منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#52113
نعرف أن في هذا إدعاء ربما يثير دهشة البعض ممن شاهدوا أحداث الثورات تتتابع يوم بيوم وليلة بليلة، وحنق البعض الآخر ممن يتسرعون فيرون في حديثنا انصرافا عن الواقع لصالح المجهول، لكن هذا وذاك قد يتريثان إلى حين نخبرهم عن الدافع وراء حديثنا عن دور "المهدي المنتظر" في الثورات العربية.

كان الدافع هو حديث أجراه سجين رأي سابق في تقلب بين السجون السياسية المصرية منذ مطلع الثمانينات وحتى سنوات قليلة مضت، وكان الرجل قد أكثر في الحديث عما تعرض له ورفاقه من قمع وتعذيب في غياهب السجون، وحين سأله المحاور إلى أي حد وصل بكم التعذيب؟ فأجاب السجين. إلى حد أن أصبح لدينا اثنين من المعتقلين في نفس العنبر (غرفة السجن) يدعي كل منهما أنه "المهدي المنتظر".




دفعتنا إجابة الرجل للتسؤل عن الدافع وراء استحضار هؤلاء لشخصية المهدي المنتظر في نفوسهم، -وهي شخصية مفارقة للتاريخ- دون غيرها من الشخصيات التي صنعت مجدا تاريخيا ملموسا في اقتناص حريات بلدانها، ولكي ندرك حقيقة هذا علينا أن نستعرض أولا الجوانب المختلفة لهذه الفكرة.
حضور الفكرة في التاريخ

لا نستطيع أن نجزم بشكل كامل متى بدأت هذه الفكرة تجلياتها التاريخية، لكن المؤكد هو أن الفكرة تزداد حضورا في الفترات التاريخية التي تشهد تسلط فئة باغية أو فسادا اجتماعيا مع الشعور باليأس من القدرة على رفع الظلم، أو حدوث إصلاح داخلي في بنية النظام الفاسد، ولفكرة حضور إمام غائب خارج التاريخ يأتي لإصلاح ما فسد من أركان الكون حضورا ملحوظا عند العديد من الديانات السابقة على الإسلام سواء كانت ديانات وضعية كالديانة البوذية أو الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية، ففكرة المهدي المنتظر في الإسلام توازي فكرة المسيح المنتظر عند اليهود، وعودة المسيح عند المسيحيين، وقريبا من ذلك تذهب الديانة البوذية التي تعتقد في عودة بوذا إلى الأرض ليعيد البركة والسلام إليها.

وتعود فكرة المهدي المنتظر في الإسلام إلى بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي تحدثت عن شخص يأتي آخر الزمان فيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، ويقسم المال صحاحا أي بالتسوية بين العباد، ويملأ نفوس العباد غناء، ويقاتل الدجال مع النبي عيسى عليه السلام. وجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن اسمه يوافق اسمي النبي الأول والثاني فهو أيضا محمد بن عبد الله، هذا إذا صحت نسبة الأحاديث الواردة في هذا الصدد.

وهي من أكثر الأفكار التي تحظي باتفاق بين المسلمين على اختلاف طوائفهم لذلك يقول ابن خلدون في تاريخه "اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الاَعصار: أنّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويُظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الاِسلامية، ويسمى المهدي "، فالإمام الغائب عند الشيعة والذين يرون تمثلة في شخص الإمام الحسن العسكري عند الشيعة الإمامية ليس سوى المهدي المنتظر عند مسلمي السنة، وعبر التاريخ الإسلامي ظهرت العديد من الشخصيات الدينية التي تدعي كونها المهدي المنتظر كميرزا غلام أحمد القدياني، والكثيرين من قادة الحركات الباطنية في التاريخ الإسلامي.

"المهدي المنتظر" بين القبول والرفض

وإذا كان حضور الفكرة بهذا التنوع في المسميات في التاريخ الإنساني يصاحب الفترات التي تشهد تسلطا واستقواء من طرف وشعور بالعجز والضياع من طرف آخر، وبالتالي ضرورة البحث عن قوة ناصرة ولو من خارج التاريخ، وهو ما يفسر لنا لجؤ هؤلاء المعتقلون السياسيون بعدما ذاقوا ويلات التعذيب على أيدي ضباط جهاز أمن الدولة السابق لإدعاء كونهم المهدي المنتظر على الرغم من معرفة كل منهم على حدا أن المهدي شخص واحد، ولكن من الظلم ما يحتاج إلى أكثر من مهدي.

صحيح أن هؤلاء ربما تعرضوا بسبب التعذيب إلى بعض الضعف في قدراتهم العقلية، لكنهم لم يفقدوا الأمل تماما في تحقيق العدل الذي آمنوا أنه ميزان الكون، وأنه قادم بقدرة العادل لا محالة، فكان استحضارهم لشخص المهدي المنتظر دليل لجؤهم إلى الاستقواء بقوة خارجية خارقة عندما فقدوا الأمل في قدرتهم على رفع الظلم بأيديهم عن أنفسهم.

هذا السبب نفسه هو ما دفع بعض أشهر علماء الإسلام الإصلاحيين إلى رفض فكرة المهدي المنتظر، واعتبارها مدعاة للتواكل والتهرب من واجب مواجهة الطغيان ومجابهة الظلم، ولعل من أبرز هؤلاء العلماء الذين رفضوا الاعتراف بفكرة المهدي المنتظر الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبد الله السمان، والشيخ محمد الغزالي وآخرون، فقد رأى هؤلاء في هذه الفكرة تسويغا للتواكل والتخاذل وتبريرا لاحتمال الظلم والطغيان، وانتفاءا لفاعلية المسلم الذي أمر بإعمار الكون وتحقيق العدل والخير للإنسانية بأسرها.

ويذهب الخلاف بالبعض لاسيما الجماعات الدينية التقليدية كدعاة السلفية وأتباع المذهب الوهابي إلى اعتبار قضية المهدي المنتظر أصل من أصول الإيمان، وأن في إنكارها ما يهدد عقيدة المسلم ويحيد به عن الصراط المستقيم، وأن إنكارها من قبل بعض دعاة الإصلاح إنما هو تقليدا للغرب وتأثرا بدعوة المستشرقين.

وهناك من يرفضها بمنطق الفكر الوضعي فيراها تعطيلا للعقل المسلم وتكريسا لمنطق التفكير الغيبي، والبعد بالمسلم عن مجالات المنافسة الحضارية والفاعلية الإنسانية، وهروب من الواقع وأن الفكرة تزداد توهجا حين الضعف ليعفي بها المرأ نفسه من مغامرة المجابهة وتفعيل إرادة الإصلاح والتغيير.

المهدي المنتظر نبوءة تحرك التاريخ

بين القبول والرفض يقف البعض لينظروا إلى مسألة المهدي المنتظر لا باعتبارها قضية ايمانية تمثل أصلا من أصول العقيدة، وإنما باعتبارها نبوءة تدفع وتحرك مسار التاريخ، فهم ينظرون إليها باعتبارها، فعند هؤلاء أن قضية المهدي المنتظر سواء صحت أم كذبت فهي أصبحت تمثل جزء من المعتقد الشعبي، وإن قليل من الحنكة في معالجة القضية يمكن أن يحيلها من مركز للخلاف بين جماعات المسلمين إلى قوة دافعة تحرك مسار التاريخ، وتقوي الأمل في إنتصار قضايانا العادلة، ولكن كيف ذلك؟

فلا يستطيع أحد أن ينكر أن التاريخ الإنساني عبر قرون طويلة تشكل عبر نبوءتين تاريخيتين أو هما بالأحرى أكذوبتين تاريخيتين، أما الأولى فهي الاعتقاد المسيحي بضرورة تطهير الأراضي المقدسة (مدينة الرب) في الشرق الإسلامي تمهيدا لنزول المسيح، وهي التي مثلت دافعا قويا لتعبئة مسيحي الغرب من البسطاء في الحروب الصليبية، أما النبوءة الثانية فهي نبوءة زائفة لليهود في أرض الميعاد التي استطاع الصحفي الألماني"هرتزل" أن يعيد إحياءها وأن يحصل بعدها على وعد بلفور المشؤم، وإذا كان جزءا من النبوءة قد تحقق لليهود بتأسيس وطن لهم في الأراضي الفلسطينية، فإن الجزء الأكبر لم يتحقق بعد وهو وطن لليهود من النيل إلى الفرات.

والمهدي المنتظر نبوءة تبقي على الأمل في انتصار أصحاب الحقوق المغتصبة من المسلمين، وتدفع التاريخ الإسلامي في سبيل تحرير الأرض وإقامة العدل، لكن علينا أن نحيلها أولا من كونها قضية خلافية إلى مسألة يقع الاتفاق عليها، وربما يكون من المفيد الأن أن أقص عليكم هذه الحكاية.

فقد سأل أستاذا جامعي ذات مرة: كيف يمكننا تحاشي الخلاف حول فكرة المهدي المنتظر؟ وحين تراوحت الإجابات بين الاتجاهين السابقين أولهما يرفض انتصارا للعقل وإبقاءا على فاعلية المسلم، والآخر يؤيد المفهوم لما ورد فيها من أحاديث تصل إلى حد التواتر على حد زعم بعض علماء الحديث، جاءت إجابة الأستاذ على النحو التالي:

ولماذا نصر على أن نجعل منها مركزا للخلاف، الآخر يتفق على أكذوبة يستحل بها أراضي الغير، ونحن لا نستطيع أن نتفق على ما يتوافر له بعض مظاهر الصدق للحفاظ على حقوقنا وأراضينا؟ ولماذا ينبغي أن نجعل من المجدد الذي يأتي على رأس كل مائة عام شخصا واحدا ليصير بعد حين قضية خلافية، فكثيرون يدعوا لأنفسهم أنهم المشار إليهم في هذا الحديث، ثم يصبح لكل منهم أنصار ثم يقع الخلاف بين هؤلاء الأنصار، فما الذي يمنع أن يتوسم كل منا في نفسه القدرة على التجديد وخدمة قضايا الإسلام؟ لاسيما أن الحديث الشريف لم يحدد عدد المرسلين وإنما قال "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". ولماذا لا يكون "المهدي" هو كل فرد من أفراد الشعب الذي ينهض لاسترداد حقوقه التي سلبت؟ وبذلك نتجاوز الخلاف حول شخصه، ومصداقيته، وأوان ظهوره ، ونؤكد للشعوب أن نصرة الله باقية إلى جوارهم ما داموا لم يتخاذلوا في الدفاع عن حقوقهم.

عند هذا الحد أستطيع أن أقول لهؤلاء المساجين لا أستطيع أن أنكر عليكما أن كلاكما المهدي المنتظر، ولكني أستطيع أن أزعم أننا نحن جميعا كذلك، وأن المهدي المنتظر ليس سوى الشعوب التي تقود ثوراتها وتنتصر لحقوقها.