منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#52219
لا يحتاج المرء إلى قدر كبير من التأمل لكى يتبين أن السياسة الخارجية الأمريكية تمر بمرحلة عاصفة تتصارع فيها مجموعات من العوامل والقوى والتصورات التى تضع السياسة الخارجية للولايات المتحدة فى النهاية فى أزمة حقيقية ويكاد أن يجمع محللو السياسة الخارجية الأمريكية على وجود تلك الأزمة، وإن كان لا يوجد هناك إجماع على مصادرها، وطرق التخلص منها، ففى مقالة كتبها فى مجلة الشئون الخارجية سنة 1980 استهل جورج بول تحليله للسياسة الخارجية الأمريكية بوصفى 1980 بأنها سنة كئيبة بالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة
(1) وقبله كتب روبرت تكر فى نفس المجلة مؤكدا الإحساس بتدهور مركز الولايات المتحدة الدولى وبالذات بعد الثورة الإيرانية
(2) وفى مجال الدراسات الأكاديمية كتب الأستاذان كيجلى وماكجوان مقالة حديثة مؤكدان فيها وجود تلك الأزمة نتيجة وجود تغيرات هامة فى النظام الدولى لا تستطيع الولايات المتحدة التكيف معها
(3) فى هذه الدراسة سنحاول تحليل مصادر وأشكال هذه الأزمة، وهى فى نظرنا تكاد تدور حول ثلاثة محاور: المحور الأول، هو الأزمة الهيكلية التى تتميز بها السياسة الخارجية الأمريكية منذ سنة 1976، ولكنها تتخذ أبعادا خاصة أخرى فى الثمانينات فى ظل إدارة الرئيس ريجان والمحور الثانى، هو افتقاد النخبة السياسية والثقافية الأمريكية إلى بؤرة اتفاق عام حول التوجه العام للسياسة الخارجية الأمريكية فى الثمانينات أما المحور الثالث، فهو يدور حول خلط بعض الافتراضات والتصورات التى تدور حولها السياسة الأمريكية الراهنة، وأثار ذلك على صياغة السياسة الخارجية الأمريكية الأزمة الهيكلية فى السياسة الخارجية الأمريكية: يوضح استقراء السياسة الخارجية الأمريكية منذ سنة 1776 أن تلك السياسة تتميز بوجود أزمة هيكلية دورية كامنة فى طبيعة المجتمع الأمريكى، كما أنها تظهر عبر فترات تاريخية ثابتة واضعة صانع قرار السياسة الخارجية فى تناقض بين القوى الهيكلية فى المجتمع وبين ما يتصوره لمصلحة قومية أمريكية هذه الأزمة تتخذ أبعاد وأشكالا محددة فى فترة الثمانينات، كما أنها تنعكس على السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط فى شكل تضخيم الوزن لبعض فئات المجتمع الأمريكى فى عملية صنع السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط يكمن أساس أزمة السياسة الخارجية الأمريكية فى ظاهرة وجود مزاج أمريكى عامPublic mood يتعلق بالسياسة الخارجية تشكل الحدود الرئيسية التى يتعين على الرئيس الأمريكى أن يعمل فى إطارها، بل وقد يتناقض فى بعض الأحيان مع ما قد تتصوره النخبة السياسية فى بعض الأحيان على أنه المصلحة القومية الأمريكية بعبارة أخرى، فإنه رغم أن السياسة الخارجية الأمريكية هى فى النهاية شأنه شأن الدول الأخرى من صنع النخبة السياسية إلا أن المزاج العام للمجتمع الأمريكى يضع حدودا لتلك السياسة بحيث أن الرئيس الذى حاول معارضة هذا المزاج العام فى سياسته الخارجية كان نصيبه الخسارة كما حدث بالنسبة للرئيس ويلسون (عصبة الأمم) والرئيس جونسون
(فيتنام) يقصد بالمزاج العام فى هذا السياق مجموعة الاتجاهات والمشاعر العامة التى تسيطر على جيل معين إزاء القضايا الكبرى، أى أنه ينصرف إلى التوجه العام للمواطنين إزاء دور السلطة فى المجالات الخارجية والداخلية وهو بذلك يختلف عن الرأى العام الذى يقتصر على مجموعة أراء محددة إزاء قضايا آنية محددة كذلك فالمزاج العام يتغير عبر فترات زمنية طويلة نسبيا قد تصل إلى عقدين أما الرأى العام فإنه يتقلب فترات أقصر بكثير تقلب السياسة الخارجية الأمريكية بين التوجهين التدخلى والانعزالى: انتهى بعض دارسى السياسة الخارجية الأمريكية إلى أن المزاج الأمريكى العام يتقلب فى شكل بندولى ودورى ثابت بين توجهين رئيسيين: الأول هو التوجه الانعزالى وقوامه رفض المشاركة النشيطة فى النظام الدولى والتركيز على القضايا الأمريكية، والمشكلات الداخلية، وبناء نموذج اجتماعى أمريكى تحتذى به الدول الأخرى، أما التوجه الثانى فهو توجه تدخلى أساس المشاركة النشطة فى النظام الدولى من أجل تغيير مسار السياسة الدولية وتحقيق المصالح الأمريكية كان الأستاذ فرانك كلاينبرج هو أول من اكتشف هذا الخط فى مقالة مشهورة نشرها سنة 1952 فى مجال السياسة العالمية أن هذا النمط قد سار ابتداء من سنة 1776 العالمية أن هذا النمط قد سار ابتداء من سنة 1776 كالأتى
(4) 1776-1798فترة انعزالية 1798-1824 فترة تدخلية 1824-1844فترة انعزالية 1844-1871فترة تدخلية 1871-1891 فترة انعزالية 1891-1919 فترة تدخلية 1919-1940 فترة انعزالية 1940-1968فترة تدخلية 1968 الآن فترة انعزالية ويتضح من هذا العرض التاريخى أن الموجات الانعزالية والتدخلية تحدث بشكل نمطى متعاقب، كما أن متوسط طول الفترة التاريخية (37 سنة للفترة التدخلية، 21 سنة للفترة الانعزالية) ويمكن توثيق هذا التغير بالتفصيل، ولكننا سنكتفى بالإشارة إلى بعض الأمثلة ومن ذلك الفترة الثالثة، وهى فترة انعزالية بدأت فى منتصف عشرينات القرن الماضى بإصدار ميدا مونرو سنة 1823 والذى أكد صراحة على عدم تدخل الولايات المتحدة فى الشئون الأوروبية كذلك فإن رفض الكونجرس الأمريكى التصديق على انضمام الولايات المتحدة لعصبة الأمم سنة 1919 كان استجابة لمزاج انعزالى عام ساد المجتمع الأمريكى فى الفترة اللاحقة للحرب استمر هذا المزاج الانعزالى حتى دخول الولايات المتحدة الحرب ضد اليابان ودول المحور فى الحرب العالمية الثانية وقد كان هذا الدخول، إلى حد كبير، استجابة لتحول تدخلى فى المزاج العام ما لبث أن تعاظم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتمثل فى سياسات الاحتواء ومشروع مارشال، ومبدأ ايزنهاور، والتدخل فى جنوب شرق آسيا وقد انتهت تلك الفترة فى أواخر الستينات تقريبا تحت تأثير الحرب الفيتنامية، وكان انتخاب الرئيس نيكسون سنة 1968 بسبب وعده بإنهاء تلك الحرب ومن المتوقع، إذا صح النمط البندولى السابق، أن تستمر الفترة الانعزالية الحالية حتى منتصف الثمانينات تقريبا
(5) بصفة عامة فإن كلا من التوجه الانعزالى والتوجه التدخلى يرتبط بتغيرات محددة فى عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، وبالذات بالوزن النسبى للقوى المختلفة فى صنع تلك السياسة ومن ثم بطبيعة أزمات السياسة الخارجية الأمريكية فمن الملاحظ أنه فى الفترات الانعزالية، فإن دور الرئيس الأمريكى فى صنع السياسة الخارجية يقل إلى حد كبير عن دوره فى الفترات التدخلية، بينما يزداد وزن الكونجرس ففى الفترات الانعزالية فإن الكونجرس يسانده المزاج العام يكون فى مركز يسمح له بضبط سلوك الرئيس عن طريق رفض ما يطلبه الرئيس من اعتمادات للسياسة الخارجية أما فى الفترات التدخلية، فإن هناك ميلا عاما للتدخل النشيط وترك القرارات الرئيسية لصانع القرار السياسى (الرئيسى) كذلك، فإن أعضاء الكونجرس بحكم رغبتهم فى إعادة الانتخاب لا يميلون إلى معارضة السياسة الخارجية النشيطة للرئيس أضف إلى ذلك أن الرأى العام يكون عادة فى حاجة إلى سلوك خارجى نشيط لا يستطيع أن يضطلع به سوى الرئيس
(6) تفسير النمط البندولى للسياسة الخارجية الأمريكية: هناك أذن نمط ثابت فى السياسة الخارجية الأمريكية يكاد يشبه نمط بندول الساعة الذى يتأرجح بين توجه وأخر فى شكل نصف دائرى منتظم يعزو بعض الدارسين هذا التأرجح إلى سبب رئيس مؤداه غلبه الطابع الليبرالى على العقلية الأمريكية منذ أن انتصر التوجه الليبرالى الذى قاده توماس جيفرسون على التوجه المحافظ الذى قاده الكسندر هاملتون فى بداية نشأة الولايات المتحدة والواقع أن العقلية الليبرالية الأمريكية تعتقد فى حتمية التغيير والتقدم، وأن التناسق والانسجام هذا الطبيعة الأساسية للمجتمع، كما أنها ترى أنه من الضرورى تغيير علاقات القوة القائمة فى النظام السياسى الدولى بما فى ذلك رفض حقائق النظام الدولى القائم ومحاولة إعادة تشكيلها كل ذلك مصحوب بعقيدة تفاولية مبالغ فيها عن قدرة الولايات المتحدة على إحداث هذا التغيير مما يخلق توقعات لا يمكن الوفاء بها أهمية ذلك بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية هو أن الإحباط الذى يصيب السياسة الأمريكية نتيجة فشل محاولات تغيير النظام الدولى من متطور استراتيجية معينة، يؤدى بهم إلى التحول نحو استراتيجية أخرى سرعان ما تظهر أثارها السلبية عبر فترة طويلة نسبيا، مما يؤدى بهم إلى التحول إلى استراتيجية أخرى وبذلك فقد تأرجحت السياسة الخارجية الأمريكية بين استراتيجى التدخل والانعزال، كلاهما يهدف إلى تحقيق المصالح الأمريكية فى النظام الدولى، ولكن الأولى تفعل ذلك من خلال تدخل القوة الأمريكية، أما الثانية، فإنها تركز على بناء النموذج الأمريكى
(7) ويرى بعض الدارسين الآخرين أن النمط البندولى الدورى فى السياسة الخارجية الأمريكية يرجع إلى ظاهرة تعاقب الأجيال السياسة فمتوسط عمر الجيل السياسى هو فى القادة 24 أو 25 سنة، وهى الفترة الزمنية من عمر الفرد التى يستطيع فيها الفرد أن يظل مؤثرا فى مجتمعه من الناحية السياسية كذلك متوسط عمر الجيل السياسى هو فى العادة متوسط طول الفترة النشيطة من حياة الفرد (20 سنة حتى 65 سنة) أتى حوالى 45 عاما، وهى تقريبا نفس الفترة الزمنية التى تتم فيها الدورة الانعزالية التدخلية الكاملة معنى ذلك أنه فى كل جيل سياسى تحدث دورة سياسية كاملة يضفها انعزالى، ونصفها تدخلى فى إطار شبه ديالكتيكى قوامه فكرة الإحباط التى تظهر نتيجة ظهور مساوئ النصف الأول من الدورة مما يدفع البندول نحو النصف الثانى منه
(8) النمط البندولى وأزمة السياسة الخارجية الأمريكية: الواقع أن التحليل السابق لا يعنى بالضرورة أن السياسة الخارجية الأمريكية تمر بأزمة معينة فى الثمانينات، ولكن الأزمة تتضح حين يتشابك النمط البندولى للمزاج الأمريكى العام إزاء السياسة الخارجية مع المتغيرات الأخرى فى صنع تلك السياسة وهناك نشير إلى متغيرين محددين: أولا: التناقض بين النمط البندولى وبين مصالح النخبة لا يعنى القول أن هناك نمطا بندوليا فى السياسة الخارجية الأمريكية نتيجة وجود نمط بندولى للمزاج الأمريكى العام أن هذا الأخير هو المتغير الوحيد فى صنع السياسة الخارجية الأمريكية فهناك متغيرات أخرى، وأهمها أثر النخبة الاجتماعية الاقتصادية الأمريكية ولا يختلف دارسو السياسة الأمريكية على وجود مجموعات نخبوية محددة تسيطر على صنع قرارات السياسة الأمريكية، وأن هناك قدرا من الاتفاق العام بين تلك المجموعات على التوجهات والمصالح الأساسية
(9) وعلى رأس تلك المجموعات يقف ما يعرف باسم المركب الصناعى العسكرى الذى حذر الرئيس ايزنهاور الشعب الأمريكى فى خطبة الوداع سنة 1961 من سيطرته على السياسة الأمريكية تتكون تلك النخبة أساسا من العسكريين المحترفين ومديرى ومالكى الشركات الكبرى العاملة فى ميدان الإنتاج الصناعى العسكرى بالإضافة إلى رجال السلطتين التنفيذيين والتشريعية المرتبطين بتلك الشركات الواقع أن هذه النخبة لها مجموعة من المصالح الهامة التى تقدمها مصالح الولايات المتحدة أهم هذه المصالح هى إقرار نظام من العلاقات الدولية الاقتصادية قوامة حرية التجارة لضمان الحصول على المواد الأولية وتصدير المنتجات الصناعية وحماية التفوق الأمريكى فى أمريكا الشمالية وفى نصف القارة بصفة عامة ومنع سيطرة قوة معادية على أوروبا أو شرق آسيا (اليابان، الصين، كوريا، جنوب شرق آسيا) فنلاحظ أن الولايات المتحدة خاضت معظم حروبها لمنع سيطرة قوة معادية فى أوروبا أو شرق آسيا أو حماية مركزها فى غرب أوروبا وذلك كما اتضح فى دخولها الحروب النابوليونية والحربيين العالميتين، كذلك فقد عارضت الولايات المتحدة الأطماع الاستعمارية الأوروبية فى شرق آسيا فى بداية القرن العشرين والأطماع اليابانية فى الثلاثينات وهذه المصالح الدائمة نسبيا تأخذ صورا مختلفة فى كل فترة زمنية، فعلى سبيل المثال هناك مصلحة الحفاظ على التفوق الإسرائيلى على كل الدول العربية نتيجة ذلك التحالف اليهودى الليبرالى على مستوى النخبة الاجتماعية السياسية المسيطرة تتضح أزمة السياسة الخارجية الأمريكية فى ذلك التناقض بين العقل الأمريكى الليبرالى وأثاره على توجيهات السياسة الأمريكية (التوجه الانعزالى والتوجه التدخلى) وبين المصالح الدائمة نسبيا للنخبة الاجتماعية الاقتصادية والتى تتطلب توجها دائما نسبيا فى السياسة الخارجية الأمريكية فالنخبة الأمريكية تستطيع أن توجه السياسة بما يتفق ومصالحها طالما كانت تلك المصالح تتمشى مع المزاج العام بيد أن الأزمة الدورية تحدث عندما تتناقض مصالح النخبة مع المزاج العام فى بداية كل مرحلة ففى الفترة السابقة لتغيير المرحلة (وهى فترة تستغرق عادة من سنتين إلى سبع سنوات) نجد أن المزاج العام قويا إلى درجة تمنع قيادات النخب من التصرف فى مجال السياسة الخارجية بما يتصوره أنه مصالح الولايات المتحدة كذلك ففى السنوات القليلة التالية للتغيير تجد قيادات النخبة نفس المشكلة حيث أن السلوكيات والاتجاهات فى الفترة السابقة للتغيير يجب أن تتغير لتتلاءم مع المرحلة الجديدة ويوضح هولمز أن الفترة من 1962 حتى 1968 والفترة السابقة للتغيير نحو الانعزالية) ، والفترة من سنة 1968 حتى سنة 1972 (الفترة التالية للتغير) قد شهدت تلك الأزمة ففى الفترة الأولى كان المزاج العام أكثر تدخلية مما تحتمله المصالح الأمريكية، وفى الفترة الثانية كان أكثر انعزالية مما تتطلبه المصالح الأمريكية ولعل أبرز الأمثلة على هذه الأزمة هو عجز الرئيس الأمريكى فورد عن اتخاذ قرارات أساسية تصور أنها فى مصلحة الولايات المتحدة، ومن ذلك عجز الرئيس فورد عن التدخل الحاسم فى أنجولا إلى جانب الوالى للولايات المتحدة إذ رفض الكونجرس اعتماد الأموال اللازمة بسبب أثر الصدمة التى أصابت المجتمع الأمريكى عقب هزيمة الولايات المتحدة فى فيتنام واتضاح الآثار السلبية للتوجه التدخلى، ومن ثم خسرت الولايات المتحدة فى أنجولا، وقد نتذكر الخطب التى ألقاها وزير الخارجية كيسنجر آنذاك مطالبا الرأى العام الأمريكى بأن يرتفع فوق جراح فيتنام وأن يتغلب على النزعة السائدة والتى تطالب بعزلة الولايات المتحدة أو تقليص نشاطها السياسى الخارجى حاول كيسنجر ممثلا فى خطابه أمام مجلس الشئون الخارجية فى سان لويس أن يوضح استحالة الانسحاب من النظام الدولى ولكن صيحته ضاعت إدراج الرياح، وفى نظرنا، فإن عجز الولايات المتحدة عن التدخل فى إيران لمصلحة الشاه كان إلى حد كبير نتيجة سيادة التوجه الانعزالى فى الولايات المتحدة ذاتها، فنحن نتذكر أن الولايات المتحدة تدخلت فعلا لإعادة الشاه سنة 1953 (فترة التوجه التدخلى) والواقع أن هذه الأزمة تشبه الأزمة التى واجهتها السياسة الأمريكية عامى 1920/1922 عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وسيادة التوجه الانعزالى فى مواجهة مصالح تدعو إلى التدخل النشيط ثانيا: التناقض بين الأنماط البندولية: مما يزيد من تعقد أزمة السياسة الخارجية الأمريكية، أن التوجه الانعزالى التدخلى ليس هو التوجه الوحيد فى المزاج العام الأمريكى فهناك توجهات أخرى أهمها التذبذب البندولى بين التوجه الليبرالى والتوجه المحافظ قوام التوجه الليبرالى محاولة إصلاح المؤسسات السياسية والاجتماعية تدخل الدولة للاهتمام لشئون الفقراء والأقليات برامج الإصلاح الاجتماعى وزيادة الإنفاق الحكومى، وممارسة الدولة لدور أكبر فى تنظيم عمل ورقابة المؤسسات الإنتاجية الخاصة أما التوجه المحافظ فإنه يدور حول إطلاق الحرية للقطاع الخاص والحوافر الفردية، والإقلال من برامج الإصلاح الاجتماعى وتدخل الدولة وتتضح المشكلة حين يتدخل التوجه الخارجى والانعزالى/ التدخلى) ، مع التوجه الدخلى (الليبرالى/ المحافظ) وما يفرضه ذلك من قيود على كفاءة الرئيس الأمريكى فقد ينتخب الرئيس لأن توجهه الداخلى يتماشى مع المزاج العام، ولكنه يجد نفسه شبه عاجز عن العمل فى ميدان السياسة الخارجية لأن توجهه الخارجى يتناقض مع المزاج الخارجى العام ولنضرب مثالا عن ذلك بالسياسة الخارجية الأمريكية فى عهد الرئيس كارتر وفى عهد الرئيس ريجان الواقع أن الرئيس كارتر جاء إلى الحكم سنة 1976 ونظامه يحمل فى طياته بذور هذا التناقض فكارتر انتخب بنسبة ضئيلة للغاية لأن سياسته الخارجية كانت تتلاءم إلى حد كبير مع التوجه الانعزالى السائد، ويتمثل ذلك فى رفض التدخل العسكرى والسياسة فى الدول الأخرى، التركيز على المشكلات الداخلية، اتباع سياسة توفيقية مع الدول الصغرى مثل بنما (اتفاقية بنما) وزيمبابوى ونيكاراجوا ومع الدول الكبرى كالصين الشعبية، التركيز على قضايا حقوق الإنسان فى السياسة الخارجية، بيد أن مشكلة الرئيس كارتر كانت فى توجهه الليبرالى بينما أن التوجه الداخلى السائد هو شبه محافظ فكارتر جاء ببرامج واسعة للإصلاح والاهتمام بشئون الأقليات وزيادة الإنفاق الحكومى، مما كان يتناقض مع التوجه المحافظ الذى يسود المزاج الأمريكى (بل والعالم المعاصر (وفى نظرنا، فإن فشل الرئيس السابق كارتر يرجع إلى هذا التناقض، بالإضافة إلى عدم قدرته على اتخاذ إجراءات سياسية خارجية قوية قد تتناقض مع المزاج الأمريكى العام الذى يسوده التوجه الانعزالى خصوصيات الأزمة بالنسبة لسياسة الرئيس ريجان: قدمنا أن هناك أزمة هيكلية فى بنيان السياسة الخارجية الأمريكية تتمثل فى التناقض بين مصالح النخبة والتوجه البندولى للمزاج الأمريكى العام، وفى التناقض بين النمط البندولى الداخلى والخارجى والواقع أن هذه الأزمة تنعكس على السياسة الحالية للرئيس ريجان على مستويين:
1- فالرئيس ريجان من ناحية يكاد أن يكون خير تعبير عن مصالح النخبة الصناعية العسكرية التى أشرنا إليها نظرا، والتى اختار منها معظم مستشاريه وعلى رأس هؤلاء الكسندر هيج وزير الخارجية الحالى الذى كان قبل تعيينه فى منصبه الحالى مباشرة رئيسا لشركة، التكنولوجيا المتحدة التى تصنع إحدى شركاتها (برات وهوايتنى للطيران) محركات الطائرات هذا بالإضافة إلى الجنرال بزنارد شرايفر الذى رأس شركتى كنترول داتا وايمرسون البكتريك العالميتين فى مجال الإنتاج العسكرى، ودافيد باكار، وزير الدفاع السابق الذى يرأس حاليا مجموعة شركات عالمية فى ميدان الإنتاج الصناعى والعسكرى وأخيرا مجموعة مليونيرات كاليفورنيا وعلى رأسهم هولمز تتل وقد أسهمت كل هذه الشركات وغيرها من العاملة فى نفس الميدان إسهاما ضخما فى الحملة الانتخابية للرئيس ريجان أهمية ذلك هو أن الرئيس ريجان يتبنى مصالح تلك النخبة فى زيادة الإنفاق العسكرى زيادة ضخمة والوسيلة الرئيسية لإقناع الرأى العام الأمريكى بضرورة ذلك هى التضخيم من حجم الخطر السوفيتى على الأمن القومى الأمريكى على نحو ما سنذكره حالا بيد أن تلك المصالح والسياسات تكاد أن تتناقض مع المزاج الأمريكى الحالى الذى يرفض السياسات التدخلية النشيطة، مما يضع السياسة الأمريكية فى مأزق حقيقى
2- أما المستوى الثانى للأزمة هو أن الرئيس ريجان قد انتخب لأسباب تتعلق بتوجهه الداخلى المحافظ ووعده بخفض معدل التضخم مما يتمشى مع طبيعة المزاج الأمريكى الداخلى فى الفترة الحالية إذ يكاد يجمع دارسو السياسة الأمريكية على أن الفترة الحالية فى المزاج الأمريكى الداخلى هى فترة محافظه
(12) ومن ثم فإن الرئيس ريجان يتمشى مع المزاج العام الداخلى المحافظ فى الولايات المتحدة بيد أن الأزمة تتضح حين ننتقل إلى ميدان السياسة الخارجية فالفترة الراهنة فى المزاج الأمريكى العام تكاد أن تكون فترة انعزالية وذلك بإجماع دارسى السياسة الخارجية الأمريكية ومنهم كلاينبرج (صاحب النظرية) وهولمز وبريجنسكى
(13) وفى نفس الوقت فإن الرئيس ريجان يتبنى سياسات تدخلية تتعارض مع المزاج العام الأمريكى المتعلق بالسياسة الخارجية منذ سنة 1968 ولذلك وجد بالمعارضة داخل الكونجرس وعلى مستوى الرأى العام الأمريكى المحاولة التدخل العسكرى فى سان سلفاردو كما قطاعات واستغرق الرأى العام الأمريكى تنفيذ التركيز الشديد على سياسة المواجهة مع الاتحاد السوفيتى التى يتبناها الرئيس ريجان وفى نظرنا، فإنه من غير المحتمل أن يغير الرئيس ريجان قناعاته العقيدية المتعلقة بالسياسة الخارجية فالنظام العقيدى للرئيس ريجان يتسم بالثبات النسبى سياساته فأجاب أننى مازلت حيث كنت منذ عشرين عاما خلت كما قال عنه ستيوارت سبنسر إحدى مخططى حملته الانتخابية، أن ريجان أقل الأشخاص الذين عرفتهم تغيرا، فلديه مجموعة من القيم، وكل شئ لديه ينبع من تلك القيم
(14) وهنا يكمن مصدر أخر لأزمة السياسة الخارجية الأمريكية فى الثمانينات، أزمة التناقض بين نمطين مختلفين الأمريكى العام بما يؤدى إلى وجود رئاسة انتخبت لأنها تتمشى مع النمط الداخلى المحافظ للمزاج العام، ولكنها تتبع سياسات تتعارض مع النمط الخارجى الانفرالى للمزاج العام ثالثا: تذبذب السياسة الخارجية الأمريكية: وأخيرا يستخلص جاك هولمز من هذا النمط أن السياسة الخارجية الأمريكية تتسم بعدم الاستقرار مما يؤدى إلى تغير مستمر فى علاقات وارتباطات الولايات المتحدة الخارجية وتزداد خطورة هذه الظاهرة فى ضوء متغيرات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية فقبل عام 1945 كان من الممكن تحمل أعباء التوجه التدخلى الشديد أو التوجه الانعزالى الشديد سواء من ناحية التكاليف أو النتائج كالدخول فى حروب ولكن بعد ظهور ميزان الرعب النووى فإن تلك التكاليف لم يعد بعد الممكن تحملها كذلك فإن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد يحتمل التغير المستمر فى الارتباطات الخارجية
(15) رابعا: تعاظم دور الكونجرس وأثره على السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط: ذكرنا أن من خصائص الفترات الانعزالية فى السياسة الخارجية الأمريكية تعاظم دور الكونجرس فى عملية صنع السياسة الخارجية والواقع أن هذا التعاظم هو أحد مصادر أزمة السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط المتمثلة فى عدم قدرة الولايات المتحدة على التوصل إلى تسوية شاملة مرضية لكل الأطراف فمن الثابت أن الكونجرس الأمريكية منحاز إلى الجانب الإسرائيلى فى أزمة الشرق الأوسط بدرجة تفوق انحياز الإدارة الأمريكية وإنه كلما حاولت الإدارة الأمريكية موازنة سياستها إزاء الصراع العربى الإسرائيلى كلما ضغط الكونجرس لإيقاف هذا الاتجاه فى دراسة الباحث الأمريكى روبرت ترايس عن حجم تأييد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكى لإسرائيل فى الفترة من يونيو سنة 1970 حتى ديسمبر سنة 1973 من واقع اتجاهات تصويتهم على مشروعات القرارات المتعلقة بالصراع العربى الإسرائيلى وجد أن 84 % من أصوات الخمسمائة والواحد والخمسين التى أدليت خلال التصويت على سبعة قرارات متعلقة بالصراع العربى الإسرائيلى يمكن أن تعتبر مؤيدة تماما لإسرائيل (أى 463 صوتا) (16) وفى دراسة أخرى للباحث الأمريكى ديفيد جارنهام حول الكونجرس الثالث والتسعين وجد أن 75% من أعضاء مجلس النواب يصل تأييدهم لإسرائيل إلى أقصى درجة فى مقياس التأييد
(17) كذلك وجد الباحثان أن القاعدة السياسية لتأييد الكونجرس لإسرائيل موزعة بالتساوى بين الجمهوريين والديمقراطيين كما أنه سيتم بالثبات النسبى فرغم تغير الأعضاء فإن التأييد ظل ثابتا تقريبا وأن هذا الثبات يزيد عن ثبات تأييد الكونجرس لأى سياسة خارجية أخرى والواقع أن تأييد الكونجرس لإسرائيل ليس بظاهرة جديدة ولكن مصدر الأزمة هو التعاظم المستمر لدور الكونجرس فى ظل التوجه الانعزالى فى عملية صنع السياسة الخارجية على حساب دور الرئيس فى السبعينات والثمانينات ولعل أشهر الأمثلة على ذلك قرار سلطات الحرب الصادر من الكونجرس سنة 1973 والذى يحد من سلطة إرسال قوات إلى الخارج دون موافقة صريحة من الكونجرس ومن ثم يجد الرئيس الأمريكى نفسه عاجزا فى بعض الأحيان عن التصرف فى ميدان السياسة الخارجية مما قد يتصوره مصلحة الولايات المتحدة
(18) خامسا: تعاظم دور جماعات الضغط الصهيونية: تتميز الفترات الانعزالية فى السياسة الخارجية الأمريكية بتعاظم دور جماعات الضغط فى صنع السياسة الخارجية (بالإضافة إلى تعاظم دور الكونجرس) وذلك بحكم عدم اهتمام الرأى العام الأمريكى نسبيا بقضايا السياسة الخارجية ولذلك فإنه رغم تضاؤل دور الولايات المتحدة العالمى فإن دورها فى الشرق الأوسط فى السبعينات والثمانينات قد ازداد بشكل ملحوظ فالرؤساء الأمريكيون لا يكفون عن ترديد وتأكيد الالتزام الأمريكى بأمن إسرائيل بما يتطلبه ذلك من التزامات خارجية قد تتعارض لأول وهلة مع طبيعة الفترة الحالية فى المزاج الأمريكى العام ولعل تزايد أثر جماعات الضغط الصهيونية هو أحد مصادر عدم قدرة الولايات المتحدة على التوصل إلى تسوية شاملة ولعلنا نتذكر إصرار الرؤساء الأمريكيون على عدم التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية فى الوقت الذى نتعامل معها كل دول أوروبا الغربية تقريبا الاختلاف الأمريكى بخصوص توجهات السياسة الخارجية: المظهر الرئيسى الثانى لأزمة السياسة الخارجية الأمريكية فى الثمانينات هو انعدام ما يمكن أن نسميه الاتفاق العام حول الخطوط والتوجيهات الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية على مستوى التنمية للسياسة والثقافة الأمريكية
(19) فرغم سيادة التوجه الانعزالى على مستوى المزاج العام إلا أن الولايات المتحدة كما ذكرنا لا تستطيع حتى أن أرادت أن تنسحب تماما من النظام الدولى إذ أن حجم التزاماتها وارتباطاتها واستثماراتها الخارجية لا يسمح بذلك ومن ثم فإنه من المتعين أن تنفق النخبة السياسية على خطوط أساسية لكيفية التعامل الدولى فى ظل التوجه الانعزالى وقد لاحظ بريجنسكى قبل أن يكون مستشارا للأمن القومى ظاهرة الانقسام الأمريكى مؤكدا افتقار النخبة إلى بؤرة اتفاق كما كان عليه الحال أثناء الفترة التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية
(20) وقد شبه الأستاذ هولستى الولايات المتحدة فى ميدان السياسة الخارجية اليوم بالنسر ذى الرؤوس الثلاثة كلا منها ينظر فى اتجاه معاكس بما يجعل النسر غير قادر على العمل على الإطلاق وتتمثل هذه الرؤوس الثلاثة فى ثلاثة تيارات رئيسية تتصارع النخبة السياسية والثقافية الأمريكية
(21) التيار الأول: مدرسة الحرب الباردة: يرى أنصار هذا التيار أن الخطوط الرئيسية للنظام الدولى منذ الحرب العالمية الثانية لم تتغير كثيرا فما زالت التهديدات الأساسية ثابتة وما زال على الولايات المتحدة أن تضطلع بنفس الدور ومن الناحية الموضوعية فهم يرون أن المميز الرئيسى للنظام الدولى الراهن هو الصراع بين الشرق والغرب وأن كل ما عداه من صراعات تدور حوله وترتبط به كما أن هناك نظاما متماسكا من الأعداء الرئيسيين يقوده الاتحاد السوفيتى وهم بالتالى ينظرون إلى الاتحاد السوفيتى كقوة توسعية حققت مكاسب إقليمية وعالمية هائلة فى العقد الأخير على حساب الولايات المتحدة ومن ثم تغدو المسئولية الرئيسية للولايات المتحدة هى حماية تعاون وتلاحم دول العالم غير الشيوعى إذ أن سقوط دولة واحدة تحت الشيوعية من شأنه أن يؤدى إلى انتشار العدوى طبقا لنظرية الدمينو ومن ثم فعلى الولايات المتحدة أن تتحمل مسئولية قيادية فى العالم غير الشيوعى وذلك باستعادة توازن القوى الكفيل بردع التوسع السوفيتى فالأسلوب الأمثل للتعامل مع الاتحاد السوفيتى فى نظر هؤلاء هو الردع من خلال بناء قوة عسكرية هائلة إذ أن الاتحاد السوفيتى لن يتراجع إلا إذا وجه بقوة أكبر وهذا هو التيار الذى يمثله الرئيس ريجان ووزير خارجيته الكسندر هيج ومستشاره للأمن القومى ريتشارد الن وعلى مستوى النخبة يمثله دانيل موينهان وبول نتيزه وجيمس شليزنجر التيار الثانى مدرسة ما بعد الحرب الباردة: يؤكد أنصار مدرسة ما بعد الحرب الباردة فى الولايات المتحدة أن عالم اليوم يختلف إلى حد كبير عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة فالنظام الدولى قد تحول نحو القطبية الثنائية والمشكلات الدولية قد تعددت وتنوعت مستوياتها بحيث لم تعد مجرد مشكلات سياسية وإنما أصبحت المشكلات الاقتصادية تمثل حيزا هاما (توزيع الموارد الاقتصادية، الانفجار السكانى نقل التكنولوجياالخ) أضف إلى ذلك أنه من العبث تصور حل تلك المشكلات من خلال محاولة إعادة بناء ميزان القوى الكلاسيكى أو التركيز على القوة العسكرية وحدها فنموذج ميزان القوى لم يعد صالحا للتعامل مع مشكلات اليوم لأنها ببساطة لم تعد مجرد مشكلات سياسية ومن ثم تغدو الهدف الرئيسى هو بناء هياكل وأجهزة قادرة على التعامل مع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لعالم اليوم الناشئة عن التشابك المتزايد بين الأطراف الدولية كذلك فإن الاستراتيجية الأمثل للتعامل الخارجى تغدو هى استراتيجية التعاون
(المباراة اللا صفرية) التى تفترض أن العالم كله سيكسب إذا تحقق التعاون والعالم كله سيخسر إذا ساد الصراع وهذا بدوره يتطلب محاولة التكيف مع الاتحاد السوفيتى والتفاوض معه لحل المشاكل السياسية الرئيسية فى عالم اليوم فالاتحاد السوفيتى فى نظر أنصار تلك المدرسة يواجه نفس المشاكل الرئيسية التى تواجهها الولايات المتحدة كما أنه فى منع الخلاف حول وجهات النظر مع الولايات المتحدة من التحول إلى حرب عالمية ثالثة وأخيرا فإن المسئولية الرئيسية للولايات المتحدة فى عالم اليوم تصبح طبقا بمنطق أنصار مدرسة ما بعد الحرب الباردة هى الإسهام فى خلق عالم جديد مستقر وعادل قائم على فكرة النظام العالمى world order بدلا من الأساتذة ستانلى هو فمان وكيوهان وجوزيف ناى وتصريحات السناتور سبار كمان التيار الثالث: التيار الانعزالى: يتشابه التيار الأول والتيار الثانى فى أن كليهما ينطلق من مفهوم على قوامه ارتباط السياسة الخارجية الأمريكية بالتيارات الرئيسية فى النظام الدولى بيد أن أنصار التيار الثالث وعلى رأسهم جورج كينان يختلفون مع هذه المقولة فهم يختلفون أولا مع مقولة الاعتماد المتبادل التى يدور حولها فكر أنصار المدرسة الثانية كما أنهم يرون انه على الولايات المتحدة أن تدرك حدود قوتها الدولية وألا تحاول أن تتبع سياسة خارجية نشيطة لا يتطلبها الواقع الدولى من ناحية ولا قدرات الولايات المتحدة من ناحية أخرى أما من ناحية الخطر الرئيسى على الولايات المتحدة فهم يرونه كامنا داخل الولايات المتحدة وليس خارجها الخطر الرئيسى وفى نظر أنصار التيار الانعزالى يكمن فى التضخم والبطالة وتدهور المدن وتلوث البيئة وغيرها من المشكلات التى تمثل خطرا حقيقيا على الأسلوب الأمريكى فى الحياة أكثر مما يمثله الاتحاد السوفيتى فالاتحاد السوفيتى قد تحول إلى قوة عالمية يحكمها ميزان الرعب وليس لها مصلحة فى تدمير الولايات المتحدة أضف إلى ذلك أنه حتى دول العالم الثالث ذات الموارد البترولية لا تستطيع أن تهدد الولايات المتحدة تهديدا اقتصاديا حقيقيا لأن الولايات المتحدة تستطيع أن أرادت أن توفر البدائل ماذا إذا عن السياسة الخارجية؟ يرى أنصار تلك المدرسة أنه يتعين عن التزاماتها الخارجية إلى الحد الأدنى الممكن وهم يرونه فى الالتزام بأمن أوروبا الغربية واليابان وإسرائيل كذلك فعلى الولايات المتحدة أن تتعارض مع الاتحاد السوفيتى لتسوية المشكلات الأساسية بهدف إبطاء سباق التسلح وأن تحاول ممارسة التأثير العالمى فقط من خلال محاولة بناء نموذج أمريكى لحل المشكلة الاقتصادية وليس من خلال محاولة توفير الأمن للآخرين أو حماية حقوق الإنسان فى البلاد الأخرى والواقع أن استعراض التيارات الثلاث يوضح أن هناك اختلافا داخل النخبة السياسية والثقافية الأمريكية حول مفهوم النظام الدولى وصورته طبيعة العدو الرئيسى للولايات المتحدة دور الولايات المتحدة فى النظام الدولى وحجم وكثافة السياسة الخارجية الأمريكية هذا بعكس الاتفاق العام الذى ساد داخل تلك النخبة خلال العشرين عاما التالية للحرب العالمية الثانية وكما ذكرنا فإن التيار الأول هو الذى يسيطر اليوم على دفة السياسة الخارجية الأمريكية ولكنه يفعل ذلك وسط معارضة قوية من أنصار التيارين الآخرين وفى مواجهة مزاج عام يساند التيار الثالث أكثر من التيار الحاكم
3- عدم صحة بعض افتراضات السياسة الخارجية الأمريكية: تنهض أى سياسة خارجية على مجموعة من الافتراضات والتصورات عن طبيعة النظام الدولى، وطبيعة العدو الرئيسى للدولة، ونمط توزيع القوى العالمى وغيرها تنبع أهمية هذه الافتراضات من أنها تحدد التوجه العام لسياسة الدولة ودورها العالمى وسلوكياتها الخارجية وقد ذكرنا فى القسم السابق أن التيار الأول من التيارات السائدة النخبة الأمريكية، هو الذى يسيطر اليوم على توجيه السياسة الخارجية الأمريكية وفى نظرنا، فإن هذا التيار كامتداد للتيار الذى ساد خلال العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية يتأسس على مجموعة من الافتراضات، بعضها افتراضات غير دقيقة تماما، وبالتالى فهى تؤدى إلى صياغة سياسات غير واقعية وسنكتفى هنا بالإشارة إلى بعض هذه الافتراضات: أولها يتعلق بالمفهوم الأمريكى لطبيعة التوازن العالمى، وثانيها يتعلق بمفهوم الردع من خلال القوة العسكرية، ويدور ثالثها حول استراتيجية التعامل مع الاتحاد السوفيتى فى الشرق الأوسط أولا: المفهوم الأمريكى للتوازن العالمى: ابتداء من الرئيس ترومان، وانتهاء بالرئيس ريجان، سادلدى رؤساء الولايات المتحدة مفهوم للتوازن العالمى أساسه رؤية ميزان القوى العالمى على أنه دائما فى صالح الاتحاد السوفيتى ويرى بعض دارسى السياسة الخارجية الأمريكية أن الرؤساء الأمريكيين قد لجئوا دائما إلى التضخيم من حجم القوة السوفيتية كمبرر لزيادة الإنفاق العسكرية كما فعل الرئيس ترومان سنة 1948 أو كوسيلة لكسب المعركة الانتخابية الرئاسية كما فعل كيندى سنة 1960 حين تحدث عن فجوة الصواريخ أثناء معركته ضد المرشح الجمهورى نيكسون بيد أنه افتراض صدق التعبير عن فرضية الإحساس بالتهديد السوفيتى ويتحول ميزان القوى العالمى لصالح الاتحاد السوفيتى فإن تلك الفرضية ذاتها تظل فرضية فير رقيقة إلى حد كبير وقد أدت هذه الفرضية إلى دخول الولايات فى سباق عقيم للتسلح مع الاتحاد السوفيتى، لم تؤد أى دورة منه إلا إلى استعادة التوازن السابق فى شكل جديد ويؤكد الأستاذ كليمنز فى دراسته عن التوازن الاستراتيجى الأمريكى السوفيتى أن الولايات المتحدة قد تمتعت دائما بتفوق استراتيجى على الاتحاد السوفيتى فى مجالات:
(22) 1 عدد التجارب النووية 2 عدد الرؤوس النووية القابلة للنقل 3 عدد حاملات القنابل الاستراتيجية 4 القدرة التدميرية المتاحة من الميجاتون 5 نوعية حاملات القنابل الاستراتيجية 6 عدد ونوعية السفن الحربية 7 مبيعات السلاح للدول الأخرى8 الإنفاق العسكرى بطبيعة الحال، فإن الاتحاد السوفيتى تمتع بتفوق فى مجال الأسلحة التقليدية، وبعض أنواع الأسلحة الاستراتيجية بيد أن التفوق الأمريكى فى المجالات الأخرى عوض هذا التفوق السوفيتى أضف إلى ذلك، تفوق الولايات المتحدة وحلفائها فى ميدان الناتج القومى الإجمالى (بمقدار ستة أصناف) على دول الكتلة الشرقية مجتمعة أكثر من ذلك، فالولايات المتحدة قد حركت سلسلة من سباقات التسلح ابتداء من سنة 1948، كل منها بدعوى التفوق السوفيتى ولتبرير اعتمادات أكبر التسليح ففى سنة 1948 بدأ الرئيس ترومان فى الحديث عن فجوة قاذفات القنابل محذرا أن الاتحاد السوفيتى قد حشد قاذفات طويلة المدى قادرة على شحن هجوم مفاجئ وبناء عليه اتخذ قرار بناء طائرات ب 52 التى دخلت خدمة القيادة الجوية الاستراتيجية 1955 والغريب أنه حتى ذلك التاريخ لم يكن لدى الاتحاد السوفيتى أى قاذفات ولعلنا نتذكر الحملة الانتخابية للرئيس كيندى والتى دارت حول قضية وجود فجوة صواريخ مع الاتحاد السوفيتى، ثم عندما تولى الحكم سنة 1961 أعلن أنه قد تبين له أن الفجوة لا توجد على الإطلاق وقد كان الرئيس كيندى صادقا فى تأكيده الأخير، لأنه بمجرد أطلق الاتحاد السوفيتى القمر سبوتنيك سنة 1957 وزعت الولايات المتحدة 105 صاروخا متوسط المدى من طراز جوبيتر فى تركيا وإيطاليا، وكانت هذه الصواريخ قادرة على الوصول إلى أهداف فى قلب الاتحاد السوفيتى قبل أن يأمل الأخير فى الوصول إلى الولايات المتحدة وعندما تم إزالة تلك الصواريخ من تركيا وإيطاليا كجزء من صفقة الصواريخ الكوبية سنة 1962 كانت الولايات المتحدة قد بنت 156 صاروخا عابر القارات مقابل 64 صاروخا للاتحاد السوفيتى كذلك فإن الولايات المتحدة بدأت فى نشر الصواريخ وقواعد الإطلاق ذات الرؤوس المتعددة (ميرف) سنة 1970، بينما لا يستطع الاتحاد السوفيتى أن يفعل ذلك سوى سنة 1975 ولا نهدف فى هذا المقام إلى رصد تاريخ التوازن الاستراتيجى بين العملاقين، ولكن الأمثلة السالفة توضح أن هذا التوازن كان دائما فى صالح الولايات المتحدة بيد أن سياسة الرئيس ريجان الخارجية تكاد تبنى على فكرة استعادة التوازن عن طريق زيادة الإنفاق العسكرى والواقع أن مثل هذا التصور يضع السياسة الخارجية فى الحلقة المفرغة لسباق التسلح مرة أخرى دون توقع نتيجة حاسمة وأضف إلى ذلك أن مثل هذا التصور يفترض أن العلاقات بين العملاقين هى علاقات استاتيكية، بمعنى أن القوة العظمى الأخرى ستقف ساكنة فى حين تحاول القوة العظمى الأولى زيادة قوتها العسكرية زيادة هائلة، وهو افتراض لا نعتقد أن تطور العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية يؤيده
ثانيا: الردع من خلال القوة العسكرية وحدها: الفرضية الثانية التى تبنى عليها السياسة الخارجية الأمريكية هى فرضية بناء السياسة الخارجية حول مفهوم الردع وبناء الردع ذاته حول مفهوم القوة العسكرية وفى دراسة شاملة للاستاذان الكسندر جورج ورتشارد سموك للسياسة الخارجية الأمريكية من خلال نظرية الردع انتهيا إلى أن السياسة الأمريكية قد تميزت باللجوء إلى الردع كأداة رئيسية للتعامل الخارجى، دون أن تحاول وضع استراتيجية الردع فى إطار أكبر من التعامل الاستراتيجى متعدد الأبعاد وباستعراض العديد من الأزمات الخارجية للولايات المتحدة، انتهيا أيضا الردع قد اقتصر تقريب على المتطور العسكرى دون الانتباه للمضمون الإدراكى لنجاح استراتيجية الردع
(23) بيد أن السياسة الأمريكية الجالية تكاد أن تكرر تلك الأخطاء فالرئيس ريجان فى حملته الانتخابية يشير إلى الأمن على خرق يعنى اتفاق كل ما ينبغى انفاقه بحيث لا تجرؤ أنه على وجه الأرض على فرق السلام (الأمريكى) (24) وهنا يكمن جوهر الأزمة التى أدت كما يقول بول جابر إلى ما يسميه عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية بمعنى الاعتماد على الأدوات العسكرية لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية (الأحلاف والقواعد العسكرية، توزيع الأساطيل، زيادة الإنفاق العسكرى) على حساب تسوية المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للأطراف الإقليمية الأخرى ويضيف جابر أن ضعف الذاكرة التنظيمية لأجهزة صنع السياسة الخارجية الأمريكية يجعلها تكرر اليوم نفس الأخطار التى ارتكبتها فى الخمسينات
(25) ثالثا: ريجان وأولوية المواجهة العالمية الاستراتيجية: وأخيرا فإن السياسة الخارجية الأمريكية فى عهد الرئيس ريجان تركز على أولوية المواجهة الردعية الاستراتيجية مع الاتحاد السوفيتى على ما عداها من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية العالمية أو على المشكلات السياسية الإقليمية الأخرى، كالصراع العربى الإسرائيلى، أو مشكلة ناميبيا فالقيادة الأمريكية تنظر إلى هذه المشكلات فقط من خلال منظور المواجهة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفيتى والواقع أن وضع الأولويات بهذا الشكل، يضع السياسة الخارجية الأمريكية فى مآزق التناقض مع القوى المحلية والإقليمية وعدم القدرة على التعامل مع المشكلات الجديدة كمشكلة النظام الاقتصادى العالمى الجديد فتشير خبرة الخمسينات إلى أن التركيز على المواجهة العالمية على حساب الاحتياجات الأمنية والتنموية للقوى المحلية، ومطالبة تلك القوى بالانضمام إلى الحملة الاستراتيجية المعادية للاتحاد السوفيتى، دون الانتباه لمشاكلهما قد دفع هذه القوى إلى طلب المعونة من القوة العظمى الأخرى ولا حاجة بنا إلى أن نكرر تجربة صفقة الأسلحة المصرية التشبكية سنة 1955 وتجربة السد العالى سنة 1956 لكى يدرك أن استراتيجية دلاس فى المواجهة الاستراتيجية هى التى دفعت مصر إلى اللجوء إلى الاتحاد السوفيتى فى وقت لم يكن يستطيع أن ينافس الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط بعبارة أخرى أن جزء كبير من مكاسب الاتحاد السوفيتى فى الشرق الأوسط فى الخمسينات والستينات كان نتيجة لإهمال الولايات المتحدة لمشاكل دول المنطقة وتناقضاتها الرئيسية لحساب المواجهة ومحاولة استعادة التوازن العالمى بالعكس فقد أدى الانفراج الدولى إلى آثار سلبية على النفوذ السوفيتى فى الشرق الأوسط فقد أدى الانفراج الدولى، بالاتحاد السوفيتى إلى التركيز على مطلب الحل السلمى من خلال التفاوض فى حضور القوتين الأعظم ، ومطلب الاسترخاء العسكرى فى الشرق الأوسط مما أدى بكثير من القادة العرب إلى التساؤل عن جدية المساندة السوفيتية للعرب ومن المدهش أن دفاع الاتحاد السوفيتى عن هذه السياسة قد أدى إلى تدهور نفوذ فى الشرق الأوسط حيث أن القيادة المصرية أدركت أنه إذا كان الحل سيأتى عن طريق التفاوض، فإن هذا الطريق يمر عبر الولايات المتحدة أساسا ولعلنا نذكر أن الإشارة إلى الاسترخاء العسكرى فى بيان الوفاق الأمريكى السوفيتى 1972 كان أحد العوامل الرئيسية التى دفعت بالرئيس السادات إلى الاستغناء عن المستشارين السوفييت من ثم يتضح النمط العام الذى يمكن استخلاصه من هذه التطورات: أن نفوذ الاتحاد السوفيتى فى الشرق الأوسط يرتبط ارتباطا عكسيا تخفيف حدة التوتر العالمى وتسوية المشكلة العربية بالإسرائيلية ومن ثم فإن أولويات إدارة الرئيس ريجان تبدو وكأنها لا تعى مثل هذه الخبرة التاريخية مستقبل السياسة الأمريكية فى الثمانينات: فى ضوء التحليل السابق يمكن استخلاص نتيجة هامة مؤداها أن السياسة الخارجية الأمريكية فى فترة الثمانينات تمر بأزمة هيكلية نابعة من طبيعة المرحلة التاريخية لتطور المجتمع الأمريكى من ناحية ومن طبيعة النظام الدولى العالمى من ناحية أخرى فالمجتمع الأمريكى يمر بفترة انكماشية من ناحية التوجه الخارجى، كما أن النظام الدولى قد شهد فى السبعينات تغيرات هائلة لم تستطيع القيادة الأمريكية أن تقوم بصياغة الافتراضات والاستراتيجيات التى يتلاءم معها ومن المتوقع أن تستمر هذه الأزمة حتى منتصف الثمانينات وما بعدها بقليل، أى طوال فترة الرئاسة الحالية للرئيس ريجان إذ أنه من المتوقع حدوث تغيير هيكلى فى المزاج الأمريكى العام فى أواخر الثمانينات نحو موجة جديدة تدخلية جديدة ومن ثم، فإن المخرج الممكن من الأزمة هو أن تجرى القيادة الأمريكية تعديلات فى منطقات سياستها الخارجية قوامها الإخلال من الارتباط الأمريكى بالمشكلات الخارجية وتركيز السياسة الخارجية الأمريكية حول الإسهام فى حل المشكلات السياسية الإقليمية والمشكلات الاقتصادية للعالم النامى مع محاولة تهدئة المواجهة العالمية حتى لا تتكرر نتائج الخمسينات فى الثمانينات