31 03 2006, 12:14 AM #1 حضري فاهممشاهدة الملف الشخصي مشاهدة
مرسل: الأحد يوليو 01, 2012 2:05 am
عشية الانفجار المروع الذي أودى بحياة رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، ومن كان في موكبه أو قريباً منه. دعا مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد القباني إلى اجتماع موسع للمسؤولين في الطائفة السنية حضره مفتو المناطق، ورئيس وقضاة المحاكم الشرعية السنية العليا، وعدد كبير من العلماء، والوزراء، ورؤساء الوزارات السابقين. وبعد تدارس المجتمعين للحدث الأليم، وما يتصل به من قريب أو بعيد، أصدر المجتمعون البيان التالي:
"إن المسلمين السنة في لبنان الذين راعهم وصدمهم هذا الاغتيال الجائر والظالم لدولة الرئيس رفيق الحريري ومرافقيه وهو في قمة عطائه وبذله، ليشعرون أن قتل الرئيس الحريري يستهدفهم في وجودهم ودورهم وكرامتهم وهم لم يكتفوا بالاستنكار لهذه الجريمة النكراء، ولن يسكتوا عن حقهم ومطالبتهم بكشف الجناة المجرمين أياً كانوا ومعاقبتهم، وهم يعلنون أنهم قد نالهم من الضيم ما يكفي، ومن الصبر ما لم يعد يحتمل. وإنهم يضعون هذه القضية بكل خلفياتها وتداعياتها في يد الشعب اللبناني، وفي ضمير الأمة العربية والإسلامية، ويشددون على أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم الكاملة على هذا الصعيد.
الرئيس رفيق الحريري الشهيد لم يكن بالنسبة للمسلمين السنة في لبنان رجل سياسة ورجل دولة فقط؛ ولكنهم وجدوا فيه نعم الأخ والصديق والإنسان الكبير الذي وقف إلى جانبهم في أحلك الظروف وأصعبها، وآسى جراحهم، وعلَّم شبابهم وشاباتهم في أرقى الجامعات، ودافع عن حقوقهم وكرامتهم، وفضله قد عمّ الوطن بكامله، فمسيرة إعادة البناء والإعمار التي رعاها في كل لبنان تشهد له، واستعادة لبنان مكانته ودوره الحضاري على المستوى العربي والدولي إنجاز من إنجازاته الكثيرة. وخسارتنا له لا تعوض لأنها خسارة للوطن وللأمة. وسيكون غيابه مدعاة حزن وألم لهم حاضراً ومستقبلاً" .
لم يسبق – فيما أعلم – لدار الإفتاء، أو للمجلس الإسلامي السني الموسع إصدار مثل هذا البيان. فهو قد صدر في ظل احتلال قوات النظام الباطني الذي ابتلي به الشعب السوري، ومن بعده اللبناني وهذه القوات لا ترحم ولا تتسامح مع كل من يقف في وجهها، وبخاصة إذا كان هذا الذي يقف في وجهها هو أكبر مرجعية لأهل السنة في لبنان، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فقد كان البيان شديد اللهجة، قوي العبارة، غاية في الوضوح والصراحة.. وكل من يقرأه لابد وأن يفهم بأن المخاطب والمتهم هو أجهزة الأمن السورية وعملائها في لبنان.
ومن جهة ثالثة: فقد شارك في هذا الاجتماع بعض الأسماء المرتبطة بالنظام السوري، والمعارضة للرئيس المغدور رفيق الحريري، ومن بينهم رئيس الوزراء – في حينه – عمر كرامي، ووزير الدفاع عبد الرحيم مراد، ومع أن البيان مخالف لمواقفهم، فما كان بمقدورهم الاعتراض، أو الانسحاب على الأقل لأن الأجواء من حولهم ملتهبة والمشاعر متوثبة، وليس بوسعهم إلا أن يحنوا رؤوسهم أمام العاصفة، ولقد حاول رئيس الوزراء السابق عمر كرامي أن يرفع رأسه بعد الانتخابات التي تلت بيان المجلس الإسلامي، فشن هجوماً على المفتي الشيخ رشيد القباني زاعماً أنه تجاوز حدوده، وانحاز إلى فئة سياسية من السنة ضد فئة أخرى، لكن هجومه ارتد عليه والزمن تجاوزه، ولولا سمعة أبيه عبد الحميد وأخيه رشيد لما كان له أي دور سياسي.
وفي تشييع جنازة الحريري تقاطر العلماء من مختلف مناطق ومدن لبنان، وساروا مجتمعين وراء الجنازة يتقدمهم المفتي العام، وكان منظر عمائمهم ووقارهم مادة إعلامية عند مختلف وسائل الإعلام. تقدم أحد المراسلين من الشيخ القباني وطلب منه تعليقاً على هذا الحدث، فأجاب والانفعال باد على محياه: إن المستهدفين هم أهل السنة، ولن نسكت بعد الآن.. ثم كرر العبارات التي وردت في البيان الآنف الذكر.
ليس معروفاً عن الشيخ رشيد القباني، شدة الاندفاع ولا المجازفة، فما الذي دفعه وإخوانه علماء لبنان إلى الوقوف بمثل هذه القوة ضد النظام السوري الذي كان يحتل بلده، وضد عملاء هذا النظام وأعوانه من أمثال رئيس الجمهورية، وأجهزة الأمن اللبنانية. وضد كل من حزب الله وحركة أمل؟!.
في بيان المجلس الإسلامي السني الموسع وردت الفقرة التالية:
"وهم – أهل السنة – قد نالهم من الضيم ما يكفي، ومن الصبر مالم يعد يحتمل...".
وإذن فالمفتي وإخوانه من العلماء والقضاء لا يتحدثون عن جريمة اغتيال الحريري وحدها، وإن كانت هذه الجريمة قد هزتهم وآلمتهم، ووضعت حداً فاصلاً لصبرهم الذي طال أمده، وإنما يتحدثون عن تاريخ مرير من القهر والإذلال، والقتل الجماعي، واغتيالات رموزهم، فضلاً عن التهميش، وحرمانهم من أداء دورهم السياسي المُشرِّفْ الذي لم ينقطع إلا في عهد الاحتلال الباطني لبلدهم.
وفيما يلي سنعرض نماذج من هذه الأحداث المؤلمة التي عاشها المفتي وإخوانه العلماء، ويصعب جداً أن تنساها ذاكرة أحد منهم مهما كانت ضعيفة أو مثقوبة:
أولاً – اغتيال الشيخ حسن خالد: نبدأ بهذا الحدث مع أنه وقع في عام 1989 م وسبقه ثلاثة عشر عاماً حافلة بالأحداث الدامية، لأنه كان عدواناً صارخاً على دار الإفتاء، وعلى جميع علماء ودعاة لبنان، وعلى كل من ينتسب لأهل السنة والجماعة.
الشيخ حسن خالد كان يطالب بقوات ردع عربية، ومن بينها قوات سورية، وهذا عندهم ذنب لا يغتفر، أما ذنبه الآخر، فقد رفض أن يكون عميلاً لهم كغيره من كبار القوم – إلا ما شذ وندر – أجل رفض الشيخ أن يكون عميلاً لهم، لكن صلته بهم لم تنقطع، وكان يتعامل معهم بما عُرِفَ عنه من تسامح وتواضع ودماثة أخلاق.
كان الشيخ رشيد القباني وغيره من العلماء العاملين في دار الإفتاء يستمعون إلى شيخهم حسن خالد وهو يحدثهم عن التهديدات التي تصله بين الحين والآخر .. وكانوا يسمعون دوي القنابل التي تنهال على دار الإفتاء على مقربة من مكاتبهم .. وكانوا مع شيخهم رحمه الله عندما استدعى سامي الخطيب قائد قوات الردع العربية، وأطلعه على القنابل التي لم تنفجر، وما كتب عليها من عبارات تثبت بأنها سورية .. ثم انتهى هذا المشهد بتفجير سيارة شيخهم بطريقة مشابهة لحادث اغتيال رفيق الحريري.
الشيخ رشيد القباني وإخوانه العلماء العاملين في دار الإفتاء الذين كانوا لا يأمنون على أنفسهم طوال عهد الإحتلال كانوا يتساءلون:
لماذا نحن دون غيرنا من الطوائف الأخرى؟.
البطريرك صفير كان يطالب بخروج القوات السورية من لبنان، كما كان المدافع الأمين عن حقوق نصارى لبنان، ويستنكر ما يتعرضون له من اعتداءات .. وكان السوريون يقابلون شدته بليونة مصطنعة، فيدعونه إلى زيارة دمشق والالتقاء بحافظ الأسد، وكان يرد بالرفض، ويعدهم بالاستجابة لدعوتهم بعد خروج قواتهم من لبنان.
البطريرك صفير كان يعلم أنه يأوي إلى ركن شديد، فهناك خطوط حمراء رسمها الذين أذنوا لسورية بدخول لبنان، وكان بطريرك الموارنة أحد هذه الخطوط التي لا يجوز المساس بها.
أما مراجع الشيعة فقد كانوا شركاء للغزاة النصيريين في حكم لبنان، هكذا كان موسى الصدر [قبل اختفائه] وشمس الدين، وحسين فضل الله، وقبلان، وحسن نصر الله، ونبيه بري [كمسؤول سياسي]، كانوا يصولون ويجولون في كل من سورية ولبنان، وكانوا ينشرون التشيع بين أهل السنة دون حسين أو رقيب، وكان لبعضهم مراكز في "الست زينب، قرب دمشق" يتوافد عليها أنصارهم من كل مكان.
في هذا الجو المشحون صنعت بطولة حسن نصر الله على أشلاء المجاهدين أهل السنة من الفلسطينيين واللبنانيين، وهو الذي كان بالأمس عضواً في المكتب السياسي لحركة أمل صاحبة مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا.
ومما لا ينقضي منه العجب ولا الاستغراب أن لشيعة لبنان وحدهم مسؤول خاص هو ضابط المخابرات المعروف محمد ناصيف الذي يرتبط مباشرة بالرئيس حافظ الأسد، وهذا الضابط نصيري، وكان له شأن كبير داخل الحكومة النصيرية الخفية، وكان غير مسموح للمسؤول عن ملف لبنان نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام التدخل في شأن الشيعة، والتعامل معهم بالطريقة المهينة التي كان يتعامل بها مع السنة أو النصارى.
وكذلك كان المحتلون السوريون يعاملون شيخ عقل الدروز ومساعديه بكل تقدير واحترام، ولم يتعرضوا لهم بأية مساءلة أو إهانة بسبب تعاونهم مع الإسرائيليين خلال اجتياحهم للبنان عام 1982.
كان المفتي العام – السابق واللاحق – وإخوانه العلماء يرون تمييزهم دون غيرهم من الطوائف الأخرى بسوء المعاملة، وحتى من كان منهم بعيداً عن التدخل في شؤون المحتلين لم يسلم من الاغتيال، والشيخ الدكتور صبحي الصالح رحمه الله أحد الأمثلة على ذلك.
ثانياً – فتنة الأحباش: فرقة ظهرت في لبنان في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، وأطلق عليهم اللبنانيون هذه التسمية نسبة إلى شيخهم عبد الله الهرري الحبشي، ومما أذكره أن هذا الشيخ نزل دمشق الشام في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي، زاعماً أنه فر من الحبشة بعد أن بات فيها لا يأمن على نفسه بسبب اضطهاد الصليبيين الحاكمين [أيام حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي] له وتربصهم به. هل كان صادقاً فيما ادعاه أم أنه جاء لغرض آخر؟! لا أدري، لكن علماء دمشق نفروا منه بعد تعرفهم عليه واستماعهم إلى أفكاره التي يدعو إليها بشيء من الحذر .. وبعد حينٍ من الزمن وجد نفسه معزولاً منبوذاً، فالكل يحذّر منه ويبتعد عنه.. فما كان منه إلا الفرار من هذه العزلة واختيار بيروت مكان إقامته.
وجد الهرري قبولاً في أوساط بعض شباب لبنان الذين لم يحصنوا أنفسهم بالحد الأدنى من العلوم الشرعية، ولكن هذا القبول بقي محدوداً لولا تبني قوات الأمن السوري لهم، وتقديم مختلف أنواع الدعم والمساعدة لهم.
ففي ظل الاحتلال السوري الباطني للبنان سيطروا على مساجد كثيرة بالقوة، كما خططوا للسيطرة على دار الإفتاء، ورشحوا شيخهم نزار الحلبي ليكون مفتي لبنان، وكان هو الأزهري الوحيد بينهم.
كانت هذه الجماعة تقول بكفر كثير من علماء الأمة ودعاتها وجماعاتها في لبنان وفي العالمين العربي والإسلامي .. كما كانت تكفر عدداً من قدامى علماء الإسلام الذين هم موضع اعتزاز وتقدير الأمة الإسلامية .. وكانت لا تخفي تعاونها مع أجهزة أمن سورية ولبنان، وتقديم التقارير لها بغض النظر عن عقيدة ودين رجل الأمن الذي يتعاملون معه، أما أعداؤهم في لبنان فهم:
- دار الإفتاء ممثلة بالمفتي العام ومساعديه وسائر علماء أهل السنة والجماعة، وهي تطالب اليوم بالمساجد التي اغتصبوها بالقوة.
- جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي رفعت دعاوى ضدهم أمام القضاء.
- تيار المستقبل الذي يقوده سعد بن رفيق الحريري، ومن المتهمين باغتيال أبيه أحمد ومحمود عبد العال وهما من قادة هذه الفرقة.
- جمعية الفتوة الإسلامية أو الرجبيون نسبة إلى الشيخ رجـب ديب، تلميذ مفتي سورية السابق أحمد كفتارو، وهي جماعة صوفية.
- الجماعة الإسلامية، أي الإخوان المسلمون، فرع لبنان.
- كافة المجموعات السلفية. وهذا الذي ذكرته على سبيل الإجمال، أما من أراد الحصر، فهم يعادون كافة دعاة وجماعات علماء أهل السنة من غير استثناء.
وفي المقابل نذكر فيما يلي حلفاء وأعوان هذه الجماعة:
- أجهزة الأمن السورية واللبنانية.
- حلفاء سورية في لبنان: كحزب البعث، والحزب القومي السوري، وغيرهما من الأحزاب العلمانية.
- حركة أمل. وهي التي سهلت لهم دخول بيروت الغربية عندما كانت تسيطرة عليها في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي.
- يتعاونون مع الشيعة بشكل عام، بل في صفوفهم كثير منهم، ويحتلون مراكز مهمة في قيادة هذه الجماعة.
- انضم إليهم كثير من "زعران بيروت" الذين كان يستخدمهم جهاز أمن منظمة التحرير الفلسطينية مقابل رواتب شهرية، فأصبحوا عملاء لجهاز الأمن السوري.
ضج أهل السنة جميعاً من هذه الجماعة التي لا يزكيها أي عالم من علماء الأمة يعتد بعلمه وفضله لا في لبنان ولا في غيره، وتساءلوا: نحن نفهم أن يقوم النظام السوري بانقلاب عسكري، فهو يجيد هذه الصنعة، أما أن يقوم بانقلاب ديني ينسف عقائد طائفة لا ينتمي إليها، وينحي علماءها ليضع بدلاً منهم عملاء له لم يكونوا في يوم من الأيام أهل علم ودعوة .. فهذا أمر لا يجوز السكوت عنه مهما بلغت التضحيات؟!.
لم يستطع بعض الشباب قبول هذا التحدي الذي يتفاقم شره يوماً بعد آخر، فقاموا باغتيال زعيم هذه الفرقة المدعو نزار حلبي، الذي كان مرشحاً من قبل الغزاة ليكون مفتي لبنان. وكان اغتياله صفعة قوية للذين صنعوه. ففقدوا صوابهم وانطلقوا كحمر مستنفرة يعتقلون أعداداً كثيرة من الشباب الذين لا علاقة لهم بحادث الاغتيال، وفضلاً عن الاعتقالات، فقد أغلقوا معاهد ومؤسسات خيرية بشكل عشوائي.
بعد الاعتقالات، تشكلت المحكمة بسرعة فائقة .. وبعد التعذيب الذي لا يحتمل أمليت الاعترافات التي يريدها المحققون وخلاصتها: المتهمون عملاء للسودان الأصولية، وقد تدربوا على الاغتيالات في الخرطوم، واغتيال الحلبي بداية لتنفيذ مخطط لهم واسع في لبنان ... وبالسرعة نفسها التي تشكلت فيها المحكمة صدرت الأحكام التي تتراوح بين الإعدام، والسجن المؤبد أو القريب منه .. ولم تتوانى السلطة في تنفيذ الإعدامات دون أي إمهال.
وعاد السؤال مرة أخرى: لماذا لا يُحاكم، ويُعدَم بمثل هذه السرعة عملاء إسرائيل أو زعماء عصابات الموارنة، والشيعة، والدروز من أمثال: إيلي حبيقة، ووليد جنبلاط، ونبيه بري، وسمير جعجع الذين كانوا يقتلون بالجملة وبالمفرق، وقد أبادوا مخيمات وأحياء بأكملها؟!.
وهل يستطيع المحتلون الغزاة صنع فرقة حبشية مسيحية في أوساط النصارى، أو تهيئة وإعداد نزار حلبي مسيحي ليكون بديلاً للبطريرك صفير؟!.
وجوابنا: لا، لن يستطيعوا، لا في أوساط النصارى، ولا الدروز أو الشيعة، ولو استطاعوا لن يفعلوا.
نفذ مخزون الصبر عند السنة في بيروت، ثم في جميع المناطق، فخرجوا عام 1996 [أي بعد مقتل الحلبي بقليل] في مظاهرة نادرة المثال وكان يقودها كبار العلماء والدعاة، وقادة الجماعات الإسلامية، وشارك فيها من لم يسبق له أن خرج في مظاهرة.
كان المتظاهرون ينددون بالظلم والظالمين، ويستنكرون الأحكام الجائرة، ويترحمون على من تم إعدامهم، كما كانوا يهتفون ضد جماعة المشاريع الخيرية [الأحباش]، ويطالبون بالإفراج عن المعتقلين.
المفتي العام الشيخ رشيد القباني كان له موقف شجاع، فقد قام بزيارة أسر المعتقلين، وهدد بفضح ادعاءات النائب العام عدنان عضوم، مما أجبره على إطلاق سراح كثير منهم، وإقفال ملفاتهم.
وخلاصة القول: لم تكن المشكلة بين فرقة الأحباش والمجموعات السلفية، كما زعمت أجهزة الأمن، وإنما كانت بين الأحباش وأهل السنة جميعاً.
ثالثاً: أحداث الضنية: كتبت عنها في حينها، إلا أني – ومنذ وقت قريب – اطلعت على مقال نشرته مجلة الشراع اللبنانية، فاستحسنت نقله فيما يلي، لما فيه من تغطية إضافية، ولقربها (المجلة) من الحدث، وقوة صلاتها مع المسؤولين والمعارضين:
"قال أحد الهاربين الطرابلسيين من معتقلات المخابرات السورية في خريف وشتاء 1999:
ألقت المخابرات المشتركة اللبنانية السورية قنابل ومتفجرات أمام الكنائس المسيحية في طرابلس، ثم قامت بعدها بحملة اعتقالات واسعة طالت عشرات الشباب في المدينة ممن أخضع لتعذيب مهول [أكدت المعلومات وبيانات الجماعات الإسلامية المعنية في مدينة طرابلس هذه المعلومات].. وقد ذهب بعض الذين أطلق سراحهم إلى جبال منطقة الضنية، حيث اندس بينهم عدد من العاملين مع المخابرات [قيل أن واحداً على الأقل كان من جماعة الأحباش المعادية بشدة للسلفية الوهابية].. وعشية رأس السنة أول يوم من عام 2000 [وكان ذلك أثناء شهررمضـان] حصل اشتباك بين مجموعة من هؤلاء الشباب كانت في مبنى إذاعة تابعة لحركة سلفية طرابلسية لا يعرف عنها سوى الدعوة السلمية، ودورية للجيش ظهرت فجأة في المنطقة!!، جرى بعدها أخذ الضابط النقيب قائد الدورية رهينة من قبل المجموعة، وذلك بهدف الخروج من المنطقة.
يومها فاوض الضابط المجموعة التي تحتجزه وأقنعها بالاستسلام ووعدها بالأمان والعفو، نظراً لمعرفته بأنها لم تكن تنوي الاشتباك أو القتال مع الجيش .. و حين اتصل جاءه الرد من اللواء جميل السيد، والعميد ريمون عازار، ومن الرئيس إميل لحود شخصياً أوامر بالقصف المدفعي العنيف الذي طاول عشرات القرى والمزارع والحقول في المنطقة، استشهد بنتيجته عدد من المواطنين ممن كانوا في الحقول أو في منازلهم.. ثم تركز القصف على المنـزل الذي كان فيه الضابط ومحتجزيه فقتل هو ومن معه .. ومن بقي حياً مصاباً جرى الإجهاز عليه بأمر القيادة التي كانت لا تريد أي شاهد.
وقد عملت المخابرات لاحقاً على تجييش أهالي الضابط والجنود القتلى بحجة أن شباب الضنية [ذبحوا] الضابط الشهيد... هذا وتملك الجماعات الإسلامية في لندن شريط فيديو مصوراً عما حدث حقيقة!!، إضافة إلى أقوال المتهمين المعتقلين لدى المخابرات إلى اليوم، وهي موثقة لدى منظمة العفو الدولية، ولدى منظمات حقوق الإنسان في لبنان. إضافة إلى ما نقلته الصحف من وقائع المحاكمات التي جرت والتي كان عضوم بطلها ... " وأضافت الشراع:
".. وقام وزير الداخلية الياس المر باعتقال المئات من أهالي الضنية، وهو أعلن مراراً وتكراراً أنه [ضبَّ] قرى بكاملها"(1) اهـ.
وأضيف إلى مقال [الشراع] أن بعضاً من الذين اعتقلوا كانوا عازمين على توجيه ضربات للسلطة التي كانت تضطهدهم وتطاردهم، وتعتقلهم لأتفه الأسباب، لكن عدد هؤلاء كان قليلاً جداً، وكانت أجهزة الأمن تتابعهم، وتعرف مقاصدهم، وهي التي زرعت بين صفوفهم عيوناً لها. وهذه واحدة.
أما الثانية، فقد اتخذت أجهزة الأمن من هذه الأحداث التي صنعتها ذريعة لاعتقال عدد كبير من العلماء والدعاة الأبرياء الذين كانوا يحذِّرون الشباب من عواقب الطيش والتسرع.
أما الثالثة فقول وزير الداخلية: أنه – ضبَّ – قرى بكاملها، وتفوح من هذه الكلمة روح الكراهية والحقد والاحتقار، لأن كلمة [ضبّ] تستخدم في جمع الحيوانات الضالة، أو ما هو أقل من الحيوانات .. وكان بين الذين [ضبهم] وزير الداخلية وأجهزته أطفال دون سن البلوغ، ولم تكن لهم أدنى علاقة بالأحداث.
أما الرابعة، فنعود إلى السؤال إياه: لماذا أهل السنة دون غيرهم؟، فصبحي الطفيلي أمين عام حزب الله السابق قاد ثورة مسلحة في البقاع سماها "ثورة الجياع"، واشتبك هو وثواره مع كل من قوات الأمن وقوات الجيش، وأدت هذه المعارك إلى وقوع قتلى وجرحى من الطرفين .. ثم ما الذي حدث بعد ذلك؟! ... توارى عن الأنظار قليلاً تحت سمع وبصر أمن ومخابرات السوريين واللبنانيين، ثم تركوه ومن معه، فلم يعدم أحد منهم، كما أعدم المتهمون بقتل شيخ الأحباش نزار الحلبي، ولم يحكم عليهم بسنوات سجن طويلة، كما حكم على شباب الضنية. ناهيك عن التعذيب والاضطهاد.
وشتان شتان ما بين الطفيلي وشباب الضنية، فالأول زعيم شيعي كان يقود حزب الله في مرحلة مهمة من تاريخ الحزب، وله شعبية لا يستهان بها وبالأخص في بعلبك والبقاع، أما شباب الضنية فليس بينهم مرجعاً أو رمزاً من رموز أهل السنة، وكثير منهم كانوا دون سن البلوغ.
ورغم رفض الشارع السني للظلم الذي لحق بالشباب في كل من الضنية وطرابلس، ومطالبته بالإفراج عنهم ... ورغم تأييد بعض نواب النصارى في الشمال للشارع السني، فإن السلطة كانت مصرة على طغيانها، ولم يتم الأفراج عن كثير منهم إلا بموجب قرار من المجلس النيابي الجديد الذي جاء وفق انتخابات حرة بعد رحيل الغزاة، وسقوط النظام الأمني.
رابعاً: مذابح بالجملة: منذ أن وطأت أقدام الغزاة الباطنيين أرض لبنان، وحتى اغتيال رفيق الحريري، والمسلمون السنة يتعرضون لأشد أنواع الاضطهاد والتهميش والإبادة على أيدي المحتلين وحلفائهم في لبنان.
ففي الشمال اجتاحت قواتهم المخيمات الفلسطينية قرب طرابلس مثل مخيم البداوي، ومخيم نهر البارد، واشتبكت مع قوات لحركة فتح في البقاع، مما أدى إلى وقوع خسائر فادحة في أرواح المدنيين الفلسطينيين، ثم تكرر الاجتياح بعد عودة ياسر عرفات .. وامتدت هذه المعارك لتشمل طرابلس التي دخلتها القوات السورية بعد معارك طاحنة وغير متكافئة، ففي حي واحد من أحياء المدينة قُتل أكثر من سبعمائة – كما يروي أهل طرابلس - .
وقاتل إلى جانب القوات السورية الباطنية كل من مليشيا: الحزب القومي السوري الاجتماعي، وحزب البعث اللبناني، وقوات الجبهة الشعبية – القيادة العامة – التي يرأسها أحمد جبريل، وقوات الطائفة النصيرية الذين استوطنوا المدينة منذ عقود.
وفي بيروت تعرضت المخيمات لمذابح، وبعضها لإبادة كاملة: فمن مخيم الكرنتينا على يد الموارنة، إلى تل الزعتر على يد الموارنة أيضاً، وكانت القوات السورية تحرس القتلة، وتحول بين قوات منظمة التحرير وبين المشاركة في القتال لتخفيض الضغط على المخيم.
أما مخيما صبرا وشاتيلا فتعرضا لمذبحتين كبيرتين:
الأولى: على أيدي القوات اللبنانية بعد مقتل الرئيس المنتخب بشير الجميل، وكان يقود هذه القوات المجرم المحترف إيلي حبيقة، وكان لا يزال المنسق بين الموارنة والإسرائيليين.. وثبت من خلال التحقيقات أن قوات شارون الإسرائيلية هي التي أذنت للقوات اللبنانية بارتكاب هذه المجزرة الفظيعة.
الثانية: على يد القوات الشيعية – حركة أمل - ، وبعض قادة حزب الله اليوم كانوا أعضاء قياديين في حركة أمل. أما القوات السورية فقد زودت حركة أمل بأسلحة فعالة، كان من بينها أكثر من أربعين دبابة، وأثناء اجتياح قوات أمل للمخيمين كانت القوات السورية تحميها، وتمنع قوات منظمة التحرير من نجدة أطفال ونساء صبرا وشاتيلا، مثلها في ذلك كمثل حماية القوات الإسرائيلية لقوات الموارنة.
أما بيروت الغربية فقد كانت عرضة لاعتداءات ومذابح متعددة .. كان من بينها اجتياح كل من قوات الشيعة – أمل – وقوات الدروز – الحزب التقدمي الاشتراكي – لها .. واستباح المحتلون أموال وأرواح وأعراض سكان هذه المدينة السنية العريقة والمسالمة .. ومن ثم فقد هيأوا الأسباب لعودة القوات السورية إلى بيروت الغربية إثر معارك افتعلتها حركة أمل مع كل من الحزب الشيوعي، والحزب التقدمي الاشتراكي .. عادت لتكرر مقولتها في المرة الأولى إن هدفها إنهاء الحرب الأهلية وهي التي تشعل فتيلها ... لا أدري متى يفهم قومي أساليب الباطنيين ووسائلهم حتى لا ينخدعوا بهم؟!.
عادوا في المرة الثانية ليعبثوا بالمدينة، ويذلوا أهلها، ولست أعتقد أن أحداً من أهل بيروت الغربية عاش تلك الأحداث سوف ينسى ما حل بمدينته من كوارث ومحن، فكيف ينسى اغتيال المفتي الشيخ حسن خالد رحمه الله بعد هذه العودة، ولا الاعتقالات العشوائية التي طالت جميع أحياء المدينة.
خامساً – تجفيف المنابع: أنهى مؤتمر الطائف الحرب الأهلية، مع استمرار الهيمنة السورية كأمر واقع وفي أول حكومة بعد المؤتمر، اتخذت السلطة قراراً بنـزع أسلحة المليشيات، وطُبق القرار على جميع المليشيات إلا الشيعة ممثلين بحزب الله بحجة أنهم مقاومة مشروعة، وصاروا مؤسسة عسكرية تشبه الجيش، ومن يشكك بشرعيتهم فهو خائن وعميل للصهيونية. وهذه واحدة.
أما الثانية فقد أصدرت السلطة قراراً آخر بإغلاق الإذاعات والفضائيات، وكان أهل السنة أول من طبق عليهم هذا القرار، وعندما رفض شباب من أهل السنة إغلاق فضائيتهم في طرابلس، وطالبوا معاملتهم كغيرهم من الطوائف الأخرى، قامت قوات الجيش بتدمير المبنى على رؤوس المعترضين فقتل من قتل، وجرح من جرح، أما فضائية المنار الشيعية فمثلها كمثل سلاح حزب الله. لم يطبق عليها القرار، وأصبحت في نظر أصحاب القرار – السوري واللبناني – مثالاً يحتذى به في مقاومة الإسرائيليين وعملاء الاستعمار، وفي توحيد الصف الوطني .. وقد ضللت المنار الناس في الوطن العربي، وبالأخص في المغرب العربي، وأصبحت منبراً من منابر التشيع.
أما الثالثة: فالجمعيات الخيرية التي تعود ملكيتها لأهل السنة، فقد كانت تغلق لأتفه الأسباب، وإن أعياهم ذكر السبب قالوا: إنها إرهابية!! .. وحتى جمعيات رفيق الحريري الخيرية [التي كان لها فضل على كثير من أهل لبنان على مختلف طوائفهم] لم تسلم من الإجراءات التعسفية والاتهامات، واعتقال بعض الموظفين أثناء توزيع الأطعمة والأموال، وأقرب مثال على ذلك، الاعتقالات التي طالت الذين كانوا يوزعون الزيت على الفقراء، قبل مقتل الحريري بأيام قليلة، وتدخل المفتي العام من أجل الإفراج عنهم.
رئيس الوزراء لعدد من الحكومات، وصاحب الثقل اللبناني والعربي والعالمي، لم يكن حراً في توزيع زكاة أمواله!!.
أما المدارس، والمعاهد، والكليات، والمنتديات، والمكتبات، ودور النشر فكانت قيد المراقبة الصارمة، وذات مرة فتشت قوات الأمن سيارة فوجدوا فيها كتباً تتحدث عن الفرق ومنها الفرقة النصيرية في إطارها التاريخي والعقدي، وليس في إطارها السياسي المعاصر، فاعتقلت ركاب السيارة، وأغلق معهدهم، وشرد طلابه.
وبين تهمتي الإرهاب والوهابية كان أهل السنة موضع اتهام من قبل قوات الوصاية وتابعها في لبنان. وإن كنا لا ننكر أن بعض النصارى نالهم نصيبهم من البطش والتنكيل، ولكن لا مجال لمقارنتهم بأهل السنة لأن البعض الآخر منهم كان شريكاً لنظام الوصايا وحليفاً للشيعة.
وفي المقابل كان كل شيء مسموحاً به للشيعة، فقد كانوا يفتحون ما يشاؤون من مدارس، وماهد، وكليات دون حسيب ولا رقيب.. أما جمعياتهم ومؤسساتهم الخيرية وقواتهم العسكرية والأمنية، فكانت تمثل دولة داخل شبه دولة.. وكانت دور نشرهم ومكتباتهم المنتشرة في كل مكان تمد العالم بالرسائل والكتب التي يشتمون ويكفرون فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما يشتمون غير الصحابة من التابعين وتابعيهم من علماء الأمة وقادة الفتوحات الإسلامية الذين أعز الله بهم دينه.
قبل حوالي عامين فقدت الجزء الثاني من كتاب مذاهب الإسلاميين لمؤلفه الدكتور عبد الرحمن بدوي، ولعل أحد الأصدقاء استعاره، ونسي أن يعيده إلي.. وعندما أعياني البحث عمن استعار الكتاب رحت أبحث في المكتبات من أجل شراء الجزئين: الأول والثاني وبأي ثمن، فكان رد أصحاب المكتبات في عدد من البلدان العربية: الجزء الأول موجود، أما الثاني فمفقود.. وأنا حاجتي للجزء الثاني لأن الكاتب خصصه للفرق الباطنية الرافضية مثل النصيرية والإسماعيلية.. الخ، وتبين لي في نهاية البحث أن الذين يحكمون لبنان من قوات الوصايا وحلفائها الشيعة منعوا دار العلم للملايين في بيروت من إعادة طبع الجزء الثاني، مع أن الكاتب علماني لا شأن له لا بسنة ولا بشيعة.
هذا مثال واحد على ما آل إليه وضع لبنان في عهدهم .. كانوا يفعلون كل شيء، ويمنعون نشر أي بحث يتعرض لهم بالحق الذي يمقتونه.
سادساً – أجهزة الحكم: كان لبنان يحكم من قبل الأجهزة التالية:
1 – الجهاز السياسي: رئيس الجمهورية إميل لحود الرجل الأول في هذا الجهاز، ويشاركه المسؤولية آل المر [ميشيل وابنه إلياس]، وأمين عام حزب الله حسن نصر الله، ورئيس حركة أمل نبيه بري، وسليمان فرنجية، وطلال أرسلان، ووليد جنبلاط، وإيلي حبيقة قبل هلاكه.
ويأتي في المرتبة الثانية: رؤوساء الوزاراة مثل سليم الحص، ورفيق الحريري، وعمر كرامي.
2 – الجهاز الأمني: مدير الأمن العام اللواء جميل السيد وهو من الطائفة الشيعية، وقائد قوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج وهو شيعي أيضاً، ولم يسبق للشيعة أو للسنة السيطرة على هذين المنصبين، وبخاصة منصب المدير العام للأمن العام، فقد كان دائماً من نصيب الموارنة، ومدير المخابرات العسكرية العميد ريمون عازار، وكما يدل عليه من اسمه فهو نصراني. وإذن لم يكن بين قادة الجهاز الأمني مَنْ هو مِن أصول سنية، ولو كان هذا السني عميلاً لهم.
3 – الجهاز القضائي: يقف على رأسه النائب العام عدنان عضوم [منسوب لأهل السنة]، ثم أسندت إليه حقيبة وزارة العدل، ولم يحدث من قبل الجمع بين وزارة العدل والنيابة العامة، فمن كان يتولى منصب النائب العام كان يسمى "حاكم لبنان القضائي" وكان حكراً على الموارنة وحدهم دون غيرهم.
وإذن فقد كان عدنان عضوم حاكم لبنان القضائي كما كان وزيراً للعدل في حكومات لا تحترم العدل، ولا تقيم وزناً للحرية.. وهذا يعني أنه كان يتمتع بصلاحيات قريبة من صلاحيات الحاكم بأمره، ولكن ليس على جميع الطوائف، فهو بالنسبة لأهل السنة كان أشر عليهم من ألد أعدائهم.. ففي قضيتي الضنية، ومقتل الحلبي، كان هو ومساعدوه يسيرون على نهج المحققين في أقبية المخابرات السورية، ومن الأسئلة التي كانوا يواجهونها للمتهمين:
هل تؤمن بوجوب تحكيم الشريعة الإسلامية؟ وما موقفك ممن يكفر الناس؟ وهل أنت وهابي أم من جماعة القاعدة؟ ولماذا تطيل لحيتك وتقصر ثوبك؟ .. وما إلى ذلك من أسئلة.
وكان عضوم يضلل التحقيق .. ففي قضية اغتيال مروان حمادة. يقول المجني عليه: إنه "عضوم" أخفى شريط فيديو يظهر فيه مرتكب العملية .. وفي قضية اغتيال الحريري ابتدع هو وبقية أفراد العصابة في الأجهزة الأخرى أسطورة (أبو عدس)، وعندما تهاوت هذه الأسطورة اخترعوا أسطورة الحجاج الأستراليين القادمين من قرية المنية الشمالية التي كذبتها السلطات الأسترالية.
وإذا شئنا الاختصار، فأفراد العصابة الحاكمة من مختلف الأجهزة هم: إميل لحود، والمعتقلون الأربعة [السيد، والحاج، وعازار، وحمدان] وعندنا عضوم، وسليمان فرنجية.. وكان هؤلاء يرتبطون بقائد نظام الوصاية في دمشق، ومندوبه السامي في لبنان.. غير أن هذا الارتباط لا يمنعهم من الإنفراد بأمور تخدم طموحاتهم السياسية ولا تضر نظام دمشق، ومن ذلك كيدهم الدائم، وعداوة لحود التي لا تنقطع لرفيق الحريري.. فقد تتجاوز معارضة الحريري للحود الخط الأحمر، وهنا تتحرك قوات الأمن، فتطلق عدداً من الصواريخ على تلفاز المستقبل من جهة، ومن جهة أخرى يقومون باعتقال عشرات من الشباب الأصوليين [حسب زعمهم]، ويلصقون بهم هذه التهمة، وتحت التعذيب الوحشي يأخذون منهم اعترافات بالتهمة الموجهة إليهم.
الحريري قبل غيره يعرف أن هذه الفرية من صنع لحود وعصابته، وأن هؤلاء الشباب لا ذنب لهم، ولابد له من عدم تجاوز الخط الأحمر، بعد هذا الإنذار فيفعل أو يرفع الأمر لأولي الأمر في دمشق.
وأحياناً تقع العصابة في خطأ فادح، فذات مرة قام وزير الداخلية وصهر لحود إلياس المر باعتقال عشرات من الشباب بتهمة التخطيط للقيام بعمل إرهابي ضد السفارة الإيطالية، ولابد أن يكون هؤلاء الشباب دائماً من أهل السنة.
وكعادتهم مارسوا التعذيب مع المعتقلين، وكان الداعلية الإسلامية إسماعيل الخطيب من ضحايا هذا التعذيب، وما أن علم أهل بلدته بوفاته – رحمه الله – حتى انطلقت مظاهرة صاخبة انضم إليها شباب من قرى مجاورة في البقاع قرب "عنجر" مركز المخابرات السورية، وارتفعت هتافات المتظاهرين تندد بالمجرمين القتلة.
فوجئ المندوب السامي العميد رستم غزالي بالمظاهرة، وبهتافات المتظاهرين قرب مركزه الذي يرهب أهل لبنان من شماله إلى جنوبه.. وخشي من تحول المظاهرة إلى انتفاضة تعصف بعرشه.. فأخذ المسألة على عاتقه، ووعد الأهالي بفتح تحقيق، وبمعاقبة من تثبت إدانته.. والذي علمناه بعد خروج القوات السورية من لبنان أن غزالي عاقب وزير الداخلية إلياس المر لأنه تجاوز الحدود المرسومة له، وعندما حاول المر أن يقف بوجه غزالي، ويقول له: إنه كوزير للداخلية مسؤول عما حدث، توعده المندوب السامي بالقتل، وبر بوعده لولا أن المحاولة فشلت كما قال المر في تصريح له نقلته وكالات الأنباء.
* * *
وقصارى القول: فإن علماء لبنان ودعاتها رأوا وسمعوا خلال ثلاثة عقود عجاف ما تفعله الأجهزة: السياسية والأمنية والقضائية بأهل السنة والجماعة .. رأوا وسمعوا ألواناً شتى من: التدمير، والقتل العشوائي، والإبادة الجماعية، والاغتيالات..
رأوا وسمعوا أخبار الزنازين والمعتقلات التي ضاقت بها لبنان، فصاروا يزجون بالكثير الكثير من الضحايا في سجون سورية، والصحف اللبنانية اليوم تنشر ما كان يحدث في هذه المعتقلات من تعذيب وتجويع وقهر.
علماء ودعاة أهل السنة لم يعد أحد منهم آمن على نفسه.. ولا يدري متى يأتي دوره؟ وهل سيكون مصيره الاعتقال أم الاغتيال؟.
لم يعد عند علماء أهل السنة فارق كبير بين الموت والحياة، وهذا هو سر التحرر من عقدة الخوف عندهم.. وهذا الذي أملى عليهم الكلمات التالية التي وردت في بيانهم:
"إن المسلمين السنة في لبنان.. قد نالهم من الضيم ما يكفي، ومن الصبر ما لم يعد يحتمل.. وأنهم لن يسكتوا عن حقهم ومطالبتهم بكشف الجناة المجرمين أياً كانوا!! ومعاقبتهم.."
"إن المسلمين السنة في لبنان الذين راعهم وصدمهم هذا الاغتيال الجائر والظالم لدولة الرئيس رفيق الحريري ومرافقيه وهو في قمة عطائه وبذله، ليشعرون أن قتل الرئيس الحريري يستهدفهم في وجودهم ودورهم وكرامتهم وهم لم يكتفوا بالاستنكار لهذه الجريمة النكراء، ولن يسكتوا عن حقهم ومطالبتهم بكشف الجناة المجرمين أياً كانوا ومعاقبتهم، وهم يعلنون أنهم قد نالهم من الضيم ما يكفي، ومن الصبر ما لم يعد يحتمل. وإنهم يضعون هذه القضية بكل خلفياتها وتداعياتها في يد الشعب اللبناني، وفي ضمير الأمة العربية والإسلامية، ويشددون على أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم الكاملة على هذا الصعيد.
الرئيس رفيق الحريري الشهيد لم يكن بالنسبة للمسلمين السنة في لبنان رجل سياسة ورجل دولة فقط؛ ولكنهم وجدوا فيه نعم الأخ والصديق والإنسان الكبير الذي وقف إلى جانبهم في أحلك الظروف وأصعبها، وآسى جراحهم، وعلَّم شبابهم وشاباتهم في أرقى الجامعات، ودافع عن حقوقهم وكرامتهم، وفضله قد عمّ الوطن بكامله، فمسيرة إعادة البناء والإعمار التي رعاها في كل لبنان تشهد له، واستعادة لبنان مكانته ودوره الحضاري على المستوى العربي والدولي إنجاز من إنجازاته الكثيرة. وخسارتنا له لا تعوض لأنها خسارة للوطن وللأمة. وسيكون غيابه مدعاة حزن وألم لهم حاضراً ومستقبلاً" .
لم يسبق – فيما أعلم – لدار الإفتاء، أو للمجلس الإسلامي السني الموسع إصدار مثل هذا البيان. فهو قد صدر في ظل احتلال قوات النظام الباطني الذي ابتلي به الشعب السوري، ومن بعده اللبناني وهذه القوات لا ترحم ولا تتسامح مع كل من يقف في وجهها، وبخاصة إذا كان هذا الذي يقف في وجهها هو أكبر مرجعية لأهل السنة في لبنان، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فقد كان البيان شديد اللهجة، قوي العبارة، غاية في الوضوح والصراحة.. وكل من يقرأه لابد وأن يفهم بأن المخاطب والمتهم هو أجهزة الأمن السورية وعملائها في لبنان.
ومن جهة ثالثة: فقد شارك في هذا الاجتماع بعض الأسماء المرتبطة بالنظام السوري، والمعارضة للرئيس المغدور رفيق الحريري، ومن بينهم رئيس الوزراء – في حينه – عمر كرامي، ووزير الدفاع عبد الرحيم مراد، ومع أن البيان مخالف لمواقفهم، فما كان بمقدورهم الاعتراض، أو الانسحاب على الأقل لأن الأجواء من حولهم ملتهبة والمشاعر متوثبة، وليس بوسعهم إلا أن يحنوا رؤوسهم أمام العاصفة، ولقد حاول رئيس الوزراء السابق عمر كرامي أن يرفع رأسه بعد الانتخابات التي تلت بيان المجلس الإسلامي، فشن هجوماً على المفتي الشيخ رشيد القباني زاعماً أنه تجاوز حدوده، وانحاز إلى فئة سياسية من السنة ضد فئة أخرى، لكن هجومه ارتد عليه والزمن تجاوزه، ولولا سمعة أبيه عبد الحميد وأخيه رشيد لما كان له أي دور سياسي.
وفي تشييع جنازة الحريري تقاطر العلماء من مختلف مناطق ومدن لبنان، وساروا مجتمعين وراء الجنازة يتقدمهم المفتي العام، وكان منظر عمائمهم ووقارهم مادة إعلامية عند مختلف وسائل الإعلام. تقدم أحد المراسلين من الشيخ القباني وطلب منه تعليقاً على هذا الحدث، فأجاب والانفعال باد على محياه: إن المستهدفين هم أهل السنة، ولن نسكت بعد الآن.. ثم كرر العبارات التي وردت في البيان الآنف الذكر.
ليس معروفاً عن الشيخ رشيد القباني، شدة الاندفاع ولا المجازفة، فما الذي دفعه وإخوانه علماء لبنان إلى الوقوف بمثل هذه القوة ضد النظام السوري الذي كان يحتل بلده، وضد عملاء هذا النظام وأعوانه من أمثال رئيس الجمهورية، وأجهزة الأمن اللبنانية. وضد كل من حزب الله وحركة أمل؟!.
في بيان المجلس الإسلامي السني الموسع وردت الفقرة التالية:
"وهم – أهل السنة – قد نالهم من الضيم ما يكفي، ومن الصبر مالم يعد يحتمل...".
وإذن فالمفتي وإخوانه من العلماء والقضاء لا يتحدثون عن جريمة اغتيال الحريري وحدها، وإن كانت هذه الجريمة قد هزتهم وآلمتهم، ووضعت حداً فاصلاً لصبرهم الذي طال أمده، وإنما يتحدثون عن تاريخ مرير من القهر والإذلال، والقتل الجماعي، واغتيالات رموزهم، فضلاً عن التهميش، وحرمانهم من أداء دورهم السياسي المُشرِّفْ الذي لم ينقطع إلا في عهد الاحتلال الباطني لبلدهم.
وفيما يلي سنعرض نماذج من هذه الأحداث المؤلمة التي عاشها المفتي وإخوانه العلماء، ويصعب جداً أن تنساها ذاكرة أحد منهم مهما كانت ضعيفة أو مثقوبة:
أولاً – اغتيال الشيخ حسن خالد: نبدأ بهذا الحدث مع أنه وقع في عام 1989 م وسبقه ثلاثة عشر عاماً حافلة بالأحداث الدامية، لأنه كان عدواناً صارخاً على دار الإفتاء، وعلى جميع علماء ودعاة لبنان، وعلى كل من ينتسب لأهل السنة والجماعة.
الشيخ حسن خالد كان يطالب بقوات ردع عربية، ومن بينها قوات سورية، وهذا عندهم ذنب لا يغتفر، أما ذنبه الآخر، فقد رفض أن يكون عميلاً لهم كغيره من كبار القوم – إلا ما شذ وندر – أجل رفض الشيخ أن يكون عميلاً لهم، لكن صلته بهم لم تنقطع، وكان يتعامل معهم بما عُرِفَ عنه من تسامح وتواضع ودماثة أخلاق.
كان الشيخ رشيد القباني وغيره من العلماء العاملين في دار الإفتاء يستمعون إلى شيخهم حسن خالد وهو يحدثهم عن التهديدات التي تصله بين الحين والآخر .. وكانوا يسمعون دوي القنابل التي تنهال على دار الإفتاء على مقربة من مكاتبهم .. وكانوا مع شيخهم رحمه الله عندما استدعى سامي الخطيب قائد قوات الردع العربية، وأطلعه على القنابل التي لم تنفجر، وما كتب عليها من عبارات تثبت بأنها سورية .. ثم انتهى هذا المشهد بتفجير سيارة شيخهم بطريقة مشابهة لحادث اغتيال رفيق الحريري.
الشيخ رشيد القباني وإخوانه العلماء العاملين في دار الإفتاء الذين كانوا لا يأمنون على أنفسهم طوال عهد الإحتلال كانوا يتساءلون:
لماذا نحن دون غيرنا من الطوائف الأخرى؟.
البطريرك صفير كان يطالب بخروج القوات السورية من لبنان، كما كان المدافع الأمين عن حقوق نصارى لبنان، ويستنكر ما يتعرضون له من اعتداءات .. وكان السوريون يقابلون شدته بليونة مصطنعة، فيدعونه إلى زيارة دمشق والالتقاء بحافظ الأسد، وكان يرد بالرفض، ويعدهم بالاستجابة لدعوتهم بعد خروج قواتهم من لبنان.
البطريرك صفير كان يعلم أنه يأوي إلى ركن شديد، فهناك خطوط حمراء رسمها الذين أذنوا لسورية بدخول لبنان، وكان بطريرك الموارنة أحد هذه الخطوط التي لا يجوز المساس بها.
أما مراجع الشيعة فقد كانوا شركاء للغزاة النصيريين في حكم لبنان، هكذا كان موسى الصدر [قبل اختفائه] وشمس الدين، وحسين فضل الله، وقبلان، وحسن نصر الله، ونبيه بري [كمسؤول سياسي]، كانوا يصولون ويجولون في كل من سورية ولبنان، وكانوا ينشرون التشيع بين أهل السنة دون حسين أو رقيب، وكان لبعضهم مراكز في "الست زينب، قرب دمشق" يتوافد عليها أنصارهم من كل مكان.
في هذا الجو المشحون صنعت بطولة حسن نصر الله على أشلاء المجاهدين أهل السنة من الفلسطينيين واللبنانيين، وهو الذي كان بالأمس عضواً في المكتب السياسي لحركة أمل صاحبة مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا.
ومما لا ينقضي منه العجب ولا الاستغراب أن لشيعة لبنان وحدهم مسؤول خاص هو ضابط المخابرات المعروف محمد ناصيف الذي يرتبط مباشرة بالرئيس حافظ الأسد، وهذا الضابط نصيري، وكان له شأن كبير داخل الحكومة النصيرية الخفية، وكان غير مسموح للمسؤول عن ملف لبنان نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام التدخل في شأن الشيعة، والتعامل معهم بالطريقة المهينة التي كان يتعامل بها مع السنة أو النصارى.
وكذلك كان المحتلون السوريون يعاملون شيخ عقل الدروز ومساعديه بكل تقدير واحترام، ولم يتعرضوا لهم بأية مساءلة أو إهانة بسبب تعاونهم مع الإسرائيليين خلال اجتياحهم للبنان عام 1982.
كان المفتي العام – السابق واللاحق – وإخوانه العلماء يرون تمييزهم دون غيرهم من الطوائف الأخرى بسوء المعاملة، وحتى من كان منهم بعيداً عن التدخل في شؤون المحتلين لم يسلم من الاغتيال، والشيخ الدكتور صبحي الصالح رحمه الله أحد الأمثلة على ذلك.
ثانياً – فتنة الأحباش: فرقة ظهرت في لبنان في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، وأطلق عليهم اللبنانيون هذه التسمية نسبة إلى شيخهم عبد الله الهرري الحبشي، ومما أذكره أن هذا الشيخ نزل دمشق الشام في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي، زاعماً أنه فر من الحبشة بعد أن بات فيها لا يأمن على نفسه بسبب اضطهاد الصليبيين الحاكمين [أيام حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي] له وتربصهم به. هل كان صادقاً فيما ادعاه أم أنه جاء لغرض آخر؟! لا أدري، لكن علماء دمشق نفروا منه بعد تعرفهم عليه واستماعهم إلى أفكاره التي يدعو إليها بشيء من الحذر .. وبعد حينٍ من الزمن وجد نفسه معزولاً منبوذاً، فالكل يحذّر منه ويبتعد عنه.. فما كان منه إلا الفرار من هذه العزلة واختيار بيروت مكان إقامته.
وجد الهرري قبولاً في أوساط بعض شباب لبنان الذين لم يحصنوا أنفسهم بالحد الأدنى من العلوم الشرعية، ولكن هذا القبول بقي محدوداً لولا تبني قوات الأمن السوري لهم، وتقديم مختلف أنواع الدعم والمساعدة لهم.
ففي ظل الاحتلال السوري الباطني للبنان سيطروا على مساجد كثيرة بالقوة، كما خططوا للسيطرة على دار الإفتاء، ورشحوا شيخهم نزار الحلبي ليكون مفتي لبنان، وكان هو الأزهري الوحيد بينهم.
كانت هذه الجماعة تقول بكفر كثير من علماء الأمة ودعاتها وجماعاتها في لبنان وفي العالمين العربي والإسلامي .. كما كانت تكفر عدداً من قدامى علماء الإسلام الذين هم موضع اعتزاز وتقدير الأمة الإسلامية .. وكانت لا تخفي تعاونها مع أجهزة أمن سورية ولبنان، وتقديم التقارير لها بغض النظر عن عقيدة ودين رجل الأمن الذي يتعاملون معه، أما أعداؤهم في لبنان فهم:
- دار الإفتاء ممثلة بالمفتي العام ومساعديه وسائر علماء أهل السنة والجماعة، وهي تطالب اليوم بالمساجد التي اغتصبوها بالقوة.
- جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي رفعت دعاوى ضدهم أمام القضاء.
- تيار المستقبل الذي يقوده سعد بن رفيق الحريري، ومن المتهمين باغتيال أبيه أحمد ومحمود عبد العال وهما من قادة هذه الفرقة.
- جمعية الفتوة الإسلامية أو الرجبيون نسبة إلى الشيخ رجـب ديب، تلميذ مفتي سورية السابق أحمد كفتارو، وهي جماعة صوفية.
- الجماعة الإسلامية، أي الإخوان المسلمون، فرع لبنان.
- كافة المجموعات السلفية. وهذا الذي ذكرته على سبيل الإجمال، أما من أراد الحصر، فهم يعادون كافة دعاة وجماعات علماء أهل السنة من غير استثناء.
وفي المقابل نذكر فيما يلي حلفاء وأعوان هذه الجماعة:
- أجهزة الأمن السورية واللبنانية.
- حلفاء سورية في لبنان: كحزب البعث، والحزب القومي السوري، وغيرهما من الأحزاب العلمانية.
- حركة أمل. وهي التي سهلت لهم دخول بيروت الغربية عندما كانت تسيطرة عليها في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي.
- يتعاونون مع الشيعة بشكل عام، بل في صفوفهم كثير منهم، ويحتلون مراكز مهمة في قيادة هذه الجماعة.
- انضم إليهم كثير من "زعران بيروت" الذين كان يستخدمهم جهاز أمن منظمة التحرير الفلسطينية مقابل رواتب شهرية، فأصبحوا عملاء لجهاز الأمن السوري.
ضج أهل السنة جميعاً من هذه الجماعة التي لا يزكيها أي عالم من علماء الأمة يعتد بعلمه وفضله لا في لبنان ولا في غيره، وتساءلوا: نحن نفهم أن يقوم النظام السوري بانقلاب عسكري، فهو يجيد هذه الصنعة، أما أن يقوم بانقلاب ديني ينسف عقائد طائفة لا ينتمي إليها، وينحي علماءها ليضع بدلاً منهم عملاء له لم يكونوا في يوم من الأيام أهل علم ودعوة .. فهذا أمر لا يجوز السكوت عنه مهما بلغت التضحيات؟!.
لم يستطع بعض الشباب قبول هذا التحدي الذي يتفاقم شره يوماً بعد آخر، فقاموا باغتيال زعيم هذه الفرقة المدعو نزار حلبي، الذي كان مرشحاً من قبل الغزاة ليكون مفتي لبنان. وكان اغتياله صفعة قوية للذين صنعوه. ففقدوا صوابهم وانطلقوا كحمر مستنفرة يعتقلون أعداداً كثيرة من الشباب الذين لا علاقة لهم بحادث الاغتيال، وفضلاً عن الاعتقالات، فقد أغلقوا معاهد ومؤسسات خيرية بشكل عشوائي.
بعد الاعتقالات، تشكلت المحكمة بسرعة فائقة .. وبعد التعذيب الذي لا يحتمل أمليت الاعترافات التي يريدها المحققون وخلاصتها: المتهمون عملاء للسودان الأصولية، وقد تدربوا على الاغتيالات في الخرطوم، واغتيال الحلبي بداية لتنفيذ مخطط لهم واسع في لبنان ... وبالسرعة نفسها التي تشكلت فيها المحكمة صدرت الأحكام التي تتراوح بين الإعدام، والسجن المؤبد أو القريب منه .. ولم تتوانى السلطة في تنفيذ الإعدامات دون أي إمهال.
وعاد السؤال مرة أخرى: لماذا لا يُحاكم، ويُعدَم بمثل هذه السرعة عملاء إسرائيل أو زعماء عصابات الموارنة، والشيعة، والدروز من أمثال: إيلي حبيقة، ووليد جنبلاط، ونبيه بري، وسمير جعجع الذين كانوا يقتلون بالجملة وبالمفرق، وقد أبادوا مخيمات وأحياء بأكملها؟!.
وهل يستطيع المحتلون الغزاة صنع فرقة حبشية مسيحية في أوساط النصارى، أو تهيئة وإعداد نزار حلبي مسيحي ليكون بديلاً للبطريرك صفير؟!.
وجوابنا: لا، لن يستطيعوا، لا في أوساط النصارى، ولا الدروز أو الشيعة، ولو استطاعوا لن يفعلوا.
نفذ مخزون الصبر عند السنة في بيروت، ثم في جميع المناطق، فخرجوا عام 1996 [أي بعد مقتل الحلبي بقليل] في مظاهرة نادرة المثال وكان يقودها كبار العلماء والدعاة، وقادة الجماعات الإسلامية، وشارك فيها من لم يسبق له أن خرج في مظاهرة.
كان المتظاهرون ينددون بالظلم والظالمين، ويستنكرون الأحكام الجائرة، ويترحمون على من تم إعدامهم، كما كانوا يهتفون ضد جماعة المشاريع الخيرية [الأحباش]، ويطالبون بالإفراج عن المعتقلين.
المفتي العام الشيخ رشيد القباني كان له موقف شجاع، فقد قام بزيارة أسر المعتقلين، وهدد بفضح ادعاءات النائب العام عدنان عضوم، مما أجبره على إطلاق سراح كثير منهم، وإقفال ملفاتهم.
وخلاصة القول: لم تكن المشكلة بين فرقة الأحباش والمجموعات السلفية، كما زعمت أجهزة الأمن، وإنما كانت بين الأحباش وأهل السنة جميعاً.
ثالثاً: أحداث الضنية: كتبت عنها في حينها، إلا أني – ومنذ وقت قريب – اطلعت على مقال نشرته مجلة الشراع اللبنانية، فاستحسنت نقله فيما يلي، لما فيه من تغطية إضافية، ولقربها (المجلة) من الحدث، وقوة صلاتها مع المسؤولين والمعارضين:
"قال أحد الهاربين الطرابلسيين من معتقلات المخابرات السورية في خريف وشتاء 1999:
ألقت المخابرات المشتركة اللبنانية السورية قنابل ومتفجرات أمام الكنائس المسيحية في طرابلس، ثم قامت بعدها بحملة اعتقالات واسعة طالت عشرات الشباب في المدينة ممن أخضع لتعذيب مهول [أكدت المعلومات وبيانات الجماعات الإسلامية المعنية في مدينة طرابلس هذه المعلومات].. وقد ذهب بعض الذين أطلق سراحهم إلى جبال منطقة الضنية، حيث اندس بينهم عدد من العاملين مع المخابرات [قيل أن واحداً على الأقل كان من جماعة الأحباش المعادية بشدة للسلفية الوهابية].. وعشية رأس السنة أول يوم من عام 2000 [وكان ذلك أثناء شهررمضـان] حصل اشتباك بين مجموعة من هؤلاء الشباب كانت في مبنى إذاعة تابعة لحركة سلفية طرابلسية لا يعرف عنها سوى الدعوة السلمية، ودورية للجيش ظهرت فجأة في المنطقة!!، جرى بعدها أخذ الضابط النقيب قائد الدورية رهينة من قبل المجموعة، وذلك بهدف الخروج من المنطقة.
يومها فاوض الضابط المجموعة التي تحتجزه وأقنعها بالاستسلام ووعدها بالأمان والعفو، نظراً لمعرفته بأنها لم تكن تنوي الاشتباك أو القتال مع الجيش .. و حين اتصل جاءه الرد من اللواء جميل السيد، والعميد ريمون عازار، ومن الرئيس إميل لحود شخصياً أوامر بالقصف المدفعي العنيف الذي طاول عشرات القرى والمزارع والحقول في المنطقة، استشهد بنتيجته عدد من المواطنين ممن كانوا في الحقول أو في منازلهم.. ثم تركز القصف على المنـزل الذي كان فيه الضابط ومحتجزيه فقتل هو ومن معه .. ومن بقي حياً مصاباً جرى الإجهاز عليه بأمر القيادة التي كانت لا تريد أي شاهد.
وقد عملت المخابرات لاحقاً على تجييش أهالي الضابط والجنود القتلى بحجة أن شباب الضنية [ذبحوا] الضابط الشهيد... هذا وتملك الجماعات الإسلامية في لندن شريط فيديو مصوراً عما حدث حقيقة!!، إضافة إلى أقوال المتهمين المعتقلين لدى المخابرات إلى اليوم، وهي موثقة لدى منظمة العفو الدولية، ولدى منظمات حقوق الإنسان في لبنان. إضافة إلى ما نقلته الصحف من وقائع المحاكمات التي جرت والتي كان عضوم بطلها ... " وأضافت الشراع:
".. وقام وزير الداخلية الياس المر باعتقال المئات من أهالي الضنية، وهو أعلن مراراً وتكراراً أنه [ضبَّ] قرى بكاملها"(1) اهـ.
وأضيف إلى مقال [الشراع] أن بعضاً من الذين اعتقلوا كانوا عازمين على توجيه ضربات للسلطة التي كانت تضطهدهم وتطاردهم، وتعتقلهم لأتفه الأسباب، لكن عدد هؤلاء كان قليلاً جداً، وكانت أجهزة الأمن تتابعهم، وتعرف مقاصدهم، وهي التي زرعت بين صفوفهم عيوناً لها. وهذه واحدة.
أما الثانية، فقد اتخذت أجهزة الأمن من هذه الأحداث التي صنعتها ذريعة لاعتقال عدد كبير من العلماء والدعاة الأبرياء الذين كانوا يحذِّرون الشباب من عواقب الطيش والتسرع.
أما الثالثة فقول وزير الداخلية: أنه – ضبَّ – قرى بكاملها، وتفوح من هذه الكلمة روح الكراهية والحقد والاحتقار، لأن كلمة [ضبّ] تستخدم في جمع الحيوانات الضالة، أو ما هو أقل من الحيوانات .. وكان بين الذين [ضبهم] وزير الداخلية وأجهزته أطفال دون سن البلوغ، ولم تكن لهم أدنى علاقة بالأحداث.
أما الرابعة، فنعود إلى السؤال إياه: لماذا أهل السنة دون غيرهم؟، فصبحي الطفيلي أمين عام حزب الله السابق قاد ثورة مسلحة في البقاع سماها "ثورة الجياع"، واشتبك هو وثواره مع كل من قوات الأمن وقوات الجيش، وأدت هذه المعارك إلى وقوع قتلى وجرحى من الطرفين .. ثم ما الذي حدث بعد ذلك؟! ... توارى عن الأنظار قليلاً تحت سمع وبصر أمن ومخابرات السوريين واللبنانيين، ثم تركوه ومن معه، فلم يعدم أحد منهم، كما أعدم المتهمون بقتل شيخ الأحباش نزار الحلبي، ولم يحكم عليهم بسنوات سجن طويلة، كما حكم على شباب الضنية. ناهيك عن التعذيب والاضطهاد.
وشتان شتان ما بين الطفيلي وشباب الضنية، فالأول زعيم شيعي كان يقود حزب الله في مرحلة مهمة من تاريخ الحزب، وله شعبية لا يستهان بها وبالأخص في بعلبك والبقاع، أما شباب الضنية فليس بينهم مرجعاً أو رمزاً من رموز أهل السنة، وكثير منهم كانوا دون سن البلوغ.
ورغم رفض الشارع السني للظلم الذي لحق بالشباب في كل من الضنية وطرابلس، ومطالبته بالإفراج عنهم ... ورغم تأييد بعض نواب النصارى في الشمال للشارع السني، فإن السلطة كانت مصرة على طغيانها، ولم يتم الأفراج عن كثير منهم إلا بموجب قرار من المجلس النيابي الجديد الذي جاء وفق انتخابات حرة بعد رحيل الغزاة، وسقوط النظام الأمني.
رابعاً: مذابح بالجملة: منذ أن وطأت أقدام الغزاة الباطنيين أرض لبنان، وحتى اغتيال رفيق الحريري، والمسلمون السنة يتعرضون لأشد أنواع الاضطهاد والتهميش والإبادة على أيدي المحتلين وحلفائهم في لبنان.
ففي الشمال اجتاحت قواتهم المخيمات الفلسطينية قرب طرابلس مثل مخيم البداوي، ومخيم نهر البارد، واشتبكت مع قوات لحركة فتح في البقاع، مما أدى إلى وقوع خسائر فادحة في أرواح المدنيين الفلسطينيين، ثم تكرر الاجتياح بعد عودة ياسر عرفات .. وامتدت هذه المعارك لتشمل طرابلس التي دخلتها القوات السورية بعد معارك طاحنة وغير متكافئة، ففي حي واحد من أحياء المدينة قُتل أكثر من سبعمائة – كما يروي أهل طرابلس - .
وقاتل إلى جانب القوات السورية الباطنية كل من مليشيا: الحزب القومي السوري الاجتماعي، وحزب البعث اللبناني، وقوات الجبهة الشعبية – القيادة العامة – التي يرأسها أحمد جبريل، وقوات الطائفة النصيرية الذين استوطنوا المدينة منذ عقود.
وفي بيروت تعرضت المخيمات لمذابح، وبعضها لإبادة كاملة: فمن مخيم الكرنتينا على يد الموارنة، إلى تل الزعتر على يد الموارنة أيضاً، وكانت القوات السورية تحرس القتلة، وتحول بين قوات منظمة التحرير وبين المشاركة في القتال لتخفيض الضغط على المخيم.
أما مخيما صبرا وشاتيلا فتعرضا لمذبحتين كبيرتين:
الأولى: على أيدي القوات اللبنانية بعد مقتل الرئيس المنتخب بشير الجميل، وكان يقود هذه القوات المجرم المحترف إيلي حبيقة، وكان لا يزال المنسق بين الموارنة والإسرائيليين.. وثبت من خلال التحقيقات أن قوات شارون الإسرائيلية هي التي أذنت للقوات اللبنانية بارتكاب هذه المجزرة الفظيعة.
الثانية: على يد القوات الشيعية – حركة أمل - ، وبعض قادة حزب الله اليوم كانوا أعضاء قياديين في حركة أمل. أما القوات السورية فقد زودت حركة أمل بأسلحة فعالة، كان من بينها أكثر من أربعين دبابة، وأثناء اجتياح قوات أمل للمخيمين كانت القوات السورية تحميها، وتمنع قوات منظمة التحرير من نجدة أطفال ونساء صبرا وشاتيلا، مثلها في ذلك كمثل حماية القوات الإسرائيلية لقوات الموارنة.
أما بيروت الغربية فقد كانت عرضة لاعتداءات ومذابح متعددة .. كان من بينها اجتياح كل من قوات الشيعة – أمل – وقوات الدروز – الحزب التقدمي الاشتراكي – لها .. واستباح المحتلون أموال وأرواح وأعراض سكان هذه المدينة السنية العريقة والمسالمة .. ومن ثم فقد هيأوا الأسباب لعودة القوات السورية إلى بيروت الغربية إثر معارك افتعلتها حركة أمل مع كل من الحزب الشيوعي، والحزب التقدمي الاشتراكي .. عادت لتكرر مقولتها في المرة الأولى إن هدفها إنهاء الحرب الأهلية وهي التي تشعل فتيلها ... لا أدري متى يفهم قومي أساليب الباطنيين ووسائلهم حتى لا ينخدعوا بهم؟!.
عادوا في المرة الثانية ليعبثوا بالمدينة، ويذلوا أهلها، ولست أعتقد أن أحداً من أهل بيروت الغربية عاش تلك الأحداث سوف ينسى ما حل بمدينته من كوارث ومحن، فكيف ينسى اغتيال المفتي الشيخ حسن خالد رحمه الله بعد هذه العودة، ولا الاعتقالات العشوائية التي طالت جميع أحياء المدينة.
خامساً – تجفيف المنابع: أنهى مؤتمر الطائف الحرب الأهلية، مع استمرار الهيمنة السورية كأمر واقع وفي أول حكومة بعد المؤتمر، اتخذت السلطة قراراً بنـزع أسلحة المليشيات، وطُبق القرار على جميع المليشيات إلا الشيعة ممثلين بحزب الله بحجة أنهم مقاومة مشروعة، وصاروا مؤسسة عسكرية تشبه الجيش، ومن يشكك بشرعيتهم فهو خائن وعميل للصهيونية. وهذه واحدة.
أما الثانية فقد أصدرت السلطة قراراً آخر بإغلاق الإذاعات والفضائيات، وكان أهل السنة أول من طبق عليهم هذا القرار، وعندما رفض شباب من أهل السنة إغلاق فضائيتهم في طرابلس، وطالبوا معاملتهم كغيرهم من الطوائف الأخرى، قامت قوات الجيش بتدمير المبنى على رؤوس المعترضين فقتل من قتل، وجرح من جرح، أما فضائية المنار الشيعية فمثلها كمثل سلاح حزب الله. لم يطبق عليها القرار، وأصبحت في نظر أصحاب القرار – السوري واللبناني – مثالاً يحتذى به في مقاومة الإسرائيليين وعملاء الاستعمار، وفي توحيد الصف الوطني .. وقد ضللت المنار الناس في الوطن العربي، وبالأخص في المغرب العربي، وأصبحت منبراً من منابر التشيع.
أما الثالثة: فالجمعيات الخيرية التي تعود ملكيتها لأهل السنة، فقد كانت تغلق لأتفه الأسباب، وإن أعياهم ذكر السبب قالوا: إنها إرهابية!! .. وحتى جمعيات رفيق الحريري الخيرية [التي كان لها فضل على كثير من أهل لبنان على مختلف طوائفهم] لم تسلم من الإجراءات التعسفية والاتهامات، واعتقال بعض الموظفين أثناء توزيع الأطعمة والأموال، وأقرب مثال على ذلك، الاعتقالات التي طالت الذين كانوا يوزعون الزيت على الفقراء، قبل مقتل الحريري بأيام قليلة، وتدخل المفتي العام من أجل الإفراج عنهم.
رئيس الوزراء لعدد من الحكومات، وصاحب الثقل اللبناني والعربي والعالمي، لم يكن حراً في توزيع زكاة أمواله!!.
أما المدارس، والمعاهد، والكليات، والمنتديات، والمكتبات، ودور النشر فكانت قيد المراقبة الصارمة، وذات مرة فتشت قوات الأمن سيارة فوجدوا فيها كتباً تتحدث عن الفرق ومنها الفرقة النصيرية في إطارها التاريخي والعقدي، وليس في إطارها السياسي المعاصر، فاعتقلت ركاب السيارة، وأغلق معهدهم، وشرد طلابه.
وبين تهمتي الإرهاب والوهابية كان أهل السنة موضع اتهام من قبل قوات الوصاية وتابعها في لبنان. وإن كنا لا ننكر أن بعض النصارى نالهم نصيبهم من البطش والتنكيل، ولكن لا مجال لمقارنتهم بأهل السنة لأن البعض الآخر منهم كان شريكاً لنظام الوصايا وحليفاً للشيعة.
وفي المقابل كان كل شيء مسموحاً به للشيعة، فقد كانوا يفتحون ما يشاؤون من مدارس، وماهد، وكليات دون حسيب ولا رقيب.. أما جمعياتهم ومؤسساتهم الخيرية وقواتهم العسكرية والأمنية، فكانت تمثل دولة داخل شبه دولة.. وكانت دور نشرهم ومكتباتهم المنتشرة في كل مكان تمد العالم بالرسائل والكتب التي يشتمون ويكفرون فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما يشتمون غير الصحابة من التابعين وتابعيهم من علماء الأمة وقادة الفتوحات الإسلامية الذين أعز الله بهم دينه.
قبل حوالي عامين فقدت الجزء الثاني من كتاب مذاهب الإسلاميين لمؤلفه الدكتور عبد الرحمن بدوي، ولعل أحد الأصدقاء استعاره، ونسي أن يعيده إلي.. وعندما أعياني البحث عمن استعار الكتاب رحت أبحث في المكتبات من أجل شراء الجزئين: الأول والثاني وبأي ثمن، فكان رد أصحاب المكتبات في عدد من البلدان العربية: الجزء الأول موجود، أما الثاني فمفقود.. وأنا حاجتي للجزء الثاني لأن الكاتب خصصه للفرق الباطنية الرافضية مثل النصيرية والإسماعيلية.. الخ، وتبين لي في نهاية البحث أن الذين يحكمون لبنان من قوات الوصايا وحلفائها الشيعة منعوا دار العلم للملايين في بيروت من إعادة طبع الجزء الثاني، مع أن الكاتب علماني لا شأن له لا بسنة ولا بشيعة.
هذا مثال واحد على ما آل إليه وضع لبنان في عهدهم .. كانوا يفعلون كل شيء، ويمنعون نشر أي بحث يتعرض لهم بالحق الذي يمقتونه.
سادساً – أجهزة الحكم: كان لبنان يحكم من قبل الأجهزة التالية:
1 – الجهاز السياسي: رئيس الجمهورية إميل لحود الرجل الأول في هذا الجهاز، ويشاركه المسؤولية آل المر [ميشيل وابنه إلياس]، وأمين عام حزب الله حسن نصر الله، ورئيس حركة أمل نبيه بري، وسليمان فرنجية، وطلال أرسلان، ووليد جنبلاط، وإيلي حبيقة قبل هلاكه.
ويأتي في المرتبة الثانية: رؤوساء الوزاراة مثل سليم الحص، ورفيق الحريري، وعمر كرامي.
2 – الجهاز الأمني: مدير الأمن العام اللواء جميل السيد وهو من الطائفة الشيعية، وقائد قوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج وهو شيعي أيضاً، ولم يسبق للشيعة أو للسنة السيطرة على هذين المنصبين، وبخاصة منصب المدير العام للأمن العام، فقد كان دائماً من نصيب الموارنة، ومدير المخابرات العسكرية العميد ريمون عازار، وكما يدل عليه من اسمه فهو نصراني. وإذن لم يكن بين قادة الجهاز الأمني مَنْ هو مِن أصول سنية، ولو كان هذا السني عميلاً لهم.
3 – الجهاز القضائي: يقف على رأسه النائب العام عدنان عضوم [منسوب لأهل السنة]، ثم أسندت إليه حقيبة وزارة العدل، ولم يحدث من قبل الجمع بين وزارة العدل والنيابة العامة، فمن كان يتولى منصب النائب العام كان يسمى "حاكم لبنان القضائي" وكان حكراً على الموارنة وحدهم دون غيرهم.
وإذن فقد كان عدنان عضوم حاكم لبنان القضائي كما كان وزيراً للعدل في حكومات لا تحترم العدل، ولا تقيم وزناً للحرية.. وهذا يعني أنه كان يتمتع بصلاحيات قريبة من صلاحيات الحاكم بأمره، ولكن ليس على جميع الطوائف، فهو بالنسبة لأهل السنة كان أشر عليهم من ألد أعدائهم.. ففي قضيتي الضنية، ومقتل الحلبي، كان هو ومساعدوه يسيرون على نهج المحققين في أقبية المخابرات السورية، ومن الأسئلة التي كانوا يواجهونها للمتهمين:
هل تؤمن بوجوب تحكيم الشريعة الإسلامية؟ وما موقفك ممن يكفر الناس؟ وهل أنت وهابي أم من جماعة القاعدة؟ ولماذا تطيل لحيتك وتقصر ثوبك؟ .. وما إلى ذلك من أسئلة.
وكان عضوم يضلل التحقيق .. ففي قضية اغتيال مروان حمادة. يقول المجني عليه: إنه "عضوم" أخفى شريط فيديو يظهر فيه مرتكب العملية .. وفي قضية اغتيال الحريري ابتدع هو وبقية أفراد العصابة في الأجهزة الأخرى أسطورة (أبو عدس)، وعندما تهاوت هذه الأسطورة اخترعوا أسطورة الحجاج الأستراليين القادمين من قرية المنية الشمالية التي كذبتها السلطات الأسترالية.
وإذا شئنا الاختصار، فأفراد العصابة الحاكمة من مختلف الأجهزة هم: إميل لحود، والمعتقلون الأربعة [السيد، والحاج، وعازار، وحمدان] وعندنا عضوم، وسليمان فرنجية.. وكان هؤلاء يرتبطون بقائد نظام الوصاية في دمشق، ومندوبه السامي في لبنان.. غير أن هذا الارتباط لا يمنعهم من الإنفراد بأمور تخدم طموحاتهم السياسية ولا تضر نظام دمشق، ومن ذلك كيدهم الدائم، وعداوة لحود التي لا تنقطع لرفيق الحريري.. فقد تتجاوز معارضة الحريري للحود الخط الأحمر، وهنا تتحرك قوات الأمن، فتطلق عدداً من الصواريخ على تلفاز المستقبل من جهة، ومن جهة أخرى يقومون باعتقال عشرات من الشباب الأصوليين [حسب زعمهم]، ويلصقون بهم هذه التهمة، وتحت التعذيب الوحشي يأخذون منهم اعترافات بالتهمة الموجهة إليهم.
الحريري قبل غيره يعرف أن هذه الفرية من صنع لحود وعصابته، وأن هؤلاء الشباب لا ذنب لهم، ولابد له من عدم تجاوز الخط الأحمر، بعد هذا الإنذار فيفعل أو يرفع الأمر لأولي الأمر في دمشق.
وأحياناً تقع العصابة في خطأ فادح، فذات مرة قام وزير الداخلية وصهر لحود إلياس المر باعتقال عشرات من الشباب بتهمة التخطيط للقيام بعمل إرهابي ضد السفارة الإيطالية، ولابد أن يكون هؤلاء الشباب دائماً من أهل السنة.
وكعادتهم مارسوا التعذيب مع المعتقلين، وكان الداعلية الإسلامية إسماعيل الخطيب من ضحايا هذا التعذيب، وما أن علم أهل بلدته بوفاته – رحمه الله – حتى انطلقت مظاهرة صاخبة انضم إليها شباب من قرى مجاورة في البقاع قرب "عنجر" مركز المخابرات السورية، وارتفعت هتافات المتظاهرين تندد بالمجرمين القتلة.
فوجئ المندوب السامي العميد رستم غزالي بالمظاهرة، وبهتافات المتظاهرين قرب مركزه الذي يرهب أهل لبنان من شماله إلى جنوبه.. وخشي من تحول المظاهرة إلى انتفاضة تعصف بعرشه.. فأخذ المسألة على عاتقه، ووعد الأهالي بفتح تحقيق، وبمعاقبة من تثبت إدانته.. والذي علمناه بعد خروج القوات السورية من لبنان أن غزالي عاقب وزير الداخلية إلياس المر لأنه تجاوز الحدود المرسومة له، وعندما حاول المر أن يقف بوجه غزالي، ويقول له: إنه كوزير للداخلية مسؤول عما حدث، توعده المندوب السامي بالقتل، وبر بوعده لولا أن المحاولة فشلت كما قال المر في تصريح له نقلته وكالات الأنباء.
* * *
وقصارى القول: فإن علماء لبنان ودعاتها رأوا وسمعوا خلال ثلاثة عقود عجاف ما تفعله الأجهزة: السياسية والأمنية والقضائية بأهل السنة والجماعة .. رأوا وسمعوا ألواناً شتى من: التدمير، والقتل العشوائي، والإبادة الجماعية، والاغتيالات..
رأوا وسمعوا أخبار الزنازين والمعتقلات التي ضاقت بها لبنان، فصاروا يزجون بالكثير الكثير من الضحايا في سجون سورية، والصحف اللبنانية اليوم تنشر ما كان يحدث في هذه المعتقلات من تعذيب وتجويع وقهر.
علماء ودعاة أهل السنة لم يعد أحد منهم آمن على نفسه.. ولا يدري متى يأتي دوره؟ وهل سيكون مصيره الاعتقال أم الاغتيال؟.
لم يعد عند علماء أهل السنة فارق كبير بين الموت والحياة، وهذا هو سر التحرر من عقدة الخوف عندهم.. وهذا الذي أملى عليهم الكلمات التالية التي وردت في بيانهم:
"إن المسلمين السنة في لبنان.. قد نالهم من الضيم ما يكفي، ومن الصبر ما لم يعد يحتمل.. وأنهم لن يسكتوا عن حقهم ومطالبتهم بكشف الجناة المجرمين أياً كانوا!! ومعاقبتهم.."