتفاقية السلام عام 1989.
وبعد ان طوى العالم حقبة الثمانينات والتسعينات التي عرفت «إبادة جماعية» والتي ارتبطت بتشكيل محاكم جنائية دولية، ساد انطباع مع بداية القرن الجديد ان موضوع «الابادات الجماعية» انتهى، لكن دون مقدمات إنفجرت إقليم دارفور اشتعلت الحرب عام 2003 بين حكومة الخرطوم وحركات مسلحة تطالب «وضع حد لتهميش» الاقليم الذي يقع في غرب البلاد، وبعد فترة وجيزة راحت الاحاديث تترى حول وجود مذابح جماعية وإحراق بلدات وقرى بأكملها. وأصبحت الاحاديث لدى بعض الدوائر الاميركية يقيناً، ثم استعملت واشنطن ولاول مرة تعبير «إبادة جماعية» لوصف ما تقوم بها حكومة الخرطوم بدعم من مليشيات قبائل عربية ضد القبائل الافريقية في دارفور. ولا تزال إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش متمسكة بان ما يحدث في الإقليم السوداني الغربي بانه «إبادة جماعية»، كما ان مجموعات يهودية أميركية ناشطة وتتمتع بنفوذ واسع ترى الشيء نفسه. وهناك ثلاث وجهات نظر حول موضوع» الابادة الجماعية». الرواية الاولى تقول بها بعض المصادر المحايدة في دارفور، وهي ليست مع الحكومة ولا تساند الحركات المسلحة، هذه المصادر تقول إن الحكومة مارست تقتيلاً متعمداً ضد قبيلتي «الزغاوة» و«الفور» اللتين تشكلان عماد الحركات المسلحة.
الرواية الثانية يقول بها مني اركو مناوي مساعد الرئيس السوداني رئيس «حركة تحرير السودان»، إذ عندما سألته «الشرق الاوسط» حول ما إذا كان يعتقد بوجود مذابح جماعية، ابان عمله كقائد ميداني، قال «لست قانونياً حتى أقول بوجود او عدم وجود إبادة جماعية، لكن المؤكد ان هناك قرى احرقت بالكامل وأناسا اضطروا الى الفرار من منازلهم وعددا كبيرا من اللاجئين والنازحين».
اما وجهة النظر الثالثة، وهي لمسؤولة افريقيا في منظمة «رايتس واتش»، جوليت قانقا التي قالت لـ«الشرق الاوسط»، ان «التعريف الذي نعتمده في المنظمة للإبادة الجماعية تعني» قتل او إيذاء او منع تكاثر او نقل أطفال الى مجموعة قومية او اثنية او عنصرية او دينية، وأن يكون هناك قرار اتخذ لهذا الغرض». وقالت قانقا إن ما حدث ويحدث في دارفور، ليس عملية إبادة، لكنه يندرج في سياق أعمال العنف والتقتيل. وسواء كانت الحرب «إبادة جماعية» أو «تقتيلاً» فالمؤكد ان اعمال العنف والحروب لم تقدم حلاً لأية مشكلة في التاريخ.