العولمة وطبيعة الأزمات السياسية في الوطن العربي.افاق المسقبل
مرسل: الأحد يوليو 08, 2012 1:16 am
لم يعد ثمة خلاف على أن المتغيرات العالمية ، النوعية المتدفقة ، التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، في السياسة و الاقتصاد و التطور العلمي ، شكلت في مجملها واقعاً تاريخياً معاصراً و رئيسياً وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة ، في القرن الحادي و العشرين ، لم يعهدها من قبل ، و لم يتنبأ بمعطياتها ووتائرها المتسارعة أشد الساسة و المفكرين استشرافا أو تشاؤماً و أقربهم إلى صناع القرار ، خاصة ذلك الانهيار المريع في كل من المنظومة الاشتراكية العالمية و منظومة التحرر القومي من جهة ، و الانحسار أو التراجع المريع أيضاً ، و لكن المؤقت للبنية الأيديولوجية أو الفكرية لقوى الاشتراكية و التحرر القومي من جهة أخرى ، الأمر الذي أخل بكل توازنات القوة و المصالح وفق مفاهيم و أسس الثنائية القطبية التي سادت طوال حقبة الحرب الباردة السابقة ، ووفر معظم مقومات بروز الأحادية القطبية أو العولمة ، التي اقترنت بالإمبريالية الأمريكية التي استطاعت –حتى اللحظة الراهنة- استكمال فرض هيمنتها على مقدرات هذا الكوكب ، بحكم ادعائها أنها المنتصر الوحيد ، و بالتالي صاحبة الحق الرئيسي في رسم و تحديد طبيعة و مسار العلاقات الدولية في المرحلة الجديدة وفق آليات ومفاهيم الليبرالية الجديدة .
أولا: حول تطور مفهوم العولمة وآثاره الضارة:
في سياق هذا التحول المادي الهائل الذي انتشر تأثيره في كافة أرجاء كوكبنا الأرضي بعد أن تحررت الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، بتأثير هذا التطور النوعي الهائل في مجال الاتصالات وثورة المعلومات والتكنولوجيا ، وقيام التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة ، كان لابد من تطوير وإنتاج النظم المعرفية ، السياسية والاقتصادية التي تبرر وتعزز هذا النظام العالمي الأحادي في ظل حالة من القبول أو التكييف السلبي ، بل والمشاركة أحيانا من البلدان الأوروبية واليابان وروسيا الاتحادية ، شجعت على تطبيق شروط العولمة ، إضافة الى هذا المناخ العام المهزوم أو المنكسر في بلدان العالم الثالث أو الأطراف ، الذي أصبح جاهزاً للاستقبال والامتثال للمعطيات السياسية والاقتصادية ، الفكرية والمادية الجديدة عبر أوضاع مأزومة لأنظمة فقدت في غالبيتها الساحقة وعيها الوطني أو كادت ، وقامت بتمهيد تربة بلادها للبذور التي استنبتها النظام العالمي " الجديد " تحت عناوين تحرير التجارة العالمية ، إعادة الهيكلة ، والتكيف ، والخصخصة، باعتبارها أحد الركائز الضرورية اللازمة لتوليد وتفعيل آليات النظام العالمي " الجديد " أو العولمة Globalization، كظاهرة نشأت في ظروف موضوعية وذاتية –دولية وإقليمية- مواتية ، وليس كحتمية تاريخية كما يدعي أو يتذرع أصحابها أو المدافعين عنها الخاضعين لشروطها المذلة ، فالعولمة ليست في حد ذاتها شكلا طارئا من أشكال التطور البشري ، وإنما هي امتداد بالمعنى التاريخي والسياسي والمعرفي والاقتصادي لعملية التطور الرأسمالي التي لم تعرف التوقف عن الحركة والصراع والتوسع والنمو ، المتسارع والبطيء ، منذ مرحلتها الجنينية الأولى في القرن الخامس عشر ، الى مرحلة نشوئها في القرن الثامن عشر ، ومن ثم تطورها الى شكلها الإمبريالي في نهاية القرن التاسع عشر ، هذه المرحلة التي وصل فيها النظام الرأسمالي طوره الإمبريالي المعولم الذي يسعى –استنادا الى منطق إرادة القوة المتوحشة- الى العودة بشعوب العالم الى جوهر وقواعد مرحلة النشوء الأولى للرأسمالية وآلياتها التدميرية القائمة على قواعد المنافسة الأنانية التي تضمن هيمنة الأقوى للاستيلاء على فائض القيمة المحلي في بلادنا كما في بلدان الأطراف جميعا ، باسم الشعار القديم "دعه يعمل دعه يمر" كدعوة صريحة تستجيب لفكرة الهيمنة التي تشكل اليوم هدف ومحور نشاط المراكز الرأسمالية المعولمة الراهنة ، ولضمان عملية التوسع الاكراهي -بالقوة العسكرية والاحتلال المباشر أو عبر أنظمة التبعية والخضوع أو كلاهما معا- ضد مقدرات شعوب العالم الفقيرة باسم الخصخصة والانفتاح والليبرالية الجديدة تحت ستار زائف من الشكل الأحادي "الديمقراطي" الليبرالي وحقوق الإنسان ، هدفه الضغط على دول العالم عموما ، والعالم الثالث على وجه الخصوص ، للأخذ بالشروط الجديدة تحت شعار "برامج التصحيح والتكيف" التي تمثل كما يقول د.رمزي زكي "أول مشروع أممي ، تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي من موقع ضعيف ، بما يحقق مزيدا من إضعاف جهاز الدولة ، وحرمانها من الفائض الاقتصادي ، وهما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تعتمد عليهما الليبرالية الجديدة" .
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة الى أن هيمنة البعد الاقتصادي –كتحد رئيسي من تحديات العولمة- لا يعني إغفال عمق الترابط بين هذا البعد من ناحية ، وبين الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية للعولمة ، كتحديات لا بد من مواجهتها في بلداننا العربية في ضوء هذا التراجع الذي يكاد يصل الى درجة الانهيار في العديد من الأنظمة العربية الرخوة سواء على صعيد الدور السياسي الذي تراجع أو استلب لحساب المجال السياسي الأمريكي المعولم ، أو على تراجع الثقافة الوطنية والقومية التقدمية لحساب الثقافة الاستهلاكية من جهة ، وثقافة التخلف من جهة ثانية ، وأخيرا على الصعيد الاجتماعي حيث تتجلى انعكاسات المخاطر الاقتصادية الناجمة عن تزايد أشكال تراكم الثروات ، في هذا الاتساع المتزايد للفجوة بين القلة من الأثرياء والأغلبية الساحقة من الجماهير الفقيرة التي يزداد وضعها فقرا وتخلفا وتهميشا ، إذ أن تراكم هذه العوامل في الرسم البياني العربي الهابط ، أدى الى انتقال وتحول معظم بلدان النظام العربي من حالة التبعية السياسية-الاقتصادية في أشكالها السابقة ، الى مزيد من التبعية والتهميش لدرجة الارتهان لشروط الهيمنة الأمريكية المتجددة التي جعلت دور الدولة قاصرا على حماية المصالح الرأسمالية الخارجية والداخلية المشتركة والمتشابكة ، بعد أن تراجع دور الدولة الإنتاجي والخدماتي الذي كان مخصصا –في المرحلة السابقة- لتغطية بعض احتياجات الجماهير الشعبية فيها ، وتراجع دور الدولة الوطني والاجتماعي ، ترعرعت المصالح الشخصية البيروقراطية الكمبرادورية الطفيلية ، باسم الخصخصة والانفتاح مما أدى الى تفكك الكثير من الروابط الوطنية والقومية ، الى جانب عوامل التفكك وشبه الانهيار المجتمعي الداخلي الذي نلمس مؤشراته عبر ما نشاهده من مظاهر إعادة إنتاج وتجديد التخلف بكل تفريعاته الطائفية والدينية والعائلية … الخ ، التي ترافقت مع تعمق الفجوات الاجتماعية وأشكال الحراك الاجتماعي الشاذ وغير الطبيعي ، في إطار الفساد العام الكبير والثروات الطارئة والمستحدثة الناجمة عن هذا الوضع .
ففي ظل هذه الأوضاع المتدهورة ، الناتجة عن أزمة التطور السياسي الاقتصادي والاجتماعي ،المستفحلة في بلدان العالم الثالث عموماً ، التي أدت بها إلى مزيد من الإلحاق و التبعية في علاقتها بالشروط الرأسمالية الجديدة ، كان لا بد لاستراتيجية رأس المال المعولم ، انسجاماً مع نزوعه الدائم نحو التوسع والامتداد ، أن تسعى الى إخضاع الجميع لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكي المعولم –وقد ازداد هذا الأمر توحشا بعد أحداث 11 أيلول 2001- ، وهي مقتضيات استراتيجية تستهدف هدفين اثنين متكاملين هما "تعميق العولمة الاقتصادية ، أي سيادة السوق عالميا ، وتدمير قدرة الدول والقوميات والشعوب على المقاومة السياسية" ، هذا هو جوهر الإمبريالية في طورها المعولم في القرن الحادي والعشرين ، وبالتالي فإننا نرى أن الوضع الراهن ليس نظاما دوليا جديدا ، وإنما هو امتداد لجوهر العملية الرأسمالية القائم على التوسع والامتداد ، وهو أيضا استمرار للصراع في ظروف دولية لم يعد لتوازن القوى فيها أي دور أو مكانة ، ولذلك كان من الطبيعي أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية ، باعتبارها القوة الوحيدة المهيمنة في هذه الحقبة ، بملء الفراغ الناجم عن انهيار التوازنات الدولية السابقة بهذه الصورة الاستبدادية المتوحشة.
وبنشوء هذا الفراغ ، السياسي ، الاقتصادي ، الأيديولوجي ، أصبحت الطريق ممهدة أمام المخططات التوسعية للرأسمالية صوب المزيد من السيطرة ، ففي ضوء وضوح هذه المخططات خلال العقود الثلاثة الماضية تتكشف الطبيعة المتوحشة للرأسمالية المعولمة اليوم على حقيقتها عبر ممارساتها البشعة ضد شعوب العالم الفقيرة ، وضد القيم الإنسانية الكبرى في العدالة الاجتماعية والمساواة ، كما في الثقافة والفكر والحضارة ، وذلك بالاستناد الى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة نظام العولمة الرأسمالي الراهن ، وهي :-
1-صندوق النقد الدولي الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية ، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي ، سواء في تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي أو في إدارة القروض والفوائد والإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع ورؤوس أموال بلدان المراكز الصناعية .
2-منظمة التجارة العالمية WTO وهي أهم وأخطر مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية ، تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف الى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية ، وتأمين حرية السوق وتنقل البضائع في مدى زمني لا يتجاوز عام 2005 ، بالتنسيق المباشر وعبر دور مركزي للشركات المتعددة الجنسية .
وفي ضوء هذه السياسات والشروط المحددة من قبل الصندوق والبنك الدوليان من جهة ، ومنظمة التجارة الدولية من جهة ثانية ، أصبحت السياسة التجارية للدول المستقلة ، ولأول مرة في التاريخ الاقتصادي للأمم ، شأنا دوليا ، أو معولما ، وليس عملا من أعمال السيادة الوطنية أو القومية الخالصة … فعلى النقيض من كل ما كتبه مفكرو العولمة ، المدافعين عن إجراءات الخصخصة والليبرالية وتحرير التجارة العالمية ، وآثارها الإيجابية على الدول النامية ، فإن النتائج الناجمة عن اندماج البلدان النامية في هذه الإجراءات ، تشير الى عدد من الحقائق :-
1-بالرغم من ارتفاع حجم التجارة الدولية الى 7.6 تريليون دولار عام 95 (وهي اليوم في بداية عام 2002 تصل الى حوالي 9 تريليون دولار سنويا) ، فقد ظل نصيب مجموعة البلاد النامية من التجارة العالمية ثابتا خلال العقود الثلاثة الماضية حول 18% بما في ذلك نصيب الدول المصدرة للنفط ، رغم أن سكان هذه المجموعة من البلاد يشكلون 75% من إجمالي سكان العالم ، الى جانب ذلك فقد تراجعت نسبة مساهمة دول العالم الثالث في الناتج الإجمالي العالمي من 15.5% عام 1965 الى 13.4% عام 1995 .
2-بالرغم من أن دعاة العولمة والتحرير المالي والتجاري ، كانوا يزعمون أن البلاد النامية سوف تستفيد من تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة ، إلا أن ذلك لم يحدث ، فقد تبين في العقدين الماضيين أن أكثر من 90% من حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة تذهب أساسا الى البلدان المتقدمة (الولايات المتحدة-أوروبا-اليابان والصين) . أما بقية البلاد النامية فقد حصلت على أقل من 10% من تلك الحركة .
3-"ارتفع إجمالي رصيد ديون البلدان النامية بشكل دراماتيكي في العقد الماضي من 603.3 مليار دولار عام 1980 ، الى 2172 مليار دولار عام 1997 ، ومع نمو حجم هذه الديون ، ارتفعت أسعار الفائدة ومعدل خدمة الدين الذي وصل في بعض هذه البلدان الى ما يزيد عن 100%" ، وما يعنيه ذلك من تضخم حجم معاناة شعوب العالم الثالث حيث يعيش اليوم حوالي 1.5 مليار إنسان في حالة فقر مدقع في حين يمتلك أقل من أربعمائة ملياردير في العالم الرأسمالي ثروة تزيد عما يملكه 2.5 مليار من السكان في جنوب الكرة الأرضية .
4-إن عولمة الأسواق المالية ، وما انطوت عليه من إجراءات للتحرير المالي ، كانت ذات آثار هامة وخطيرة على البلاد النامية ، فقد أدت الى إلغاء الحظر على المعاملات التي يشملها حساب رأس المال والحسابات المالية لميزان المدفوعات ... وكذلك فإن هذه الإجراءات عرضت الجهاز المصرفي للأزمات ، ولتدفق الأموال القذرة (غسيل الأموال) ، وتعرض البلد لهجمات المضاربين ، والى إضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة المالية والنقدية ، وشجعت على هروب واسع لرؤوس الأموال الوطنية للخارج .
يتضح فيما تقدم ، أن "البلاد النامية تعاني من وضع غير متكافئ لها في الاقتصاد العالمي ، وأن هذا الوضع يتدهور فترة بعد أخرى تحت تأثير سرعة اندفاع قطار العولمة والتحرر المتسارع لاقتصادات هذه البلاد ، وإدماجها في الاقتصاد العالمي ، إن هذا الدمج ، والتحول المفاجئ والالتزام المبكر بقواعد العولمة والليبرالية والتحرير الاقتصادي ، كانت له نتائج سلبية ، وأحيانا مدمرة على اقتصاد البلدان النامية ، حيث وضعت الكثير من العقبات في وجه تنميتها ، وأفقدتها القدرة على حماية صناعاتها الوطنية ، وأدت الى ارتفاع تكلفة المعرفة والتكنولوجيا ، وتعرضها الى المنافسة غير المتكافئة مع الواردات الأجنبية ، واحتمال استيلاء الشركات العملاقة المتعددة الجنسية على المشروعات الوطنية والمجالات الأساسية ، مما سيدفع ، وذلك هو الأخطر ، الى تقليص قدرة البلاد النامية على صياغة وتصميم سياساتها التنموية والتجارية (وغيرها من السياسات) بعد أن انتقلت عملية صنع الكثير من القرارات من مستواها الوطني الى منظمة التجارة العالمية" .
ثانيا: العولمة والوضع العربي الراهن وآفاق المستقبل :
و في ضوء هذه المستجدات و المتغيرات العالمية ، غير الاعتيادية ، بمظاهرها و طبيعتها الأحادية القطبية ، في السيطرة على مقدرات العالم بدواعي القوة و الإكراه ، التي تفتقر –من الناحية الموضوعية- لمقومات الديمومة و الاستمرار ، في هذا المناخ وجدت الإمبريالية الأمريكية فرصتها في التمدد و الهيمنة على كثير من مناطق العالم عموماً ، و على منطقتنا العربية خصوصاً متذرعة بأحدث الذرائع الزائفة تحت عنوان "مقاومة الإرهاب" وجوهره مقاومة وتركيع كل إمكانية أو حركة تستهدف استنهاض عوامل القوة والتحرر الديمقراطي القومي والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية ، بمثل ما تستهدف تكريس تبعية شعوب هذه الأمة وتخلفها من جهة ، و إعادة هيكلتها و تكييفها بما يضمن إلحاقها بصورة شبه مطلقة لسياساتها في المنطقة التي تستهدف –بصورة يائسة لا مستقبل لها- تجديد الدور الوظيفي للعدو الصهيوني و دولته بما يتوافق مع مستجدات المصالح الأمريكية المعولمة الراهنة ، بحيث تصبح إسرائيل "دولة مركزية" في المنطقة العربية و الإقليمية يحيطها مجموعات من "دول الأطراف" ، المتكيفة –التابعة مسلوبة الإرادة ، بما يضمن و يسهل عملية "التطبيع" و "الاندماج" الإسرائيلي في المنطقة العربية ، سياسياً و اقتصادياً ، تمهيداً للقضاء على منظومة الأمن القومي العربي كله من جهة و بما يعزز السيطرة العدوانية الإسرائيلية على كل الأراضي الفلسطينية والجولان السورية المحتلة و التحكم في مستقبلها من جهة أخرى .
إلا أن هذه الاستنتاجات –على مرارتها- ترتبط باللحظة الراهنة من المشهد العربي ، و هي لحظة لا تعبر عن الحقائق و مقومات التغيير رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض ، أو القلة المهزومة ، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة ، ان المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن ، يوحي بأن المطلوب قد تحقق ، و أن الإمبريالية الأمريكية و صنيعتها و حليفتها الحركة الصهيونية و إسرائيل ، قد نجحتا في نزع إرادة الأمة العربية ، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن الحقائق الموضوعية لهذه الأمة ، في مسارها و تطور حركة جماهيرها الشعبية و تطلعها نحو التحرر و الديمقراطية و التقدم و العدالة الاجتماعية ، لأن هذه الحقائق في تكاملها و ترابطها تمثل المشهد الآخر –النقيض- الذي يقول أن المطلوب أمريكياً و إسرائيلياً لم و لن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار ، لأنه لن يستطيع –مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض و إخضاع شعوب هذه الأمة ، التي صنعت ماضي و حاضر هذه المنطقة ، و ليست جسماً غريباً طارئاً فيها ، و لذلك فإن سكونها الراهن المؤقت هو شكل من أشكال الحركة في داخلها ، يقاوم كل محاولات تطويع إرادتها ، تمهيداً للمشهد القادم ، بعيداً عن السكون ، مشهد الجماهير المنظمة الحاملة لمشروعها النهضوي القومي ، أو مشهد ما بعد الأزمة الراهنة الذي سيعيد لهذه الأمة دورها الأصيل في صياغة مستقبل هذه المنطقة .
إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعبنا أو الشعوب العربية كلها –في حسم الصراع العربي الصهيوني بما يحقق أماني و مصالح هذه الأمة ، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان و المكان دوراً رئيسياً و أحادياً فيها ، بل يعني تفعيل و إنضاج عوامل و أدوات التغيير الديمقراطية الحديثة و المعاصرة ، و البحث عن مبرراتها و أسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن ، الذي لم يعد مجدياً لتغييره ، كافة الأدوات و الرؤى و السياسات الرسمية الفلسطينية و العربية الهابطة ، التي تعاطت منذ كامب ديفيد و مدريد و أوسلو ووادي عربة وشرم الشيخ وصولا الى لجنة ميتشل ووثيقة جورج تينيت مدير المخابرات الأمريكية (CIA)!؟ مع حلقات مغلقة ، انتقلنا عبرها إلى مزيد من التفاوض ، و مزيد من المصالح و الصداقات ، و ضياع الهدف بعد تغييب الثوابت الوطنية و القومية ، التي يكاد أن يصبح أمراً طبيعياً بعدها ، أن تتغير الأهداف و جداول الأعمال و المطالب .
إن الوضع الراهن ، الذي تعيشه شعوبنا العربية ، لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك و الهبوط التي بدأت في التراكم منذ اتفاقية "سايكس بيكو" وتجزئتها لوطننا العربي عام 1916 ، ووعد بلفور عام 1917 ، والنكبة الأولى لشعبنا الفلسطيني عام 1948 ، ثم انهيار الوحدة العربية بين مصر و سوريا في أيلول 1961 ، و تطورت بعد هزيمة حزيران 1967 ، و تعمقت و امتدت بعد كامب ديفيد 1979 إلى اليوم ، لدرجة أن ربع القرن الأخير حمل معه صوراً من التراجع لم تعرف جماهيرنا مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث ، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر و النهوض الوطني و القومي ، تحول هذا الوطن بدوله العديدة و سكانه إلى رقم كبير –يعج بالنزاعات الداخلية و العداء بين دوله- ، لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية ، و تحولت معظم أنظمته و حكوماته إلى أدوات للقوى المعادية ، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة و الفعل و المواجهة ، في إطار عام من التبعية على تنوع درجاتها و أشكالها السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية والثقافية و السيكولوجية ، في ظروف فقدت فيها القوى و الأحزاب الديمقراطية الوطنية و القومية و اليسارية قدرتها –لأسباب ذاتية و موضوعية- على الحركة و النشاط و النمو ، و تراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها .
و في مقابل هذا التراجع الرسمي العربي الذي يقف سداً مانعاً في وجه تطور و تجدد و صعود المشروع الوطني و القومي في بلدان الوطن العربي كله ، تتجلى هيمنة العدو الصهيوني بصورة غير مسبوقة ، لم يستطع تحقيقها في كل حروبه السابقة مع العرب ، إلى جانب عمليات الترويض الأمريكي للنظام الرسمي العربي ، في السياسة و الاقتصاد و الفكر و الثقافة التي لم تنجح في تغيير الموازين و المعايير العسكرية و السياسية في الصراع العربي –الصهيوني لصالح إسرائيل فحسب ، بل نجحت في تغيير أسس ما يسمى بعملية التفاوض إلى الدرجة التي يجري التعامل معها الآن على قاعدة أن يعترف العدو الإسرائيلي بحقوقنا و ليس العكس .
على أي حال ، و مع إدراكنا لطبيعة هذه التراجعات في الوضع العربي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه ، لم تكن معزولة أبداً عما جرى و يجري في العلاقات الدولية المعولمة الراهنة ، إلا أننا ندرك أيضاً أنه لولا هذه التراجعات العربية التي شكلت قاعدة و مناخاً عاماً عبر أدواتها السياسية و شرائحها الاجتماعية و طبقاتها القديمة الجديدة ، لما نجحت العولمة في فرض شروط الاستسلام على بلداننا ، ذلك لأن ظاهرة العولمة إلى جانب ما تحمله من مخاطر شديدة و تحديات كبرى ، خاصة على بلدان العالم الثالث عموماً و الوطن العربي خصوصاً ، إلا أن هذه الظاهرة تحمل أيضاً كثيراً من الفرص و حوافز الصحوة و النهوض لمن يمتلكون الإرادة ، إذ لا يمكن اختزال العولمة في المخاطر وحدها بعيداً عن فرص النهوض ، كما لا يمكن اختزالها في أنها عولمة التحديات ، أو عولمة الاستسلام ، فكل منهما تمتلك مقوماتها و أدواتها و آلياتها الداخلية . و إذا كان صحيحاً أن العولمة –مهما اشتدت هيمنتها- لا تستطيع بأي حال من الأحوال ، شطب هذا التنوع الحضاري و التاريخي و الثقافي و السياسي بين الأمم و القوميات ، فإن ذلك لا يعني الصمت أو الركون و الاطمئنان ، لأن الصراع المستمر و الحركة الصاعدة في إطاره ، يشكلان القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية اليوم أكبر بما لا يقاس مما كانت عليه في السابق ، لذلك فإن عدم دخولنا –كعرب- إلى حلبة الصراع متسلحين بالرؤية أو الهدف القومي الوحدوي ، و بالخطط اللازمة لتحقيقه و توفير مقوماتها و آليات تنفيذها ، سيعني مزيداً من التبعية و القهر لشعوبنا ، و مزيداً من التراجع لبلداننا على هامش التاريخ أو خارجه لا فرق .
في ضوء ما تقدم ، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل و تجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق ، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث من جهة ، و بوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى ، على أن هذه الرؤية لكي تستطيع ممارسة دورها الحركي النقيض ، و القيام بوظيفتها و مهماتها التاريخية فلا بد لها من امتلاك الوعي بالمحددات أو المفاهيم الجوهرية الأساسية التالية :-
1.أن تكون رؤية وحدوية تسعى إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته الإمبريالية ، و تعمل على توحيد الجماهير العربية بما يخلق منها قوة قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي و الإنساني العام .
2.أن تسعى إلى استيعاب السمات الأساسية لثقافة التنوير والحداثة الأوروبية ، و ما تضمنته من عقلانية علمية و روح نقدية إبداعية و استكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية و الديمقراطية ، و إدراك واضح لموضوعية الوجود المادي و الوجود الاجتماعي ، و ما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية و سعيها إلى الحركة و التغيير انطلاقاً من أن الإنسان هو صانع التاريخ و القادر على الابتكار و التغيير في حاضره و مستقبله ، وفق أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية في إطار المشروع القومي العربي النهضوي ، ذلك أن عملية التحرر القومي كضرورة تاريخية لمجابهة تناقضات المجتمع العربي الحديث ، لا يمكن تحققها أو ممارسة دورها كنقيض للواقع القائم ، بدون الاشتراكية و برنامجها السياسي الاجتماعي و الاقتصادي ، كضرورة تاريخية أيضاً لعملية التحرر القومي ذاتها ، إذ أن جوهر تناقضاتنا الرئيسة مع الحركة الصهيونية و قوى العولمة الإمبريالية و توابعها المحلية يقوم على الصراع على استرداد الأرض و الموارد و الثروات المادية والبشرية العربية لإلغاء حالة النهب و الاستلاب و الارتهان و الاستغلال التي تعيشها شعوبنا العربية اليوم ، و بالتالي فإننا نؤكد أن حل هذا الصراع لتحرير الأرض و الثروات و الموارد العربية لا يمكن تحقيقه بدون إنضاج الوعي الاشتراكي و برامجه التطبيقية الكفيلة بتغيير بنية العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية التابعة والمتخلفة و المشوهة الحالية ، إلى بنية إنتاجية تنموية حضارية شاملة تضمن توليد علاقات اجتماعية ذات طابع جماعي تعاوني ، يؤكد في جوهره على حق جماهيرنا الشعبية في ملكية هذه الثروات و الموارد عبر مؤسساتها الديمقراطية التي ترى في الحوافز الفردية و الدافعية الذاتية شرطاً للإبداع و البناء و ضمانة للتطور المتجدد و الاستمرار .
إن هذه العلاقة الثنائية الجدلية بين الرؤية القومية و أيديولوجية الاشتراكية العلمية ، و تطابقهما معاً في النظرية و الممارسة بأدوات أو آليات تنسجم مع روح هذا العصر و متطلباته ، هي الصيغة أو المنظومة الفكرية التي نعتقد أنها تشكل المدخل النظري الذي ندعو إلى الحوار العميق فيه من أجل بلورة أسسه و آلياته الفكرية أو المعرفية تمهيداً للوصول إلى آلياته الحركية ، أو مقوماته و أدواته التغييرية الديمقراطية المنظمة ، بصورة عصرية تتوافق مع طبيعة التحولات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، التي نتطلع إليها ، في سياق نضالنا من أجل التحرر القومي و التقدم الاجتماعي و مواجهة تحديات العولمة و المشروع الصهيوني و اشتراطاتهما المذلة .إذ لا يعقل أن نستمر في التعامل مع الفكرة القومية من منطلق أزليتها أو خلودها ، و هي ليست كذلك ، أو الركون إلى مكوناتها الأساسية ، اللغة ، و الجغرافيا أو الأرض ، والتاريخ والثقافة والتراث . فبالرغم من أهمية هذه العوامل كمنطلقات أولية و أساسية للفكر القومي العربي إلا أنها تظل عاجزة وحدها عن التفاعل أو التكيف الإيجابي مع المتغيرات الإقليمية و العالمية المعاصرة نظراً لتعدد خصوصياتها القطرية وألوانها رغم تشابكها في لوحة تاريخية وجغرافية متصلة ، مما يجعلها –وفي الظروف الراهنة بالذات- فاقدة بآلياتها الذاتية المجردة ، القدرة على إنتاج الوعي القومي الاستنهاضي ، أو الفكرة التوحيدية الناظمة للجماهير الشعبية والمعبرة عن مصالحها ، و من هنا تتجلى الأهمية و الضرورة معاً للمحتوى الاقتصادي الاجتماعي التقدمي القادر على إنتاج الآليات النقيضة التي يمكن أن تتجاوز هذا الواقع المجزأ ، التابع ، المتخلف ، المشوه من جهة ، وأدواته المتعددة القبلية، الكومبرادورية ،والطفيلية، والبيروقراطية الأحادية المستبدة ، من جهة أخرى.
إن هذه الحالة من السكون الظاهري أو الكمون العربي ، في مناخ تترعرع فيه كل عوامل الإحباط ، تجعل من الحديث عن المبادرة لإنتاج و بناء منظومة معرفية قومية تقدمية تتناسب مع روح هذا العصر و مقتضياته ، ضرورة تاريخية استثنائية ملحة تعمل على نقل الواقع الشعبي العربي من حالة السكون أو الركود الراهنة إلى حالة الحركة و التجدد ، يقع عبء صياغتها و تبنيها و تحمل مسؤولية فعلها و حركتها على عاتق المثقف العربي الديمقراطي التقدمي الملتزم كخطوة أولية ، لإعادة تكريس الوعي القومي بمضامينه و آلياته الحديثة و المعاصرة في التحرر و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كأفكار توحيدية للجماهير ، تشكل المحتوى الحقيقي للواجهة العربية الخارجية المتمثلة في اللغة و الأرض و التاريخ و الثقافة ، بمثل ما تشكل أيضاً ، الأساس المادي للمشروع القومي الديمقراطي في الحاضر و المستقبل ، الذي يضمن كسر حلقات التخلف و التبعية و الإلحاق و التجزئة ، و يختصر الطريق الى المعرفة العلمية و الحداثة من جهة ، و صياغة المشروع التنموي الاقتصادي المستند الى مبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات بآفاقه الاشتراكية من جهة أخرى .
إننا ندرك حجم العقبات أو العوامل الموضوعية و الذاتية التي تشكل تحدياً حقيقياً في وجه تجدد المشروع القومي العربي ، و التي تفاقمت في الربع الأخير من القرن العشرين ، الذي حمل –كما أشرنا من قبل- صوراً من التراجع تخطت كثيراً من الثوابت و الحدود و الموانع ، و ما زال رسمها البياني متجهاً في حركته نحو مزيد من التراجع و الهبوط حتى اللحظة ، لم يصب بالضرر الجوانب السياسية الاجتماعية فحسب ، و إنما أصاب أيضاً الأسس الفكرية أو المفاهيم العامة التي ارتبطت تاريخياً بحقيقة الوعي بمفهوم الأمة العربية ، و مفهوم الوطن العربي مما دفع بقسطنطين زريق –أحد أهم رواد الفكر القومي العربي الحديث- إلى الإقرار بهذا التراجع في كتابه "ما العمل" –الصادر عام 1998- بقوله "عليَّ شخصياً أن أعترف أنني كنت في الماضي أتكلم و أكتب عن الأمة العربية ، فإذا أنا الآن أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش" و لجأ –حتى وفاته في صيف عام 2000-إلى استخدام تعبير "المجتمع العربي" بدلاً من "الوطن العربي" الذي لم يتطور بعد ليصبح وطناً عربياً لأمة عربية ، و لم يكن ذلك موقفاً يائساً من مفكرنا الراحل ، بقدر ما كان تعبيراً عن قلقه على مستقبل هذه الأمة ، و عن ضرورات خلق عوامل التحدي الدائم لمواجهة كل أشكال حياتها و ظروفها المعقدة الراهنة ، لتطوير مفهوم القومية العربية و إخراجه من سياقه الرومانسي المألوف أو المتحجر إلى رحاب الواقعية العقلانية الحديثة ، فالقومية الحقة –كما يراها قسطنطين زريق- ليست دعوة سياسية فحسب ، إنما هي حركة علمانية شاملة لحياة الشعب ، تعمل على مواجهة العوامل الرئيسية في أزمة المجتمع العربي حاليا ، والتي لخصها فيما يلي :-
-غياب الشعوب عن المسرح العربي .
-غياب القضايا الكبرى في المجتمع العربي ، وهي الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص .
-غياب العقلانية والنهج العلمي في فهم المشكلات وحلها .
-غياب القيم الاجتماعية الإيجابية ، وانتفاء اعتمادها في السلوك العام والخاص .
-هذه العوامل نتج عنها غياب القدرة –في المجتمع العربي- على التحصن في وجه الانحرافات والمفاسد الداخلية أو في وجه العدوان الخارجي .
لذلك ، فإن حديثنا عن الضرورة التاريخية لصياغة منظومة معرفية قومية تقدمية معاصرة ، عبر رؤية وممارسة جديدتين ، يقع بالدرجة الأولى وفي المراحل الأولى على عاتق المثقف الديمقراطي الثوري العربي ، لاعتبارين هامين ، أولهما: أن هذا المثقف هو الوحيد القادر من الناحية الموضوعية على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية. وثانيهما: أن طبيعة التركيب الاجتماعي/الطبقي المشوه لمجتمعنا العربي ، التي تتسم بتعدد الأنماط الاجتماعية القديمة والمستحدثة وتداخلها ، كما تتسم بالسيولة وعدم التبلور الطبقي بصورة محددة ، والتسارع غير العادي ، الطفيلي أو الشاذ أحيانا في عملية الحراك الاجتماعي ، الى جانب وضوح وتعمق تبعية "البورجوازية" العربية للمركز الرأسمالي المعولم ، بحيث أصبحت –اليوم- واحدة من أهم أدواته وآلياته في بلادنا ، كل ذلك يجعل من المثقف العربي ، -بالمعنى الجمعي المنظم- بديلا مؤقتا ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي ، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسئوليات بل وتضحيات في مجرى الصراع لتوليد معالم المشروع النهضوي القومي ونشره في أوساط الجماهير الشعبية العربية كفكرة مركزية أو توحيدية .
إن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من القوى والأحزاب والمفكرين والمثقفين في إطار الوحدة الجدلية بين القوى والفعاليات القومية واليسارية العربية على مساحة الوطن العربي كله ، وهي أيضا ليست دعوة الى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة التي تتجلى في ثلاث مظاهر أساسية :-
(1) المظاهر السياسية (2) المظاهر الاقتصادية (3) المظاهر الاجتماعية
1- المظهر السياسي للأزمة :
لعل أبرز المتغيرات الدولية المعاصرة أو العوامل الخارجية ، التي دفعت بالبلدان العربية نحو المزيد من التداعي والتراجع ، تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي ، والهجوم الإمبريالي ضد العراق المحاصر (والمهدد الآن بتجدد العدوان الهمجي الإمبريالي الأمريكي عليه)، وولادة "مشاريع التسوية العربية-الإسرائيلية" وما تلا ذلك من عمليات التطبيع السياسي والاقتصادي للعديد من بلدان النظام العربي مع العدو الصهيوني .
إننا ندرك أن هذه المتغيرات لم تكن قادرة على التأثير ، بدون استكمال عوامل التبعية والتراجع الداخلي في مجمل النظام العربي ، وتراكماتها وتحولاتها النوعية السالبة التي تفاقمت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ، كان من أهم نتائجها ، هذه التحولات الخطيرة في الاستراتيجية السياسية العربية نحو مسار نقيض مع بداية القرن الحادي والعشرين ، فبعد أن كان جوهر الاستراتيجية السياسية العربية وقواعدها –للأنظمة الوطنية- في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، يرتكز على التناقض الأساسي التناحري مع النظام الإمبريالي وركيزته الحركة الصهيونية وإسرائيل ، كتناقض أو صراع وجودي وتاريخي وحضاري شامل ، تحول منذ اتفاقية كامب ديفيد 1979 الى شكل آخر يقوم على الاعتراف بإسرائيل ووجودها كدولة مشروعة في المنطقة العربية بدون شرط إقرارها المسبق بالحقوق السيادية للشعب الفلسطيني على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ، المحتلة عام 1967 وكذلك الأمر بالنسبة للأراضي السورية المحتلة في الجولان ، ومنطقة شبعا اللبنانية ، وفق ما عرف بمبدأ "الأرض مقابل السلام" ، ولكن استمرار تراكم الأزمة الداخلية وتبعية و إلحاق النظام العربي بالنظام الدولي "الجديد" ، رغم اتفاقات أوسلو ووادي عربة وما تلاهما من اعترافات وتطبيع ، أفرز حالة من العجز ، بحيث بات النظام العربي غير قادر على المطالبة –بصراحة وحزم- بتطبيق مبدأ "الأرض مقابل السلام" ناهيك عن قرارات الشرعية الدولية في حدودها الدنيا المتمثلة بقرارات 242 و 338 و194 ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل بات النظام العربي فاقدا للقدرة على مجرد رفض المشاريع الأمريكية-الإسرائيلية ، كما جرى مع تقرير لجنة ميتشل وتفاهمات جورج تينيت وصولا الى المبادرة السعودية التي تدعو الى التطبيع العربي الرسمي الكامل مع العدو الصهيوني، بما يشير الى أن الحالة العربية الرسمية الراهنة بمجملها أصبحت تستجدي الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والعربية من واشنطن وتل أبيب رغم إدراكها باستحالة تحقيق ذلك الاعتراف خاصة بعد أن تم تكييف و إعادة هيكلة معظم بلدان النظام العربي وفق شروط النظام الرأسمالي ، بحيث أصبحت أوضاعه الداخلية كلها رهينة للصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الدولية وشروطها السياسية والاقتصادية .
في ضوء ما تقدم فإن العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة ، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف ، بعد أن تغيرت طبيعة الأغلبية الساحقة من الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها ، حيث انتقل النظام العربي بمجمله من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي "سابق" ، الى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي كعنوان جديد في نهاية القرن العشرين ، بعبارة أخرى لم تعد القضايا العربية الداخلية والخارجية عموما ، والقضية الفلسطينية بالذات ، تمثل صراعا مصيريا لا يقبل المصالحة بين طرفيه : الإمبريالية العالمية وإسرائيل من جهة وحركة التحرر الوطني العربية من جهة أخرى ، وتحول التناقض الأساسي الى شكل آخر أشبه بالتوافق العربي الرسمي-الأمريكي-الإسرائيلي ، أوصل النظام العربي الى حالة تكاد تعبر عن فقدانه لوعيه الوطني وثوابته ومرجعياته سواء بالنسبة للقضايا السياسية الاقتصادية الاجتماعية الداخلية أو ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والحقوق التاريخية أو قرارات الشرعية الدولية ، ولم يكن غريبا في مثل هذه الحالة من التراجع والانكسار ، بروز التناقضات الرئيسة والثانوية الداخلية في إطار التحولات العالمية الجديدة أو العولمة ، لتبدأ دورتها في تفتيت الكيانات العربية ، في السودان بين الشمال والجنوب ، وفي الجزائر بين البربر والعرب من جهة ، وتنامي الحركات السياسية الدينية من جهة أخرى ، وفي مصر عبر محاولات بث الانقسام والفرقة بين أبناء الشعب الواحد من مسلمين وأقباط ، و الانحراف بالصراعات الداخلية من طابعها السياسي الديمقراطي الاجتماعي في إطار الوطن الواحد الى طابعها الديني الشوفيني المتعصب الذي تقوده أيضاً الحركات الدينية الأصولية بمختلف أنواعها و ارتباطاتها ، ثم محاولات خلق عوامل الفرقة و العداء بين سوريا –المتمسكة بثوابتها الوطنية وبقطاعها الاقتصادي العام-و لبنان التي تقودها الحركات الشوفينية الانعزالية ، و استمرار الحصار والعدوان الإمبريالي على العراق عبر دعم صريح من النظام الحاكم في الجزيرة العربية الذي يقوم بأشد الأدوار خطورة ، عبر سعيه إلى التأثير على النظام العربي كله و توجيهه نحو الخضوع للسياسة الأمريكية في المنطقة من جهة ، و عبر تمويله -بصورة مباشرة و غير مباشرة – لمجمل الحركات الأصولية الدينية الرجعية التي تستهدف المزيد من استنزاف الأوضاع العربية الداخلية و تمزيقها و انقسامها السياسي و الاجتماعي الداخلي و استمرار تخلفها و تبعيتها و ارتهانها من جهة أخرى .
لقد باتت إشكاليات الواقع العربي العديدة و المتنوعة إشكاليات عميقة ، بسبب اتساع حجم و قوة الضغوط الخارجية ، التي تحاول تأسيس مقومات المشروع الإمبريالي ، السياسي ، الاقتصادي ، الهادف الى تفكيك كل مقومات النهوض القومي الذاتي في البلدان العربية ، لحساب "المشروع الحضاري الغربي" باسم الليبرالية الجديدة و الخصخصة و السوق الحر و تحرير التجارة و الانفتاح .
و لكن رغم إقرارنا بحجم هذه الضغوط الخارجية ، و دورها كتناقض رئيسي ضد مصالحنا الوطنية و القومية ، إلا أن الأوضاع و الضغوط الداخلية العربية تشكل العامل الرئيسي الأول في نجاح أو فشل تلك الضغوط الخارجية فمن غير الممكن تحليل الأوضاع السياسية العربية ، و مسارها ، بمعزل عن مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي الداخلي باعتباره الركيزة الأولى و المدخل الفسيح لخضوع النظام العربي و تبعيته للمراكز الرأسمالية و ضغوطاتها الخارجية ، إذ أن التراكمات البطيئة و المتسارعة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي العربي ، و تحولاتها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، عبر سيطرة القوى الرأسمالية ، الطفيلية ، و البيروقراطية ، و التجارية ، و العقارية ، و المالية الكبيرة على مجمل البنية الاجتماعية و السياسية العربية في مناخ الاقتصاد الحر و الانفتاح ، أدت إلى تراكم و اتساع التناقضات الداخلية مع الجماهير الشعبية من جهة ، و إلى تطابق مصالح البنية الطبقية العليا الداخلية الحاكمة ، مع مصالح و شروط المراكز الرأسمالية الخارجية أو العولمة من جهة أخرى .
هذا هو جوهر الإشكالية أو الأزمة السياسية في النظام العربي الراهن ، ببعديهما التحرري على الصعيد الوطني و القومي ، و الديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي المطلبي على الصعيد الداخلي ، اللذان لا يمكن تحققهما بدون توفر النظام السياسي المعبر عن ارادات و تطلعات و مصالح الجماهير الشعبية و يقوم على خدمتها .
و في هذا السياق ، فإن القضية التي يجب أن تستوقف القوى القومية التقدمية الديمقراطية الساعية إلى عملية التغيير ، تتلخص في السؤال الكبير التالي بدلالاته الخطيرة ، لماذا تميزت هذه القوى بامتلاكها لكثير من عناصر القوة سواء في بنيانها التنظيمي –أحزابها- أو في اتساع الحالة الجماهيرية بهذه النسبة أو تلك من حولها ، في مراحل الأربعينيات و الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، رغم عدم نضوج الظروف الموضوعية آنذاك ؟؟ و كيف تراكمت عوامل الضعف و الانهيار لهذه البنى الوطنية-القومية والتقدمية بكل تنظيماتها في هذه المرحلة ، رغم تراكم و نضج الظروف الموضوعية بصورة لم يشهدها واقعنا السياسي الاجتماعي الاقتصادي العربي من قبل ؟ هذه الإشكالية أو المفارقة ما الذي يمنع أو يحول دون مواجهتها و حلها رغم وعي الجميع من المثقفين الطليعيين العرب بكل ملابسات و مخاطر هذه المرحلة من ناحية ووعيهم –النظري- بدورهم من ناحية ثانية ؟ خاصة في ضوء فشل النظام العربي في حل الإشكاليات أو التناقضات الداخلية أو حل تناقضاته الخارجية مع العدو الصهيوني و النظام الرأسمالي ، إلى جانب فشله في حل إشكالية الثنائية القطرية و القومية و تناقضاتها ، و لم يعد أمامه –كما يبدو- سوى المزيد من الخضوع لشروط العولمة الجديدة ، على حساب المصالح الوطنية و القومية و على حساب الكثير من مظاهر السيادة الداخلية أيضاً ، و ليس لذلك سوى معنى واحد ، هو بقاء هذا الواقع المهزوم و المأزوم ، بل و استمرار صعود خطه البياني دون أية آفاق بما يعمق حالة الإحباط العام أو الانكفاء أو "الميل نحو الاستسلام" ضمن مناخ عام و أسباب كثيرة موضوعية متعددة الجوانب و المنطلقات ، مفتوحة على كافة الاحتمالات المنذرة بالسوء ، طالما بقيت القوى الديمقراطية التغييرية عاجزة عن تأطير نفسها و القيام بدورها .
2- المظهر الاقتصادي للأزمة :
ويتجلى في فشل السياسات الليبرالية الاقتصادية التي صاغها الصندوق والبنك الدوليين في ثمانينيات القرن الماضي ، والتي عرفت باسم برامج التثبيت والتكيف الهيكلي أو ما يسمى ببرامج التصحيح ، ولم يكن هذا الفشل مفاجئا للعديد من خبراء الاقتصاد في العالم الثالث ، بسبب أن هذه البرامج أو التوجهات الليبرالية الجديدة التي انساقت لتطبيقها غالبية دول العالم الثالث ، طمست أو غيبت بشكل مرسوم ومتعمد ، كل مصطلحات "التنمية" و"التحرر الاقتصادي" و"التقدم الاجتماعي" و"العدالة الاجتماعية" ، التي كادت أمام هذا الزحف الكاسح للعولمة الاقتصادية والسياسية أن تُفقد هذه الدول قدرتها في صياغة أي سياسة تتعارض مع المصالح الرأسمالية العالمية وأدواتها المحلية ، فالخصخصة في التحليل الأخير –كما يقول بحق المفكر الراحل د.رمزي زكي "ليست إلا إعادة توزيع الثروة لصالح البورجوازية المحلية والأجنبية حيث يتسنى بمقتضاها نزع ملكية الدولة ونقل أصولها الإنتاجية للقطاع الخاص بغض النظر عن هوية جنسيته" .
والآن ، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على استجابة بلدان العالم الثالث ، ومعظم بلدان الوطن العربي ، في تطبيق السياسات ، تحصد هذه البلدان ، مع بداية القرن الحادي والعشرين ، النتائج الوخيمة التي لم تتوقف عند العجز عن مواجهة تحديات التنمية فحسب ، بل أدت الى تفاقم المديونية الخارجية والداخلية ، وعجز بعض الدول عن سداد فوائد هذه الديون الى البنك الدولي صاحب تلك السياسات والبرامج ، كما أدت أيضا الى تباطؤ وتراجع حركة النمو الاقتصادي ، وتزايد حالات الفشل والانكسارات في مسيرة الاقتصاد الوطني ، وأوقعت الاقتصاد والمجتمع في مآزق عديدة كما يؤكد الخبير الاقتصادي د.إبراهيم العيسوي :-
المأزق الأول : تخلت الحكومات عن مسئوليات التنمية ، لحساب القطاع الخاص –حسب شروط الصندوق والبنك الدوليين- الذي أثبت عجزه وعدم قدرته على سد الفراغ التنموي ، وذلك في تقديرنا أمر طبيعي حيث أن الهدف الوحيد للقطاع الخاص هو الربح فقط .
المأزق الثاني : العجز عن زيادة الادخار المحلي ، والفشل في اجتذاب الاستثمار الأجنبي .
المأزق الثالث : العجز عن التصدير ، مع فتح الباب لتسرب الموارد على نطاق واسع من خلال الاستيراد وخروج رؤوس الأموال .
المأزق الرابع : بالرغم من تراجع دور الحكومات –حسب شروط برامج التكيف- فقد عجزت عن تدبير الموارد لتمويل الإنفاق العام المحدود ، بسبب غياب الإيرادات التي توقعها أو افترضها الصندوق والبنك الدوليين .
المأزق الخامس: التغني أو المباهاة بالحديث المجرد فقط عن ما يسمى بالتنمية البشرية ، وهو مصطلح أو شعار من إنتاج خبراء البنك الدولي ، لم يحقق سوى الأوهام والمزيد من الفشل والعجز في إصلاح نظم التعليم والصحة ، الى جانب العجز الذي أصبح مزمنا بسبب هذه السياسات ، في محاصرة تزايد الفقر والتفاوت المريع في توزيع الدخل والثروة .
المأزق السادس: بسبب هذه السياسات ، فقد تم تهميش دور التخطيط بعد أن أصبح دور الحكومات مقتصرا فقط على الإشراف أو التوجيه عن بعد ، وبالتالي غابت الأدوات الفعالة لتنفيذ الخطط التنموية وغيرها .
المأزق السابع : ثبت بالملموس ، أن الانفراج السياسي أو الديمقراطية الليبرالية وتطبيقاتها حسب توجيهات الصندوق والبنك الدوليين ، لم يكن سوى عملية مدروسة استهدفت تآكل القاعدة الاجتماعية للديمقراطية ، ونقصد بذلك الجماهير الشعبية الفقيرة ، بعد أن تعرضت لمزيد من التهميش والإفقار والمعاناة والحرمان بكل صورهما ، في مقابل فتح الباب على الغارب لسيطرة رأس المال الطفيلي البيروقراطي والكومبرادوري والشركات والوكالات الأجنبية على الحكم ومؤسساته والتحكم بقراراته السياسية الخارجية والداخلية .
إن هذه المآزق ، وغيرها الكثير من الأمثلة الفاضحة ،التي تشير بوضوح صارخ على حجم التراجعات والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية ، التي أودت بجماهيرنا الشعبية العربية الى أشكال من الفقر والمعاناة والذل لم تعرفها من قبل ، عدا عما أوقعته هذه التطبيقات ، في بلادنا العربية ، وبلدان العالم الثالث من أزمات عميقة ، كشفت عمق التناقضات الجسيمة في بنية هذه السياسات الليبرالية الاقتصادية وأساليبها الهادفة الى إضعاف دور الدولة وإلغاء الدعم المقدم منها للسلع الأساسية ، وإلغاء القطاع العام ، والتقليل المستمر للفائض الاقتصادي الذي تملكه الدولة ونقله للقطاع الخاص المحلي والأجنبي في إطار الانفتاح الليبرالي والخصخصة وآليات السوق الحر .
وفي ظل هذا التدهور الناتج عن الاستجابة لسياسات الصندوق والبنك الدوليين ، ومنظمة التجارة الدولية WTO ، الى جانب عوامل أخرى داخلية وخارجية متنوعة ، كان لا بد لمجرى الأزمة الاقتصادية العامة أن يشق طريقه في صلب النظام العربي نحو مزيد من التراجع في الاقتصاد والتنمية والمجتمع والسياسة ، باعتباره المجرى أو الخط المهيمن في حركة الرسم البياني العربي حتى اللحظة ، والمؤشرات على ذلك كثيرة :-
1-استفحال مظاهر التبعية بكل أشكالها ، بما يستجيب لأهداف العولمة التي تسعى الى نفي القاعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة القطرية العربية ، عبر تحطيم العلاقة بين الدولة والشعب ، بحيث يصبح المسار الرئيسي للدولة موجها في خدمة استحقاقات العولمة والسوق العالمي والشركات المتعددة الجنسية أو الديكتاتورية الجديدة . إن ما يعزز هذا الاستنتاج ، طبيعة التحولات النوعية السالبة التي أصابت معظم أقطارنا العربية وجعلت منها دولا رخوة بالمعنى السياسي والاقتصادي المعاصر .
2-تزايد حجم ومعدلات البطالة والفقر ، وما ينتج عنها من أزمات خانقة ، فالعمالة العربية ، كما نقدرها في بداية هذا العام 2002 ، تبلغ حوالي 100 مليون عامل ، منهم 20 مليون عامل عاطل عن العمل ، أي بنسبة 12% من مجموع القوة العاملة العربية ، معظمهم في البلدان العربية غير النفطية ، بما يعني تزايد مساحات الفقر وانتشاره بحيث يزيد مجموع الفقراء ، ومن هم دون خط الفقر (أقل من دولار واحد للفرد يوميا) عن 90 مليون نسمة ، معظمهم في مصر والأردن والمغرب والسودان وسوريا وفلسطين واليمن .
3-استمرار تراكم عوامل العجز في توفير مقومات الاكتفاء الذاتي الغذائي العربي ، فالمعروف أن الطلب على الغذاء ينمو بمعدل 6% سنويا في حين أن الإنتاج ينمو بمعدل 2% فقط ، فقد بلغ العجز التجاري الزراعي العربي 17مليار دولار ، وبلغ العجز التجاري الغذائي 15 مليار دولار ، حسب تقرير مؤتمر غرف التجارة والزراعة العرب لعام 1997 . ومن المتوقع ارتفاع فاتورة الواردات العربية بدون زيادة الكميات خلال السنوات القليلة القادمة (حتى عام 2005 على أكثر تقدير) بعد رفع الدعم عن المنتجات الزراعية في أوروبا والولايات المتحدة –والذي كان أحد أسباب المظاهرات ضد العولمة في "سياتل" وغيرها- وما سينتج عن ذلك من ارتفاع في رغيف الخبز والسلع الغذائية الضرورية الأخرى ، وهبوط في مستويات المعيشة ، واتساع دائرة الفقر وما دونه بدرجات حادة .
4-تعرض التجارة البينية العربية لمزيد من التراجع والانخفاض ، علاوة على ضعفها المزمن منذ إعلان تأسيس السوق العربية المشتركة عام 1964 ، ففي ذلك العام كانت نسبة التجارة البينية العربية 4.6% من مجمل التجارة العربية ، وصلت بعد خمسة وثلاثين عاما من ذلك التأسيس الى 3.4% ، وسوف تتعرض الى مزيد من الهبوط بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة لرفع كافة القيود وتحرير التجارة والانفتاح الكامل عام 2005 حسب برنامج منظمة التجارة الدولية WTO ، والى جانب ذلك فإن 90% من الاستثمارات العربية –كما تشير معظم الدراسات في السنوات العشر الأخيرة- هي خارج البلدان العربية ، عدا عن تزايد حجم الإنفاق غير المبرر على الخدمات الترفيه والإنشاءات والطرق والمعدات والأسلحة –التي لم تستعمل قط (في السعودية ودول الخليج)- خلال العشرين سنة الماضية ، حيث بلغ حجم هذا الإنفاق 2 تريليون دولار ، بمعدل 100 مليار دولار سنويا ، تصرف لحساب الشركات الرأسمالية الكبرى المنتجة لهذه السلع والخدمات العسكرية وغيرها ، دون أي اعتبار للنمو الاقتصادي للفرد في البلدان العربية الفقيرة ، الذي بقي خلال العقدين الأخيرين يتراوح بين الصفر والسلبي حسب تقارير ألا وسكوا ، والتقرير الاقتصادي العربي الموحد .
5-هبطت مساهمة الناتج الإجمالي العربي في إجمالي الناتج الإجمالي العالمي من 3.1% (650 مليار $) سنة 1993 إلى 2,1% سنة 1997 (599 مليار $) و إلى 2,3% عام 2000 (حيث يمكن ارتفاع الناتج الإجمالي إلى 700 مليار$ بسبب ارتفاع أسعار النفط) ، و في هذا السياق فإن هبوط الناتج الإجمالي ، أو زيادته الكمية و النسبية ، إنما يعود في تقديرنا إلى أربعة عوامل رئيسية ، الأول : الهبوط أو الارتفاع في أسعار النفط ، الثاني : التراجع في حجم الإنتاج الصناعي ، و الذي سيتزايد بعد عام 2005 عند إلغاء الحدود الجمركية و فتح الأسواق بلا قيود ، أمام المنتج الأجنبي ، حيث ستتعرض الصناعات العربية لانهيارات شبه شاملة نتيجة إغراق السوق بمختلف السلع الأجنبية ، الثالث : التراجع في حجم الإنتاج الزراعي حيث لا نزرع سوى أقل من 40% من الأراضي الصالحة للزراعة و البالغة 135 مليون هكتار ، و الرابع : عدم استغلال الفائض المالي العربي الذي يزيد عن 800 مليار$ في الاستثمار الصناعي و الزراعي الداخلي ، و إيداعه في بلدان النظام الرأسمالي الغربي ، رغم وعي دول الصحراء أو النفط –التي لا تستوعب أكثر من 20% من عدد سكان الوطن العربي في حين أنها تستحوذ على 50% من الناتج الإجمالي- إلى حاجة الدول العربية الأخرى في مصر و بلاد الشام بصورة خاصة ، التي تستوعب حوالي 45% من مجموع السكان-إلى هذه الفوائض للاستثمار من جهة ، و لتخفيف ضغوط الديون و فوائدها (الخارجية والداخلية) التي قد تتجاوز –في تقديري- 800 مليار$ مع نهاية العام 2001 ، و ما سيعنيه ذلك من المزيد من الخضوع لشروط العولمة المذلة ، و مزيد من النزاعات و الانقسامات الداخلية و الإفقار لشعوبها ، خاصة مع تراجع نصيب الفرد العربي ، في هذه الدول الفقيرة ، من الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 500 دولار أو أقل في السودان و اليمن و إلى ما يتراوح بين 1000-1500 دولار سنوياً في مصر و سوريا و لبنان و الجزائر و الأردن و فلسطين ، (انخفض في فلسطين منذ نهاية عام 2000 على أثر الانتفاضة و الحصار الصهيوني إلى أقل من 800 دولار في قطاع غزة ، و أقل من 1200 دولار في الضفة الغربية) ، في حين أن نصيب الفرد العربي في قطر و الكويت و الإمارات يتراوح بين 15 ألف إلى 22 ألف دولار سنوياً و في البحرين و السعودية و عُمان و ليبيا من 9-15 ألف دولار سنوياً .
6-إن هذه النتائج السالبة أو المؤشرات التي تدل على هبوط و تراجع الاقتصاد العربي و ارتهانه للآخر الأجنبي ، بسبب قبول معظم بلدان النظام العربي لسياسات الصندوق و البنك الدوليين و شروط منظمة التجارة الدولية أو العولمة ، كانت –و ما زالت- السبب الرئيسي الأول لهذا الانهيار السياسي الذي نعيشه اليوم في صراعنا مع الولايات المتحدة و إسرائيل ، ففي الوقت الذي يتعرض فيه الاقتصاد العربي ، و السياسة العربية ، لهذه الضغوط و التراجعات المستمرة ، توالت بالمقابل ، مؤشرات الصعود و التقدم في الاقتصاد و السياسة الإسرائيلية عبر تراكمات و تحولات نوعية غير اعتيادية على أثر اتفاقيات كامب ديفيد 1979، و أوسلو 1993، ووادي عربة 1994، نورد فيما يلي بعض المؤشرات و الأرقام المقارنة بين العرب و إسرائيل كما في عام 2000 (دون أن نغفل دور انتفاضة الشعب الفلسطيني وتأثيرها على تراجع الاقتصاد الإسرائيلي عام 2001 وتزايد الأزمة السياسية والاجتماعية في أوساط مجتمع العدو):-
1. ارتفع عدد الدول المعترفة بإسرائيل من 62 دولة عام 1992 إلى 153 دولة .
2. حسب العديد من المصادر ، فقد وفّر إنهاء المقاطعة الاقتصادية ، العربية و الإسلامية ، لإسرائيل حوالي 45 مليار دولار سنوياً ، بعد إزالة كافة العقبات من وجه الشركات العالمية في التعامل مع إسرائيل ، و بعد أن نجحت إسرائيل في دمج اقتصادها بالاقتصاد العالمي عبر حرية حركة صادراتها ووارداتها دون أية قيود أو عوائق ، و هي تسعى الآن إلى أن تتحول إلى مركز إقليمي رئيسي في اقتصاد العولمة .
3. ارتفع الناتج الإجمالي السنوي لإسرائيل من 65 مليار$ عام 1993 إلى أكثر من 100 مليار$ عام 2000.
4. ارتفع دخل الفرد السنوي فيها من 12 ألف دولار عام 1993 إلى 19 ألف دولار عام 2000 ، و المفارقة المذهلة أن دخل الفرد في الضفة و القطاع لا يتجاوز 1000 دولار رغم توحد الأسعار لجميع السلع في السوق الإسرائيلي و السوق الفلسطيني في الضفة و القطاع .
5. تدفقت الاستثمارات الخارجية –بصورة غير عادية- على إسرائيل ، و التي لم تتجاوز 400 مليون دولار عام 1991 ارتفعت إلى 2,9 مليار دولار عام 1996 و إلى 3,6 مليار دولار عام 1997 ، ووصلت إلى الذروة عام 1999 حيث بلغت 8,3 مليار دولار ، في حين أن الاستثمارات المحلية و الخارجية في الضفة و القطاع لم تتجاوز 300 مليون دولار كمعدل عام منذ عام 1994 حتى عام 2000 أي حوالي 3,6% فقط من حجم الاستثمارات المتدفقة على إسرائيل ! ، و كذلك الأمر بالنسبة لدولة عربية مثل مصر فبالرغم من عقد معاهدة كامب ديفيد 1979 ، لم تتجاوز الاستثمارات العالمية فيها 700 مليون دولار فقط ، أما بالنسبة للاستثمارات الإسرائيلية في الدول العربية فقد بلغت 100 مليون دولار .
6. ارتفع دخل العدو الإسرائيلي من السياحة إلى 3 مليارات دولار .
7. بالرغم من ضعف التجارة العربية مع إسرائيل ، إلا أنها في حالة صعود بطيء و مستمر ، و هي تتجاوز اليوم في مجموعها مليار دولار ، سترتفع الى أكثر من عشرة أضعاف فيما لو تم تطبيق عملية التطبيع مع العدو وفق المبادرة "السعودية" الأخيرة .
لعل في هذه المؤشرات ما يستدعي المزيد من الوعي بالأزمة و تشخيصها من جهة ، للتأكد من علاقة الترابط بين العولمة و التبعية و التخلف من جهة أخرى ، وصولاً إلى صيغة البديل القومي الديمقراطي العربي كطريق وحيد للخلاص من كل هذه القيود التي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده .
لذلك فإن الدعوة إلى مقاومة عولمة الاستسلام تتطلب إدراكنا لذاتنا و هويتنا القومية بكل المعاني و الأبعاد الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية ، تمهيداً لتحديد ملامح مستقبلنا بعيداً عن الإلحاق و التبعية و التزاماً بقواعد الاعتماد العربي على الذات … عندئذ فقط يمكن إيجاد الآليات القادرة على مواجهة الآثار الضارة للعولمة و الخروج منها ، مدركين إن أحد أهم شروط التحدي العربي لهذه الظاهرة هو في امتلاك "تقنيات العصر و معلوماته وفق مفاهيم العقل و العلم و الحداثة" وفق رؤية أيديولوجية تقوم على الالتزام بالعدالة الاجتماعية وآفاقها الاشتراكية .
إذن ، فالمسألة الأساسية الأولى على جدول أعمال "البديل الديمقراطي ، داخل القطر الواحد أو على الصعيد القومي العام ، هي مسألة كسر نظام الإلحاق أو التبعية الراهن صوب الاستقلال الفعلي السياسي و الاقتصادي ، و التنمية المستقلة الهادفة إلى خلق علاقات إنتاج جديدة تقوم على مبدأ الاعتماد على الذات ، تنمية تهدف إلى رفع معدل إنتاجية العمل ، إذ أن هذا الشرط –كما يقول د.إسماعيل صبري عبد الله- هو "نقطة البداية ، فالمقياس الأشمل و الأكمل لأداء الاقتصاد القومي هو معدل ارتفاع إنتاجية العمل من سنة إلى أخرى ، على أن هذه الإنتاجية ترتبط بمفهوم الدافعية كمبدأ رئيس في عملية التنمية ، إذ أن المواطنين الأحرار الذين يعرفون أن بالإمكان مشاركتهم في صنع القرار والتوزيع العادل للدخل والثروة الوطنية ، يعرفون بأن ثمار جهودهم تعود عليهم و على أولادهم ، و أن أحداً لن يستطيع سلبهم حقوقهم" ، بهذا المضمون وحده يمكن أن نتعاطى مع مفهوم أو مصطلح التنمية ، بالمعنى الشمولي العميق ، وليس فقط استخدامه بالمعنى الاقتصادي الضيق فحسب "كما تنادي بذلك أوساط المنظمات غير الحكومية العربية الممولة من الأجنبي" وإنما بمعنى الاتجاه الى تصفية التبعية للإمبريالية ، فهنا تصبح التنمية قضية غير منفصلة عن قضية الاستقلال الوطني والقومي ، إذ أن الفصل بين القضيتين هو ما تسعى القوى الإمبريالية الى تثبيته وذلك بعزل عملية التحرر الوطني عن عملية التنمية ومبدأ الاعتماد على الذات والعدالة الاجتماعية ، لذلك فإن كل من يتحدث عن موضوع التنمية والتقدم في بلادنا العربية ارتباطا بالتعاون مع الغرب المتقدم أو وفق آليات السوق الحر الرأسمالي والليبرالية الجديدة وشروط منظمة التجارة الدولية ، فهو إما واهم أو مخادع يسعى الى تغليب مصالحه الطبقية الأنانية الضيقة على حساب المصالح الوطنية والقومية .
أما المسألة الثانية ، التي لا تنفصم عن الأولى ، بل ترتبط بها ارتباطاً جدلياً فهي تتلخص في إعادة تفعيل مشروع النهضة القومية الوحدوية العربية بأفقها التقدمي الديمقراطي ، كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي ، و نقلها من حالة السكون أو الجمود الراهنة الى حالة الحركة و الحياة و التجدد ، و هي مهمة لا تقبل التأجيل يتحمل تبعاتها –بشكل مباشر المثقف الديمقراطي التقدمي الملتزم في كل أقطار الوطن العرب ، انطلاقاً من أن الدولة القطرية العربية مهما امتلكت من مقومات ، فإنها ستظل عاجزة عن تلبية احتياجات مجتمعاتها ، و إن أية عملية تطوير سياسي أو تنموي داخل القطر الواحد ستدفع بالضرورة نحو استكشاف عمق الحاجة إلى التوجه نحو تواصل ذلك التطور عبر الإطار القومي الديمقراطي الموحد كمخرج وحيد من كل أزماتنا التي نعيشها اليوم و في المستقبل .
إن التحدي الذي تواجهه شعوب و بلدان الوطن العربي هو تحد حقيقي على جميع المستويات السياسية و الثقافية و الاجتماعية و غيرها ، لكنه قبل كل شيء تحدٍ اقتصادي في المقام الأول .
و هذا يتطلب وعي المثقف الديمقراطي العربي لأبعاد و تفاصيل الصورة الاقتصادية القطرية و القومية ، تمهيداً لإنضاج الفكرة التوحيدية السياسية-الاقتصادية القومية في مواجهة العولمة و سياساتها الهمجية من جهة ، و من أجل تعزيز مقومات البديل الديمقراطي العربي كخيار وحيد على طريق التحرر و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية من جهة أخرى .
3- المظهر الاجتماعي للأزمة :
إن الإشكالية الكبرى التي يتعرض لها مجتمعنا العربي في هذه المرحلة تكمن في الأحوال المأزومة بكل أبعادها ، ففي هذه الحقبة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة الى المرحلة الجديدة أو العولمة ، بتسارع غير مسبوق ، و بمتغيرات نوعية تحمل في طياتها ، في الحاضر و المستقبل تحديات غير اعتيادية ، لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بامتلاك أدواتها العلمية و المعرفية أولاً عبر أحكام سيطرة الحي على الميت ، "فالاستلاب الأيديولوجي بشكليه السلفي و الاغترابي هو أبرز الآليات الداخلية التي تعيد إنتاج التأخر ، و تعيد إنتاج الاستبداد ، و تحافظ على البنى و العلاقات و التشكيلات القديمة ما قبل القومية ، فالعلاقة بين المستوى الأيديولوجي السياسي ، و المستوى الاجتماعي الاقتصادي ، هي علاقة جدلية ، تحول كل منهما الى الآخر في الاتجاهين ، آخذين بالحسبان أيضاً أن المستوى السياسي محدد و محكوم بطابع الوعي الاجتماعي السائد" .
بهذا المدخل ، نبدأ في الحديث عن أزمة المجتمع العربي التي نرى أنها تعود في جوهرها إلى أن البلدان العربية عموماً لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً ، و لا تنتسب له جوهرياً ، و ذلك بسبب فقدانها ، بحكم تبعيتها البنيوية ، للبوصلة من جهة ، و للأدوات الحداثية ، الحضارية و المعرفية الداخلية التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي العربي و مساره و علاقته الجدلية بالحداثة و الحضارة العالمية أو الإنسانية .
فبالرغم من دخولنا القرن الحادي و العشرين ،إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة ، أو في زمان "ما قبل الرأسمالية" ،رغم تغلغل العلاقات الرأسمالية في بلادنا ، و الشواهد على ذلك كثيرة ، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير ، بمنطلقاتها العلمية و روحها النقدية التغييرية ، و إبداعها و استكشافها المتواصل في مناخ من الحرية و الديمقراطية ، ففي غياب هذه السمات يصعب إدراك الوجود المادي و الوجود الاجتماعي و الدور التاريخي الموضوعي للقومية أو الذات العربية في وحدة شعوبها ، ووحدة مسارها و مصيرها ، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي العربي ، و لعلنا نتفق أن السبب الرئيسي لهذه الإشكالية الكبرى ، لا يكمن في ضعف الوعي بأهمية التنوير العقلاني ، أو ضعف الإدراك الجماعي بالدور التاريخي للذات العربية ، فهذه و غيرها من أشكال الوعي ، هي انعكاس لواقع ملموس يحدد وجودها أو تبلورها ، كما يحدد قوة أو ضعف انتشارها في أوساط الجماهير ، و بالتالي فإن الواقع العربي الراهن ، بكل مفرداته و أجزاءه و مكوناته الاجتماعية و أنماطه التاريخية و الحديثة و المعاصرة ، هو المرجعية الأولى و الأساسية في تفسير مظاهر الضعف و التخلف السائدة بل و المتجددة في مجتمعاتنا ، إذ أن دراسة هذا الواقع ، الحي ، بمكوناته الاجتماعية و الاقتصادية تشير بوضوح إلى أن العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية السائدة اليوم في بلداننا العربية هي نتاج لأنماط اقتصادية /اجتماعية من رواسب قبلية و عشائرية و شبه إقطاعية ، و شبه رأسمالية ، تداخلت عضوياً و تشابكت بصورة غير طبيعية ، و أنتجت هذه الحالة الاجتماعية /الاقتصادية المعاصرة ، المشوهة .
و اليوم و نحن في مطلع الألفية الثالثة ، تتعرض مجتمعاتنا العربية ، من جديد ، لمرحلة انتقالية لم تتحدد أهدافها النهائية بعد ، رغم مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح و الفئات الرأسمالية العليا ، بكل أشكالها التقليدية و الحديثة ، التجارية و الصناعية و الزراعية ، و الكومبرادورية و البيروقراطية الطفيلية ، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي ، و تحول دون أي تحول ديمقراطي حقيقي في مساره ، عبر اندماجها الذيلي التابع للنظام الرأسمالي المعولم الجديد من جهة ، و تكريسها لمظاهر التبعية و التخلف و الاستبداد الأبوي على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى ، من خلال التكيف و التفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الانفتاح و الخصخصة خلال العقود الثلاثة الماضية ، و بين النمط القبلي /العائلي ، شبه الإقطاعي ، الريعي ، الذي ما زال سائداً برواسبه و أدواته الحاكمة أو رموزه الاجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث .
إن مخاطر هذا النمط المشوه من العلاقات الاقتصادية تنعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية العربية بما يعمق الأزمة الاجتماعية و اتساعها الأفقي و العامودي معاً ، خاصة مع استشراء تراكم الثروات غير المشروعة ، و أشكال "الثراء السريع" كنتيجة مباشرة لسياسات الانفتاح و الخصخصة ، و الهبوط بالثوابت السياسية و الاجتماعية الوطنية ، التي وفرت مقومات ازدهار اقتصاد المحاسيب و أهل الثقة ، القائم على الصفقات و الرشوة و العمولات بأنواعها ، حيث يتحول الفرد العادي الفقير إلى مليونير في زمن قياسي ، و هذه الظاهرة شكلت بدورها المدخل الرئيسي لتضخم ظاهرة الفساد بكل أنواعه في السياسة و الاقتصاد و الإدارة و العلاقات الاجتماعية الداخلية ، بحيث تصبح الوسائل غير المشروعة ، هي القاعدة في التعامل ضمن إطار أهل الثقة أو المحاسيب ، بعيداً عن أهل الكفاءة و الخبرة ، و دونما أي اعتبار هام للقانون العام و المصالح الوطنية .
و مما هو جدير بالحس بالمسؤولية ، أو بالتأمل –كحد أدنى- ليس الخطر الناجم عن هذه الظواهر فحسب ، بل أن تصبح هي القاعدة التي تحكم أو تحدد مسار و طبيعة العلاقات الاجتماعية و السياسية في مجتمعاتنا العربية ، حينئذ تصبح "مؤسسة" الفساد هي التي تملك السيطرة على دفة القيادة في هذا البلد أو ذاك ، و توجيهها وفق قواعد إدارة الأزمة بالأزمة ، و هنا ينتقل الحس بالمسؤولية إلى ضرورات التغيير الديمقراطي المطلوب في مواجهة هذا الوضع المأزوم الذي تفرضه طبيعة أزمة التحرر الوطني ، بحكم أنها تعبير عن أزمة هذا التطور المشوه الذي فرضته حالة التبعية البنيوية للإمبريالية .
و لكن الإشكالية الكبرى ، أنه في موازاة هذه الأحوال و المتغيرات الاقتصادية و الاجتماعية المحلية الداخلية المأزومة ، تراجعت قوى التغيير الديمقراطي في بلداننا ، إلى الخلف بصورة مريعة ، خاصة القوى القومية و اليسارية منها ، التي لم تستطع –حتى اللحظة- إدراك ضرورات التوحد الجدلي بين المفاهيم والمعطيات القومية والماركسية معا تمهيدا لوحدة العمل المنظم ، كطريق وحيد لمجابهة توحش العولمة الراهن من ناحية والتطبيق الخلاق لمبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات من ناحية أخرى ، وبالتالي فإن القوى اليسارية والقومية ستظل فاقدة للقدرة على بلورة أو إنتاج صيغة معرفية ، سياسية اقتصادية اجتماعية ، علمية وواقعية ، قادرة على رسم مستقبل المجتمع العربي و الخروج من أزمته ، لقد ترك هذا التراجع آثاره الضارة في أوساط الجماهير ووعيها العفوي ، الذي وجد في الحركات السياسية الدينية ملاذاً و ملجأ يكاد يكون وحيداً ، يدفعها الى ذلك نزوعها الى النضال ضد العدو الرئيسي إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية من جهة ، و النضال من أجل الخلاص من كل مظاهر المعاناة و الحرمان و الفقر و مواجهة الظلم الطبقي و الاستبداد السياسي الداخلي من جهة أخرى .
ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم ، زمن الحداثة و العولمة و ثورة العلم و المعلومات و الاتصال ، يشهد مجتمعنا العربي عودة الى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه ، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد ، فهو الى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية و الحمائلية و الطائفية ، و الأصولية و التعصب الديني ، يوصف اليوم بحق على أنه "مجتمع شديد التنوع في بنيته و انتماءاته الاجتماعية ، أبوي ، يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد ، مرحلي ، انتقالي ، تراثي ، تتجاذبه الحداثة و السلفية ، شخصاني في علاقاته الاجتماعية يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية و التكنولوجية ، و بالتالي مرحلة ما قبل الحداثة" .
أما على الصعيد الداخلي الاجتماعي ، فإن "الفجوات بين الطبقات الثرية والميسورة والمحرومة ، تزداد اتساعا وعمقا ، وفي ظل هذه البنية الطبقية الهرمية التي تحتكر فيها القلة السلطة وثروات البلاد ، وتشغل الطبقة الوسطى وسط الهرم ، وتتكون القاعدة من غالبية السكان (الجماهير الشعبية الفقيرة) ، يعاني الشعب حالة تبعية داخلية شبيهه بالتبعية الخارجية ومتممة لها ، فتمارس عليه وضده مختلف أنواع الاستغلال والهيمنة والقهر والإذلال اليومي" .
وفي ظل هذه الأوضاع أو السمات الاجتماعية "يعيش الإنسان في المجتمع العربي على هامش الوجود والأحداث لا في الصميم ، مستباحا معرضا لمختلف المخاطر والاعتداءات ، قلقا حذرا باستمرار من احتمالات السقوط والفشل والمخاطر ، تحتل السلع والمقتنيات والاهتمامات السطحية روحه وفكره ، يفكر ، إنما ليس بقضاياه الأساسية أو العامة ، ينفعل بالواقع والتاريخ أكثر مما يعمل على تغييرهما ، إنه إنسان مغَّرب ومغترب عن ذاته ، ولأن إمكانات المشاركة نادرة وضيقة ، لا يجد من مخرج سوى بالخضوع أو الامتثال القسري أو الهرب" .
هذا التعميم في وصف حياة الإنسان العربي ، والقريب من الواقع الى درجة كبيرة ، تكمن قيمته في تحفيز القوى القومية التقدمية العربية لدراسة واقعها الاجتماعي ومسار تطوره الاجتماعي وخصوصياته التي اختلفت من حيث النشوء التاريخي للشرائح والفئات الرأسمالية بين هذا القطر أو ذاك ، ولكن هذا الاختلاف في ظروف النشأة لهذه الشرائح ومنابعها وجذورها ، لم يعد قائما في لحظة معينة من التطور المعاصر للبلدان العربية ، الذي بات متشابها الى حد كبير في كافة هذه البلدان .
إن تناولنا للأزمات السياسية ، الاقتصادية ، الاجتماعية في بلدان وطننا العربي هو في واقع الأمر تناول للأزمة العامة التي تستفحل وتتشابك مظاهرها السياسية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية ، وهي أزمة لا تقتصر على هذا القطر العربي أو ذاك ، وإنما تنتشر بكل مفاعيلها على مساحة هذا الوطن كله ، خاصة مع استفحال الهيمنة الأمريكية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا في بلادنا بصورة غير مسبوقة من قبل ، إلى جانب تعقد أشكال الصراع السياسي والاجتماعي الداخلي المعبرة عن نفسها بأدوات وآليات وصور مشوهة من التفكك المجتمعي والصراعات الدينية والطائفية والإقليمية ، وكلها تعزز عوامل الإحباط أو الميل نحو الاستسلام كمؤشر صاعد في أوساط جماهيرنا العربية في اللحظة الراهنة ، يتبدى ذلك بوضوح في ظاهرة الضعف الملحوظ لالتفاف الجماهير حول الأفكار التوحيدية الوطنية والقومية والتقدمية ، وهي ظاهرة مؤقتة أو مرحلة انتقالية وليست حتمية ، إلا أنها قد تحمل في طياتها مزيدا من أشكال الردة والتراجع إذا لم يتحمل المثقف الطليعي العربي الملتزم دوره ومسئوليته –كما أشرنا من قبل- في صياغة رؤية مستقبلية –قومية وإنسانية- ترتبط بصورة مباشرة بالأطر الحركية المنظمة الفعالة للخروج من المأزق الراهن وتجاوز هذا الواقع المأزوم والمهزوم في آن ، آخذين بعين الاعتبار أن العلاقات الدولية في هذه المرحلة ، التي دخلت فيها الرأسمالية طورها الإمبريالي المعولم ، لا تعني أن الرأسمالية قد تغلبت على تناقضاتها ، ولا يعني أن الكامن ، ونقصد بذلك أطر ودوائر الحركة المنظمة الطليعية لفقراء العالم وكادحيه ، قد مات ، فبالرغم من أن الرأسمالية قد أفلحت في تأجيل الانفجار عبر توسيع مجال التناقضات باسم العولمة ، إلا أنه تأجيل سيؤدي بالضرورة الى تزايد معاناة وإفقار شعوب العالم وأممه المسحوقة ، ولذلك فمن الطبيعي ، والضروري بصورة حتمية ، أن تسعى هذه الأغلبية المتضررة من هذا النظام الشرير –بصورة منظمة وعفوية- ، الى تقويض أركانه من أجل بناء نظام لا تحكمه هذه التناقضات ، بشرط امتلاك وضوح وتماسك الرؤية الأيديولوجية النقيضة للعولمة الرأسمالية ، إلى جانب امتلاك مقومات العلم والحداثة والمعرفة المعاصرة ، والتكنولوجيا التي أصبحت –قوة أساسية من قوى الإنتاج في هذه المرحلة ، عبر استنهاض مشاريعها القومية والإقليمية المناهضة لشكل وجوهر وأهداف العولمة الراهنة ، تمهيدا لصياغة المشروع الإنساني التقدمي البديل ، وتفعيل حركته ، خاصة في بلدان العالم الثالث ، من أجل إخضاع مقتضيات العولمة لاحتياجات شعوب هذه البلدان وتقدمها الاجتماعي ، ومن أجل المساهمة في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري ، لقد حانت اللحظة الضرورية للعمل الجاد والمنظم في سبيل تأسيس عولمة نقيضة من نوع آخر ، عبر أممية جديدة ، ثورية وعصرية وإنسانية ، تشكل التحالفات القومية المعبرة عن مصالح الجماهير الكادحة في البلدان المهمشة والفقيرة محورا وعنصرا أساسيا فيها .
أولا: حول تطور مفهوم العولمة وآثاره الضارة:
في سياق هذا التحول المادي الهائل الذي انتشر تأثيره في كافة أرجاء كوكبنا الأرضي بعد أن تحررت الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، بتأثير هذا التطور النوعي الهائل في مجال الاتصالات وثورة المعلومات والتكنولوجيا ، وقيام التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة ، كان لابد من تطوير وإنتاج النظم المعرفية ، السياسية والاقتصادية التي تبرر وتعزز هذا النظام العالمي الأحادي في ظل حالة من القبول أو التكييف السلبي ، بل والمشاركة أحيانا من البلدان الأوروبية واليابان وروسيا الاتحادية ، شجعت على تطبيق شروط العولمة ، إضافة الى هذا المناخ العام المهزوم أو المنكسر في بلدان العالم الثالث أو الأطراف ، الذي أصبح جاهزاً للاستقبال والامتثال للمعطيات السياسية والاقتصادية ، الفكرية والمادية الجديدة عبر أوضاع مأزومة لأنظمة فقدت في غالبيتها الساحقة وعيها الوطني أو كادت ، وقامت بتمهيد تربة بلادها للبذور التي استنبتها النظام العالمي " الجديد " تحت عناوين تحرير التجارة العالمية ، إعادة الهيكلة ، والتكيف ، والخصخصة، باعتبارها أحد الركائز الضرورية اللازمة لتوليد وتفعيل آليات النظام العالمي " الجديد " أو العولمة Globalization، كظاهرة نشأت في ظروف موضوعية وذاتية –دولية وإقليمية- مواتية ، وليس كحتمية تاريخية كما يدعي أو يتذرع أصحابها أو المدافعين عنها الخاضعين لشروطها المذلة ، فالعولمة ليست في حد ذاتها شكلا طارئا من أشكال التطور البشري ، وإنما هي امتداد بالمعنى التاريخي والسياسي والمعرفي والاقتصادي لعملية التطور الرأسمالي التي لم تعرف التوقف عن الحركة والصراع والتوسع والنمو ، المتسارع والبطيء ، منذ مرحلتها الجنينية الأولى في القرن الخامس عشر ، الى مرحلة نشوئها في القرن الثامن عشر ، ومن ثم تطورها الى شكلها الإمبريالي في نهاية القرن التاسع عشر ، هذه المرحلة التي وصل فيها النظام الرأسمالي طوره الإمبريالي المعولم الذي يسعى –استنادا الى منطق إرادة القوة المتوحشة- الى العودة بشعوب العالم الى جوهر وقواعد مرحلة النشوء الأولى للرأسمالية وآلياتها التدميرية القائمة على قواعد المنافسة الأنانية التي تضمن هيمنة الأقوى للاستيلاء على فائض القيمة المحلي في بلادنا كما في بلدان الأطراف جميعا ، باسم الشعار القديم "دعه يعمل دعه يمر" كدعوة صريحة تستجيب لفكرة الهيمنة التي تشكل اليوم هدف ومحور نشاط المراكز الرأسمالية المعولمة الراهنة ، ولضمان عملية التوسع الاكراهي -بالقوة العسكرية والاحتلال المباشر أو عبر أنظمة التبعية والخضوع أو كلاهما معا- ضد مقدرات شعوب العالم الفقيرة باسم الخصخصة والانفتاح والليبرالية الجديدة تحت ستار زائف من الشكل الأحادي "الديمقراطي" الليبرالي وحقوق الإنسان ، هدفه الضغط على دول العالم عموما ، والعالم الثالث على وجه الخصوص ، للأخذ بالشروط الجديدة تحت شعار "برامج التصحيح والتكيف" التي تمثل كما يقول د.رمزي زكي "أول مشروع أممي ، تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي من موقع ضعيف ، بما يحقق مزيدا من إضعاف جهاز الدولة ، وحرمانها من الفائض الاقتصادي ، وهما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تعتمد عليهما الليبرالية الجديدة" .
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة الى أن هيمنة البعد الاقتصادي –كتحد رئيسي من تحديات العولمة- لا يعني إغفال عمق الترابط بين هذا البعد من ناحية ، وبين الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية للعولمة ، كتحديات لا بد من مواجهتها في بلداننا العربية في ضوء هذا التراجع الذي يكاد يصل الى درجة الانهيار في العديد من الأنظمة العربية الرخوة سواء على صعيد الدور السياسي الذي تراجع أو استلب لحساب المجال السياسي الأمريكي المعولم ، أو على تراجع الثقافة الوطنية والقومية التقدمية لحساب الثقافة الاستهلاكية من جهة ، وثقافة التخلف من جهة ثانية ، وأخيرا على الصعيد الاجتماعي حيث تتجلى انعكاسات المخاطر الاقتصادية الناجمة عن تزايد أشكال تراكم الثروات ، في هذا الاتساع المتزايد للفجوة بين القلة من الأثرياء والأغلبية الساحقة من الجماهير الفقيرة التي يزداد وضعها فقرا وتخلفا وتهميشا ، إذ أن تراكم هذه العوامل في الرسم البياني العربي الهابط ، أدى الى انتقال وتحول معظم بلدان النظام العربي من حالة التبعية السياسية-الاقتصادية في أشكالها السابقة ، الى مزيد من التبعية والتهميش لدرجة الارتهان لشروط الهيمنة الأمريكية المتجددة التي جعلت دور الدولة قاصرا على حماية المصالح الرأسمالية الخارجية والداخلية المشتركة والمتشابكة ، بعد أن تراجع دور الدولة الإنتاجي والخدماتي الذي كان مخصصا –في المرحلة السابقة- لتغطية بعض احتياجات الجماهير الشعبية فيها ، وتراجع دور الدولة الوطني والاجتماعي ، ترعرعت المصالح الشخصية البيروقراطية الكمبرادورية الطفيلية ، باسم الخصخصة والانفتاح مما أدى الى تفكك الكثير من الروابط الوطنية والقومية ، الى جانب عوامل التفكك وشبه الانهيار المجتمعي الداخلي الذي نلمس مؤشراته عبر ما نشاهده من مظاهر إعادة إنتاج وتجديد التخلف بكل تفريعاته الطائفية والدينية والعائلية … الخ ، التي ترافقت مع تعمق الفجوات الاجتماعية وأشكال الحراك الاجتماعي الشاذ وغير الطبيعي ، في إطار الفساد العام الكبير والثروات الطارئة والمستحدثة الناجمة عن هذا الوضع .
ففي ظل هذه الأوضاع المتدهورة ، الناتجة عن أزمة التطور السياسي الاقتصادي والاجتماعي ،المستفحلة في بلدان العالم الثالث عموماً ، التي أدت بها إلى مزيد من الإلحاق و التبعية في علاقتها بالشروط الرأسمالية الجديدة ، كان لا بد لاستراتيجية رأس المال المعولم ، انسجاماً مع نزوعه الدائم نحو التوسع والامتداد ، أن تسعى الى إخضاع الجميع لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكي المعولم –وقد ازداد هذا الأمر توحشا بعد أحداث 11 أيلول 2001- ، وهي مقتضيات استراتيجية تستهدف هدفين اثنين متكاملين هما "تعميق العولمة الاقتصادية ، أي سيادة السوق عالميا ، وتدمير قدرة الدول والقوميات والشعوب على المقاومة السياسية" ، هذا هو جوهر الإمبريالية في طورها المعولم في القرن الحادي والعشرين ، وبالتالي فإننا نرى أن الوضع الراهن ليس نظاما دوليا جديدا ، وإنما هو امتداد لجوهر العملية الرأسمالية القائم على التوسع والامتداد ، وهو أيضا استمرار للصراع في ظروف دولية لم يعد لتوازن القوى فيها أي دور أو مكانة ، ولذلك كان من الطبيعي أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية ، باعتبارها القوة الوحيدة المهيمنة في هذه الحقبة ، بملء الفراغ الناجم عن انهيار التوازنات الدولية السابقة بهذه الصورة الاستبدادية المتوحشة.
وبنشوء هذا الفراغ ، السياسي ، الاقتصادي ، الأيديولوجي ، أصبحت الطريق ممهدة أمام المخططات التوسعية للرأسمالية صوب المزيد من السيطرة ، ففي ضوء وضوح هذه المخططات خلال العقود الثلاثة الماضية تتكشف الطبيعة المتوحشة للرأسمالية المعولمة اليوم على حقيقتها عبر ممارساتها البشعة ضد شعوب العالم الفقيرة ، وضد القيم الإنسانية الكبرى في العدالة الاجتماعية والمساواة ، كما في الثقافة والفكر والحضارة ، وذلك بالاستناد الى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة نظام العولمة الرأسمالي الراهن ، وهي :-
1-صندوق النقد الدولي الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية ، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي ، سواء في تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي أو في إدارة القروض والفوائد والإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع ورؤوس أموال بلدان المراكز الصناعية .
2-منظمة التجارة العالمية WTO وهي أهم وأخطر مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية ، تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف الى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية ، وتأمين حرية السوق وتنقل البضائع في مدى زمني لا يتجاوز عام 2005 ، بالتنسيق المباشر وعبر دور مركزي للشركات المتعددة الجنسية .
وفي ضوء هذه السياسات والشروط المحددة من قبل الصندوق والبنك الدوليان من جهة ، ومنظمة التجارة الدولية من جهة ثانية ، أصبحت السياسة التجارية للدول المستقلة ، ولأول مرة في التاريخ الاقتصادي للأمم ، شأنا دوليا ، أو معولما ، وليس عملا من أعمال السيادة الوطنية أو القومية الخالصة … فعلى النقيض من كل ما كتبه مفكرو العولمة ، المدافعين عن إجراءات الخصخصة والليبرالية وتحرير التجارة العالمية ، وآثارها الإيجابية على الدول النامية ، فإن النتائج الناجمة عن اندماج البلدان النامية في هذه الإجراءات ، تشير الى عدد من الحقائق :-
1-بالرغم من ارتفاع حجم التجارة الدولية الى 7.6 تريليون دولار عام 95 (وهي اليوم في بداية عام 2002 تصل الى حوالي 9 تريليون دولار سنويا) ، فقد ظل نصيب مجموعة البلاد النامية من التجارة العالمية ثابتا خلال العقود الثلاثة الماضية حول 18% بما في ذلك نصيب الدول المصدرة للنفط ، رغم أن سكان هذه المجموعة من البلاد يشكلون 75% من إجمالي سكان العالم ، الى جانب ذلك فقد تراجعت نسبة مساهمة دول العالم الثالث في الناتج الإجمالي العالمي من 15.5% عام 1965 الى 13.4% عام 1995 .
2-بالرغم من أن دعاة العولمة والتحرير المالي والتجاري ، كانوا يزعمون أن البلاد النامية سوف تستفيد من تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة ، إلا أن ذلك لم يحدث ، فقد تبين في العقدين الماضيين أن أكثر من 90% من حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة تذهب أساسا الى البلدان المتقدمة (الولايات المتحدة-أوروبا-اليابان والصين) . أما بقية البلاد النامية فقد حصلت على أقل من 10% من تلك الحركة .
3-"ارتفع إجمالي رصيد ديون البلدان النامية بشكل دراماتيكي في العقد الماضي من 603.3 مليار دولار عام 1980 ، الى 2172 مليار دولار عام 1997 ، ومع نمو حجم هذه الديون ، ارتفعت أسعار الفائدة ومعدل خدمة الدين الذي وصل في بعض هذه البلدان الى ما يزيد عن 100%" ، وما يعنيه ذلك من تضخم حجم معاناة شعوب العالم الثالث حيث يعيش اليوم حوالي 1.5 مليار إنسان في حالة فقر مدقع في حين يمتلك أقل من أربعمائة ملياردير في العالم الرأسمالي ثروة تزيد عما يملكه 2.5 مليار من السكان في جنوب الكرة الأرضية .
4-إن عولمة الأسواق المالية ، وما انطوت عليه من إجراءات للتحرير المالي ، كانت ذات آثار هامة وخطيرة على البلاد النامية ، فقد أدت الى إلغاء الحظر على المعاملات التي يشملها حساب رأس المال والحسابات المالية لميزان المدفوعات ... وكذلك فإن هذه الإجراءات عرضت الجهاز المصرفي للأزمات ، ولتدفق الأموال القذرة (غسيل الأموال) ، وتعرض البلد لهجمات المضاربين ، والى إضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة المالية والنقدية ، وشجعت على هروب واسع لرؤوس الأموال الوطنية للخارج .
يتضح فيما تقدم ، أن "البلاد النامية تعاني من وضع غير متكافئ لها في الاقتصاد العالمي ، وأن هذا الوضع يتدهور فترة بعد أخرى تحت تأثير سرعة اندفاع قطار العولمة والتحرر المتسارع لاقتصادات هذه البلاد ، وإدماجها في الاقتصاد العالمي ، إن هذا الدمج ، والتحول المفاجئ والالتزام المبكر بقواعد العولمة والليبرالية والتحرير الاقتصادي ، كانت له نتائج سلبية ، وأحيانا مدمرة على اقتصاد البلدان النامية ، حيث وضعت الكثير من العقبات في وجه تنميتها ، وأفقدتها القدرة على حماية صناعاتها الوطنية ، وأدت الى ارتفاع تكلفة المعرفة والتكنولوجيا ، وتعرضها الى المنافسة غير المتكافئة مع الواردات الأجنبية ، واحتمال استيلاء الشركات العملاقة المتعددة الجنسية على المشروعات الوطنية والمجالات الأساسية ، مما سيدفع ، وذلك هو الأخطر ، الى تقليص قدرة البلاد النامية على صياغة وتصميم سياساتها التنموية والتجارية (وغيرها من السياسات) بعد أن انتقلت عملية صنع الكثير من القرارات من مستواها الوطني الى منظمة التجارة العالمية" .
ثانيا: العولمة والوضع العربي الراهن وآفاق المستقبل :
و في ضوء هذه المستجدات و المتغيرات العالمية ، غير الاعتيادية ، بمظاهرها و طبيعتها الأحادية القطبية ، في السيطرة على مقدرات العالم بدواعي القوة و الإكراه ، التي تفتقر –من الناحية الموضوعية- لمقومات الديمومة و الاستمرار ، في هذا المناخ وجدت الإمبريالية الأمريكية فرصتها في التمدد و الهيمنة على كثير من مناطق العالم عموماً ، و على منطقتنا العربية خصوصاً متذرعة بأحدث الذرائع الزائفة تحت عنوان "مقاومة الإرهاب" وجوهره مقاومة وتركيع كل إمكانية أو حركة تستهدف استنهاض عوامل القوة والتحرر الديمقراطي القومي والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية ، بمثل ما تستهدف تكريس تبعية شعوب هذه الأمة وتخلفها من جهة ، و إعادة هيكلتها و تكييفها بما يضمن إلحاقها بصورة شبه مطلقة لسياساتها في المنطقة التي تستهدف –بصورة يائسة لا مستقبل لها- تجديد الدور الوظيفي للعدو الصهيوني و دولته بما يتوافق مع مستجدات المصالح الأمريكية المعولمة الراهنة ، بحيث تصبح إسرائيل "دولة مركزية" في المنطقة العربية و الإقليمية يحيطها مجموعات من "دول الأطراف" ، المتكيفة –التابعة مسلوبة الإرادة ، بما يضمن و يسهل عملية "التطبيع" و "الاندماج" الإسرائيلي في المنطقة العربية ، سياسياً و اقتصادياً ، تمهيداً للقضاء على منظومة الأمن القومي العربي كله من جهة و بما يعزز السيطرة العدوانية الإسرائيلية على كل الأراضي الفلسطينية والجولان السورية المحتلة و التحكم في مستقبلها من جهة أخرى .
إلا أن هذه الاستنتاجات –على مرارتها- ترتبط باللحظة الراهنة من المشهد العربي ، و هي لحظة لا تعبر عن الحقائق و مقومات التغيير رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض ، أو القلة المهزومة ، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة ، ان المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن ، يوحي بأن المطلوب قد تحقق ، و أن الإمبريالية الأمريكية و صنيعتها و حليفتها الحركة الصهيونية و إسرائيل ، قد نجحتا في نزع إرادة الأمة العربية ، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن الحقائق الموضوعية لهذه الأمة ، في مسارها و تطور حركة جماهيرها الشعبية و تطلعها نحو التحرر و الديمقراطية و التقدم و العدالة الاجتماعية ، لأن هذه الحقائق في تكاملها و ترابطها تمثل المشهد الآخر –النقيض- الذي يقول أن المطلوب أمريكياً و إسرائيلياً لم و لن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار ، لأنه لن يستطيع –مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض و إخضاع شعوب هذه الأمة ، التي صنعت ماضي و حاضر هذه المنطقة ، و ليست جسماً غريباً طارئاً فيها ، و لذلك فإن سكونها الراهن المؤقت هو شكل من أشكال الحركة في داخلها ، يقاوم كل محاولات تطويع إرادتها ، تمهيداً للمشهد القادم ، بعيداً عن السكون ، مشهد الجماهير المنظمة الحاملة لمشروعها النهضوي القومي ، أو مشهد ما بعد الأزمة الراهنة الذي سيعيد لهذه الأمة دورها الأصيل في صياغة مستقبل هذه المنطقة .
إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعبنا أو الشعوب العربية كلها –في حسم الصراع العربي الصهيوني بما يحقق أماني و مصالح هذه الأمة ، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان و المكان دوراً رئيسياً و أحادياً فيها ، بل يعني تفعيل و إنضاج عوامل و أدوات التغيير الديمقراطية الحديثة و المعاصرة ، و البحث عن مبرراتها و أسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن ، الذي لم يعد مجدياً لتغييره ، كافة الأدوات و الرؤى و السياسات الرسمية الفلسطينية و العربية الهابطة ، التي تعاطت منذ كامب ديفيد و مدريد و أوسلو ووادي عربة وشرم الشيخ وصولا الى لجنة ميتشل ووثيقة جورج تينيت مدير المخابرات الأمريكية (CIA)!؟ مع حلقات مغلقة ، انتقلنا عبرها إلى مزيد من التفاوض ، و مزيد من المصالح و الصداقات ، و ضياع الهدف بعد تغييب الثوابت الوطنية و القومية ، التي يكاد أن يصبح أمراً طبيعياً بعدها ، أن تتغير الأهداف و جداول الأعمال و المطالب .
إن الوضع الراهن ، الذي تعيشه شعوبنا العربية ، لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك و الهبوط التي بدأت في التراكم منذ اتفاقية "سايكس بيكو" وتجزئتها لوطننا العربي عام 1916 ، ووعد بلفور عام 1917 ، والنكبة الأولى لشعبنا الفلسطيني عام 1948 ، ثم انهيار الوحدة العربية بين مصر و سوريا في أيلول 1961 ، و تطورت بعد هزيمة حزيران 1967 ، و تعمقت و امتدت بعد كامب ديفيد 1979 إلى اليوم ، لدرجة أن ربع القرن الأخير حمل معه صوراً من التراجع لم تعرف جماهيرنا مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث ، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر و النهوض الوطني و القومي ، تحول هذا الوطن بدوله العديدة و سكانه إلى رقم كبير –يعج بالنزاعات الداخلية و العداء بين دوله- ، لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية ، و تحولت معظم أنظمته و حكوماته إلى أدوات للقوى المعادية ، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة و الفعل و المواجهة ، في إطار عام من التبعية على تنوع درجاتها و أشكالها السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية والثقافية و السيكولوجية ، في ظروف فقدت فيها القوى و الأحزاب الديمقراطية الوطنية و القومية و اليسارية قدرتها –لأسباب ذاتية و موضوعية- على الحركة و النشاط و النمو ، و تراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها .
و في مقابل هذا التراجع الرسمي العربي الذي يقف سداً مانعاً في وجه تطور و تجدد و صعود المشروع الوطني و القومي في بلدان الوطن العربي كله ، تتجلى هيمنة العدو الصهيوني بصورة غير مسبوقة ، لم يستطع تحقيقها في كل حروبه السابقة مع العرب ، إلى جانب عمليات الترويض الأمريكي للنظام الرسمي العربي ، في السياسة و الاقتصاد و الفكر و الثقافة التي لم تنجح في تغيير الموازين و المعايير العسكرية و السياسية في الصراع العربي –الصهيوني لصالح إسرائيل فحسب ، بل نجحت في تغيير أسس ما يسمى بعملية التفاوض إلى الدرجة التي يجري التعامل معها الآن على قاعدة أن يعترف العدو الإسرائيلي بحقوقنا و ليس العكس .
على أي حال ، و مع إدراكنا لطبيعة هذه التراجعات في الوضع العربي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه ، لم تكن معزولة أبداً عما جرى و يجري في العلاقات الدولية المعولمة الراهنة ، إلا أننا ندرك أيضاً أنه لولا هذه التراجعات العربية التي شكلت قاعدة و مناخاً عاماً عبر أدواتها السياسية و شرائحها الاجتماعية و طبقاتها القديمة الجديدة ، لما نجحت العولمة في فرض شروط الاستسلام على بلداننا ، ذلك لأن ظاهرة العولمة إلى جانب ما تحمله من مخاطر شديدة و تحديات كبرى ، خاصة على بلدان العالم الثالث عموماً و الوطن العربي خصوصاً ، إلا أن هذه الظاهرة تحمل أيضاً كثيراً من الفرص و حوافز الصحوة و النهوض لمن يمتلكون الإرادة ، إذ لا يمكن اختزال العولمة في المخاطر وحدها بعيداً عن فرص النهوض ، كما لا يمكن اختزالها في أنها عولمة التحديات ، أو عولمة الاستسلام ، فكل منهما تمتلك مقوماتها و أدواتها و آلياتها الداخلية . و إذا كان صحيحاً أن العولمة –مهما اشتدت هيمنتها- لا تستطيع بأي حال من الأحوال ، شطب هذا التنوع الحضاري و التاريخي و الثقافي و السياسي بين الأمم و القوميات ، فإن ذلك لا يعني الصمت أو الركون و الاطمئنان ، لأن الصراع المستمر و الحركة الصاعدة في إطاره ، يشكلان القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية اليوم أكبر بما لا يقاس مما كانت عليه في السابق ، لذلك فإن عدم دخولنا –كعرب- إلى حلبة الصراع متسلحين بالرؤية أو الهدف القومي الوحدوي ، و بالخطط اللازمة لتحقيقه و توفير مقوماتها و آليات تنفيذها ، سيعني مزيداً من التبعية و القهر لشعوبنا ، و مزيداً من التراجع لبلداننا على هامش التاريخ أو خارجه لا فرق .
في ضوء ما تقدم ، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل و تجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق ، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث من جهة ، و بوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى ، على أن هذه الرؤية لكي تستطيع ممارسة دورها الحركي النقيض ، و القيام بوظيفتها و مهماتها التاريخية فلا بد لها من امتلاك الوعي بالمحددات أو المفاهيم الجوهرية الأساسية التالية :-
1.أن تكون رؤية وحدوية تسعى إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته الإمبريالية ، و تعمل على توحيد الجماهير العربية بما يخلق منها قوة قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي و الإنساني العام .
2.أن تسعى إلى استيعاب السمات الأساسية لثقافة التنوير والحداثة الأوروبية ، و ما تضمنته من عقلانية علمية و روح نقدية إبداعية و استكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية و الديمقراطية ، و إدراك واضح لموضوعية الوجود المادي و الوجود الاجتماعي ، و ما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية و سعيها إلى الحركة و التغيير انطلاقاً من أن الإنسان هو صانع التاريخ و القادر على الابتكار و التغيير في حاضره و مستقبله ، وفق أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية في إطار المشروع القومي العربي النهضوي ، ذلك أن عملية التحرر القومي كضرورة تاريخية لمجابهة تناقضات المجتمع العربي الحديث ، لا يمكن تحققها أو ممارسة دورها كنقيض للواقع القائم ، بدون الاشتراكية و برنامجها السياسي الاجتماعي و الاقتصادي ، كضرورة تاريخية أيضاً لعملية التحرر القومي ذاتها ، إذ أن جوهر تناقضاتنا الرئيسة مع الحركة الصهيونية و قوى العولمة الإمبريالية و توابعها المحلية يقوم على الصراع على استرداد الأرض و الموارد و الثروات المادية والبشرية العربية لإلغاء حالة النهب و الاستلاب و الارتهان و الاستغلال التي تعيشها شعوبنا العربية اليوم ، و بالتالي فإننا نؤكد أن حل هذا الصراع لتحرير الأرض و الثروات و الموارد العربية لا يمكن تحقيقه بدون إنضاج الوعي الاشتراكي و برامجه التطبيقية الكفيلة بتغيير بنية العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية التابعة والمتخلفة و المشوهة الحالية ، إلى بنية إنتاجية تنموية حضارية شاملة تضمن توليد علاقات اجتماعية ذات طابع جماعي تعاوني ، يؤكد في جوهره على حق جماهيرنا الشعبية في ملكية هذه الثروات و الموارد عبر مؤسساتها الديمقراطية التي ترى في الحوافز الفردية و الدافعية الذاتية شرطاً للإبداع و البناء و ضمانة للتطور المتجدد و الاستمرار .
إن هذه العلاقة الثنائية الجدلية بين الرؤية القومية و أيديولوجية الاشتراكية العلمية ، و تطابقهما معاً في النظرية و الممارسة بأدوات أو آليات تنسجم مع روح هذا العصر و متطلباته ، هي الصيغة أو المنظومة الفكرية التي نعتقد أنها تشكل المدخل النظري الذي ندعو إلى الحوار العميق فيه من أجل بلورة أسسه و آلياته الفكرية أو المعرفية تمهيداً للوصول إلى آلياته الحركية ، أو مقوماته و أدواته التغييرية الديمقراطية المنظمة ، بصورة عصرية تتوافق مع طبيعة التحولات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، التي نتطلع إليها ، في سياق نضالنا من أجل التحرر القومي و التقدم الاجتماعي و مواجهة تحديات العولمة و المشروع الصهيوني و اشتراطاتهما المذلة .إذ لا يعقل أن نستمر في التعامل مع الفكرة القومية من منطلق أزليتها أو خلودها ، و هي ليست كذلك ، أو الركون إلى مكوناتها الأساسية ، اللغة ، و الجغرافيا أو الأرض ، والتاريخ والثقافة والتراث . فبالرغم من أهمية هذه العوامل كمنطلقات أولية و أساسية للفكر القومي العربي إلا أنها تظل عاجزة وحدها عن التفاعل أو التكيف الإيجابي مع المتغيرات الإقليمية و العالمية المعاصرة نظراً لتعدد خصوصياتها القطرية وألوانها رغم تشابكها في لوحة تاريخية وجغرافية متصلة ، مما يجعلها –وفي الظروف الراهنة بالذات- فاقدة بآلياتها الذاتية المجردة ، القدرة على إنتاج الوعي القومي الاستنهاضي ، أو الفكرة التوحيدية الناظمة للجماهير الشعبية والمعبرة عن مصالحها ، و من هنا تتجلى الأهمية و الضرورة معاً للمحتوى الاقتصادي الاجتماعي التقدمي القادر على إنتاج الآليات النقيضة التي يمكن أن تتجاوز هذا الواقع المجزأ ، التابع ، المتخلف ، المشوه من جهة ، وأدواته المتعددة القبلية، الكومبرادورية ،والطفيلية، والبيروقراطية الأحادية المستبدة ، من جهة أخرى.
إن هذه الحالة من السكون الظاهري أو الكمون العربي ، في مناخ تترعرع فيه كل عوامل الإحباط ، تجعل من الحديث عن المبادرة لإنتاج و بناء منظومة معرفية قومية تقدمية تتناسب مع روح هذا العصر و مقتضياته ، ضرورة تاريخية استثنائية ملحة تعمل على نقل الواقع الشعبي العربي من حالة السكون أو الركود الراهنة إلى حالة الحركة و التجدد ، يقع عبء صياغتها و تبنيها و تحمل مسؤولية فعلها و حركتها على عاتق المثقف العربي الديمقراطي التقدمي الملتزم كخطوة أولية ، لإعادة تكريس الوعي القومي بمضامينه و آلياته الحديثة و المعاصرة في التحرر و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كأفكار توحيدية للجماهير ، تشكل المحتوى الحقيقي للواجهة العربية الخارجية المتمثلة في اللغة و الأرض و التاريخ و الثقافة ، بمثل ما تشكل أيضاً ، الأساس المادي للمشروع القومي الديمقراطي في الحاضر و المستقبل ، الذي يضمن كسر حلقات التخلف و التبعية و الإلحاق و التجزئة ، و يختصر الطريق الى المعرفة العلمية و الحداثة من جهة ، و صياغة المشروع التنموي الاقتصادي المستند الى مبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات بآفاقه الاشتراكية من جهة أخرى .
إننا ندرك حجم العقبات أو العوامل الموضوعية و الذاتية التي تشكل تحدياً حقيقياً في وجه تجدد المشروع القومي العربي ، و التي تفاقمت في الربع الأخير من القرن العشرين ، الذي حمل –كما أشرنا من قبل- صوراً من التراجع تخطت كثيراً من الثوابت و الحدود و الموانع ، و ما زال رسمها البياني متجهاً في حركته نحو مزيد من التراجع و الهبوط حتى اللحظة ، لم يصب بالضرر الجوانب السياسية الاجتماعية فحسب ، و إنما أصاب أيضاً الأسس الفكرية أو المفاهيم العامة التي ارتبطت تاريخياً بحقيقة الوعي بمفهوم الأمة العربية ، و مفهوم الوطن العربي مما دفع بقسطنطين زريق –أحد أهم رواد الفكر القومي العربي الحديث- إلى الإقرار بهذا التراجع في كتابه "ما العمل" –الصادر عام 1998- بقوله "عليَّ شخصياً أن أعترف أنني كنت في الماضي أتكلم و أكتب عن الأمة العربية ، فإذا أنا الآن أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش" و لجأ –حتى وفاته في صيف عام 2000-إلى استخدام تعبير "المجتمع العربي" بدلاً من "الوطن العربي" الذي لم يتطور بعد ليصبح وطناً عربياً لأمة عربية ، و لم يكن ذلك موقفاً يائساً من مفكرنا الراحل ، بقدر ما كان تعبيراً عن قلقه على مستقبل هذه الأمة ، و عن ضرورات خلق عوامل التحدي الدائم لمواجهة كل أشكال حياتها و ظروفها المعقدة الراهنة ، لتطوير مفهوم القومية العربية و إخراجه من سياقه الرومانسي المألوف أو المتحجر إلى رحاب الواقعية العقلانية الحديثة ، فالقومية الحقة –كما يراها قسطنطين زريق- ليست دعوة سياسية فحسب ، إنما هي حركة علمانية شاملة لحياة الشعب ، تعمل على مواجهة العوامل الرئيسية في أزمة المجتمع العربي حاليا ، والتي لخصها فيما يلي :-
-غياب الشعوب عن المسرح العربي .
-غياب القضايا الكبرى في المجتمع العربي ، وهي الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص .
-غياب العقلانية والنهج العلمي في فهم المشكلات وحلها .
-غياب القيم الاجتماعية الإيجابية ، وانتفاء اعتمادها في السلوك العام والخاص .
-هذه العوامل نتج عنها غياب القدرة –في المجتمع العربي- على التحصن في وجه الانحرافات والمفاسد الداخلية أو في وجه العدوان الخارجي .
لذلك ، فإن حديثنا عن الضرورة التاريخية لصياغة منظومة معرفية قومية تقدمية معاصرة ، عبر رؤية وممارسة جديدتين ، يقع بالدرجة الأولى وفي المراحل الأولى على عاتق المثقف الديمقراطي الثوري العربي ، لاعتبارين هامين ، أولهما: أن هذا المثقف هو الوحيد القادر من الناحية الموضوعية على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية. وثانيهما: أن طبيعة التركيب الاجتماعي/الطبقي المشوه لمجتمعنا العربي ، التي تتسم بتعدد الأنماط الاجتماعية القديمة والمستحدثة وتداخلها ، كما تتسم بالسيولة وعدم التبلور الطبقي بصورة محددة ، والتسارع غير العادي ، الطفيلي أو الشاذ أحيانا في عملية الحراك الاجتماعي ، الى جانب وضوح وتعمق تبعية "البورجوازية" العربية للمركز الرأسمالي المعولم ، بحيث أصبحت –اليوم- واحدة من أهم أدواته وآلياته في بلادنا ، كل ذلك يجعل من المثقف العربي ، -بالمعنى الجمعي المنظم- بديلا مؤقتا ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي ، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسئوليات بل وتضحيات في مجرى الصراع لتوليد معالم المشروع النهضوي القومي ونشره في أوساط الجماهير الشعبية العربية كفكرة مركزية أو توحيدية .
إن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من القوى والأحزاب والمفكرين والمثقفين في إطار الوحدة الجدلية بين القوى والفعاليات القومية واليسارية العربية على مساحة الوطن العربي كله ، وهي أيضا ليست دعوة الى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة التي تتجلى في ثلاث مظاهر أساسية :-
(1) المظاهر السياسية (2) المظاهر الاقتصادية (3) المظاهر الاجتماعية
1- المظهر السياسي للأزمة :
لعل أبرز المتغيرات الدولية المعاصرة أو العوامل الخارجية ، التي دفعت بالبلدان العربية نحو المزيد من التداعي والتراجع ، تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي ، والهجوم الإمبريالي ضد العراق المحاصر (والمهدد الآن بتجدد العدوان الهمجي الإمبريالي الأمريكي عليه)، وولادة "مشاريع التسوية العربية-الإسرائيلية" وما تلا ذلك من عمليات التطبيع السياسي والاقتصادي للعديد من بلدان النظام العربي مع العدو الصهيوني .
إننا ندرك أن هذه المتغيرات لم تكن قادرة على التأثير ، بدون استكمال عوامل التبعية والتراجع الداخلي في مجمل النظام العربي ، وتراكماتها وتحولاتها النوعية السالبة التي تفاقمت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ، كان من أهم نتائجها ، هذه التحولات الخطيرة في الاستراتيجية السياسية العربية نحو مسار نقيض مع بداية القرن الحادي والعشرين ، فبعد أن كان جوهر الاستراتيجية السياسية العربية وقواعدها –للأنظمة الوطنية- في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، يرتكز على التناقض الأساسي التناحري مع النظام الإمبريالي وركيزته الحركة الصهيونية وإسرائيل ، كتناقض أو صراع وجودي وتاريخي وحضاري شامل ، تحول منذ اتفاقية كامب ديفيد 1979 الى شكل آخر يقوم على الاعتراف بإسرائيل ووجودها كدولة مشروعة في المنطقة العربية بدون شرط إقرارها المسبق بالحقوق السيادية للشعب الفلسطيني على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ، المحتلة عام 1967 وكذلك الأمر بالنسبة للأراضي السورية المحتلة في الجولان ، ومنطقة شبعا اللبنانية ، وفق ما عرف بمبدأ "الأرض مقابل السلام" ، ولكن استمرار تراكم الأزمة الداخلية وتبعية و إلحاق النظام العربي بالنظام الدولي "الجديد" ، رغم اتفاقات أوسلو ووادي عربة وما تلاهما من اعترافات وتطبيع ، أفرز حالة من العجز ، بحيث بات النظام العربي غير قادر على المطالبة –بصراحة وحزم- بتطبيق مبدأ "الأرض مقابل السلام" ناهيك عن قرارات الشرعية الدولية في حدودها الدنيا المتمثلة بقرارات 242 و 338 و194 ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل بات النظام العربي فاقدا للقدرة على مجرد رفض المشاريع الأمريكية-الإسرائيلية ، كما جرى مع تقرير لجنة ميتشل وتفاهمات جورج تينيت وصولا الى المبادرة السعودية التي تدعو الى التطبيع العربي الرسمي الكامل مع العدو الصهيوني، بما يشير الى أن الحالة العربية الرسمية الراهنة بمجملها أصبحت تستجدي الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والعربية من واشنطن وتل أبيب رغم إدراكها باستحالة تحقيق ذلك الاعتراف خاصة بعد أن تم تكييف و إعادة هيكلة معظم بلدان النظام العربي وفق شروط النظام الرأسمالي ، بحيث أصبحت أوضاعه الداخلية كلها رهينة للصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الدولية وشروطها السياسية والاقتصادية .
في ضوء ما تقدم فإن العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة ، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف ، بعد أن تغيرت طبيعة الأغلبية الساحقة من الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها ، حيث انتقل النظام العربي بمجمله من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي "سابق" ، الى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي كعنوان جديد في نهاية القرن العشرين ، بعبارة أخرى لم تعد القضايا العربية الداخلية والخارجية عموما ، والقضية الفلسطينية بالذات ، تمثل صراعا مصيريا لا يقبل المصالحة بين طرفيه : الإمبريالية العالمية وإسرائيل من جهة وحركة التحرر الوطني العربية من جهة أخرى ، وتحول التناقض الأساسي الى شكل آخر أشبه بالتوافق العربي الرسمي-الأمريكي-الإسرائيلي ، أوصل النظام العربي الى حالة تكاد تعبر عن فقدانه لوعيه الوطني وثوابته ومرجعياته سواء بالنسبة للقضايا السياسية الاقتصادية الاجتماعية الداخلية أو ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والحقوق التاريخية أو قرارات الشرعية الدولية ، ولم يكن غريبا في مثل هذه الحالة من التراجع والانكسار ، بروز التناقضات الرئيسة والثانوية الداخلية في إطار التحولات العالمية الجديدة أو العولمة ، لتبدأ دورتها في تفتيت الكيانات العربية ، في السودان بين الشمال والجنوب ، وفي الجزائر بين البربر والعرب من جهة ، وتنامي الحركات السياسية الدينية من جهة أخرى ، وفي مصر عبر محاولات بث الانقسام والفرقة بين أبناء الشعب الواحد من مسلمين وأقباط ، و الانحراف بالصراعات الداخلية من طابعها السياسي الديمقراطي الاجتماعي في إطار الوطن الواحد الى طابعها الديني الشوفيني المتعصب الذي تقوده أيضاً الحركات الدينية الأصولية بمختلف أنواعها و ارتباطاتها ، ثم محاولات خلق عوامل الفرقة و العداء بين سوريا –المتمسكة بثوابتها الوطنية وبقطاعها الاقتصادي العام-و لبنان التي تقودها الحركات الشوفينية الانعزالية ، و استمرار الحصار والعدوان الإمبريالي على العراق عبر دعم صريح من النظام الحاكم في الجزيرة العربية الذي يقوم بأشد الأدوار خطورة ، عبر سعيه إلى التأثير على النظام العربي كله و توجيهه نحو الخضوع للسياسة الأمريكية في المنطقة من جهة ، و عبر تمويله -بصورة مباشرة و غير مباشرة – لمجمل الحركات الأصولية الدينية الرجعية التي تستهدف المزيد من استنزاف الأوضاع العربية الداخلية و تمزيقها و انقسامها السياسي و الاجتماعي الداخلي و استمرار تخلفها و تبعيتها و ارتهانها من جهة أخرى .
لقد باتت إشكاليات الواقع العربي العديدة و المتنوعة إشكاليات عميقة ، بسبب اتساع حجم و قوة الضغوط الخارجية ، التي تحاول تأسيس مقومات المشروع الإمبريالي ، السياسي ، الاقتصادي ، الهادف الى تفكيك كل مقومات النهوض القومي الذاتي في البلدان العربية ، لحساب "المشروع الحضاري الغربي" باسم الليبرالية الجديدة و الخصخصة و السوق الحر و تحرير التجارة و الانفتاح .
و لكن رغم إقرارنا بحجم هذه الضغوط الخارجية ، و دورها كتناقض رئيسي ضد مصالحنا الوطنية و القومية ، إلا أن الأوضاع و الضغوط الداخلية العربية تشكل العامل الرئيسي الأول في نجاح أو فشل تلك الضغوط الخارجية فمن غير الممكن تحليل الأوضاع السياسية العربية ، و مسارها ، بمعزل عن مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي الداخلي باعتباره الركيزة الأولى و المدخل الفسيح لخضوع النظام العربي و تبعيته للمراكز الرأسمالية و ضغوطاتها الخارجية ، إذ أن التراكمات البطيئة و المتسارعة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي العربي ، و تحولاتها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، عبر سيطرة القوى الرأسمالية ، الطفيلية ، و البيروقراطية ، و التجارية ، و العقارية ، و المالية الكبيرة على مجمل البنية الاجتماعية و السياسية العربية في مناخ الاقتصاد الحر و الانفتاح ، أدت إلى تراكم و اتساع التناقضات الداخلية مع الجماهير الشعبية من جهة ، و إلى تطابق مصالح البنية الطبقية العليا الداخلية الحاكمة ، مع مصالح و شروط المراكز الرأسمالية الخارجية أو العولمة من جهة أخرى .
هذا هو جوهر الإشكالية أو الأزمة السياسية في النظام العربي الراهن ، ببعديهما التحرري على الصعيد الوطني و القومي ، و الديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي المطلبي على الصعيد الداخلي ، اللذان لا يمكن تحققهما بدون توفر النظام السياسي المعبر عن ارادات و تطلعات و مصالح الجماهير الشعبية و يقوم على خدمتها .
و في هذا السياق ، فإن القضية التي يجب أن تستوقف القوى القومية التقدمية الديمقراطية الساعية إلى عملية التغيير ، تتلخص في السؤال الكبير التالي بدلالاته الخطيرة ، لماذا تميزت هذه القوى بامتلاكها لكثير من عناصر القوة سواء في بنيانها التنظيمي –أحزابها- أو في اتساع الحالة الجماهيرية بهذه النسبة أو تلك من حولها ، في مراحل الأربعينيات و الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، رغم عدم نضوج الظروف الموضوعية آنذاك ؟؟ و كيف تراكمت عوامل الضعف و الانهيار لهذه البنى الوطنية-القومية والتقدمية بكل تنظيماتها في هذه المرحلة ، رغم تراكم و نضج الظروف الموضوعية بصورة لم يشهدها واقعنا السياسي الاجتماعي الاقتصادي العربي من قبل ؟ هذه الإشكالية أو المفارقة ما الذي يمنع أو يحول دون مواجهتها و حلها رغم وعي الجميع من المثقفين الطليعيين العرب بكل ملابسات و مخاطر هذه المرحلة من ناحية ووعيهم –النظري- بدورهم من ناحية ثانية ؟ خاصة في ضوء فشل النظام العربي في حل الإشكاليات أو التناقضات الداخلية أو حل تناقضاته الخارجية مع العدو الصهيوني و النظام الرأسمالي ، إلى جانب فشله في حل إشكالية الثنائية القطرية و القومية و تناقضاتها ، و لم يعد أمامه –كما يبدو- سوى المزيد من الخضوع لشروط العولمة الجديدة ، على حساب المصالح الوطنية و القومية و على حساب الكثير من مظاهر السيادة الداخلية أيضاً ، و ليس لذلك سوى معنى واحد ، هو بقاء هذا الواقع المهزوم و المأزوم ، بل و استمرار صعود خطه البياني دون أية آفاق بما يعمق حالة الإحباط العام أو الانكفاء أو "الميل نحو الاستسلام" ضمن مناخ عام و أسباب كثيرة موضوعية متعددة الجوانب و المنطلقات ، مفتوحة على كافة الاحتمالات المنذرة بالسوء ، طالما بقيت القوى الديمقراطية التغييرية عاجزة عن تأطير نفسها و القيام بدورها .
2- المظهر الاقتصادي للأزمة :
ويتجلى في فشل السياسات الليبرالية الاقتصادية التي صاغها الصندوق والبنك الدوليين في ثمانينيات القرن الماضي ، والتي عرفت باسم برامج التثبيت والتكيف الهيكلي أو ما يسمى ببرامج التصحيح ، ولم يكن هذا الفشل مفاجئا للعديد من خبراء الاقتصاد في العالم الثالث ، بسبب أن هذه البرامج أو التوجهات الليبرالية الجديدة التي انساقت لتطبيقها غالبية دول العالم الثالث ، طمست أو غيبت بشكل مرسوم ومتعمد ، كل مصطلحات "التنمية" و"التحرر الاقتصادي" و"التقدم الاجتماعي" و"العدالة الاجتماعية" ، التي كادت أمام هذا الزحف الكاسح للعولمة الاقتصادية والسياسية أن تُفقد هذه الدول قدرتها في صياغة أي سياسة تتعارض مع المصالح الرأسمالية العالمية وأدواتها المحلية ، فالخصخصة في التحليل الأخير –كما يقول بحق المفكر الراحل د.رمزي زكي "ليست إلا إعادة توزيع الثروة لصالح البورجوازية المحلية والأجنبية حيث يتسنى بمقتضاها نزع ملكية الدولة ونقل أصولها الإنتاجية للقطاع الخاص بغض النظر عن هوية جنسيته" .
والآن ، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على استجابة بلدان العالم الثالث ، ومعظم بلدان الوطن العربي ، في تطبيق السياسات ، تحصد هذه البلدان ، مع بداية القرن الحادي والعشرين ، النتائج الوخيمة التي لم تتوقف عند العجز عن مواجهة تحديات التنمية فحسب ، بل أدت الى تفاقم المديونية الخارجية والداخلية ، وعجز بعض الدول عن سداد فوائد هذه الديون الى البنك الدولي صاحب تلك السياسات والبرامج ، كما أدت أيضا الى تباطؤ وتراجع حركة النمو الاقتصادي ، وتزايد حالات الفشل والانكسارات في مسيرة الاقتصاد الوطني ، وأوقعت الاقتصاد والمجتمع في مآزق عديدة كما يؤكد الخبير الاقتصادي د.إبراهيم العيسوي :-
المأزق الأول : تخلت الحكومات عن مسئوليات التنمية ، لحساب القطاع الخاص –حسب شروط الصندوق والبنك الدوليين- الذي أثبت عجزه وعدم قدرته على سد الفراغ التنموي ، وذلك في تقديرنا أمر طبيعي حيث أن الهدف الوحيد للقطاع الخاص هو الربح فقط .
المأزق الثاني : العجز عن زيادة الادخار المحلي ، والفشل في اجتذاب الاستثمار الأجنبي .
المأزق الثالث : العجز عن التصدير ، مع فتح الباب لتسرب الموارد على نطاق واسع من خلال الاستيراد وخروج رؤوس الأموال .
المأزق الرابع : بالرغم من تراجع دور الحكومات –حسب شروط برامج التكيف- فقد عجزت عن تدبير الموارد لتمويل الإنفاق العام المحدود ، بسبب غياب الإيرادات التي توقعها أو افترضها الصندوق والبنك الدوليين .
المأزق الخامس: التغني أو المباهاة بالحديث المجرد فقط عن ما يسمى بالتنمية البشرية ، وهو مصطلح أو شعار من إنتاج خبراء البنك الدولي ، لم يحقق سوى الأوهام والمزيد من الفشل والعجز في إصلاح نظم التعليم والصحة ، الى جانب العجز الذي أصبح مزمنا بسبب هذه السياسات ، في محاصرة تزايد الفقر والتفاوت المريع في توزيع الدخل والثروة .
المأزق السادس: بسبب هذه السياسات ، فقد تم تهميش دور التخطيط بعد أن أصبح دور الحكومات مقتصرا فقط على الإشراف أو التوجيه عن بعد ، وبالتالي غابت الأدوات الفعالة لتنفيذ الخطط التنموية وغيرها .
المأزق السابع : ثبت بالملموس ، أن الانفراج السياسي أو الديمقراطية الليبرالية وتطبيقاتها حسب توجيهات الصندوق والبنك الدوليين ، لم يكن سوى عملية مدروسة استهدفت تآكل القاعدة الاجتماعية للديمقراطية ، ونقصد بذلك الجماهير الشعبية الفقيرة ، بعد أن تعرضت لمزيد من التهميش والإفقار والمعاناة والحرمان بكل صورهما ، في مقابل فتح الباب على الغارب لسيطرة رأس المال الطفيلي البيروقراطي والكومبرادوري والشركات والوكالات الأجنبية على الحكم ومؤسساته والتحكم بقراراته السياسية الخارجية والداخلية .
إن هذه المآزق ، وغيرها الكثير من الأمثلة الفاضحة ،التي تشير بوضوح صارخ على حجم التراجعات والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية ، التي أودت بجماهيرنا الشعبية العربية الى أشكال من الفقر والمعاناة والذل لم تعرفها من قبل ، عدا عما أوقعته هذه التطبيقات ، في بلادنا العربية ، وبلدان العالم الثالث من أزمات عميقة ، كشفت عمق التناقضات الجسيمة في بنية هذه السياسات الليبرالية الاقتصادية وأساليبها الهادفة الى إضعاف دور الدولة وإلغاء الدعم المقدم منها للسلع الأساسية ، وإلغاء القطاع العام ، والتقليل المستمر للفائض الاقتصادي الذي تملكه الدولة ونقله للقطاع الخاص المحلي والأجنبي في إطار الانفتاح الليبرالي والخصخصة وآليات السوق الحر .
وفي ظل هذا التدهور الناتج عن الاستجابة لسياسات الصندوق والبنك الدوليين ، ومنظمة التجارة الدولية WTO ، الى جانب عوامل أخرى داخلية وخارجية متنوعة ، كان لا بد لمجرى الأزمة الاقتصادية العامة أن يشق طريقه في صلب النظام العربي نحو مزيد من التراجع في الاقتصاد والتنمية والمجتمع والسياسة ، باعتباره المجرى أو الخط المهيمن في حركة الرسم البياني العربي حتى اللحظة ، والمؤشرات على ذلك كثيرة :-
1-استفحال مظاهر التبعية بكل أشكالها ، بما يستجيب لأهداف العولمة التي تسعى الى نفي القاعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة القطرية العربية ، عبر تحطيم العلاقة بين الدولة والشعب ، بحيث يصبح المسار الرئيسي للدولة موجها في خدمة استحقاقات العولمة والسوق العالمي والشركات المتعددة الجنسية أو الديكتاتورية الجديدة . إن ما يعزز هذا الاستنتاج ، طبيعة التحولات النوعية السالبة التي أصابت معظم أقطارنا العربية وجعلت منها دولا رخوة بالمعنى السياسي والاقتصادي المعاصر .
2-تزايد حجم ومعدلات البطالة والفقر ، وما ينتج عنها من أزمات خانقة ، فالعمالة العربية ، كما نقدرها في بداية هذا العام 2002 ، تبلغ حوالي 100 مليون عامل ، منهم 20 مليون عامل عاطل عن العمل ، أي بنسبة 12% من مجموع القوة العاملة العربية ، معظمهم في البلدان العربية غير النفطية ، بما يعني تزايد مساحات الفقر وانتشاره بحيث يزيد مجموع الفقراء ، ومن هم دون خط الفقر (أقل من دولار واحد للفرد يوميا) عن 90 مليون نسمة ، معظمهم في مصر والأردن والمغرب والسودان وسوريا وفلسطين واليمن .
3-استمرار تراكم عوامل العجز في توفير مقومات الاكتفاء الذاتي الغذائي العربي ، فالمعروف أن الطلب على الغذاء ينمو بمعدل 6% سنويا في حين أن الإنتاج ينمو بمعدل 2% فقط ، فقد بلغ العجز التجاري الزراعي العربي 17مليار دولار ، وبلغ العجز التجاري الغذائي 15 مليار دولار ، حسب تقرير مؤتمر غرف التجارة والزراعة العرب لعام 1997 . ومن المتوقع ارتفاع فاتورة الواردات العربية بدون زيادة الكميات خلال السنوات القليلة القادمة (حتى عام 2005 على أكثر تقدير) بعد رفع الدعم عن المنتجات الزراعية في أوروبا والولايات المتحدة –والذي كان أحد أسباب المظاهرات ضد العولمة في "سياتل" وغيرها- وما سينتج عن ذلك من ارتفاع في رغيف الخبز والسلع الغذائية الضرورية الأخرى ، وهبوط في مستويات المعيشة ، واتساع دائرة الفقر وما دونه بدرجات حادة .
4-تعرض التجارة البينية العربية لمزيد من التراجع والانخفاض ، علاوة على ضعفها المزمن منذ إعلان تأسيس السوق العربية المشتركة عام 1964 ، ففي ذلك العام كانت نسبة التجارة البينية العربية 4.6% من مجمل التجارة العربية ، وصلت بعد خمسة وثلاثين عاما من ذلك التأسيس الى 3.4% ، وسوف تتعرض الى مزيد من الهبوط بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة لرفع كافة القيود وتحرير التجارة والانفتاح الكامل عام 2005 حسب برنامج منظمة التجارة الدولية WTO ، والى جانب ذلك فإن 90% من الاستثمارات العربية –كما تشير معظم الدراسات في السنوات العشر الأخيرة- هي خارج البلدان العربية ، عدا عن تزايد حجم الإنفاق غير المبرر على الخدمات الترفيه والإنشاءات والطرق والمعدات والأسلحة –التي لم تستعمل قط (في السعودية ودول الخليج)- خلال العشرين سنة الماضية ، حيث بلغ حجم هذا الإنفاق 2 تريليون دولار ، بمعدل 100 مليار دولار سنويا ، تصرف لحساب الشركات الرأسمالية الكبرى المنتجة لهذه السلع والخدمات العسكرية وغيرها ، دون أي اعتبار للنمو الاقتصادي للفرد في البلدان العربية الفقيرة ، الذي بقي خلال العقدين الأخيرين يتراوح بين الصفر والسلبي حسب تقارير ألا وسكوا ، والتقرير الاقتصادي العربي الموحد .
5-هبطت مساهمة الناتج الإجمالي العربي في إجمالي الناتج الإجمالي العالمي من 3.1% (650 مليار $) سنة 1993 إلى 2,1% سنة 1997 (599 مليار $) و إلى 2,3% عام 2000 (حيث يمكن ارتفاع الناتج الإجمالي إلى 700 مليار$ بسبب ارتفاع أسعار النفط) ، و في هذا السياق فإن هبوط الناتج الإجمالي ، أو زيادته الكمية و النسبية ، إنما يعود في تقديرنا إلى أربعة عوامل رئيسية ، الأول : الهبوط أو الارتفاع في أسعار النفط ، الثاني : التراجع في حجم الإنتاج الصناعي ، و الذي سيتزايد بعد عام 2005 عند إلغاء الحدود الجمركية و فتح الأسواق بلا قيود ، أمام المنتج الأجنبي ، حيث ستتعرض الصناعات العربية لانهيارات شبه شاملة نتيجة إغراق السوق بمختلف السلع الأجنبية ، الثالث : التراجع في حجم الإنتاج الزراعي حيث لا نزرع سوى أقل من 40% من الأراضي الصالحة للزراعة و البالغة 135 مليون هكتار ، و الرابع : عدم استغلال الفائض المالي العربي الذي يزيد عن 800 مليار$ في الاستثمار الصناعي و الزراعي الداخلي ، و إيداعه في بلدان النظام الرأسمالي الغربي ، رغم وعي دول الصحراء أو النفط –التي لا تستوعب أكثر من 20% من عدد سكان الوطن العربي في حين أنها تستحوذ على 50% من الناتج الإجمالي- إلى حاجة الدول العربية الأخرى في مصر و بلاد الشام بصورة خاصة ، التي تستوعب حوالي 45% من مجموع السكان-إلى هذه الفوائض للاستثمار من جهة ، و لتخفيف ضغوط الديون و فوائدها (الخارجية والداخلية) التي قد تتجاوز –في تقديري- 800 مليار$ مع نهاية العام 2001 ، و ما سيعنيه ذلك من المزيد من الخضوع لشروط العولمة المذلة ، و مزيد من النزاعات و الانقسامات الداخلية و الإفقار لشعوبها ، خاصة مع تراجع نصيب الفرد العربي ، في هذه الدول الفقيرة ، من الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 500 دولار أو أقل في السودان و اليمن و إلى ما يتراوح بين 1000-1500 دولار سنوياً في مصر و سوريا و لبنان و الجزائر و الأردن و فلسطين ، (انخفض في فلسطين منذ نهاية عام 2000 على أثر الانتفاضة و الحصار الصهيوني إلى أقل من 800 دولار في قطاع غزة ، و أقل من 1200 دولار في الضفة الغربية) ، في حين أن نصيب الفرد العربي في قطر و الكويت و الإمارات يتراوح بين 15 ألف إلى 22 ألف دولار سنوياً و في البحرين و السعودية و عُمان و ليبيا من 9-15 ألف دولار سنوياً .
6-إن هذه النتائج السالبة أو المؤشرات التي تدل على هبوط و تراجع الاقتصاد العربي و ارتهانه للآخر الأجنبي ، بسبب قبول معظم بلدان النظام العربي لسياسات الصندوق و البنك الدوليين و شروط منظمة التجارة الدولية أو العولمة ، كانت –و ما زالت- السبب الرئيسي الأول لهذا الانهيار السياسي الذي نعيشه اليوم في صراعنا مع الولايات المتحدة و إسرائيل ، ففي الوقت الذي يتعرض فيه الاقتصاد العربي ، و السياسة العربية ، لهذه الضغوط و التراجعات المستمرة ، توالت بالمقابل ، مؤشرات الصعود و التقدم في الاقتصاد و السياسة الإسرائيلية عبر تراكمات و تحولات نوعية غير اعتيادية على أثر اتفاقيات كامب ديفيد 1979، و أوسلو 1993، ووادي عربة 1994، نورد فيما يلي بعض المؤشرات و الأرقام المقارنة بين العرب و إسرائيل كما في عام 2000 (دون أن نغفل دور انتفاضة الشعب الفلسطيني وتأثيرها على تراجع الاقتصاد الإسرائيلي عام 2001 وتزايد الأزمة السياسية والاجتماعية في أوساط مجتمع العدو):-
1. ارتفع عدد الدول المعترفة بإسرائيل من 62 دولة عام 1992 إلى 153 دولة .
2. حسب العديد من المصادر ، فقد وفّر إنهاء المقاطعة الاقتصادية ، العربية و الإسلامية ، لإسرائيل حوالي 45 مليار دولار سنوياً ، بعد إزالة كافة العقبات من وجه الشركات العالمية في التعامل مع إسرائيل ، و بعد أن نجحت إسرائيل في دمج اقتصادها بالاقتصاد العالمي عبر حرية حركة صادراتها ووارداتها دون أية قيود أو عوائق ، و هي تسعى الآن إلى أن تتحول إلى مركز إقليمي رئيسي في اقتصاد العولمة .
3. ارتفع الناتج الإجمالي السنوي لإسرائيل من 65 مليار$ عام 1993 إلى أكثر من 100 مليار$ عام 2000.
4. ارتفع دخل الفرد السنوي فيها من 12 ألف دولار عام 1993 إلى 19 ألف دولار عام 2000 ، و المفارقة المذهلة أن دخل الفرد في الضفة و القطاع لا يتجاوز 1000 دولار رغم توحد الأسعار لجميع السلع في السوق الإسرائيلي و السوق الفلسطيني في الضفة و القطاع .
5. تدفقت الاستثمارات الخارجية –بصورة غير عادية- على إسرائيل ، و التي لم تتجاوز 400 مليون دولار عام 1991 ارتفعت إلى 2,9 مليار دولار عام 1996 و إلى 3,6 مليار دولار عام 1997 ، ووصلت إلى الذروة عام 1999 حيث بلغت 8,3 مليار دولار ، في حين أن الاستثمارات المحلية و الخارجية في الضفة و القطاع لم تتجاوز 300 مليون دولار كمعدل عام منذ عام 1994 حتى عام 2000 أي حوالي 3,6% فقط من حجم الاستثمارات المتدفقة على إسرائيل ! ، و كذلك الأمر بالنسبة لدولة عربية مثل مصر فبالرغم من عقد معاهدة كامب ديفيد 1979 ، لم تتجاوز الاستثمارات العالمية فيها 700 مليون دولار فقط ، أما بالنسبة للاستثمارات الإسرائيلية في الدول العربية فقد بلغت 100 مليون دولار .
6. ارتفع دخل العدو الإسرائيلي من السياحة إلى 3 مليارات دولار .
7. بالرغم من ضعف التجارة العربية مع إسرائيل ، إلا أنها في حالة صعود بطيء و مستمر ، و هي تتجاوز اليوم في مجموعها مليار دولار ، سترتفع الى أكثر من عشرة أضعاف فيما لو تم تطبيق عملية التطبيع مع العدو وفق المبادرة "السعودية" الأخيرة .
لعل في هذه المؤشرات ما يستدعي المزيد من الوعي بالأزمة و تشخيصها من جهة ، للتأكد من علاقة الترابط بين العولمة و التبعية و التخلف من جهة أخرى ، وصولاً إلى صيغة البديل القومي الديمقراطي العربي كطريق وحيد للخلاص من كل هذه القيود التي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده .
لذلك فإن الدعوة إلى مقاومة عولمة الاستسلام تتطلب إدراكنا لذاتنا و هويتنا القومية بكل المعاني و الأبعاد الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية ، تمهيداً لتحديد ملامح مستقبلنا بعيداً عن الإلحاق و التبعية و التزاماً بقواعد الاعتماد العربي على الذات … عندئذ فقط يمكن إيجاد الآليات القادرة على مواجهة الآثار الضارة للعولمة و الخروج منها ، مدركين إن أحد أهم شروط التحدي العربي لهذه الظاهرة هو في امتلاك "تقنيات العصر و معلوماته وفق مفاهيم العقل و العلم و الحداثة" وفق رؤية أيديولوجية تقوم على الالتزام بالعدالة الاجتماعية وآفاقها الاشتراكية .
إذن ، فالمسألة الأساسية الأولى على جدول أعمال "البديل الديمقراطي ، داخل القطر الواحد أو على الصعيد القومي العام ، هي مسألة كسر نظام الإلحاق أو التبعية الراهن صوب الاستقلال الفعلي السياسي و الاقتصادي ، و التنمية المستقلة الهادفة إلى خلق علاقات إنتاج جديدة تقوم على مبدأ الاعتماد على الذات ، تنمية تهدف إلى رفع معدل إنتاجية العمل ، إذ أن هذا الشرط –كما يقول د.إسماعيل صبري عبد الله- هو "نقطة البداية ، فالمقياس الأشمل و الأكمل لأداء الاقتصاد القومي هو معدل ارتفاع إنتاجية العمل من سنة إلى أخرى ، على أن هذه الإنتاجية ترتبط بمفهوم الدافعية كمبدأ رئيس في عملية التنمية ، إذ أن المواطنين الأحرار الذين يعرفون أن بالإمكان مشاركتهم في صنع القرار والتوزيع العادل للدخل والثروة الوطنية ، يعرفون بأن ثمار جهودهم تعود عليهم و على أولادهم ، و أن أحداً لن يستطيع سلبهم حقوقهم" ، بهذا المضمون وحده يمكن أن نتعاطى مع مفهوم أو مصطلح التنمية ، بالمعنى الشمولي العميق ، وليس فقط استخدامه بالمعنى الاقتصادي الضيق فحسب "كما تنادي بذلك أوساط المنظمات غير الحكومية العربية الممولة من الأجنبي" وإنما بمعنى الاتجاه الى تصفية التبعية للإمبريالية ، فهنا تصبح التنمية قضية غير منفصلة عن قضية الاستقلال الوطني والقومي ، إذ أن الفصل بين القضيتين هو ما تسعى القوى الإمبريالية الى تثبيته وذلك بعزل عملية التحرر الوطني عن عملية التنمية ومبدأ الاعتماد على الذات والعدالة الاجتماعية ، لذلك فإن كل من يتحدث عن موضوع التنمية والتقدم في بلادنا العربية ارتباطا بالتعاون مع الغرب المتقدم أو وفق آليات السوق الحر الرأسمالي والليبرالية الجديدة وشروط منظمة التجارة الدولية ، فهو إما واهم أو مخادع يسعى الى تغليب مصالحه الطبقية الأنانية الضيقة على حساب المصالح الوطنية والقومية .
أما المسألة الثانية ، التي لا تنفصم عن الأولى ، بل ترتبط بها ارتباطاً جدلياً فهي تتلخص في إعادة تفعيل مشروع النهضة القومية الوحدوية العربية بأفقها التقدمي الديمقراطي ، كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي ، و نقلها من حالة السكون أو الجمود الراهنة الى حالة الحركة و الحياة و التجدد ، و هي مهمة لا تقبل التأجيل يتحمل تبعاتها –بشكل مباشر المثقف الديمقراطي التقدمي الملتزم في كل أقطار الوطن العرب ، انطلاقاً من أن الدولة القطرية العربية مهما امتلكت من مقومات ، فإنها ستظل عاجزة عن تلبية احتياجات مجتمعاتها ، و إن أية عملية تطوير سياسي أو تنموي داخل القطر الواحد ستدفع بالضرورة نحو استكشاف عمق الحاجة إلى التوجه نحو تواصل ذلك التطور عبر الإطار القومي الديمقراطي الموحد كمخرج وحيد من كل أزماتنا التي نعيشها اليوم و في المستقبل .
إن التحدي الذي تواجهه شعوب و بلدان الوطن العربي هو تحد حقيقي على جميع المستويات السياسية و الثقافية و الاجتماعية و غيرها ، لكنه قبل كل شيء تحدٍ اقتصادي في المقام الأول .
و هذا يتطلب وعي المثقف الديمقراطي العربي لأبعاد و تفاصيل الصورة الاقتصادية القطرية و القومية ، تمهيداً لإنضاج الفكرة التوحيدية السياسية-الاقتصادية القومية في مواجهة العولمة و سياساتها الهمجية من جهة ، و من أجل تعزيز مقومات البديل الديمقراطي العربي كخيار وحيد على طريق التحرر و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية من جهة أخرى .
3- المظهر الاجتماعي للأزمة :
إن الإشكالية الكبرى التي يتعرض لها مجتمعنا العربي في هذه المرحلة تكمن في الأحوال المأزومة بكل أبعادها ، ففي هذه الحقبة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة الى المرحلة الجديدة أو العولمة ، بتسارع غير مسبوق ، و بمتغيرات نوعية تحمل في طياتها ، في الحاضر و المستقبل تحديات غير اعتيادية ، لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بامتلاك أدواتها العلمية و المعرفية أولاً عبر أحكام سيطرة الحي على الميت ، "فالاستلاب الأيديولوجي بشكليه السلفي و الاغترابي هو أبرز الآليات الداخلية التي تعيد إنتاج التأخر ، و تعيد إنتاج الاستبداد ، و تحافظ على البنى و العلاقات و التشكيلات القديمة ما قبل القومية ، فالعلاقة بين المستوى الأيديولوجي السياسي ، و المستوى الاجتماعي الاقتصادي ، هي علاقة جدلية ، تحول كل منهما الى الآخر في الاتجاهين ، آخذين بالحسبان أيضاً أن المستوى السياسي محدد و محكوم بطابع الوعي الاجتماعي السائد" .
بهذا المدخل ، نبدأ في الحديث عن أزمة المجتمع العربي التي نرى أنها تعود في جوهرها إلى أن البلدان العربية عموماً لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً ، و لا تنتسب له جوهرياً ، و ذلك بسبب فقدانها ، بحكم تبعيتها البنيوية ، للبوصلة من جهة ، و للأدوات الحداثية ، الحضارية و المعرفية الداخلية التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي العربي و مساره و علاقته الجدلية بالحداثة و الحضارة العالمية أو الإنسانية .
فبالرغم من دخولنا القرن الحادي و العشرين ،إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة ، أو في زمان "ما قبل الرأسمالية" ،رغم تغلغل العلاقات الرأسمالية في بلادنا ، و الشواهد على ذلك كثيرة ، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير ، بمنطلقاتها العلمية و روحها النقدية التغييرية ، و إبداعها و استكشافها المتواصل في مناخ من الحرية و الديمقراطية ، ففي غياب هذه السمات يصعب إدراك الوجود المادي و الوجود الاجتماعي و الدور التاريخي الموضوعي للقومية أو الذات العربية في وحدة شعوبها ، ووحدة مسارها و مصيرها ، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي العربي ، و لعلنا نتفق أن السبب الرئيسي لهذه الإشكالية الكبرى ، لا يكمن في ضعف الوعي بأهمية التنوير العقلاني ، أو ضعف الإدراك الجماعي بالدور التاريخي للذات العربية ، فهذه و غيرها من أشكال الوعي ، هي انعكاس لواقع ملموس يحدد وجودها أو تبلورها ، كما يحدد قوة أو ضعف انتشارها في أوساط الجماهير ، و بالتالي فإن الواقع العربي الراهن ، بكل مفرداته و أجزاءه و مكوناته الاجتماعية و أنماطه التاريخية و الحديثة و المعاصرة ، هو المرجعية الأولى و الأساسية في تفسير مظاهر الضعف و التخلف السائدة بل و المتجددة في مجتمعاتنا ، إذ أن دراسة هذا الواقع ، الحي ، بمكوناته الاجتماعية و الاقتصادية تشير بوضوح إلى أن العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية السائدة اليوم في بلداننا العربية هي نتاج لأنماط اقتصادية /اجتماعية من رواسب قبلية و عشائرية و شبه إقطاعية ، و شبه رأسمالية ، تداخلت عضوياً و تشابكت بصورة غير طبيعية ، و أنتجت هذه الحالة الاجتماعية /الاقتصادية المعاصرة ، المشوهة .
و اليوم و نحن في مطلع الألفية الثالثة ، تتعرض مجتمعاتنا العربية ، من جديد ، لمرحلة انتقالية لم تتحدد أهدافها النهائية بعد ، رغم مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح و الفئات الرأسمالية العليا ، بكل أشكالها التقليدية و الحديثة ، التجارية و الصناعية و الزراعية ، و الكومبرادورية و البيروقراطية الطفيلية ، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي ، و تحول دون أي تحول ديمقراطي حقيقي في مساره ، عبر اندماجها الذيلي التابع للنظام الرأسمالي المعولم الجديد من جهة ، و تكريسها لمظاهر التبعية و التخلف و الاستبداد الأبوي على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى ، من خلال التكيف و التفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الانفتاح و الخصخصة خلال العقود الثلاثة الماضية ، و بين النمط القبلي /العائلي ، شبه الإقطاعي ، الريعي ، الذي ما زال سائداً برواسبه و أدواته الحاكمة أو رموزه الاجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث .
إن مخاطر هذا النمط المشوه من العلاقات الاقتصادية تنعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية العربية بما يعمق الأزمة الاجتماعية و اتساعها الأفقي و العامودي معاً ، خاصة مع استشراء تراكم الثروات غير المشروعة ، و أشكال "الثراء السريع" كنتيجة مباشرة لسياسات الانفتاح و الخصخصة ، و الهبوط بالثوابت السياسية و الاجتماعية الوطنية ، التي وفرت مقومات ازدهار اقتصاد المحاسيب و أهل الثقة ، القائم على الصفقات و الرشوة و العمولات بأنواعها ، حيث يتحول الفرد العادي الفقير إلى مليونير في زمن قياسي ، و هذه الظاهرة شكلت بدورها المدخل الرئيسي لتضخم ظاهرة الفساد بكل أنواعه في السياسة و الاقتصاد و الإدارة و العلاقات الاجتماعية الداخلية ، بحيث تصبح الوسائل غير المشروعة ، هي القاعدة في التعامل ضمن إطار أهل الثقة أو المحاسيب ، بعيداً عن أهل الكفاءة و الخبرة ، و دونما أي اعتبار هام للقانون العام و المصالح الوطنية .
و مما هو جدير بالحس بالمسؤولية ، أو بالتأمل –كحد أدنى- ليس الخطر الناجم عن هذه الظواهر فحسب ، بل أن تصبح هي القاعدة التي تحكم أو تحدد مسار و طبيعة العلاقات الاجتماعية و السياسية في مجتمعاتنا العربية ، حينئذ تصبح "مؤسسة" الفساد هي التي تملك السيطرة على دفة القيادة في هذا البلد أو ذاك ، و توجيهها وفق قواعد إدارة الأزمة بالأزمة ، و هنا ينتقل الحس بالمسؤولية إلى ضرورات التغيير الديمقراطي المطلوب في مواجهة هذا الوضع المأزوم الذي تفرضه طبيعة أزمة التحرر الوطني ، بحكم أنها تعبير عن أزمة هذا التطور المشوه الذي فرضته حالة التبعية البنيوية للإمبريالية .
و لكن الإشكالية الكبرى ، أنه في موازاة هذه الأحوال و المتغيرات الاقتصادية و الاجتماعية المحلية الداخلية المأزومة ، تراجعت قوى التغيير الديمقراطي في بلداننا ، إلى الخلف بصورة مريعة ، خاصة القوى القومية و اليسارية منها ، التي لم تستطع –حتى اللحظة- إدراك ضرورات التوحد الجدلي بين المفاهيم والمعطيات القومية والماركسية معا تمهيدا لوحدة العمل المنظم ، كطريق وحيد لمجابهة توحش العولمة الراهن من ناحية والتطبيق الخلاق لمبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات من ناحية أخرى ، وبالتالي فإن القوى اليسارية والقومية ستظل فاقدة للقدرة على بلورة أو إنتاج صيغة معرفية ، سياسية اقتصادية اجتماعية ، علمية وواقعية ، قادرة على رسم مستقبل المجتمع العربي و الخروج من أزمته ، لقد ترك هذا التراجع آثاره الضارة في أوساط الجماهير ووعيها العفوي ، الذي وجد في الحركات السياسية الدينية ملاذاً و ملجأ يكاد يكون وحيداً ، يدفعها الى ذلك نزوعها الى النضال ضد العدو الرئيسي إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية من جهة ، و النضال من أجل الخلاص من كل مظاهر المعاناة و الحرمان و الفقر و مواجهة الظلم الطبقي و الاستبداد السياسي الداخلي من جهة أخرى .
ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم ، زمن الحداثة و العولمة و ثورة العلم و المعلومات و الاتصال ، يشهد مجتمعنا العربي عودة الى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه ، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد ، فهو الى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية و الحمائلية و الطائفية ، و الأصولية و التعصب الديني ، يوصف اليوم بحق على أنه "مجتمع شديد التنوع في بنيته و انتماءاته الاجتماعية ، أبوي ، يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد ، مرحلي ، انتقالي ، تراثي ، تتجاذبه الحداثة و السلفية ، شخصاني في علاقاته الاجتماعية يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية و التكنولوجية ، و بالتالي مرحلة ما قبل الحداثة" .
أما على الصعيد الداخلي الاجتماعي ، فإن "الفجوات بين الطبقات الثرية والميسورة والمحرومة ، تزداد اتساعا وعمقا ، وفي ظل هذه البنية الطبقية الهرمية التي تحتكر فيها القلة السلطة وثروات البلاد ، وتشغل الطبقة الوسطى وسط الهرم ، وتتكون القاعدة من غالبية السكان (الجماهير الشعبية الفقيرة) ، يعاني الشعب حالة تبعية داخلية شبيهه بالتبعية الخارجية ومتممة لها ، فتمارس عليه وضده مختلف أنواع الاستغلال والهيمنة والقهر والإذلال اليومي" .
وفي ظل هذه الأوضاع أو السمات الاجتماعية "يعيش الإنسان في المجتمع العربي على هامش الوجود والأحداث لا في الصميم ، مستباحا معرضا لمختلف المخاطر والاعتداءات ، قلقا حذرا باستمرار من احتمالات السقوط والفشل والمخاطر ، تحتل السلع والمقتنيات والاهتمامات السطحية روحه وفكره ، يفكر ، إنما ليس بقضاياه الأساسية أو العامة ، ينفعل بالواقع والتاريخ أكثر مما يعمل على تغييرهما ، إنه إنسان مغَّرب ومغترب عن ذاته ، ولأن إمكانات المشاركة نادرة وضيقة ، لا يجد من مخرج سوى بالخضوع أو الامتثال القسري أو الهرب" .
هذا التعميم في وصف حياة الإنسان العربي ، والقريب من الواقع الى درجة كبيرة ، تكمن قيمته في تحفيز القوى القومية التقدمية العربية لدراسة واقعها الاجتماعي ومسار تطوره الاجتماعي وخصوصياته التي اختلفت من حيث النشوء التاريخي للشرائح والفئات الرأسمالية بين هذا القطر أو ذاك ، ولكن هذا الاختلاف في ظروف النشأة لهذه الشرائح ومنابعها وجذورها ، لم يعد قائما في لحظة معينة من التطور المعاصر للبلدان العربية ، الذي بات متشابها الى حد كبير في كافة هذه البلدان .
إن تناولنا للأزمات السياسية ، الاقتصادية ، الاجتماعية في بلدان وطننا العربي هو في واقع الأمر تناول للأزمة العامة التي تستفحل وتتشابك مظاهرها السياسية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية ، وهي أزمة لا تقتصر على هذا القطر العربي أو ذاك ، وإنما تنتشر بكل مفاعيلها على مساحة هذا الوطن كله ، خاصة مع استفحال الهيمنة الأمريكية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا في بلادنا بصورة غير مسبوقة من قبل ، إلى جانب تعقد أشكال الصراع السياسي والاجتماعي الداخلي المعبرة عن نفسها بأدوات وآليات وصور مشوهة من التفكك المجتمعي والصراعات الدينية والطائفية والإقليمية ، وكلها تعزز عوامل الإحباط أو الميل نحو الاستسلام كمؤشر صاعد في أوساط جماهيرنا العربية في اللحظة الراهنة ، يتبدى ذلك بوضوح في ظاهرة الضعف الملحوظ لالتفاف الجماهير حول الأفكار التوحيدية الوطنية والقومية والتقدمية ، وهي ظاهرة مؤقتة أو مرحلة انتقالية وليست حتمية ، إلا أنها قد تحمل في طياتها مزيدا من أشكال الردة والتراجع إذا لم يتحمل المثقف الطليعي العربي الملتزم دوره ومسئوليته –كما أشرنا من قبل- في صياغة رؤية مستقبلية –قومية وإنسانية- ترتبط بصورة مباشرة بالأطر الحركية المنظمة الفعالة للخروج من المأزق الراهن وتجاوز هذا الواقع المأزوم والمهزوم في آن ، آخذين بعين الاعتبار أن العلاقات الدولية في هذه المرحلة ، التي دخلت فيها الرأسمالية طورها الإمبريالي المعولم ، لا تعني أن الرأسمالية قد تغلبت على تناقضاتها ، ولا يعني أن الكامن ، ونقصد بذلك أطر ودوائر الحركة المنظمة الطليعية لفقراء العالم وكادحيه ، قد مات ، فبالرغم من أن الرأسمالية قد أفلحت في تأجيل الانفجار عبر توسيع مجال التناقضات باسم العولمة ، إلا أنه تأجيل سيؤدي بالضرورة الى تزايد معاناة وإفقار شعوب العالم وأممه المسحوقة ، ولذلك فمن الطبيعي ، والضروري بصورة حتمية ، أن تسعى هذه الأغلبية المتضررة من هذا النظام الشرير –بصورة منظمة وعفوية- ، الى تقويض أركانه من أجل بناء نظام لا تحكمه هذه التناقضات ، بشرط امتلاك وضوح وتماسك الرؤية الأيديولوجية النقيضة للعولمة الرأسمالية ، إلى جانب امتلاك مقومات العلم والحداثة والمعرفة المعاصرة ، والتكنولوجيا التي أصبحت –قوة أساسية من قوى الإنتاج في هذه المرحلة ، عبر استنهاض مشاريعها القومية والإقليمية المناهضة لشكل وجوهر وأهداف العولمة الراهنة ، تمهيدا لصياغة المشروع الإنساني التقدمي البديل ، وتفعيل حركته ، خاصة في بلدان العالم الثالث ، من أجل إخضاع مقتضيات العولمة لاحتياجات شعوب هذه البلدان وتقدمها الاجتماعي ، ومن أجل المساهمة في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري ، لقد حانت اللحظة الضرورية للعمل الجاد والمنظم في سبيل تأسيس عولمة نقيضة من نوع آخر ، عبر أممية جديدة ، ثورية وعصرية وإنسانية ، تشكل التحالفات القومية المعبرة عن مصالح الجماهير الكادحة في البلدان المهمشة والفقيرة محورا وعنصرا أساسيا فيها .