منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#52202
مع تزايد الوعي بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم يعد هناك من يستطيع التشكيك المبدئي في الدور الأساسي للأحزاب في الحياة السياسية، وأصبح واضحا للجميع بأنه لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية بدون وجود أحزاب سياسية قوية وذات مصداقية، وأضحى الكل يتفق، ولو نظريا على الأقل، على أنه لا يمكن تحقيق تطور سياسي، ونماء اقتصادي، وتقدم اجتماعي دون مشاركة واسعة للمواطنين في إطار ديمقراطية سليمة، تقوم على الشرعية التمثيلية، التي ترتكز على الإرادة الشعبية، وتتبلور من خلالها سلطة المؤسسات، ودولة الحق والقانون.

وفي المغرب كما في غيره من الدول التي تأخذ بالتعددية الحزبية، سواء كانت تلقائية في شموليتها، أو مفتعلة في جزء منها، فإن حضور الأحزاب وامتداداتها في المجتمع، وفعاليتها في الحياة السياسية، واستقلاليتها في مبادراتها ومواقفها، هي العناصر التي تحدد لكل حزب موقعه في المشهد السياسي، وتتجلى تلك العناصر من خلال نشاط كل حزب، ومدى قدرته على تعبئة المواطنين، وإلى أي حد يستطيع التعبير عن حاجات المجتمع، والتجاوب مع رغبات شرائحه الواسعة، ومدى كفاءته في ترجمة ذلك إلى برامج واقعية واضحة الأهداف، ومحددة الوسائل الكفيلة بتحقيقها.
وقد عرف المغرب أصنافا من الأحزاب، بعضها له جذور عميقة في المجتمع المغربي، انبثق من تطلع الشعب للانعتاق والتحرر من الاستعمار في مرحلة أولى، والتحم مع المواطنين في طموحهم للديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية، في مرحلة ثانية، وهي الأحزاب التي يصر البعض على تسميتها «التقليدية» نكاية في شرعيتها التاريخية والنضالية؛ وهناك أحزاب انبثقت عن انشقاقات حزبية استطاع بعضها أن يكون لنفسه رصيدا وموقعا في الحياة السياسية، وضاع البعض الآخر في متاهة الانشقاقات المتواصلة، وخلق أحزاب صغيرة غير قادرة على التأثير، أيا كان توجهها السياسي؛ وهناك أحزاب تم تفريخها على مراحل بآلة السلطة، أحيانا لتمييع التعددية ومحاولة نزع البساط من تحت أقدام الأحزاب الوطنية، وأحيانا أخرى لتكوين أغلبيات موالية ومساندة لسياسات لا تتجاوب في عمقها وأبعادها مع رغبات السواد الأعظم من الشعب، في إطار ديمقراطية شكلية مزيفة.
وتفيد التجربة أن الأحزاب التي لا تستمد وجودها وقوتها من أفكارها ومجهوداتها الخاصة في التأطير والتنظيم والمبادرة، لا تستطيع أن تضمن لنفسها مكانا ثابتا ومحترما على الخريطة الحزبية، وأن الأحزاب التي أوجدتها السلطة، أو أُحدثت لخدمة هذه الأخيرة، أو تستمد انتشارها من الدعم الإداري، أو من القرب من مواقع النفوذ، فإنها إذا كانت تستقطب الكثير ممن يرون فيها قنطرة للوصول إلى مآربهم الخاصة، فإنها لا تستطيع كسب الثقة الواسعة، وتبقى بدون مصداقية.
وإذا كان التمييز بين أصناف الأحزاب السياسية في المغرب ليس أمرا مستعصيا بالنسبة للمتتبعين وكذا الباحثين الموضوعيين، فإن هناك أصواتا وأقلاما كثيرة تُصر على خلط الأوراق، ومحاولة تعتيم الصورة أمام عموم المتلقين المفترضين، عن طريق الطعن المعمم والمطلق في كل الأحزاب السياسية المغربية، سواء كانت أحزابا حقيقية في تاريخها ومسارها وتنظيماتها ومواقفها، أو كانت مجرد أدوات يتم اختلاقها لإضافة ألوان إلى المشهد السياسي لا تمت للواقع بأي صلة فتصبح صورته معتمة، لا يتمكن معها المواطن العادي من التمييز.
ويلاحظ أن عدد المتخصصين في خلط الأوراق ما فتئ يتزايد، ويمكن القول بأننا أصبحنا أمام تعدد "نوعي" في هذه الفئة، فهناك من يمارس ذلك بدوافع وخلفيات معينة، وإما بسذاجة ومجاراة لما تردده بعض المنابر، أو انطلاقا من عدمية لا أفق لها، ويشتركون في توجيه نفس "النقد" لكل الأحزاب دون تمييز، ويمارسون النقد السلبي الذي ينحصر في الترديد المتكرر لما يعتبرونه عيوبا ونقائص، كما هي موجودة فعلا بالنسبة لبعض الأحزاب، أو بإضافة توابل ورتوشات تغير الوضع الأصلي، أو تنحرف عن السياق الطبيعي لتصل في النهاية إلى تعميم تعسفي لا يسنده الواقع.
وإذا كان من الصعوبة إقناع الذين يزاولون هذه "الهواية" لأهدافهم الخاصة وخلفياتهم الضيقة، أو لحسابات معينة، أن يتركوا هذه الهواية غير البريئة، فأعتقد أن الأمر يختلف بالنسبة لمن يعتقدون أنهم بانخراطهم في هذا اللعب يقدمون "خدمة" لبلادهم، وبالتالي يمكن مخاطبة هؤلاء والتحاور معهم، كما يمكن كسبهم للمساهمة الإيجابية في التصحيح والبناء لمستقبل لا مجال فيه للخلط والتعتيم.
وفي جميع الأحوال فإنه يجدر التأكيد والتذكير بأن اختيار حمل السلاح في مواجهة الأحزاب السياسية دون تمييز، وإطلاق النار في كل الاتجاهات، انطلاقا من نظرة سطحية موغلة في التعميم، دون محاولة الاقتراب للتعرف ولو بشكل نسبي على الهيئات التي توضع كلها في موقع الخصم، وممارسة هذه "الهواية" من أبراج بعيدة، أو من زوايا "الحياد" إنما هي ممارسة للعبة خطيرة، قد تسلي البعض، لكنها بقصد أو بغيره، تساهم في تعميق الأعطاب، وتأخير الوصول استكمال البناء الديمقراطي المنشود، لأن المساهمة الإيجابية في هذا الورش الوطني الكبير تقتضي إرادة شجاعة لتحمل المسؤولية، والانخراط في الأحزاب، والمشاركة الفعلية في التصحيح والتقويم من الداخل، كلما اقتضى الأمر ذلك، عن طريق الحوار والإقناع؛ أو على الأقل الالتزام بالموضوعية التي تقتضي المعرفة والنزاهة والقواعد العلمية للنقد السياسي لمن استطاع إلى ذلك سبيلا؛ أما أن يستطيب البعض الجلوس في مواقع (الحياد) المريحة دون تحمل أي مسؤولية، وتوجيه السهام بعشوائية لأدوات بناء المجتمع الديمقراطي، فإن هذا الاختيار لا يمكن أن يؤدي إلا لهدم الديمقراطية، ولا يساعد بتاتا على بنائها، ولا أظن أن هذه الحقيقة تغيب عن أذهان بعض الذين اختاروا حمل السلاح المدمر في مواجهة الأحزاب السياسية بالمغرب.