صفحة 1 من 1

متغيرات ومعطيات حقل التنمية في ظل النظام العالمي الجديد

مرسل: الأحد يوليو 08, 2012 10:25 pm
بواسطة وليد ناجي 5
شهدت البيئة الدولية تطورات عميقة أدت إلى تغيير مكونات وأطراف النظام الدولي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار دول المعسكر الاشتراكي والقطب العالمي الثاني، الاتحاد السوفيتي. ونتج عن ذلك ظهور ما سمي " بالنظام العالمي الجديد " على المستوى الواقعي، وحركة " ما بعد الحداثة " على المستوى الفكري والثقافي والعلمي، مما أدى إلى ضرورة تحول حقل التنمية، ليتجاوز ما كان يعرف بالنسق الحداثي أو التنموي أو السلوكي، وظهور ما بعد الحداثي والسلوكي ([75] ). وشهدت نظرية التنمية تحولا على صعيد الأطر النظرية والموضوعات والنماذج المعرفية، حيث جرى التركيز على الاقتصاد بدلا من الثقافة كمدخل للتغيير، وتجدد الاهتمام بالمجتمع المدني وأعيد إحياءه، بعد أن كانت الدعوة لإيجاد ثقافة مدنية وعلمانية، إضافة إلى الاهتمام بقضايا التعددية بدلا من التركيز على الدولة ودورها المركزي، حيث أصبح السوق هو الآلية التي تحقق النمو والتوازن ([76] ).
كما تم نقد طابع التعميم وصلاحية نظريات التنمية على المستوى العالمي، واحتواء تلك النظريات على مسلمات ونماذج وأحكام، تدعي صلاحيتها وإمكانية تطبيقها على كل المجتمعات، دون الأخذ بالاعتبار الظروف المختلفة، ومميزات وخصائص كل مجتمع، وثقافته وقيمه. حيث أن سياق التنمية وبيئتها في العالم الثالث، يختلف عن التجربة الأوروبية وتجربة الولايات المتحدة الأمريكية. رغم أن بعض مؤسسي المدرسة السلوكية مثل جبراييل الموند، يرفضون فكر ما بعد الحداثة ويدعون للتمسك بالحداثة والسلوكية، ويعتبر الموند أن الأزمة هي سياسية، وليست أزمة فكرية في نظرية التنمية ([77] ). ويرجع الدكتور نصر عارف أسباب ظهور فكر ما بعد الحداثة وتجاوز المنظور التنموي السابق إلى عدة أسباب منها: انتهاء الحرب الباردة والصراع الإيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية، حيث كانت بدايات ظهور دراسات التنمية مرتبطة بالتنافس والصراع على الدول حديثة الاستقلال بين الطرفين، وارتباطها أيضا بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة واهتمامها بالعالم الثالث. كما كان هناك عدم رضا عن مقاربات التنمية من جانب مفكري العالم الثالث، لتحيزها وعدم ملائمتها لظروف العالم الثالث، عدا عن فشل التجارب التنموية في كثير من هذه الدول ([78] ).
ومع تشكل النظام العالمي الجديد وبداية مرحلة العولمة، كظاهرة جديدة تشكل نمط سياسي اقتصادي وثقافي للنموذج الغربي، الذي يتجاوز الحدود والسيادة والدول، وتأثيراتها على المجتمعات الأخرى، فقد تأثرت نظرية التنمية بمكوناتها وموضوعاتها وقضاياها واليات العمل التنموي عامة. حيث تم تبني مفاهيم ومضامين جديدة في الخطاب التنموي، ارتباطا بالتغييرات السياسية والاقتصادية على الصعيد العالمي، مثل التنمية المستديمة التي تركز على تلبية حاجة الأجيال الحالية دون المس بفرص الأجيال القادمة على تحقيق احتياجاتها، وتحقيق الحفاظ على البيئة، وعدم هدر المصادر واستنزافها. كما برزت حقول جديدة استحوذت على اهتمام العلوم السياسية، مثل المجتمع المدني في مواجهة الدولة، ودوره في التنمية وتحقيق الديمقراطية ([79] ). هذا إضافة إلى تزايد تأثير المؤسسات الدولية التي تقدم المعونات لدول العالم الثالث، وتأثير هذه المؤسسات وفلسفتها القائمة على اقتصاد السوق ودوره الرئيسي في تحقيق التنمية، وبرامج الإصلاح وإعادة الهيكلة لتوفير بيئة مؤاتية لجعل السوق أكثر فاعلية، حيث ترى أن الاقتصاد يجب أن يكون من مهام القطاع الخاص وليس من مسؤوليات الدولة. حيث كانت دول العالم الثالث قد تبنت استراتيجيات التنمية المعتمدة على الدولة التي تقوم بالتخطيط والتنفيذ والسيطرة على الموارد وتخصيصها وتوزيعها. لكن حصل تغير على تلك السياسات، حيث أصبحت مهمة الدولة ميسر ومنظم للخدمات بدلا من تقديمها ([80] ). وبصورة عامة صار التركيز على التنمية الاقتصادية كمحور ضروري لتحقيق التنمية بشكل عام، وأصبحت المتغيرات السياسية تابعة للمتغير الاقتصادي، والإصلاح الهيكلي والخصخصة تشكل أساس التحول الديمقراطي والمشاركة والتعددية. كما أن مفهوم العالم الثالث قد تراجع وانتهى تقريبا، حيث أصبح الحديث عن عالم واحد بعد انتشار نموذج ونمط الإنتاج الرأسمالي وتبنيه من دول العالم المختلفة ([81] ).
وتبنى البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أيضا مفهوما جديدا للتنمية يركز على جوانب أكثر اتساعا وشمولا من الجانب الاقتصادي للتنمية، وهو ما عرف بالتنمية البشرية، التي تركز على البشر كهدف للتنمية، مع انه يعتبر أن النمو الاقتصادي وزيادة الدخل هو وسيلة ضرورية لتحقيق الجوانب المختلفة للتنمية البشرية. وهنا تعرف التنمية البشرية على أنها عملية زيادة خيارات البشر وزيادة قدراتهم وإمكانياتهم، بتوفير فرص أوسع أمامهم للتمتع بحياة طويلة وصحية، والحصول على المعرفة والتعليم، والوصول إلى الموارد الضرورية للعيش بمستوى حياة كريمة، وضمان التمتع بالحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية،وضمان احترام حقوق الإنسان. ولقياس التنمية البشرية، ركز التقرير على ثلاث عناصر ضرورية لحياة البشر وهي: حياة صحية مديدة، تقاس من خلال عمر الإنسان المتوقع عند الولادة، والمعرفة التي تقاس بالإلمام بالقراءة والكتابة ونسبة الالتحاق بالتعليم بمراحله المختلفة، ومستوى المعيشة اللائق، الذي يقاس بالناتج المحلي الإجمالي للفرد ([82] ). وفي التقارير السنوية اللاحقة كان التركيز يتم على العوامل المهمة والأبعاد الضرورية للتنمية البشرية، مثل تمويل التنمية، والبعد العالمي للتنمية، ودور المواطنين وأهمية مشاركتهم في العمليات التي تؤثر في حياتهم. كما ناقشت تقارير أخرى مواضيع الفروقات الجنسانية بين الرجل والمرأة في التنمية البشرية، وتم وضع مقياس خاص لقياس الفجوة في استفادة الجنسين من ثمار التنمية. إضافة إلى الاهتمام بتمكين النساء ومشاركتهن في الحياة الاقتصادية والسياسية، ونقاش تأثير العولمة والتكنولوجيا والتعاون الدولي والتجارة والأمن، وأهمية الديمقراطية والتنوع الثقافي، وحقوق الإنسان والنمو الاقتصادي في الوصول إلى معدلات مرتفعة للتنمية البشرية ([83] ).
كما أن الأمم المتحدة تعتبر أن تحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز تنمية البشر ترتبط بالحكم الرشيد، حيث أن التنمية البشرية لا تصبح عملية متواصلة ومستديمة بدون إيجاد الحكم الرشيد أو الحكم الجيد. وترى الأمم المتحدة أن إدارة الحكم كممارسة للسلطة السياسية والاقتصادية والإدارية في تسيير المجتمع على كافة المستويات، يشمل الآليات والعمليات والمؤسسات التي من خلالها يقوم الأفراد والجماعات بالدفاع عن مصالحهم وممارسة حقوقهم والتزاماتهم. والحكم هنا يشمل الدولة التي تهيئ البيئة السياسية والقانونية المناسبة، والقطاع الخاص الذي يوفر التشغيل والدخل، والمجتمع المدني الذي يشكل إطارا للتفاعل السياسي والاجتماعي بين الناس والدولة، ووسيط للمشاركة وإيصال المطالب والتعبير عن المصالح. وترى أن الحكم الجيد يتصف بسمات معينة، حيث يقوم على المشاركة في صنع القرار من خلال مؤسسات تمثل مصالح الناس، وسيادة القانون وتنفيذه بعدالة، والشفافية في عمل مؤسسات الحكم المختلفة بحيث تتوفر المعلومات الكافية لفهم عملها. كما أن من سماته الاستجابة، بحيث تسعى المؤسسات لخدمة جميع الأطراف ومصالحهم، إضافة إلى الإنصاف وإتاحة فرص متساوية للناس جميعا بتحسين حياتهم. وضرورة أن تتصف مؤسسات الحكم بالفاعلية والكفاءة بحيث تكون نتائج أعمالها قادرة على تلبية المطالب والاحتياجات، باستخدام الموارد المتاحة بكفاءة عالية. كما أن الحكم الجيد يقوم على التوازن بين المصالح المتعددة، ويسعى لبناء توافق لتحقيق مصالح مختلف الأطراف، إضافة إلى ضرورة أن تخضع أطراف الحكم وصناع القرار فيها إلى المساءلة الداخلية والخارجية. ومن المهم أيضا أن يكون لدى أطراف الحكم رؤية طويلة الأمد للحكم الرشيد والتنمية المستدامة وشروطها واحتياجاتها والبيئة المحيطة بها ([84] ).
وترى الأمم المتحدة أن هناك دور متميز لكل طرف من أطراف الحكم في تدعيم التنمية البشرية المستديمة، عدا عن التعاون والشراكة والتعزيز المتبادل بينها. والدولة هي السلطة المفوضة بالسيطرة وممارسة القوة، وتقع عليها مهمة توفير الخدمات العامة بصورة فعالة لمواطنيها، وإيجاد بيئة تيسر التنمية البشرية، من خلال وضع القوانين والإجراءات الفعالة للأنشطة العامة والخاصة. كما تضطلع بضمان الاستقرار والعدالة في السوق واستقرار الاقتصاد، وتوفير الموارد والبنية الأساسية، والحفاظ على الأمن والنظام والسلم الاجتماعي. كما عليها تمكين مواطنيها من خلال توفير فرص المشاركة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا يحتاج إلى وجود هيئات ونظم تشريعية وقضائية وانتخابية تعمل بشكل فعال وسليم. لكن التوجه اليوم على المستوى العالمي يؤدي بالدولة إلى تقليص دورها وإعادة تحديده وتشكيله في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية ([85] ).
ويضطلع القطاع الخاص أيضا بدور محوري في التنمية المستدامة، حيث ينظر له اليوم بأنه المصدر الأساسي للعمالة المنتجة، وتحسين الدخل الذي يعتبر العامل المهم لتحقيق تلك التنمية. إلا أن نمو القطاع الخاص وقيامه بدوره يحتاج إلى دور الدولة بتوفير البيئة الاستثمارية المناسبة والحفاظ على استقرار الاقتصاد وضمان الأسواق التنافسية، وفرض القانون وتقديم الحوافز لتنمية الموارد البشرية. كما أن المجتمع المدني يوفر آلية مهمة لمشاركة الناس في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي التأثير على السياسة العامة وصنع القرار. وعليه فان ضمان التنمية البشرية المستديمة يحتاج إلى تفاعل دوائر الحكم الثلاثة، وإقامة نظام سياسي يشجع الحكومة والقادة السياسيين وقطاع الأعمال التجارية والمجتمع المدني على صياغة أهداف تركز على الناس وتسعى لتحقيقها، وتعزيز توافق الآراء حول تلك الأهداف ([86] ).
البنك الدولي كمؤسسة عالمية أصبح لها دور متزايد في تقديم المشورات والنصائح لدول العالم الثالث خاصة في قضايا التنمية والمساعدات، يقدم رؤية بأن التنمية بالمفهوم الواسع إضافة إلى جانبها الاقتصادي كزيادة مستمرة في مستويات المعيشة، تتضمن خصائص أخرى. أهم جوانب التنمية بالمفهوم الواسع هو توفير فرص أكثر عدالة للناس في كافة المجالات، وضمان الحريات السياسية والحريات المدنية للمواطنين. ويرى أن هذا الهدف موجود منذ سنوات الخمسينيات، ولم يطرأ عليه تغير جوهري، لكن التغيير حصل على الاعتقاد المبكر في قدرة الدولة على قيادة التنمية وتوجيهها، وأصبح الاعتماد أكثر على الأسواق في هذه المهمة. وقامت العديد من الدول بإجراء إصلاحات السوق، والاقتناع بان التنمية هي عملية متعددة الأبعاد، تتكامل فيها عملية إصلاح الأسعار والاستثمار، وبناء المؤسسات. وصار تدخل الدولة الاقتصادي الواسع وفاعليته عرضة للانتقاد، وان التجربة تقول أن من الأفضل أن يكون دورها متمم وداعم للقطاع الخاص ( مثل توفير خدمات البنية التحتية والتعليم والصحة والأبحاث ) على أن يكون منتجا للسلع أو مديرا لقطاعات اقتصادية معينة. كما أن الحريات السياسية والمدنية مهمة لتحقيق الأهداف التنموية ([87] ).
ويرى البنك الدولي أن الدولة لها دورها المهم في التنمية، لكن دورها له حدود أيضا، على ضوء ما شهدته فترة التسعينيات من القرن الماضي من انهيار الاقتصاد الموجه، والأزمة المالية التي واجهتها دولة الرفاهية الغربية، ودور الدولة المحوري في تنمية وتطور دول شرق آسيا، وانهيار بعض الدول في العالم. ويرى أن العامل المحدد في تلك التطورات المتعارضة هو فاعلية الدولة. حيث أن وجود الدولة الفعالة مهم وأساسي لتوفير السلع والخدمات، والقواعد والمؤسسات التي توفر للسوق النمو والازدهار، ولان يعيش الناس حياة أفضل. حيث انه لا يمكن تحقيق تنمية مستديمة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بدون الدولة الفعالة. وكانت النظرة السابقة أن الدولة هي التي تتحمل مهمة تحقيق التنمية، لكن في الوضع الجديد يعتبر دور الدولة في التنمية محوري، لكن ليس بوصفها الجهة التي تحقق التنمية، بل كشريك وعاملا محفزا ، وأداة تيسر التغيير ([88] ). ويرى بأنه يجب زيادة قدرة الدولة عن طريق تفعيل المؤسسات العامة وزيادة حيويتها، بوضع قواعد وقيود تحد من التصرفات التحكمية للدولة، ومكافحة الفساد، وإخضاع مؤسسات الدولة للمنافسة لزيادة كفاءتها ، وتحسين الحوافز والرواتب، وان تصبح أكثر استجابة لاحتياجات المواطنين، وتوسيع مشاركتهم. ويرى أن هناك مهام جوهرية على الدولة أن تقوم بها لتحقيق التنمية المستديمة التي يستفيد منها الجميع. وهذه المهام تشمل إرساء القانون، وتوفير بيئة سليمة للسياسات، والاستثمار في توفير الخدمات الاجتماعية والبنية الأساسية، وحماية الضعفاء وحماية البيئة ([89] ).
ويعتبر البنك الدولي مثله مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن الحكم الجيد هو عامل وأداة رئيسية لتحقيق التنمية البشرية المستديمة, ويرى في احد تقاريره عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن التنمية في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في هذه المنطقة، يتم إعاقتها بسبب ضعف إدارة الحكم العامة، التي تعتبر الأضعف مما هي عليه في بقية أنحاء العالم. ويرى أن الحكم الجيد يقوم على ركيزتين هما، التضمينية والمساءلة. حيث التضمينية تقوم على مفهوم المساواة، التي تعني إفساح المجال لكل من يريد أو له مصلحة في المشاركة بإدارة الحكم، بصورة متساوية مع الجميع. كما تشمل معاملة جميع المواطنين بشكل متساو أمام القانون وبدون تمييز، وإتاحة فرص متساوية للاستفادة من الخدمات المقدمة من الحكومة. والمساءلة تتعلق بمفهوم التمثيل الشعبي، أي أن من يتم اختياره للحكم، يجب أن يخضع للمساءلة من قبل الشعب. والمساءلة ترتكز على الشفافية، أي توفير المعلومات والشفافية في آليات الحكم، إضافة إلى وجود حوافز على أداء المهام، وهذه تأتي من اختيار الموظفين على قاعدة التنافس والكفاءة. ويعتبر أن تحسين إدارة الحكم يجب أن تتم في عدة نواحي وإجراءات: إجراءات لتحسين التضمينية، وأخرى لتعزيز المساءلة الداخلية، وإجراءات لتحسين المساءلة الخارجية، والفصل المتوازن بين السلطات لتقوية المساءلة الداخلية، وإصلاحات إدارية لتعزيز المساءلة الداخلية. وتقوم الإجراءات تلك على عناصر مختلفة، مثل توفير الحريات، وحق المشاركة، والعدل في توزيع الخدمات، ونشر المعلومات وتوفير إعلام حر ومستقل، وتقوية السلطة التشريعية، واستقلال السلطة القضائية، وتقوية وإصلاح أجهزة الدولة الإدارية والمقدمة للخدمات ([90] ).
وبعد التحولات الكبرى التي شهدها النظام السياسي والاقتصادي العالمي في العقد الأخير من القرن العشرين، أكدت عدة منظمات ومؤسسات عالمية تهتم بمجال التنمية، على الربط بين النجاح في تحقيق التنمية ونوعية الحكم، وفاعليته، حيث أن أسلوب الحكم الرشيد له تأثير كبير في التنمية. وترى منظمة اليونسكو أن هناك ترابط بين الديمقراطية والتنمية، ذلك أن التنمية المستديمة والعادلة تعتمد بصورة وثيقة على الديمقراطية، كما لا يمكن الحفاظ على الديمقراطية الحقيقية التي تتميز بسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان ، بدون أن يتمتع الناس بمستوى معقول من المعيشة، الذي يتطلب توفر حد أدنى من التنمية ([91] ). بل إن التكامل بين الحق في التنمية والحق في الديمقراطية مسألة ليست جديدة، حيث جرى التطرق له في ميثاق الأمم المتحدة، والمعاهدات الدولية، وإعلان 1986 الخاص بالحق في التنمية، والاتفاقية الخاصة بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. وترى اليونسكو أيضا أن أسبقية القانون في الدولة، هو الآلية التي من خلالها يتم الربط بين التنمية والديمقراطية. ذلك أن أسبقية القانون تستند إلى سيادة المبادئ العامة للقانون، والى مفهوم العدالة في المجتمع، وهذا منبع أهميتها للحكم الديمقراطي. وفيما يتعلق بممارسة السلطة تستدعي أسبقية القانون توافر الشرعية، والشفافية، والمساءلة، وهي عوامل تحتل أهمية رئيسية للعملية الديمقراطية ولعملية التنمية ([92] ).
نرى من الاستعراض السابق لما حدث من تغير على نظرية التنمية ومفهومها ومداخلها ومقارباتها، أن هناك تراجع في الاهتمام بموضوع التنمية السياسية كموضوع متخصص ومنفصل، وأصبح التوجه أكثر تركيزا على التنمية بمفهومها الشامل والأوسع، بحيث يتم البحث في ترابط مختلف جوانب التنمية، مع التركيز على الجانب الاقتصادي، واعتبار سياسة السوق والخصخصة والتنافس وعدم تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية، من أساسيات التنمية. أما قضايا ومواضيع التنمية السياسية فصار يتم تناولها بصورة غير مباشرة، من خلال مؤشرات المشاركة، والديمقراطية، وفصل السلطات وتخصصها، كمتغيرات في الحكم الصالح، الذي يعتبر ضروري لخلق بيئة ملائمة لعمل السوق، والنشاط الاستثماري الخاص. ويعتبر إخراج الدولة من النشاط التنموي، واقتصار دورها على الحماية والتنظيم والدعم، لتوفير الظروف المناسبة لعمل السوق، من أساسيات سياسات الإصلاح الليبرالية الجديدة، التي أصبحت تتبناها العديد من المؤسسات الدولية. كما أن التوجه هو في زيادة دور مؤسسات المجتمع المدني، والمجتمعات المحلية في مشاركة الدولة في توفير الخدمات، أو تقديم المساعدات للمواطنين الذين لم تتح لهم الفرصة في الاستفادة من ثمرات السوق، ولا من موارد الدولة. إضافة إلى أن الدعوة إلى الديمقراطية، والمشاركة السياسية تركز على آلية الانتخابات الدورية كحقوق فردية وليست كحقوق مواطنة، وتتجه لإصلاح البنية السياسية والاقتصادية القائمة بصورة تدريجية. كما أن تبني قضايا الحكم الجيد والإصلاح المؤسساتي على صعيد الدولة والنظام السياسي، تنطلق من مدى خدمتها لسياسات الخصخصة والانفتاح واقتصاد السوق والتنافس، وليس من باب الاهتمام ببناء نظام سياسي فعال وكفؤ ويمتلك القدرة على تلبية المطالب المتنوعة والمتغيرة للمجتمع. كما أن الخيارات أمام البشر تصبح محدودة بل ومعدومة، إذا لم تتوفر وسائل وموارد تلبية الحاجات الأساسية والضرورية للناس، وبالتالي لا يستطيعون زيادة قدرتهم وإمكانياتهم وفرصهم في التمتع بمستوى معيشة لائق، ولا بحياة صحية ومديدة، ولا بمستوى معرفة وتعليم يمكنهم ويزيد من فرص انخراطهم ومشاركتهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.