مشكلة الاكراد رؤيه جغرافيه
مرسل: السبت يوليو 07, 2012 8:42 pm
مقدمة:
تُعَدُّ مشكلةُ الأكراد تَجسِيدًا جيِّدًا لمشكلة سُوء تَخطِيط الحدود السياسيَّة وترسيمها بين الدُّول في قارَّة آسيا؛ ومن ثَمَّ أصبح الكردي يُمثِّل أقليَّة سكانيَّة احتفظَتْ بلغتها وعَقِيدتها وعاداتها وقوميَّتها في بلدان متعدِّدة، وقد رفضَتِ الأقليَّة الكرديَّة أنْ تنخَرِط وتندَمِج في الدُّوَل الحاضنة؛ على أملِ أنْ يتحقَّق لها حلم في الوحدة وإنشاء دولةٍ لهم، بعد أنْ تَوافَرت لهم كلُّ مُقوماتها من أرضٍ وشَعبٍ وقِيادةٍ، ومن ثَمَّ غدت الأقليَّة الكرديَّة تُمثِّل نغمًا شاذًّا في نسَق الانسِجام والتماسُك في كُلٍّ من تركيا وإيران والعراق وسوريا بصفةٍ خاصَّة، وازداد خطَر الأقليَّة الكرديَّة مع تزايُد إهمال حكومات هذه الدُّوَل لها؛ ممَّا زاد من توالد إحساس النُّفور من هذه الحكومات، ودفَع الأكرادَ لإثارة المشاكل والرَّغبة في الانفِصال عن الدُّوَل الأم؛ لوُقوعِها في مَناطِق هامشيَّة ومَدعُومة بقُوى أجنبيَّة.
وقد وصَلت المشكلة الكرديَّة ذروتها مع توافر السلاح في أيدي شَبابها، وتشكيل مِيليشيات عسكريَّة على دِرايةٍ جيِّدة بأساليب الحرب في هذه البيئات الجبليَّة، من هنا برزَت المشكلة الكرديَّة باعتبارها أهم وأخطر أقليَّة في منطقة الشرق الأوسط.
الأكراد - وكردستان:
يَعِيش الأكراد في شِبه عُزلةٍ في أرضهم التي مزَّقتها الحدود السياسيَّة بين دُوَلِ العراق وإيران وتركيا وأذربيجان وأرمينيا وسوريا لتقسم أرضهم "كردستان" إلى أوطان، وشعبهم إلى أقليَّات "شكل رقم 1".
وأرض كردستان أرضٌ جبليَّة مضرَّسة، تمتدُّ فيها سلاسل جبليَّة شهيرة مثل جبال البرز، وكردستان، والأطراف الشماليَّة من جبال زاجروس، وهِضاب أرمينيا، وشرق هضبة الأناضول، فَضلاً عن شمال العراق بمرتفعاته وسُهوله، وأراضي كردستان تَبلُغ مساحتها حوالي 410 ألف كم2 - أي: أقل قليلاً من نصف مساحة مصر - نصف هذه المساحة تقريبًا 194 ألف كم2 في شرق وجنوب شرق تركيا، و125 ألف كم2 في شمال وشمال غرب إيران، و72 ألف كم2 في شمال وشمال غرب العراق، و17 ألف كم2 في شمال وشرق سوريا، ومساحات صغيرة في الأجزاء الجنوبيَّة من أذربيجان وأرمينيا - انظُر الشكل.
وأرض كردستان غنيَّة بمواردها المائية والرعوية والمعدنية؛ فهي تضمُّ منابع دجلة والفرات ونهر رزيتة في شمال غرب إيران، والعديد من نهيرات تركيا والقوقاز، وتتمتَّع المنطقة بمناخٍ يُشبِه البحر المتوسط بزيادة درجة القاريَّة والتطرُّف في درجات الحرارة.
ويَتراوَح معدَّل التساقط فيها ما بين 200، 400 مم في المناطق السهليَّة إلى حوالي 700 - 2000 مم في المناطق الجبليَّة؛ ومن ثَمَّ غَدَتْ حرفتا الرَّعي والزراعة من أهمِّ حِرَف الأكراد، وإنْ جاءت حِرفة الرعي لتجسِّد شخصيَّة الكردي في حركته المستمرَّة أفقيًّا ورأسيًّا داخل وطنه المقسم، حيث لا يعترفون بالحد السياسي؛ ومن ثَمَّ يَعبُر الكردي بقطعانه من الأغنام والماعز الحدودَ السياسيَّة من أراضي العراق وإيران وتركيا وسوريا، دون التقيُّد بِحُرمَة الحدود، وكثيرًا ما ينجم عن حركة القبائل الكرديَّة المترحِّلة نِزاع فيما بينهم؛ ممَّا زاد من التوتُّر في علاقتهم الداخليَّة كأكراد، وحياة الأكراد قائمةٌ على الجنديَّة الدائمة، والشجاعة والخشونة ورفْض الظلم.
ويعيش الأكراد تحتَ عَباءة النِّظام القبلي، الذي يَتميَّز بأنَّه من أشد النُّظم القبليَّة قسوةً في تنشئة الأفراد بينهم، سواء بين الذكور أو الإناث، والنظام القبلي الكردي يتَّسِم بقسطٍ هائل من السَّيْطرة وتسلُّط شيخ القبيلة على أفرادها، والأكراد يتقبَّلون هذا التسلُّط؛ بل يرضَخُون له؛ على اعتِبار أنَّه من الأشياء المسلَّم بها، حتى ولو كان ضِدَّ المصلحة العامَّة والخاصَّة معًا، وربما كانت سَيْطرة الرُّوح القبليَّة وتسلُّطها مَدعاةً للتنافُر الحقيقي والتناقُض بين الوَلاء نحو الدولة والولاء نحو القبيلة، وهذا مَعناه أنَّ الأكراد حيثما كانوا في دولةٍ من الدُّوَل التي يَعِيشون فيها، لا يُفَضِّلون الانسجام والتناسق مع الكِيان البشري فيها، ويصنع الأكراد من خِلال انتشارهم الواسع في وطَنهم الممزَّق مشكلةً في إطارٍ واسعٍ وعَرِيض تشعُر به كلُّ دولةٍ من مجموعة الدول التي تضمُّهم بين جنباتها.
ويتوزَّع الشعب الكردي الذي يصل عدده إلى حوالي 28 مليون نسمة على النحو التالي:
الدولة
تقدير عدد الأكراد بالمليون نسمة عام 2002
تركيا
العراق
إيران
سوريا
أذربيجان وأرمينيا
15 مليونًا
6 ملايين
5 ملايين
1 مليون
1 مليون
وازدادَتْ قِيمة كردستان بعد اكتِشاف البترول وبكميَّات هائلة في كردستان العراقيَّة "حقل كركول"، وفي شمال إيران، وفي جنوب شرقي تركيا، ويُقدَّر احتياطي البترول في كردستان بحوالي 45 مليار برميل، إضافةً إلى بعض خامات "الحديد" والكروم والذهب واليورانيوم والرصاص والرخام.
واللغة الرئيسة للأكراد هي اللغة الكرديَّة، وهي تنتمي إلى العائلة اللغويَّة الإيرانيَّة، وهي تنقسم إلى لهجتين رئيستَيْن؛ وهي الكرمانجية، ويتحدَّث بها غالبيَّة الأكراد في تركيا والعراق وإيران، والسورانيَّة ويتحدَّث بها بعض المجموعات السكانيَّة من الأكراد المنعَزِلين، وهي أقليَّة صغيرة.
ودِيانة الأكراد الرئيسة الإسلامُ، ومعظمهم من السنَّة وعلى المذهب الشافعي، وهُناك حوالي ستة ملايين كردي شيعي وأقليَّة من المسيحيين واليزيدين (نسبةً إلى يزدان، وتعني الله)، وكان من نزعة الأكراد إلى الاستقلال أنِ اعتنَقُوا المذهب السني؛ لتأكيد اختلافهم عن الإيرانيين الشيعة، واختاروا الشافعيَّة من المذهب السني؛ لتأكيد اختلافهم عن الأتراك السنَّة الحنفيين، ويتَّسِم الشعب الكردي بسماتٍ مميزة مثل: العِناد ورفْض الظُّلم وسرعة الغضب، وهو عظيم التضحية من أجْل أهله، والنظام القبلي يَبُثُّ روح الجديَّة والاستقامة بين أفراد المجتمع، وهم لا يعرفون القيود، وحين أُنشِئت الحدود الدوليَّة عبر أراضيهم وجَدُوا أنفسهم وقد مزَّقَتْهم هذه الحدود؛ ومن ثَمَّ فقد قامت مشكلتهم مع كلِّ دولة من الدول التي مزقت أراضيهم، وكانت ثوراتهم المتواصِلة من أجل توحيد أوصال عشيرتهم، كثيرًا ما كانت هذه الثورات تُقابَل بالقَسوة والظُّلم والاضطهاد من قِبَلِ الدُّوَل الخمس التي اقتسمت أراضيها.
القُوَى العظمى ولعبة الأكراد:
تستَخدِم القُوَى الخارجية المتمرِّدين الأكراد في محاربة الأنظمة المحليَّة؛ فقد ساعَدتْ بريطانيا أكرادَ تركيا ضد حكومة تركيا في العشرينيَّات، وقدَّمتْ أمريكا وإسرائيل الدَّعم للأكراد ضد نِظام البعث العراقي في السبعينيَّات، كما ساعَد السوريون الأكراد ضد تركيا.
وساعَدت أمريكا الأكرادَ ضد إيران، وعلى النَّقِيض استخدم العراق الأكراد الإيرانيين ضدَّ دولتهم، وفي المقابل دعَّمت إيران أكرادَ العراق ضد صدام حسين، وفي الحرب الأنجلو أمريكيَّة على العراق استخدمت الولايات المتحدة الفصائل الكردية للسيطرة على شمال العراق، ودخلتْ قوات البشمرجة الكردية إلى الموصل وكركوك، إلى أنْ أمرَتْها القوات الأمريكية بالرحيل شمالاً مرَّة أخرى بعد تذمُّر تركيا من هذا التصرُّف، وقد ظلَّت مشكلة الأكراد مستعصيةً على الحل؛ حيث لم تنجح أيٌّ من الدول التي تنتَشِر القبائل الكردية على حُدودِها في عِلاجها والاستجابة لأمنيَّات الشعب الكردي، واستُغلَّت مشكلة الأكراد لإثارة القلاقل بين الدُّوَل أو بين الفصائل الكردية ذاتها، وزاد من المشكلة تغيُّر الولاء لزُعَماء العشائر والقبائل الكرديَّة.
وفيما يلي عرضٌ للتوزيع الجغرافي للأكراد:
• الأكراد في شمال غرب إيران:
ويُقدَّر عددهم بـ5 مليون نسمة تقريبًا وتُعتَبر أراضيهم امتِدادًا لأرض أكراد العراق في مرتفعات كردستان وشمال مرتفعات زاجروس.
وقد تمرَّد أكراد إيران أكثر من مرَّةٍ على الحكومة الإيرانية، أهمها تلك التي قامَتْ بين عام 1920م - 1925م، وانتصر الأكراد، ممَّا اضطرَّ إيران أنْ تستعين بحكومتي العراق وتركيا اللتين أرسلتا قوَّات لِمُسانَدة إيران، وتَمَّتْ هزيمة الأكراد، وقتْل أعدادٍ كبيرة منهم، وحِرمانهم من حُقوقهم القوميَّة، واستَطاع الأكراد إقامة دولة بِمُساعَدة الاتحاد السوفيتي في شَمال إيران عام 1946م، ولكن شاه إيران وبمساعدة الغرب استَطاع أنْ يُسَيطر على الموقف عام 1956م، ومع مَجِيء سُلطة الملالي بعد رَحِيل شاه إيران عام 1979م ساعد السوفيت أكراد إيران ومدُّوهم بالأسلحة لتكوين دولة؛ وكان ذلك بغرَض مدِّ السيطرة الروسيَّة على آبار البترول الإيرانيَّة، ممَّا حفَّز الولايات المتحدة على دعْم إيران ومساعدتها في التخلُّص من هذا المأزق.
• الأكراد في شمال العراق:
ويُقدَّر عددهم بـ6 ملايين نسمة تقريبًا؛ أي: ما يُعادِل خمس سكان العراق، وينتَشِرون في كلٍّ من لواء السليمانية 100%، ولواء أربيل 91%، ولواء كركوك 56%، والموصل 35% من جملة السكان؛ أي: إنَّ نسبتهم تَتزايَد كلَّما توغَّلنا في المناطق الوعرة في شمال شرق العراق، وهم يُقِيمون في أكثر مناطق العراق غنًى، بل قد نتبيَّن هذا الغِنَى في الإنتاج الزراعي والإنتاج الحيواني مثلما يتمثَّل في التحكُّم بأهم وأعظم حقول البترول العراقيَّة؛ أي: إنَّ المسألة الكردية العراقية أصبحت ذات ثقلٍ اقتصادي إستراتيجي؛ ممَّا اضطرَّ العراق إلى وضع دستور يسمَح لهم بتولِّي مَناصِب قياديَّة، ومن حقِّهم أنْ يكون نائب الرئيس كرديًّا، واعترف الدستور بأنَّ أرض العراق شركة بين العرب والأكراد وأنْ يكون لهم نصيب في الوظائف.
والعراق متهمٌ بالظُّلم الفادح ضد الشعب الكردي؛ فبعد توقُّف الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة تناقَلتْ وسائل الإعلام محاولة صدَّام حسين إبادة الأكراد بالغازات السامَّة، وقنابل النابالم، وإزالة مدن وقُرَى بالكامل من الوجود؛ مثل: مدينة حلبجه شرق لواء السليمانية، وكانت تهمة الأكراد أنهم ناصَرُوا إيران في حربها ضد العراق إبان حرب الخليج الأولى.
وعلى الرغْم من إعلان حُكومة العراق عام 1974م أنَّ الشعب الكردي له حقُّ الحكم الذاتي، لكنْ يبدو أنَّ ما ينفذ على أرض الواقع غير ذلك؛ حيث قُوبِلت الثورة الكرديَّة بالقتل والإبادة؛ ونتيجةً لذلك أعلنتْ قِيادة عَشائر الأكراد إنهاءَ القتال المسلَّح، وخيَّرت المواطنين الأكراد ما بين العَوْدة إلى العراق والهجرة إلى إيران؛ ممَّا ساعد على انفِراط عِقْدِ الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي كان يضمُّ كلَّ الطبقات الكرديَّة تحتَ قيادة الملا مصطفى البرزاني، الذي هرَب إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة إلى أنْ مات بها في عام 1975م.
ومن ثَمَّ فرَّت أعدادٌ ضَخمة منهم إلى كردستان الإيرانيَّة والتركيَّة، وللأسَف لم يتدخَّل أحدٌ لنُصرة هذا الشعب البائس، ولكنْ بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 أصبح لأكراد العراق وضعٌ خاص بهم؛ إذ استَطاعوا أنْ يُحقِّقوا في "الملاذ الآمن" الذي وفَّرته حماية الطيران الأمريكي والبريطاني "كيانًا خاصًّا بالأكراد"، بعد أنْ حرَّمت الولايات المتحدة إقليم شمال العراق على الطيران العراقي، وجعلته منطقة حظرٍ جوي.
• الأكراد في شرق وجنوب شرق تركيا:
يُقدَّر عدد سكَّان أكراد تركيا بحوالي 15 مليون نسمة يتركَّزون في المناطق الجبليَّة الشرقيَّة حول دِيار بكر، وهم يعمَلون بالرعي ولا يخضَعُون لنِظام الدولة، ولم يُذكَر لهم ثورة ضد الدولة العثمانيَّة إلا في عام 1880 حين أرادوا تكوين دولةٍ مستقلَّة لهم "تحت اسم أرض كردستان"، وكان ردُّ الفعل العثماني هو إبادةَ أعدادٍ كبيرةٍ منهم.
وكانت ثورتهم الثانية عام 1925م، عندما أحكَمَ أتاتورك قَبضَتَه على الأكراد، ممَّا آثار الأكراد، وخاصَّة عندما رأى الأكراد أنَّ حكومة تركيا تقطَع كلَّ صلة لها بالإسلام، واختِيار دستور بعيد كلَّ البُعد عن الشريعة الإسلاميَّة، وأثارت هذه التحوُّلات العلمانيَّة الشعب الكردي المسلم المتمسِّك بإسلامه، ومن هنا استمرَّت ثوراتهم ضد الدولة في أعوام 1929م، 1930م، 1933م، مُطالِبين بعودة الإسلام أو بالاستقلال الذاتي في كردستان التركيَّة؛ ممَّا دفَع بحكومة أتاتورك لاستِخدام العنف والبطش ضد الأكراد، وإعدام زُعَمائهم، وتقييد حريَّاتهم، وما تَزال الحكومة تستخدم العُنف ضدَّ الأكراد؛ ممَّا دفع الأكراد إلى القيام بأعمال العُنف والقتل ضد تركيا، وتكوَّنت فصائل قتاليَّة من حزب العمَّال الكردستاني؛ ممَّا حثَّ الأتراك على مُلاحَقتهم بالطائرات الحربيَّة في شمال غرب العراق.
وزادَ من خُطورة الموقف إلقاءُ القبض على زعيم الأكراد "عبدالله أوجلان" ومحاكمته؛ ممَّا دفع الأكراد إلى الثورة والمظاهرات الدامية ضد المصالح التركيَّة في الدُّول الأوروبيَّة وداخل تركيا، وعرَّض البلادَ لخسائر كبيرة، وانحسَر تيَّار السياحة عن هذا البلد السياحي.
وقد صدَر حكمٌ من المحكمة التركيَّة العليا بإعدام أوجلان؛ ممَّا أثارَ غضبَ دول أوروبا، ودفَع رئيس وُزَراء تركيا إلى إرجاء تنفيذ الحكم "وهناك فرصة لتخفيفه"؛ لاستِرضاء الجماعة الأوروبيَّة، وحتى لا يُثِير إعدامُه حفيظةَ الأكراد فيقوموا بأعمالٍ انتحاريَّة أشد ضراوةً ضد المصالح التركيَّة.
• الأكراد في شمال شرق سوريا:
ويُقدَّر عدد سكَّانهم بنصف مليون نسمة تقريبًا، والأكراد في سوريا أكثر اختِلاطًا بالسكَّان وأكثر تجاوُبًا معهم، وبَعِيدون عن الاحتِكاك بالدولة، ويمكن تفسير ذلك بطبيعة الشعب السوري، فهو أكثر هدوءًا؛ ومن ثَمَّ فالأكراد هناك لا يتعرَّضون للإيذاء بنفس الصورة التي يُعانِي منها الأكراد في الدول الأخرى، ومن هنا فسوريا مقصدٌ لِجَذب أعداد اللاجئين الأكراد من العراق وتركيا الفارِّين من القهْر والقتْل من سلطات الدولتين، وكم مرَّة تهتمُّ سوريا بإيواء قِيادات الأكراد، وهذا ادِّعاءٌ تقوم به تركيا للتربُّص بسوريا.
• الأكراد في أذربيجان وأرمينيا وجورجيا:
كان الاتِّحاد السوفيتي يَنظُر إلى الأكراد في هذه المناطق على أنهم مُناهِضون للثورة الشيوعيَّة؛ لكونهم مسلمين متطرِّفين يُعرَفون بشدَّة تمسُّكهم بدينهم، وحاوَل السوفيت أنْ يُحوِّلوا ولاء الأكراد لصالح أهدافهم الإستراتيجيَّة، وحاوَلوا بثَّ الأفكار الإلحاديَّة بين الأكراد، وإثارة الأحقاد بينهم وبين القوميَّات العربية والإيرانية والتركية، وأثاروا فكرة تكوين دولة كرديَّة على أراضي كردستان في الدُّوَل المجاورة؛ ليتسنَّى لهم التدخُّل في هذه الدُّوَل.
المستقبل الكردي:
هل يمكن أنْ تقوم دولةٌ كرديَّة مستقلَّة؟
الإجابة: لا، كما نرى، فكلُّ القوى سواء الدول العظمى "روسيا - أمريكا - بريطانيا"، أو الدول الحاضنة للأقليَّة، فالكل يتَّفق على أنَّ قيام دولة كردية سيُثِير المشكلة ويزيدها بين الأكراد وجِيرانهم، وبين الأكراد بعضهم البعض؛ ومن ثَمَّ رأتْ هذه الدول أن تمتع الأكراد بحكمٍ ذاتي هو الأفضل لهم.
• الخوف من قِيام دولة كرديَّة يأتي من كونها دولةً حبيسة، ومن ثم ستُحاوِل أنْ تحسِّن علاقاتها مع إحدى دول الجوار، ولكن مَن ستكونُ هذه الدولة، وخاصَّة أنها قد انفصلَتْ عنها دون رغبتها؟
بإيجازٍ لن تَتعاوَن الدول البحريَّة سواء إيران أو العراق أو سوريا أو تركيا لتكون منفذًا بحريًّا لتجارة الدولة الكرديَّة.
• إذا ما استقلَّت الدولة الكردية، فإنَّ الصراعات الداخلية ستَزداد بين فَصائِل أكراد العراق، أو فَصائِل أكراد إيران، أو فَصائِل أكراد تركيا.
ومن ثَمَّ نَدخُل مرَّة أخرى في الحلقة المفرَّغة للصراع الكردي - الكردي الذي تُوجِّهه تَوازُنات قُوَى ومَصالح الأطراف الإقليميَّة والدوليَّة دون أنْ نصلَ لحلٍّ واضح للمشكلة.
• هل يمكن أنْ نتصوَّر أنَّ العراق تُوافِق أنْ تقتطع منها كردستان العراق الغنيَّة بالبترول وأهم أقاليم العراق الرعويَّة؟ وهل يمكن أنْ توافق تركيا على انفِصال كردستان تركيا التي تُعَدُّ ورقة ضغطٍ قويَّة على العراق وسوريا في حرب المياه بينهم، وأنَّ حلم تركيا لا يقفُ على فقْد أراضٍ؛ بل هناك حلمٌ في إعادة القوميَّة التركمانيَّة التي تمتدُّ إلى أواسط آسيا في دولة قوية؟
• هل تُوافِق الولايات المتحدة على قِيام دولة كرديَّة وسيكون الرد الرُّوسي بالرَّفض؟ وإذا وافَقتْ روسيا لتقتَرِب من بترول الشرق الأوسط، فإنَّ الولايات المتحدة ترفُض التقارُب الروسي الكردي.
أخيرًا، يبقى الحلُّ المنطقيُّ لهذه الأزمة في ضرورة فتح حوار جادٍّ بين الأكراد وحكومات الدول الحاضنة لتنفيذ الحكم الذاتي، واحترام الأقليَّة الكرديَّة ومحاولة دَمجِها مع المجتمع دون قهرٍ أو عنفٍ.
تُعَدُّ مشكلةُ الأكراد تَجسِيدًا جيِّدًا لمشكلة سُوء تَخطِيط الحدود السياسيَّة وترسيمها بين الدُّول في قارَّة آسيا؛ ومن ثَمَّ أصبح الكردي يُمثِّل أقليَّة سكانيَّة احتفظَتْ بلغتها وعَقِيدتها وعاداتها وقوميَّتها في بلدان متعدِّدة، وقد رفضَتِ الأقليَّة الكرديَّة أنْ تنخَرِط وتندَمِج في الدُّوَل الحاضنة؛ على أملِ أنْ يتحقَّق لها حلم في الوحدة وإنشاء دولةٍ لهم، بعد أنْ تَوافَرت لهم كلُّ مُقوماتها من أرضٍ وشَعبٍ وقِيادةٍ، ومن ثَمَّ غدت الأقليَّة الكرديَّة تُمثِّل نغمًا شاذًّا في نسَق الانسِجام والتماسُك في كُلٍّ من تركيا وإيران والعراق وسوريا بصفةٍ خاصَّة، وازداد خطَر الأقليَّة الكرديَّة مع تزايُد إهمال حكومات هذه الدُّوَل لها؛ ممَّا زاد من توالد إحساس النُّفور من هذه الحكومات، ودفَع الأكرادَ لإثارة المشاكل والرَّغبة في الانفِصال عن الدُّوَل الأم؛ لوُقوعِها في مَناطِق هامشيَّة ومَدعُومة بقُوى أجنبيَّة.
وقد وصَلت المشكلة الكرديَّة ذروتها مع توافر السلاح في أيدي شَبابها، وتشكيل مِيليشيات عسكريَّة على دِرايةٍ جيِّدة بأساليب الحرب في هذه البيئات الجبليَّة، من هنا برزَت المشكلة الكرديَّة باعتبارها أهم وأخطر أقليَّة في منطقة الشرق الأوسط.
الأكراد - وكردستان:
يَعِيش الأكراد في شِبه عُزلةٍ في أرضهم التي مزَّقتها الحدود السياسيَّة بين دُوَلِ العراق وإيران وتركيا وأذربيجان وأرمينيا وسوريا لتقسم أرضهم "كردستان" إلى أوطان، وشعبهم إلى أقليَّات "شكل رقم 1".
وأرض كردستان أرضٌ جبليَّة مضرَّسة، تمتدُّ فيها سلاسل جبليَّة شهيرة مثل جبال البرز، وكردستان، والأطراف الشماليَّة من جبال زاجروس، وهِضاب أرمينيا، وشرق هضبة الأناضول، فَضلاً عن شمال العراق بمرتفعاته وسُهوله، وأراضي كردستان تَبلُغ مساحتها حوالي 410 ألف كم2 - أي: أقل قليلاً من نصف مساحة مصر - نصف هذه المساحة تقريبًا 194 ألف كم2 في شرق وجنوب شرق تركيا، و125 ألف كم2 في شمال وشمال غرب إيران، و72 ألف كم2 في شمال وشمال غرب العراق، و17 ألف كم2 في شمال وشرق سوريا، ومساحات صغيرة في الأجزاء الجنوبيَّة من أذربيجان وأرمينيا - انظُر الشكل.
وأرض كردستان غنيَّة بمواردها المائية والرعوية والمعدنية؛ فهي تضمُّ منابع دجلة والفرات ونهر رزيتة في شمال غرب إيران، والعديد من نهيرات تركيا والقوقاز، وتتمتَّع المنطقة بمناخٍ يُشبِه البحر المتوسط بزيادة درجة القاريَّة والتطرُّف في درجات الحرارة.
ويَتراوَح معدَّل التساقط فيها ما بين 200، 400 مم في المناطق السهليَّة إلى حوالي 700 - 2000 مم في المناطق الجبليَّة؛ ومن ثَمَّ غَدَتْ حرفتا الرَّعي والزراعة من أهمِّ حِرَف الأكراد، وإنْ جاءت حِرفة الرعي لتجسِّد شخصيَّة الكردي في حركته المستمرَّة أفقيًّا ورأسيًّا داخل وطنه المقسم، حيث لا يعترفون بالحد السياسي؛ ومن ثَمَّ يَعبُر الكردي بقطعانه من الأغنام والماعز الحدودَ السياسيَّة من أراضي العراق وإيران وتركيا وسوريا، دون التقيُّد بِحُرمَة الحدود، وكثيرًا ما ينجم عن حركة القبائل الكرديَّة المترحِّلة نِزاع فيما بينهم؛ ممَّا زاد من التوتُّر في علاقتهم الداخليَّة كأكراد، وحياة الأكراد قائمةٌ على الجنديَّة الدائمة، والشجاعة والخشونة ورفْض الظلم.
ويعيش الأكراد تحتَ عَباءة النِّظام القبلي، الذي يَتميَّز بأنَّه من أشد النُّظم القبليَّة قسوةً في تنشئة الأفراد بينهم، سواء بين الذكور أو الإناث، والنظام القبلي الكردي يتَّسِم بقسطٍ هائل من السَّيْطرة وتسلُّط شيخ القبيلة على أفرادها، والأكراد يتقبَّلون هذا التسلُّط؛ بل يرضَخُون له؛ على اعتِبار أنَّه من الأشياء المسلَّم بها، حتى ولو كان ضِدَّ المصلحة العامَّة والخاصَّة معًا، وربما كانت سَيْطرة الرُّوح القبليَّة وتسلُّطها مَدعاةً للتنافُر الحقيقي والتناقُض بين الوَلاء نحو الدولة والولاء نحو القبيلة، وهذا مَعناه أنَّ الأكراد حيثما كانوا في دولةٍ من الدُّوَل التي يَعِيشون فيها، لا يُفَضِّلون الانسجام والتناسق مع الكِيان البشري فيها، ويصنع الأكراد من خِلال انتشارهم الواسع في وطَنهم الممزَّق مشكلةً في إطارٍ واسعٍ وعَرِيض تشعُر به كلُّ دولةٍ من مجموعة الدول التي تضمُّهم بين جنباتها.
ويتوزَّع الشعب الكردي الذي يصل عدده إلى حوالي 28 مليون نسمة على النحو التالي:
الدولة
تقدير عدد الأكراد بالمليون نسمة عام 2002
تركيا
العراق
إيران
سوريا
أذربيجان وأرمينيا
15 مليونًا
6 ملايين
5 ملايين
1 مليون
1 مليون
وازدادَتْ قِيمة كردستان بعد اكتِشاف البترول وبكميَّات هائلة في كردستان العراقيَّة "حقل كركول"، وفي شمال إيران، وفي جنوب شرقي تركيا، ويُقدَّر احتياطي البترول في كردستان بحوالي 45 مليار برميل، إضافةً إلى بعض خامات "الحديد" والكروم والذهب واليورانيوم والرصاص والرخام.
واللغة الرئيسة للأكراد هي اللغة الكرديَّة، وهي تنتمي إلى العائلة اللغويَّة الإيرانيَّة، وهي تنقسم إلى لهجتين رئيستَيْن؛ وهي الكرمانجية، ويتحدَّث بها غالبيَّة الأكراد في تركيا والعراق وإيران، والسورانيَّة ويتحدَّث بها بعض المجموعات السكانيَّة من الأكراد المنعَزِلين، وهي أقليَّة صغيرة.
ودِيانة الأكراد الرئيسة الإسلامُ، ومعظمهم من السنَّة وعلى المذهب الشافعي، وهُناك حوالي ستة ملايين كردي شيعي وأقليَّة من المسيحيين واليزيدين (نسبةً إلى يزدان، وتعني الله)، وكان من نزعة الأكراد إلى الاستقلال أنِ اعتنَقُوا المذهب السني؛ لتأكيد اختلافهم عن الإيرانيين الشيعة، واختاروا الشافعيَّة من المذهب السني؛ لتأكيد اختلافهم عن الأتراك السنَّة الحنفيين، ويتَّسِم الشعب الكردي بسماتٍ مميزة مثل: العِناد ورفْض الظُّلم وسرعة الغضب، وهو عظيم التضحية من أجْل أهله، والنظام القبلي يَبُثُّ روح الجديَّة والاستقامة بين أفراد المجتمع، وهم لا يعرفون القيود، وحين أُنشِئت الحدود الدوليَّة عبر أراضيهم وجَدُوا أنفسهم وقد مزَّقَتْهم هذه الحدود؛ ومن ثَمَّ فقد قامت مشكلتهم مع كلِّ دولة من الدول التي مزقت أراضيهم، وكانت ثوراتهم المتواصِلة من أجل توحيد أوصال عشيرتهم، كثيرًا ما كانت هذه الثورات تُقابَل بالقَسوة والظُّلم والاضطهاد من قِبَلِ الدُّوَل الخمس التي اقتسمت أراضيها.
القُوَى العظمى ولعبة الأكراد:
تستَخدِم القُوَى الخارجية المتمرِّدين الأكراد في محاربة الأنظمة المحليَّة؛ فقد ساعَدتْ بريطانيا أكرادَ تركيا ضد حكومة تركيا في العشرينيَّات، وقدَّمتْ أمريكا وإسرائيل الدَّعم للأكراد ضد نِظام البعث العراقي في السبعينيَّات، كما ساعَد السوريون الأكراد ضد تركيا.
وساعَدت أمريكا الأكرادَ ضد إيران، وعلى النَّقِيض استخدم العراق الأكراد الإيرانيين ضدَّ دولتهم، وفي المقابل دعَّمت إيران أكرادَ العراق ضد صدام حسين، وفي الحرب الأنجلو أمريكيَّة على العراق استخدمت الولايات المتحدة الفصائل الكردية للسيطرة على شمال العراق، ودخلتْ قوات البشمرجة الكردية إلى الموصل وكركوك، إلى أنْ أمرَتْها القوات الأمريكية بالرحيل شمالاً مرَّة أخرى بعد تذمُّر تركيا من هذا التصرُّف، وقد ظلَّت مشكلة الأكراد مستعصيةً على الحل؛ حيث لم تنجح أيٌّ من الدول التي تنتَشِر القبائل الكردية على حُدودِها في عِلاجها والاستجابة لأمنيَّات الشعب الكردي، واستُغلَّت مشكلة الأكراد لإثارة القلاقل بين الدُّوَل أو بين الفصائل الكردية ذاتها، وزاد من المشكلة تغيُّر الولاء لزُعَماء العشائر والقبائل الكرديَّة.
وفيما يلي عرضٌ للتوزيع الجغرافي للأكراد:
• الأكراد في شمال غرب إيران:
ويُقدَّر عددهم بـ5 مليون نسمة تقريبًا وتُعتَبر أراضيهم امتِدادًا لأرض أكراد العراق في مرتفعات كردستان وشمال مرتفعات زاجروس.
وقد تمرَّد أكراد إيران أكثر من مرَّةٍ على الحكومة الإيرانية، أهمها تلك التي قامَتْ بين عام 1920م - 1925م، وانتصر الأكراد، ممَّا اضطرَّ إيران أنْ تستعين بحكومتي العراق وتركيا اللتين أرسلتا قوَّات لِمُسانَدة إيران، وتَمَّتْ هزيمة الأكراد، وقتْل أعدادٍ كبيرة منهم، وحِرمانهم من حُقوقهم القوميَّة، واستَطاع الأكراد إقامة دولة بِمُساعَدة الاتحاد السوفيتي في شَمال إيران عام 1946م، ولكن شاه إيران وبمساعدة الغرب استَطاع أنْ يُسَيطر على الموقف عام 1956م، ومع مَجِيء سُلطة الملالي بعد رَحِيل شاه إيران عام 1979م ساعد السوفيت أكراد إيران ومدُّوهم بالأسلحة لتكوين دولة؛ وكان ذلك بغرَض مدِّ السيطرة الروسيَّة على آبار البترول الإيرانيَّة، ممَّا حفَّز الولايات المتحدة على دعْم إيران ومساعدتها في التخلُّص من هذا المأزق.
• الأكراد في شمال العراق:
ويُقدَّر عددهم بـ6 ملايين نسمة تقريبًا؛ أي: ما يُعادِل خمس سكان العراق، وينتَشِرون في كلٍّ من لواء السليمانية 100%، ولواء أربيل 91%، ولواء كركوك 56%، والموصل 35% من جملة السكان؛ أي: إنَّ نسبتهم تَتزايَد كلَّما توغَّلنا في المناطق الوعرة في شمال شرق العراق، وهم يُقِيمون في أكثر مناطق العراق غنًى، بل قد نتبيَّن هذا الغِنَى في الإنتاج الزراعي والإنتاج الحيواني مثلما يتمثَّل في التحكُّم بأهم وأعظم حقول البترول العراقيَّة؛ أي: إنَّ المسألة الكردية العراقية أصبحت ذات ثقلٍ اقتصادي إستراتيجي؛ ممَّا اضطرَّ العراق إلى وضع دستور يسمَح لهم بتولِّي مَناصِب قياديَّة، ومن حقِّهم أنْ يكون نائب الرئيس كرديًّا، واعترف الدستور بأنَّ أرض العراق شركة بين العرب والأكراد وأنْ يكون لهم نصيب في الوظائف.
والعراق متهمٌ بالظُّلم الفادح ضد الشعب الكردي؛ فبعد توقُّف الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة تناقَلتْ وسائل الإعلام محاولة صدَّام حسين إبادة الأكراد بالغازات السامَّة، وقنابل النابالم، وإزالة مدن وقُرَى بالكامل من الوجود؛ مثل: مدينة حلبجه شرق لواء السليمانية، وكانت تهمة الأكراد أنهم ناصَرُوا إيران في حربها ضد العراق إبان حرب الخليج الأولى.
وعلى الرغْم من إعلان حُكومة العراق عام 1974م أنَّ الشعب الكردي له حقُّ الحكم الذاتي، لكنْ يبدو أنَّ ما ينفذ على أرض الواقع غير ذلك؛ حيث قُوبِلت الثورة الكرديَّة بالقتل والإبادة؛ ونتيجةً لذلك أعلنتْ قِيادة عَشائر الأكراد إنهاءَ القتال المسلَّح، وخيَّرت المواطنين الأكراد ما بين العَوْدة إلى العراق والهجرة إلى إيران؛ ممَّا ساعد على انفِراط عِقْدِ الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي كان يضمُّ كلَّ الطبقات الكرديَّة تحتَ قيادة الملا مصطفى البرزاني، الذي هرَب إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة إلى أنْ مات بها في عام 1975م.
ومن ثَمَّ فرَّت أعدادٌ ضَخمة منهم إلى كردستان الإيرانيَّة والتركيَّة، وللأسَف لم يتدخَّل أحدٌ لنُصرة هذا الشعب البائس، ولكنْ بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 أصبح لأكراد العراق وضعٌ خاص بهم؛ إذ استَطاعوا أنْ يُحقِّقوا في "الملاذ الآمن" الذي وفَّرته حماية الطيران الأمريكي والبريطاني "كيانًا خاصًّا بالأكراد"، بعد أنْ حرَّمت الولايات المتحدة إقليم شمال العراق على الطيران العراقي، وجعلته منطقة حظرٍ جوي.
• الأكراد في شرق وجنوب شرق تركيا:
يُقدَّر عدد سكَّان أكراد تركيا بحوالي 15 مليون نسمة يتركَّزون في المناطق الجبليَّة الشرقيَّة حول دِيار بكر، وهم يعمَلون بالرعي ولا يخضَعُون لنِظام الدولة، ولم يُذكَر لهم ثورة ضد الدولة العثمانيَّة إلا في عام 1880 حين أرادوا تكوين دولةٍ مستقلَّة لهم "تحت اسم أرض كردستان"، وكان ردُّ الفعل العثماني هو إبادةَ أعدادٍ كبيرةٍ منهم.
وكانت ثورتهم الثانية عام 1925م، عندما أحكَمَ أتاتورك قَبضَتَه على الأكراد، ممَّا آثار الأكراد، وخاصَّة عندما رأى الأكراد أنَّ حكومة تركيا تقطَع كلَّ صلة لها بالإسلام، واختِيار دستور بعيد كلَّ البُعد عن الشريعة الإسلاميَّة، وأثارت هذه التحوُّلات العلمانيَّة الشعب الكردي المسلم المتمسِّك بإسلامه، ومن هنا استمرَّت ثوراتهم ضد الدولة في أعوام 1929م، 1930م، 1933م، مُطالِبين بعودة الإسلام أو بالاستقلال الذاتي في كردستان التركيَّة؛ ممَّا دفَع بحكومة أتاتورك لاستِخدام العنف والبطش ضد الأكراد، وإعدام زُعَمائهم، وتقييد حريَّاتهم، وما تَزال الحكومة تستخدم العُنف ضدَّ الأكراد؛ ممَّا دفع الأكراد إلى القيام بأعمال العُنف والقتل ضد تركيا، وتكوَّنت فصائل قتاليَّة من حزب العمَّال الكردستاني؛ ممَّا حثَّ الأتراك على مُلاحَقتهم بالطائرات الحربيَّة في شمال غرب العراق.
وزادَ من خُطورة الموقف إلقاءُ القبض على زعيم الأكراد "عبدالله أوجلان" ومحاكمته؛ ممَّا دفع الأكراد إلى الثورة والمظاهرات الدامية ضد المصالح التركيَّة في الدُّول الأوروبيَّة وداخل تركيا، وعرَّض البلادَ لخسائر كبيرة، وانحسَر تيَّار السياحة عن هذا البلد السياحي.
وقد صدَر حكمٌ من المحكمة التركيَّة العليا بإعدام أوجلان؛ ممَّا أثارَ غضبَ دول أوروبا، ودفَع رئيس وُزَراء تركيا إلى إرجاء تنفيذ الحكم "وهناك فرصة لتخفيفه"؛ لاستِرضاء الجماعة الأوروبيَّة، وحتى لا يُثِير إعدامُه حفيظةَ الأكراد فيقوموا بأعمالٍ انتحاريَّة أشد ضراوةً ضد المصالح التركيَّة.
• الأكراد في شمال شرق سوريا:
ويُقدَّر عدد سكَّانهم بنصف مليون نسمة تقريبًا، والأكراد في سوريا أكثر اختِلاطًا بالسكَّان وأكثر تجاوُبًا معهم، وبَعِيدون عن الاحتِكاك بالدولة، ويمكن تفسير ذلك بطبيعة الشعب السوري، فهو أكثر هدوءًا؛ ومن ثَمَّ فالأكراد هناك لا يتعرَّضون للإيذاء بنفس الصورة التي يُعانِي منها الأكراد في الدول الأخرى، ومن هنا فسوريا مقصدٌ لِجَذب أعداد اللاجئين الأكراد من العراق وتركيا الفارِّين من القهْر والقتْل من سلطات الدولتين، وكم مرَّة تهتمُّ سوريا بإيواء قِيادات الأكراد، وهذا ادِّعاءٌ تقوم به تركيا للتربُّص بسوريا.
• الأكراد في أذربيجان وأرمينيا وجورجيا:
كان الاتِّحاد السوفيتي يَنظُر إلى الأكراد في هذه المناطق على أنهم مُناهِضون للثورة الشيوعيَّة؛ لكونهم مسلمين متطرِّفين يُعرَفون بشدَّة تمسُّكهم بدينهم، وحاوَل السوفيت أنْ يُحوِّلوا ولاء الأكراد لصالح أهدافهم الإستراتيجيَّة، وحاوَلوا بثَّ الأفكار الإلحاديَّة بين الأكراد، وإثارة الأحقاد بينهم وبين القوميَّات العربية والإيرانية والتركية، وأثاروا فكرة تكوين دولة كرديَّة على أراضي كردستان في الدُّوَل المجاورة؛ ليتسنَّى لهم التدخُّل في هذه الدُّوَل.
المستقبل الكردي:
هل يمكن أنْ تقوم دولةٌ كرديَّة مستقلَّة؟
الإجابة: لا، كما نرى، فكلُّ القوى سواء الدول العظمى "روسيا - أمريكا - بريطانيا"، أو الدول الحاضنة للأقليَّة، فالكل يتَّفق على أنَّ قيام دولة كردية سيُثِير المشكلة ويزيدها بين الأكراد وجِيرانهم، وبين الأكراد بعضهم البعض؛ ومن ثَمَّ رأتْ هذه الدول أن تمتع الأكراد بحكمٍ ذاتي هو الأفضل لهم.
• الخوف من قِيام دولة كرديَّة يأتي من كونها دولةً حبيسة، ومن ثم ستُحاوِل أنْ تحسِّن علاقاتها مع إحدى دول الجوار، ولكن مَن ستكونُ هذه الدولة، وخاصَّة أنها قد انفصلَتْ عنها دون رغبتها؟
بإيجازٍ لن تَتعاوَن الدول البحريَّة سواء إيران أو العراق أو سوريا أو تركيا لتكون منفذًا بحريًّا لتجارة الدولة الكرديَّة.
• إذا ما استقلَّت الدولة الكردية، فإنَّ الصراعات الداخلية ستَزداد بين فَصائِل أكراد العراق، أو فَصائِل أكراد إيران، أو فَصائِل أكراد تركيا.
ومن ثَمَّ نَدخُل مرَّة أخرى في الحلقة المفرَّغة للصراع الكردي - الكردي الذي تُوجِّهه تَوازُنات قُوَى ومَصالح الأطراف الإقليميَّة والدوليَّة دون أنْ نصلَ لحلٍّ واضح للمشكلة.
• هل يمكن أنْ نتصوَّر أنَّ العراق تُوافِق أنْ تقتطع منها كردستان العراق الغنيَّة بالبترول وأهم أقاليم العراق الرعويَّة؟ وهل يمكن أنْ توافق تركيا على انفِصال كردستان تركيا التي تُعَدُّ ورقة ضغطٍ قويَّة على العراق وسوريا في حرب المياه بينهم، وأنَّ حلم تركيا لا يقفُ على فقْد أراضٍ؛ بل هناك حلمٌ في إعادة القوميَّة التركمانيَّة التي تمتدُّ إلى أواسط آسيا في دولة قوية؟
• هل تُوافِق الولايات المتحدة على قِيام دولة كرديَّة وسيكون الرد الرُّوسي بالرَّفض؟ وإذا وافَقتْ روسيا لتقتَرِب من بترول الشرق الأوسط، فإنَّ الولايات المتحدة ترفُض التقارُب الروسي الكردي.
أخيرًا، يبقى الحلُّ المنطقيُّ لهذه الأزمة في ضرورة فتح حوار جادٍّ بين الأكراد وحكومات الدول الحاضنة لتنفيذ الحكم الذاتي، واحترام الأقليَّة الكرديَّة ومحاولة دَمجِها مع المجتمع دون قهرٍ أو عنفٍ.