منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By وليد ناجي 5
#52299
في أعقاب الحرب العالمية الثانية تزايد الاهتمام بدراسة أوضاع الدول حديثة الاستقلال، حيث كانت تعيش في حالة من " التخلف ". واعتبر علماء الاجتماع والسياسة الغربيين أن المجتمع الصناعي في الدول الغربية المتقدمة يشكل نموذجا مثاليا على البلدان النامية أن تسير على خطاه في التنمية والتحديث. وتم النظر إلى عملية التحديث على أنها عملية انتقال نحو الأنماط والنظم الاجتماعية والسياسية التي تطورت في أمريكا وأوروبا الغربية، ثم انتقلت إلى بقية القارات ([6] ). حيث أن عملية التحديث تطال في تأثيرها مختلف جوانب المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والتحديث في علم اجتماع التنمية يعني حسب اغلب المنظرين لهذا العلم " نقل للنموذج الغربي وذلك من خلال تصور وجود ثنائية: التقليدي – الحديث "، واعتبار الديمقراطية بمفهومها الواسع، خاصية رئيسية للمجتمع الحديث في المجال السياسي ([7] ).
وفي المجال السياسي أيضا هناك من يرى أن عملية التحديث السياسي هي التحولات والتغييرات السياسية التي حدثت في أوروبا وبقية أنحاء العالم منذ النهضة الأوروبية. وهذه التغييرات يشار لها كخصائص لعملية التحديث السياسي، وتشمل: تحقيق مزيد من المساواة وإعطاء فرص للمشاركة في صنع السياسة، وقدرة النظام السياسي على صياغة وتنفيذ السياسات، والتنوع والتخصص في الوظائف السياسية، وعلمانية العملية السياسية وفصلها عن
التأثيرات الدينية ([8] ).
انبثقت نظرية التحديث بشكل أساسي من نظرية التطور، التي تهتم بتفسير كيفية تحول المجتمعات غير الصناعية إلى مجتمعات صناعية، وتحدد خصائص كل من الحالتين وتؤكد على أن التحديث يتم في اتجاه واحد ويسير من غير الصناعي إلى الصناعي ([9] ). حيث اهتمت نظرية التطور التي ظهرت في الدول الغربية المتقدمة بدراسة المجتمع وعوامل تغيره وتطوره. وهي تمثل أيضا المرجع الرئيسي لنظريات التنمية السياسية التي استخدمت مفاهيمها ومناهجها وأهدافها، حيث ترى هذه النظرية أن التطور والنمو الاجتماعي يسير في خط صاعد واحد بمراحل متتالية، يجب أن يمر بها كل مجتمع ([10] ). وقد ساد في كتابات التنمية السياسية استخدام المدخل الثنائي، الذي تأسس بناءا على أعمال منظري نظرية التطور في القرن التاسع عشر، حيث يتم مقارنة المتغيرات الخاصة بالنمط المثالي المرتبط بالتقليدية / الحداثة. واعتمد علم السياسة على هذه الأنماط الثنائية كما يقول "جبراييل ألموند" عالم السياسة الأمريكي: إن نظريتنا تؤسس عملية بناء النظرية والتنميط بشكل ثنائي بسيط عبر الاستفادة من أعمال "ماكس فيبر"، و "فرديناند توليز"، و "تالكوت بارسونز" .. وغيرهم من علماء الاجتماع المجددين .. في محاولة لبناء نماذج لأشكال المجتمعات والنظم التقليدية والحديثة ([11] ).
والتقسيم الثنائي للمجتمعات ( تقليدي / حديث ) يتأسس على تصور "فيبر" للمجتمع التقليدي بوصفه مجتمع " ما قبل الصناعة " أو " ما قبل العقلانية " أو " مجتمع ما قبل الدولة "([12]). حيث صاغ "فيبر" نموذجه المثالي للمجتمع الحديث استنادا إلى العقيدة البروتستانتية التي يعتبر أنها أدت إلى تطور الرأسمالية الصناعية الغربية، لأنها عقيدة تحث على التحرر، وبالتالي فان قيمها ومعتقداتها المثالية هي أساس ظهور المجتمع الرأسمالي الحديث([13]).
وقدم "تالكوت بارسونز" عالم الاجتماع الأمريكي، ما يعرف ب " متغيرات النمط " كوسيلة تحليل من خلالها يتم تمييز الأفعال الناتجة عن هذه المتغيرات، ومقارنة أنماط مختلفة من المجتمعات بناءا على أنماط مختلفة من الأفعال، وصنف المجتمعات ومدى انتقالها من التخلف إلى التقدم بناءا على تلك المتغيرات. حيث أن قدرة المجتمع على التكيف معها تمكنه تدريجيا من التخلص من خصائص المجتمع المتخلف وتبني مستويات ثقافية مستندة على خصائص المجتمع المتقدم. وخصائص المجتمع المتقدم مقابل خصائص المجتمع المتخلف تتمثل في خمسة؛ العمومية مقابل الخصوصية؛ الأداء ( الانجاز) مقابل العزو ( النسبة )؛ التخصص مقابل الانتشار؛ المصلحة الجماعية مقابل المصلحة الذاتية؛ والحياد الوجداني مقابل الوجدانية. وهذه المتغيرات عند "بارسونز" تمثل مؤشرات تترجم الخصائص البنائية للنظام الاجتماعي من زاوية الدور المتوقع للفرد الفاعل، وتصبح المتغيرات هذه محددات للسلوك الاجتماعي، أو هي انعكاس للخصائص البنائية للمجتمع، وفي علاقات الأدوار في المجتمع ([14] ).
شهدت نظرية التحديث والجانب المتعلق بقضايا التنمية السياسية، تطورات وتغيرات في مناهج ومداخل التحليل في الدراسات التنموية والعلوم السياسية. ويصنف "روبرت باكنهام" تطور علم السياسة إلى ثلاث مراحل، حسب جوانب التركيز والتحليل، وهي؛ علم السياسة القانوني الشكلي؛ وعلم السياسة السلوكي؛ وعلم السياسة في مرحلة ما بعد السلوكية ([15] ). واستنادا إلى هذا
التقسيم لعلم السياسة، يعتبر ريتشارد هيجوت أن التراث السياسي المهتم بالتنمية السياسية، والذي ظهر خاصة في أمريكا الشمالية، قد شهد ثلاث مراحل:
أ‌- المرحلة الأولى: امتدت من عام 1954 إلى عام 1964، حيث هيمنت عليها أعمال لجنة السياسة المقارنة التابعة للمجلس الأمريكي للعلوم الاجتماعية، والتي عكست نظرة متفائلة بالنجاحات التي حققتها الديمقراطية الليبرالية الغربية، وخاصة تأثير أيديولوجيا الليبرالية الأمريكية. وركزت دراسات التنمية السياسية في تلك المرحلة على المتغيرات القانونية والمؤسسية، حيث أن تطور نظرية التحديث في المرحلة الأولى، اعتبر وسيلة من وسائل تسهيل إرساء الديمقراطية الليبرالية داخل الدول الجديدة ([16] ). وقد ركزت مرحلة النزعة القانونية على أهمية دور الدولة والمؤسسات، حيث اقتصر على دراسة الجانب الرسمي والمؤسسات الرسمية الموجودة في أوروبا، وتحليل البناء القانوني للدول، والمحددات القانونية لمؤسساتها ([17] ).
ب‌- المرحلة الثانية: من عام 1965 إلى عام 1971، وهي المرحلة التي سادت فيها المدرسة السلوكية، والتي ركزت على النظام ومدخلاته وبيئته المحيطة والعوامل المؤثره على نشاطه وقدراته. حيث تراجع التفاؤل الذي ساد في المرحلة الأولى حول عملية التنمية، وفشلت الدول حديثة الاستقلال في تحقيق التحديث والتنمية الموعودة، وتبث عدم صحة الطرح القائل بأن الانتقال من التقليدية إلى الحداثة هي مسألة تقنية. فتم نقد التصور الخطي الصاعد لعملية التحديث، ونظر هنتنجتون إلى التنمية السياسية بوصفها عملية نمو في كفاءة المؤسسات، بحيث تصبح قادرة على التجاوب مع مسائل المشاركة السياسية والتعبئة الاجتماعية. حيث يرادف هنتنجتون بين التنمية السياسية والتحديث، ويربط بين التنمية السياسية وقدرات النظام المؤسسية لتتماشى مع عملية التنمية والتحديث. واعتبر أن التنمية السياسية تمر بعدة مراحل هي مرحلة ترشيد السلطة، ومرحلة التمايز والتخصص الوظيفي ومرحلة المشاركة السياسية. ومثلت تلك النظرة حسب هيجوت، بداية التحول من التركيز على الديمقراطية إلى التركيز على النظام السياسي في دراسات التنمية السياسية. وانعكاسا لازمة التنمية في الدول حديثة الاستقلال وعدم قدرتها على تحقيق التنمية المتوقعة، فقد اعتبرت دراسات التنمية في هذه المرحلة أن عملية التحديث والانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث ينتج عنها مشكلات متعددة، أو أزمات تنموية يحاجه إلى التغلب عليها. وتم النظر إلى التنمية السياسية بوصفها تجسد قدرة النظام السياسي على التعامل أو التكيف مع مشكلات التنمية السياسية مثل: مشكلة الشرعية، ومشكلة الهوية، ومشكلة المشاركة، ومشكلة التغلغل، ومشكلة التوزيع. ويرى هيجوت أن الاهتمام بقدرات النظام السياسي يشكل نوعا من الدفاع عن النظام والنخب الحاكمة وأهميتها في الحفاظ على النظام واستمراريته، حيث أصبح النظام واستقراره غاية وليس وسيلة للوصول إلى مجتمع حديث ([18] ).
ت‌- المرحلة الثالثة: بدأت بعد عام 1971 ويطلق عليها مرحلة " ما بعد السلوكية " والتي جاءت كنوع من الاستجابة للنقد الموجه إلى نظرية التحديث بشكل عام ، ونظرية التنمية السياسية بشكل خاص، بسبب الطابع الإيديولوجي المنطلق من الرؤية الغربية الرأسمالية، ومداخلها القائمة على التصنيف الوظيفي وعدم قدرتها على معالجة مشكلات التنمية في دول العالم الثالث، إضافة إلى فشل علم السياسة في بلورة نظرية قادرة على التعامل بصورة فعالة مع هذه المشكلات ([19] ). وجرى استخدام نماذج للدراسة تعتبر خليط من التحليل السياسي ذات الطابع الرشيد والسياسة العامة، نتيجة استخدام متزايد للمفاهيم الاقتصادية من جانب علماء السياسة، حيث أدركوا حاجتهم إلى التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، كمحاولة لتجنب أوجه القصور في النظرية الليبرالية والنظرية السلوكية ([20] ). ويرى هيجوت أن مدخل تحليل السياسات شكل تحولا من التركيز على مدخلات النظام خلال فترة الستينيات إلى التركيز على مخرجات النظام، وبدلا من التركيز على السياسات الكلية انتقل التركيز إلى التحليل السياسي الجزئي ذي الطابع التجريبي. وتم النظر إلى السياسة العامة في سياق حل المشكلات والاختيار العام، على عكس المدخل الذي ينظر للمشكلات بوصفها نتاجا لنظام سياسي معين. كما يرى ان المداخل المختلفة المستخدمة من علماء السياسة هي استجابة للفرضيات المنهجية لنظرية التحديث. حيث أن المشكلات التي واجهت الدارسين في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات متشابهة، لذا ينظر إلى مداخل السياسة العامة وتحليل السياسات على أنها عمليا طريقة أخرى من طرق التركيز على العلاقة بين الدولة والمجتمع والسياسة ([21] ). ويعتبر هيجوت أن هناك نوعا من الاستمرارية بين منهجية تحليل السياسات ونظرية التحديث، حيث أن هذا التحليل لا زال يسعى للبرهنة على النماذج النظرية بناءا على العوامل التاريخية والثقافية بدلا من استخدام البيانات المتاحة لبناء النظريات والنماذج. لذا لم يستطع علم السياسة المعني بالتنمية السياسية الخروج من معطف نظرية التحديث وتبنى الاتجاهات المنهجية الأساسية التي سادت المرحلة السلوكية ([22] ).
1.1.1 التنمية السياسية في نظرية التحديث:
تم معالجة ودراسة التنمية السياسية من الدارسين الغربيين في بدايات الاهتمام بالموضوع على أنها عملية تقل للنموذج الغربي في بناء المؤسسات والأبنية السياسية، والتخلص من الأبنية والقيم التقليدية التي تعيق تطور المجتمع بشكل عام. وكانت النظرة إلى التنمية التي حدثت في الغرب، على أنها عملية ذات صفة عالمية يصلح تطبيقها أو نقلها إلى كل دول العالم الثالث. وكان التركيز والاهتمام في دراسات التنمية السياسية الأولى منصب أكثر على التعرف على الخصائص التي تميز المجتمعات المتقدمة وتطورها عن الخصائص التي تميز المجتمعات المتخلفة. كما جرى التركيز على المراحل التي تمر بها المجتمعات نحو التطور، والقوى والعوامل التي تعجل من عملية التنمية ( [23] ). كما اعتبرت عملية التنمية والتحديث بأنها تمر بمراحل متعاقبة باتجاه واحد صاعد، وأن كل المجتمعات البشرية لا بد أن تسير في هذا الاتجاه الذي مرت به الدول الغربية.
بناءا على ذلك تم تعريف التنمية السياسية في هذا الاتجاه من علماء السياسة، كل من زاوية رؤيته والمنهج المستخدم في دراسة عملية التنمية السياسية. وقد تعددت المناهج وأساليب دراسة التنمية السياسية وطرق تحقيقها والوصول إليها، بحيث أن هناك عدد كبير من الاقترابات والتعريفات التي جعلت من مفهوم التنمية السياسية مفهوما فضفاضا يحمل معاني ودلالات متنوعة. ويرى ديفيد باكنهام أن هناك خمسة اقترابات لدراسة التنمية السياسية ([24] ):
أ‌- الاقتراب القانوني: الذي يرى التنمية من زاوية القانون والدستور وما يتضمنه من تحديد لنظام الحكم والسلطات وتنظيمها والحقوق وغيرها.
ب‌- الاقتراب الاقتصادي: ويعالج التنمية السياسية على أنها احد جوانب التنمية الاقتصادية التي تلبي حاجات المجتمع التنموية.
ت‌- الاقتراب الإداري: يعتبر التنمية السياسية دالة في قدرات النظام الإدارية وكفاءة وفعالية أداء الوظائف المختلفة.
ث‌- اقتراب النظام الاجتماعي: يعالج التنمية السياسية كجانب من جوانب النظام الاجتماعي المتطور الذي يسهل المشاركة ويوحد الأمة.
ج‌- اقتراب الثقافة السياسية: يرى أن التنمية السياسية هي دالة في الثقافة السياسية الحديثة التي تقدر القيم الديمقراطية وتحترمها.
لوسيان باي صنف مناهج دراسة التنمية السياسية في عشرة ([25] ):
أ‌- التنمية السياسية كمتطلب للتنمية الاقتصادية: حيث أن التنمية السياسية هي حالة النظام الذي ينجح في تحقيق التنمية الاقتصادية.
ب‌- التنمية السياسية كنمط لسياسة المجتمعات الصناعية: فالمجتمعات الصناعية طورت نموذجا للحياة السياسية يعتبر مثالا للمجتمعات الأخرى.
ت‌-التنمية السياسية كتحديث سياسي: أي نقل النموذج الغربي في الحياة السياسية.
ث‌- التنمية السياسية كبناء للدولة القومية.
ج‌- التنمية السياسية كتنمية إدارية وقانونية: حيث يؤكد على الترابط بين التنمية السياسية والتنظيم الإداري والقانوني.
ح‌- التنمية السياسية كتعبئة ومشاركة جماهيريتين.
خ‌- التنمية السياسية كبناء للديمقراطية: أي هي نتاج إقامة المؤسسات الديمقراطية.
د‌- التنمية السياسية كاستقرار وتغير منتظم: أي إن التنمية السياسية تتحقق عندما يستطيع النظام السياسي ضمان الاستقرار وضبط التغيير وتنظيمه والحفاظ على التوازن بحيث لا يؤثر على الاستقرار.
ذ‌- التنمية السياسية كتعبئة وقوة: من حيث قدرة النظام وقوته في تعبئة وتخصيص الموارد.
ر‌- التنمية السياسية كجانب من الجوانب المتعددة للتغيير الاجتماعي: أي إن التنمية السياسية ترتبط بمجالات التغير الاجتماعي الأخرى وتتأثر وتؤثر بها وليست مستقلة عنها.
وقد خرج لوسيان باي من هذه المداخل بخلاصة ترى أن التنمية السياسية هي " جانب من عملية التغيير الاجتماعي المتعددة الجوانب ". وتقوم على ثلاثة مقومات رئيسية هي:
أولا: المساواة: مساواة أمام القوانين، ومساواة في الفرص وإمكانيات المشاركة في صنع القرار.
ثانيا: القدرة: وهي قدرة النظام وأبنيته المختلفة بالقيام بمهامها، وقدرتها على تحويل المدخلات إلى مخرجات تلبي حاجات المجتمع.
ثالثا: التميز والتخصص: أي قيام كل بنية في النظام بوظائف محددة ومتخصصة، مع تفاعلها وتعاونها مع بعضها البعض.
جبراييل الموند يعرف التنمية السياسية على أنها " التمايز والتخصص المتزايد للأبنية السياسية، والعلمنة المتزايدة للثقافة السياسية" ([26] ). وعملية التمايز أو التخصص هنا مرتبطة بالوظائف التي تقوم بها الأبنية السياسية، والعمليات والتفاعلات داخل الأنظمة الفرعية للنظام السياسي .حيث أن التمايز والتخصص، يعني تنوع الأدوار وإيجاد أبنية بوظائف وادوار محددة. والعلمانية تشير إلى الرشادة والواقعية في السلوك، وطرح الأساليب التقليدية جانبا مع إتباع الأسس العلمية في اتخاذ القرار. ويرى الموند في مسألة أسلوب الأداء أن النظم التقليدية والحديثة يتم التمييز بينها على أساس طريقة أداء الوظائف السياسية المختلفة. حيث يتميز الأسلوب الحديث بالتحديد والعمومية مقابل الانتشار والخصوصية للتقليدي ([27] ). وهذه الخصائص هي التي تميز تطور الأنظمة السياسية الغربية، التي تعتبر نموذجا للتطور والتنمية لبقية البلدان.
يعتبر الدور السياسي والبنية عند الموند احد أهم وحدات تحليل الأنظمة السياسية، حيث أن الأدوار السياسية مرتبطة يبعضها على شكل أبنية متمايزة ومتفاعلة، وذلك يتيح التركيز على السلوك الفعلي للاعبي الأدوار والمشتركين في السياسة. والتمايز يعني عمليات تبدل الأدوار وتطورها للاستقلال والتخصص المتزايد، حيث ينبثق عنها أدوار جديدة، وأبنية جديدة، والى تغير أنماط التفاعل والعلاقات بين الأدوار أو بين الأبنية. حيث أن السلوك هذا ذا قابلية للملاحظة والدراسة، رغم أن السلوك يتأثر بالقواعد والمعايير، لكن هذه لا تصنعه بشكل كامل. ويمثل الدور والبنية المرتبط بها وحدة من وحدات النظام السياسي، أو نظام فرعي يتكون من أدوار متفاعلة كبنية، والنظام السياسي كمجموعة من النظم الفرعية ( [28] ).
صامويل هنتنجتون يرى أن الحداثة السياسية أو التنمية السياسية تتحقق عندما تتوفر ثلاثة عوامل: الأولى: ترشيد السلطة، أي أن يتم ممارستها واستلامها وتداولها على أساس قانون أو دستور محدد. والثانية: تمايز وتنوع الوظائف السياسية وإيجاد أبنية متخصصة لها. والثالثة: زيادة المشاركة السياسية من قبل المواطنين، ومن خلال قنوات وآليات للمشاركة ( [29] ).
ايزنستادت رأى أن التنمية السياسية تقوم على التالي: أولا: تنمية أبنية سياسية عالية التخصص والتنوع. ثانيا: التوسع المستمر في أنشطة الحكومة المركزية. ثالثا: إضعاف الصفوات التقليدية ([30] ).
نرى من التعريفات السابقة للتنمية السياسية ارتباطها بالمنظور أو التنميط الثنائي الذي يسوق خصائص ومواصفات للمجتمعات الحديثة والمجتمعات التقليدية، واعتماده على الأنماط المثالية للحداثة كما يراها منظري نظرية التحديث. وهذه النظرة تعتبر بلدان العالم الثالث بأنها مجتمعات تقليدية تفتقر للمؤسسات والأبنية المتطورة القادرة على أداء وظائف وادوار بطرق رشيدة وعقلانية، وبعدم كفاءة وفاعلية البنى والمؤسسات الموجودة لديها التي تعتبر متخلفة وتقليدية لا تتلاءم مع متطلبات وشروط الحداثة.
لم تستطع هذه النظريات أن تحقق ما كانت تدعوا له من عملية تحديث، وتعثرت عملية التنمية وانتقال الدول حديثة الاستقلال من النمط " التقليدي " إلى النمط " الحديث ". وقد اتجه علماء السياسة على ضوء ذلك إلى دراسة مشاكل أو أزمات التنمية والتحديث. ورأى البعض منهم أن عمليات التحديث التي تجري في المجتمعات لا تسير بصورة سلسلة وخطية ومتصاعدة كما تم تصويرها من قبل. بل إن تلك العملية يرافقها أو ينتج عنها مشاكل متنوعة، وأزمات بحاجة إلى حل ومعالجة. وقد حددت تلك الأزمات بشكل ومدى مختلف لدى منظري التنمية، كما تم تناولها من زوايا متعددة لدى كل منهم.
ويعتبر لوسيان باي أن التنمية السياسية لا تسير بشكل خطي صاعد، ولا تسير بمراحل ومسارات محددة سلفا، بل قد يحكمها عدد من المشكلات المتزامنة والمنفصلة ([31] ). وبناءا على ذلك أصبحت التنمية السياسية عند جزء مهم من منظريها وكأنها تتحقق عندما ينجح النظام السياسي في معالجة مشكلات أو أزمات التنمية، ويتغلب عليها من خلال رفع فعالية وكفاءة النظام وزيادة قدراته المختلفة ([32] ).
وتنظر المدرسة البنائية الوظيفية للنظام السياسي على انه نظام فرعي ضمن النظام الكلي للمجتمع، يعتمد في أداءه وعمله بصورة كبيرة على تفاعله مع النظم الفرعية الأخرى، حيث تقوم كل منها بوظيفة معينة. وحسب الموند هناك ثلاثة وظائف للنظام السياسي هي: وظائف التحويل وتشمل ( التعبير عن المصالح، تجميع المصالح، الاتصال السياسي، التشريع أو صنع القاعدة، والإدارة أو تطبيق القاعدة، والقضاء أو التقاضي بموجب القاعدة ). ثم وظيفة التكيف التي تتضمن التنشئة والتجنيد السياسي بهدف الحفاظ على النظام والتكيف مع ضغوط التغيير. ثم قدرات النظام التي تشمل القدرة الاستخراجية والتنظيمية والتوزيعية والرمزية والاستجابية ([33] ). وتشير التفاعلات داخل النظام السياسي، وبينه وبين بيئته المحلية والخارجية إلى ما يسمى بالمدخلات التي تأتي النظام والمخرجات التي ينتجها، حسب المدرسة البنائية الوظيفية. وتتشكل المدخلات من الموارد والمطالب والمساندة، والمخرجات هي عمليات صنع القاعدة وتنفيذ القاعدة والتقاضي بموجب القاعدة ([34] ). والمخرجات هي عبارة عن العمليات التي يتم من خلالها صياغة القواعد والإجراءات واتخاذ القرارات وصنع السياسات المختلفة سواء استجابة لمطالب وضغوط معينة أو بدونها.
لذا يصبح من المهم تطوير قدرات النظام على تلبية المطالب المختلفة وتوفير الموارد وإدارتها، أو بمعنى آخر القيام بعمليات التحويل، التي تحتاج إلى قدرات تنظيمية واستخراجية وتوزيعية ..الخ. ولامتلاك هذه القدرات حسب الموند، يحتاج النظام إلى تنمية أبنية متخصصة تؤدي وتقوم بوظائف التحويل، أي يحتاج إلى التمايز المتزايد والتخصص المتزايد، ويحتاج إلى قدرات عالية في التنظيم والاستخراج قبل أن يبدأ في توزيع وتخصيص الموارد. بمعنى آخر إن تطوير القدرات ناتج عن عملية التمايز والتخصص التي يعتبرها الموند الركن الرئيسي في التنمية السياسية. لكن الدول النامية حسب الموند لا تمتلك قدرات فعلية في هذه الجوانب، لان القدرات تحتاج إلى تمايز بنيوي وعلمانية ثقافية وموارد ومهارات المجتمع الحديث. لذا فهي تواجه صعوبات في الاستجابة للضغوط المتصاعدة ( المطالب )، مما يؤدي إلى أن العديد منها يواجه مشاكل عدم الاستقرار ([35] ). فالنظام السياسي حسب ديامنت يخضع لتحول في بنيته ووظائفه في عملية التحديث، والتنمية السياسية في شكلها الأكثر عمومية هي العملية التي يكتسب فيها النظام السياسي قدرة متزايدة على المتابعة الناجحة والمستمرة لأنواع جديدة من الأهداف والمطالب، وعلى خلق أبنية جديدة للمنظمات. ولكي تستمر هذه العملية لابد من وجود نظام سياسي مركز ومتميز الأبنية، ولا بد أن يكون قادرا على فرض الموارد والقوة على مجالات واسعة وأقاليم واسعة من المجتمع ([36] ).
لكن الأزمة تنشأ نتيجة عدم تطور النظام وبنيته وعدم قدرتها على تلبية المطالب واستيعاب المدخلات تلك ومعالجتها، وعدم قدرته على الاستجابة لحاجات ومتطلبات النظم الاجتماعية الأخرى، اقتصادية وثقافية واجتماعية وغيرها. وقد صنفت الأزمات من منظري التنمية السياسية بطرق مختلفة.
يرى الموند أن أزمات أو مشاكل التنمية تتمثل في أربعة هي ([37] ):
أ‌- مشكلة بناء الدولة: وهي تتعلق بعدم قدرة السلطة المركزية على التوحيد والسيطرة وإخضاع كافة فئات المجتمع لسلطتها.
ب‌- مشكلة بناء الأمة: وترتبط بالهوية وولاء الجماعة، حيث أن هناك ولاءات محلية أقوى من الولاء للأمة.
ت‌- مشكلة المشاركة: عدم وجود فرص للمشاركة وغياب آليات لمشاركة المواطنين في عمليات صنع القرارات في النظام السياسي.
ث‌- مشكلة التوزيع: عدم توزيع القيم والسلع والخدمات بصورة عادلة وكافية من النظام السياسي إلى المواطنين.
أما لوسيان باي فقد اعتبر أن هناك ستة أزمات للتنمية تتمثل في ([38] ):
أ‌- أزمة الهوية: وهي مشكلة الولاء والانتماء إلى جماعات محدودة مثل الولاء العشائري مقابل الولاء للمجتمع القومي.
ب‌- أزمة الشرعية: وتتعلق بدرجة قبول ورضا الناس عن النخب الحاكمة وسياساتها.
ت‌- أزمة التغلغل: وهي مدى سيطرة النظام وامتداد سيطرته وسلطاته إلى كافة أطراف المجتمع، وقدرته على التأثير الفعال في مختلف أرجاء الإقليم.
ث‌- أزمة المشاركة: وتشير إلى مدى مشاركة المواطنين في الحياة السياسية وفي صنع القرار.
ج‌- أزمة الاندماج: وتتعلق بمدى تنظيم النظام السياسي ككل ، كنظام علاقات متفاعلة. وتشير إلى علاقة شاغلي الأدوار بوكالات الحكومة وعلاقة الجماعات ببعضها، وقدرة الأجهزة الإدارية والسياسية على أداء الوظائف المنوطة بها.
ح‌- أزمة التوزيع: وتشير إلى توزيع الموارد والقيم المادية والمنافع، لتلبية احتياجات ومطالب المواطنين والمجتمع.
ويؤكد دكتور أحمد وهبان في مؤلفه " التخلف السياسي وغايات التنمية السياسية " ما طرحه لوسيان باي، لكنه يرى أن هناك أزمتان إضافيتان لما جاء به هما: أزمة الاستقرار، التي تشير إلى وجود مشاكل تعاني منها مجتمعات العالم الثالث، بسبب التنوع العرقي، أو غياب أيديولوجيا واحدة وقيم وأهداف متفق عليها. وأزمة تنظيم السلطة، التي تتعلق بعدم خضوع الوصول إلى السلطة وممارستها وتداولها لنظام قانوني ( دستور ) يلزم الحكام، حيث أن السلطة في دول العالم الثالث هي سلطة مشخصنة ([39] ).
ويعتبر وهبان أن التنمية السياسية هي " عملية سياسية متعددة الغايات تستهدف ترسيخ فكرة المواطنة، وتحقيق التكامل والاستقرار داخل ربوع المجتمع، وزيادة معدلات مشاركة الجماهير في الحياة السياسية، وتدعيم قدرة الحكومة المركزية على إعمال قوانينها وسياساتها على سائر إقليم الدولة، ورفع كفاءة هذه الحكومة فيما يتصل بتوزيع القيم والموارد الاقتصادية المتاحة، فضلا عن إضفاء الشرعية على السلطة بحيث تستند إلى أساس قانوني حق فيما يتصل باعتلائها وممارستها وتداولها، مع مراعاة الفصل بين الوظيفتين التشريعية والتنفيذية، بحيث تقوم على كل منهما هيئة مستقلة عن الأخرى، فضلا عن إتاحة الوسائل الكفيلة بتحقيق الرقابة المتبادلة بين الهيئتين " ([40] ).
وهذا التعريف مبني على موضوعة الأزمات المذكورة، والرؤية التي ترى أن التنمية السياسية تكون بحل تلك الأزمات والتغلب عليها. حيث أن الأزمة هي نتاج تغييرات وأحداث على صعيد النظام السياسي نفسه أو في تفاعله مع النظم الفرعية الأخرى في المجتمع والتي تشكل بيئته الداخلية، أو من بيئته الخارجية. وهذا يتوقف على طبيعة المطالب، وتوفر الموارد. فإذا زاد ضغط المطالب وكان هناك عجز في الموارد، تنشأ الأزمة. وحدة الأزمة واتساعها يتوقف بصورة كبيرة على أداء النظام وقدرته على الموازنة بين المطالب والموارد، وقدرته على إنتاج مخرجات قادرة على الاستجابة والتوزيع ([41] ). ويرى ريتشارد هيجوت أن القدرة على حل الأزمة هنا تتعلق بالنخب الحاكمة خاصة، وليس بالتنمية وتحديث المجتمع. حيث أن دراسة ومعالجة هذه الأزمات تم من زاوية مدى تهديدها لوضع هذه النخب ودورها في الحفاظ على النظام القائم. وهذا أدى إلى ميل دراسات التنمية السياسية لدعم ومناصرة النظام كغاية وليس كوسيلة للوصول إلى مجتمع حديث ([42] ).