صفحة 1 من 1

نظرية التنمية في مرحلة ما بعد الحداثة

مرسل: الأحد يوليو 08, 2012 10:23 pm
بواسطة وليد ناجي 5
من الاستعراض السابق لنظريات التنمية السياسية نرى أنه لا يوجد إجماع أو رؤية متفق عليها لمفهوم التنمية السياسية، ووسائلها وآلياتها، وأهدافها وغاياتها النهائية. وهذا ناتج من الخلفيات والرؤى الأيديولوجية التي حمل بها موضوع التنمية، واختلاف منطلقات وبواعث هذه الأيديولوجيات. كما أن التنمية بصورتها ومقاصدها المتنوعة التي وضعت منذ بدأ الاهتمام بهذا الحقل، ارتباطا بالتوجه إلى التأثير على الدول حديثة الاستقلال، لم تحقق الغايات والأهداف الكبرى التي وعدت بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتحديث والتطور. بل إن غالبية الدول في العالم الثالث، حتى التي اتبعت ما سمى بالتنمية المستقلة، أو التنمية المتمحورة حول الذات، وسياسة إحلال الواردات، وغيرها من النماذج التنموية، لم تنجح في تحقيق تنمية مستقرة، ولا في الخروج من إطار التخلف. كما سقطت في أزمات ومشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، أدت في النتيجة إلى تزايد اعتمادها على الدول الصناعية المتقدمة، وتعميق تبعيتها وخضوعها لشروط ومطالب وتدخلات المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها الدول الرأسمالية الكبرى.
وقد شهد حقل التنمية أيضا تغيرات وتطورات وتحويرات عديدة، حيث اهتم بداية في الجانب الاقتصادي، وكيفية تحقيق التطور والتنمية وتحسين معدلات النمو والدخل ومستوى المعيشة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية. ثم جرت عملية تجاوز حصره في الاقتصاد وأضيف له مفهوم الشمول في مرحلة لاحقة، ليعنى بجوانب حياة المجتمع المتعددة، مع عدم اختلاف مضمون التنمية الهادفة إلى تعميم النموذج الغربي الحداثي، وما يستبطنه من أهداف الهيمنة وتكريس التبعية. وبعدها ظهر مفهوم التنمية المستقلة الذي جاء ردا على المفهوم الغربي الحداثي، في محاولة الخروج من إسار الهيمنة والتبعية ([72] ). وقد شاب مفهوم التنمية أيضا الكثير من الالتباس والغموض والمعاني الواسعة الفضفاضة، سواء للأهداف والغايات، أو كثرة المداخل والمناهج والاقترابات المستخدمة في دراسته. وعليه كان مفهوم التنمية السياسية أيضا غامض وغير ثابت، فهل المقصود بها مجرد التغيير من حالة إلى حالة، أم أنها محددة بهدف معين؟ وإذا كان هناك هدف وغاية للتنمية السياسية، هل هناك اتفاق على هذا الهدف، وهل هو محدد بصورة واضحة؟ وحتى لو تم تحديد الهدف، فهل هناك توافق على الظروف والعوامل التي تعبر عن الوصول إلى الغاية؟ ([73] ). وهل تتوقف التنمية إذا تم الوصول إلى تلك الأهداف، ولا نصبح بحاجة إليها؟. أم أن التنمية هي عملية مستمرة ومتواصلة تنبع من استمرارية التطور والتغير في المجتمع البشري وبيئته وظروفه، وتعقد البنى والعلاقات وتشابكها، وتنوع وتغير الحاجات والمطالب الإنسانية؟.
على الرغم من الانتقادات والمآخذ على نظريات التنمية ونواقصها، إلا أنها بقيت تسيطر على حقل دراسات التنمية بكل فروعها، مع محاولاتها للتأقلم مع المتغيرات وتطوير أساليب ومقاربات جديدة للتأثير في عملية التغير والبناء السياسي في العالم الثالث. ونظر للتنمية على أنها عملية تغيير في جوهرها، تشمل المجتمع والدولة بالمناحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها. وقد تنوعت الأفكار والاتجاهات حول أهداف ووسائل وغايات هذا التغيير، فهل الهدف هو التحديث أم التغريب أم المركسة أم الأسلمة؟ وهل يتم التغيير من خلال تعزيز النظام القائم وزيادة قدراته، عن طريق الإصلاح والتعديل المتدرج طويل المدى، أم من خلال عمل ثوري جذري؟ وهل التغيير يتم بأدوات اقتصادية، أم سياسية، ام ثقافية؟ كل تلك الرؤى تتمركز حول هدف أساسي هو إحداث التغيير في المجتمع، بما يتلاءم مع منطلقات ومسلمات وبواعث تلك الرؤى والنظريات ([74] ).
لكن هذا الوضع تغير بصورة جذرية في بدايات العقد التاسع من القرن العشرين، على ضوء التحولات العميقة التي حصلت في النظام الدولي، بعد انهيار دول المعسكر الاشتراكي، وانهيار النموذج الاشتراكي للتنمية والاقتصاد والمجتمع القائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، والدور المحوري للدولة في المجتمع بجميع جوانبه. وأدى ذلك أيضا إلى القول بانتصار النموذج الرأسمالي، خاصة مع تحول البلدان الاشتراكية السابقة إلى اقتصاد السوق والملكية الخاصة، ومعها غالبية دول العالم الثالث، التي تخلت عن القطاع العام وسارت في نهج الخصخصة والانفتاح الاقتصادي، وإعادة الهيكلة والإصلاحات المختلفة المقدمة كوصفة للخروج من أزمات ومشاكل هذه الدول، من جانب المؤسسات المالية والنقدية الدولية. حيث كانت بعض بلدان العالم الثالث قد استطاعت تحقيق بعض الانجازات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها ترافقت مع حكم تسلطي أو فردي، غيًب دور المواطنين، والحياة الديمقراطية، ودور المؤسسات القادرة على ضمان الحفاظ على الانجازات وتطويرها. تلك الانجازات التي ضاعت بغياب الزعيم الأوحد والقائد الفرد، وعادت تلك الدول للوقوع مرة أخرى في شباك التبعية، وتنفيذ سياسات أدت إلى تزايد المشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية.