صفحة 1 من 1

مشاكل العالم الثالث

مرسل: الثلاثاء يوليو 10, 2012 2:32 am
بواسطة سليمان المقبل36
لو افترضنا، على نحو التمثيل، أن عوائل غنية كانت تسكن في إحدى البنايات، ثم جاءت عائلة فقيرة وسكنت إلى جوارها في البناية ذاتها، فهل يا ترى أن مشاكل هذه العائلة ستبقى مقصورة عليها، أم أنها ستنتقل إلى العوائل الغنيّة أيضاً؟

ولو افترضنا، على نحو التمثيل أيضاً، أن رجلاً مريضاً سكن مع مجموعة من الأشخاص الأصحاء في غرفة واحدة، فهل إن عوامل المرض فيه تبقى مقصورة عليه، أم أنها ستنتقل أيضاً إلى أولئك الأصحاء؟

نحن نفهم هذه المعادلة فيما يرتبط بقضايا جزئية مثل القضيتين الافتراضيتين السابقتين، ولكن هل نفهم هذه المعادلة أيضاً فيما يرتبط بسكان الكرة الأرضية كلها، والبشرية جمعاء؟

إن عالمنا اليوم أصبح مثل قرية صغيرة يعيش فيها الأغنياء والفقراء جنباً إلى جنب، وتعيش الدول الصناعية إلى جانب الدول النامية، فهل يمكن أن يبقى الأغنياء بمنأى عن مشاكل الفقراء، وتبقى الدول الصناعية بعيدة عن كوارث الدول النامية؟

إن البعض يحاول أن يجد حلّ مشاكل العالم الثالث في التنكر لهذا العالم، والتغاضي عن مشاكل الذين يعيشون فيه، وفي أفضل الحالات فإن البعض يرى أن من الممكن أن يبقى الأغنياء إلى الأبد أغنياء، وأن يبقى الفقراء إلى الأبد فقراء، ومن ثم فإن من الممكن بناء جدار مثل جدار الصين حول العالم الثالث كله، لمنع انتقال مشاكله إلى العالم الصناعي، عن طريق منع الهجرة مثلاً من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، وإبعاد المشاكل التي تتفاعل لدى الفقراء من دولهم.

لكن مثل هذا الأمر ليس إلا مجرّد تمنٍّ ساذج، فلقد أثبتت الأحداث أن العولمة لا يمكن أن تقتصر على الجوانب الإيجابية، لمصلحة الدول الغنية، وضدّ مصالح العالم الثالث.

إن العولمة كما تعني سيطرة الشركات متعددة الجنسية ورؤوس الأموال في الدول الصناعية على الدول النامية، بشكل أو بآخر، فإنها تعني أيضاً انتقال مشاكل الدول النامية إلى تلك الدول، شاء أولئك أم لم يشاؤوا.

ومن جهة أخرى فإن الأمر الذي لا ريب فيه هو أن مشاكل العالم الثالث ليست كلها محلية ومتوارثة من الآباء والأجداد، وإنما هي أيضاً مستوردة. أي أن العالم الصناعي مسؤول عمّا يعاني منه الناس في العالم الثالث مسؤولية كاملة؛ لأن مشاكل هذا العالم كما هي محلية فهي مصدَّرة إليهم. فالناس يعيشون في الفقر والعوز والحاجة في الدول النامية؛ لأن الأغنياء في الدول الصناعية يعيشون مرفهين على حسابهم.

ولذلك فإن نسبة «الغنى» في العالم الصناعي هي مساوية لنسبة «الفقر» في العالم الثالث، أي أن هذا العالم يزداد فقراً كلمّا ازداد العالم المتقدم غنىً، وهذه المعادلة هي تماماً مصداق لما يقوله الإمام علي (عليه السلام): ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيّع».

ونظراً لتخلف العالم النامي وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه إعلاميًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، وعسكريًّا، فإن الدول الصناعية تستغل ضعف هذا العالم وحاجته وعوزه لغرض فرض هيمنتها عليه.

ولاشك أيضاً في أن الأغنياء في الشمال غير راغبين، وغير صادقين، وغير جادين في حلّ مشاكل العالم الثالث، مع أن المواد الأولوية كلها تقريباً موجودة في الدول الفقيرة إلا أن هذه الدول تعيش في ظروف اقتصادية قاسية، نظراً لما تفرضه الدول الصناعية عليها من التبعية والتخلف.

ومما لاشك فيه كذلك أن العالم الثالث -الذي جرى نهب ثرواته واستنزاف طاقاته بصورة منظمة خلال فترة الاحتلال التي عاشها تحت نير الدول الاستعمارية سابقاً- لايزال يعاني من آثار ذلك.

ومن جهة أخرى فإن النظام العالمي المعاصر، ومن خلال القوى المسيطرة عليه، يمارس دور العامل المساعد على استمرار الفقر والتخلف في هذا العالم. ومع أننا لا يمكن أن نرفع المسؤولية في ذلك عن كاهل قادته وأبنائه، إلا أننا لا يمكن أيضاً أن نبرِّأ العالم الغني عمّا يحدث في العالم الثالث.

فتبعات الفقر والتخلف والعوز وما شابه ذلك لا يتحملها أبناء هذا العالم وقادته فحسب، بل إن الشمال الغني، بأبنائه ومسؤوليه وكل من يعيش فيه، يتحملون الشطر الأكبر من المسؤولية في ذلك أيضاً. ويمكننا أن نعرف حجم المأساة ومسؤولية الأغنياء في صناعتها من خلال الإحصاءات والتقارير التي أصدرتها الأمم المتحدة، وهي جمعية محايدة على كل حال، في هذا المجال.

يقول تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية الذي صدر في عام 1994م: «إن خمس البلدان الأكثر ثروة في العالم تستأثر بما نسبته 85% من نتاج العالم، بينما لا يجني خمس البلدان الأكثر فقراً سوى ما نسبته 1.04%».

وتؤكد الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1997م هذا الوضع المأساوي واستمراره، فهناك مليار وثلث المليار من الفقراء في العالم، لا يحصل واحدهم سوى على نصف دولار في اليوم، ومن هؤلاء تسعمائة مليون يعيشون في آسيا، ومائتا مليون في أفريقيا، وعشرة ملايين في أمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي.. ومبلغ الكسب السنوي لهذه المجموعة الكبيرة يعادل نصف ما ينفقه الأمريكيون في اليوم الواحد فقط في شؤونهم اليومية، أو ما يعادل ثمن نفايات الغذاء التي يرمي بها الأمريكيون كل شهر. ولا تتجاوز حاجات الفقراء من المواد الغذائية وتكاليف الصحة والعلاج والتعليم العشرة بالمائة من نفقات التسلح في العالم، وواحد في المائة من الدخل العالمي.

ويقول التقرير، فيما يتصل بالتنمية: إن الفارق بين الشمال والجنوب يتسع من عام إلى عام، إلى حد أن الوضع المعطّل في الجنوب، يدل على حصار لا تراجع فيه ولا فكاك منه. وواقع أفريقيا بمجموعها -باستثناء أفريقيا الجنوبية- مثال يستدعي الاعتبار. ومع أن هذا الوضع يتراوح في درجات مختلفة هنا وهناك، فإنه متساوٍ بالنسبة للجميع، وينطبق على الجميع في العالم الثالث.

والمشكلة الكبرى تكمن في أن أية دولة، أو مجموعة من الدول، تحاول أن تشق طريقها باتجاه التقدم وتصنيع بلدانها، فإنها تواجه ضربات مهلكة من قبل الشركات متعددة الجنسية، ومن قبل الحكومات الغنية في العالم الصناعي مباشرة.

ومثال ذلك النمور الآسيوية التي كانت في طريقها إلى الخروج من شرنقة التخلف لتكون متقدمة صناعيًّا وعلميًّا واقتصاديًّا. وقد رأينا كيف أن هذه البلدان تعرّضت لانهيار اقتصادي مخطط له سلفاً من قبل بعض الدول الغنية بهدف تحويلها إلى مجموعة من الفئران تمدّ الأيدي إلى صندوق النقد الدولي.

وإذا كانت الجوانب المالية والصناعية، هي المستهدفة في الدرجة الأولى في العالم النامي، من قبل الدول العظمى الصناعية، إلا أن الزراعة أيضاً ليست أفضل حالاً من الصناعة في هذه البلدان.

ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن المهمة الأساسية للزراعة، هي أن تلبي في أولوياتها حاجات البلد المنتج الغذائية، غير أن الزراعة في العالم الثالث استخدمت في تلبية حاجات سكان الشمال الغني، ولذلك فإنها حوّلت عن هدفها الأساسي، وانحرفت بسبب الحاجة إلى الترخيص، أو بسبب ضغوط قانون التسوق التي أفضت إلى نظام الزراعة الأحادية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: زراعة القطن في مصر، والكاكاو في ساحل العاج، والفول السوداني في السنغال، والسزال في تنزانيا، وقصب السكر في كوبا، والبن في كولومبيا، وغير ذلك من المواد في بقية البلدان.

ونستطيع أن نقول: إن ما تعرضت له الزراعة في العالم الثالث، إنما كان عبارة عن مجزرة حقيقية، بنيوية، شاملة للحالة الزراعية في الجنوب، وقد جرت هذه المجزرة بالتواطؤ بين بعض المسؤولين في العالم الثالث في الجنوب، والشركات الفاسدة المفسدة في الشمال.

وفي الحقيقة فإن من جملة الأسباب الرئيسة لهذا الدافع، هو ما يمكن تسميته بـ«تأليه السوق» وتقديس قوانينه، الأمر الذي يسبب موت الملايين من الناس في كل عام من الجوع، في الوقت الذي نجد أن أسواق أوروبا تفيض من المنتجات الزراعية، التي تحار في تصريفها، وتصرف كميات هائلة من الأموال لتخزينها، أو إتلافها، محافظة على مستوى الأسعار فيها.. في الوقت الذي تعاني شعوب بائسة من الضيق والعذاب، ويفارق الناس الحياة أمام أعين سكان الشمال وسط هول ورعب لا يطاقان.

وواضح أن الجوع يؤدي إلى كثير من المشاكل منها الموت، ولعل الموت أرحم النتائج بالنسبة إلى تلك الشعوب، أما بقية الأشياء فهي: التخلف العقلي، والإصابة بنقص دائم في وظائف الأعضاء، بالإضافة إلى تبعات ذلك مثل الفساد الأخلاقي.

لقد نشرت صحيفة (لوموند) في 27 تموز 1992 م إحصائية عن عدد الأطفال الذين يعيشون في الشوارع في البرازيل وحدها فكان اثنين وثلاثين مليون طفل، و لهؤلاء الأطفال من أصحاب البطون الجائعة الكثير من الزملاء في نصف الكرة الأرضية الجنوبي في أفريقيا والهند ومصر، وهم إما أن يصبحوا ضحايا الهوس الجنسي لدى السياح الأغنياء، وأمّا ضحايا تجارة الأعضاء البشرية، أو أن عوائلهم يقومون ببيعهم بالكامل في أسواق النخاسة التي لها عناوين أخرى تختلف عن عنوانه: وهو العمالة الأجنبية، حيث إن تلك الأسر تعجز عن إعالة أولادها.

وهكذا فإننا نواجه بعد الزراعة الأحادية -التي تعني أن يزرع الجنوب كل ما يحتاج إليه الشمال وليس ما يحتاج إليه هو- الاختصاص في تجارة أعضاء الإنسان، وهكذا تختص كولومبيا بتجارة العيون خاصة الزرقاء منها، وتختص كل من الهند والأرجنتين بتجارة الكلى.

ونتيجة لانهيار اقتصاد العالم الثالث تراكمت الديون على هذا العالم حيث تجاوزت الألفين وأربعة عشر مليار دولار، وهي تزداد كل عام باستمرار بما يبلغ مائة مليار دولار سنويًّا، ولاشك في أن هذه الديون تشكل عبئاً ثقيلاً يفوق كل عمل من أجل التنمية في أي مجال من المجالات في العالم الثالث، فهذه الدول تكون غالباً عاجزة عن دفع فوائد الديون، فكيف بأصولها!

وفي الحقيقة فإن الديون بالنسبة للفقراء تشكِّل مثل الحبال التي تُربط بها أعناق الحيوانات لجرها إلى المسلخ، فمساعي ضبط الهيكليات التي فرضها صندوق النقد الدولي قد بدت وسيلةً من وسائل ربط العالم الثالث بعجلة الرأسمالية، وقد أدى خفض أسعار العملات، والامتناع عن دعم أسعار السلع الغذائية الضرورية، والتدابير التسهيلية، وإزالة العوائق أمام العالم الغني، أسفرت هذه عن ازدياد البطالة، وأيضاً التململ الاجتماعي الذي يُقمع يوميًّا في بلدان العالم الثالث.

وهكذا فإن الجنوب الفقير ينزف موارده في الشمال، كما ينزف الفقراء الدمّ على أيدي السلطات المحلية دفاعاً عن مصالح الأغنياء. وبهذا يمكن القول: إن الجنوب الفقير هو الذي يموّل الشمال الغني، فحسب صحيفة (لوموند دبلوماتيك) في عددها الصادر في أيار 1992م: فإن خسارة بلدان الجنوب خلال تسع سنوات -من عام 1980م إلى عام 1989م- كان 75 مليار من الدولارات، أما في العام 1989م فقد أدت فوائد الديون إلى تحويل دول الجنوب إلى الشمال أكثر من 158 مليار من الدولارات.

وفي الحقيقة فإن الأضرار التي تحدثها أزمة الديون منذ سنوات عديدة تعتبر بإجماع المختصين «نكبة العصر» فيما يتصل بالتنمية، فقد أدت الحلقة المدمرة للاقتراض المرتفع إلى تراجع اجتماعي واقتصادي في عشرات البلدان التي كان عليها -ولا يزال- أن تمضي سنوات الثمانينات العشر والتسعينات، وهي تتحمل خسائر وفوائد الديون.

أما في مجال الصحة فإن مما لاشك فيه هو تراجع الجانب الصحي في بلدان العالم الثالث عما كان عليه الوضع في البلدان نفسها قبل عشر سنوات، فمع أن العلم استطاع أن يوفر العلاج لكثير من الأمراض التي كانت تفتك بالبشرية، مثل الطاعون والكوليرا والجدري والسل، إلا أننا نجد أن بعض هذه الأمراض عادت من جديد تفتك بالملايين في بلدان العالم الثالث.

ومثالاً على ذلك نستطيع أن نذكر (السّل): فقد ذكرت التقارير إن ثلث البشرية تقريباً مصاب بهذا المرض ويقتل الملايين سنويًّا، وينتشر بسرعة وسهولة في الهواء، ويقال: إن نصف المصابين به لا يدركون أنهم مرضى، ولا تلوح بارقة من أمل في إمكان القضاء عليه، بسبب امتناع الدول الغنية البعيدة عن هذا المرض تقريباً في المساهمة بالقضاء عليه، بالرغم من أنه قابل للعلاج عند اكتشافه مبكراً. ولأن (السّل) داء صامت، فإنه يختلف عن الكوليرا التي تكشف عن نفسها بطريقة أو بأخرى، لكن (السّل) ينتشر بصمت، ومع إن المصابين به كثيرون إلا أنهم يبدون طبيعيين، ويتحركون هنا وهناك وينقلون العدوى إلى الآخرين.

وتشير منظمة الصحة العالمية في إحصائيتها عن عام 1996م إلى وجود أربعمائة شخص مصابين بالسل بين كل مائة ألف من الفلبينيين، بالمقارنة مع خمسة بين كل مائة ألف في استراليا، ويقول بعض المستشارين لمنظمة الصحة العالمية: إنهم لا يرون أي وسيلة للقضاء على السل في المستقبل القريب، وذلك لأسباب عديدة منها: إن ثلث سكان البشرية في الأرض مصابون به، وهذا يحتاج إلى حملة عالمية للقضاء عليه، ولا يوجد من يمول مثل هذه الحملة.

ومن جملة الأسباب أيضاً أن الإصابة بالسل تتفاقم عندما تضعف مقاومة حاملي المرض نتيجة للإصابة بأمراض أخرى، مثل مرض سوء التغذية أو الإجهاد في العمل وخاصة في سن العشرين إلى ثلاثة وأربعين، وتقول المنظمة التي أعلنت السل (وباءً عالميًّا)، قبل خمسة عشر عاماً: إن الإصابة بفيروس (الإيدز) أدى إلى انتشار السل. وهكذا فإننا نجد شراكة قاتلة بين هذين المرضين تزيد كثيراً احتمالات الإصابة بأمراض معدية، وأشرسها السل للمصابين بفيروس الأيدز، وبنهاية القرن الحالي ستسبب الإصابة بمرض السل نحو بليون ونصف إصابة سنويًّا. وثلث المصابين بفيروس الإيدز في العالم اليوم وإجمالي عددهم اثنين وثلاثين مليون شخص مصابون بالسل أيضاً، وهو أيضاً السبب الرئيس في الوفاة بالإيدز.

ويقدر بعض التقارير الذين يموتون بسبب السل بأكثر من ثلاثة ملايين شخص سنويًّا، ومع ذلك لا نسمع عنهم الكثير: لأنهم فقراء من العالم الثالث.

وبالإضافة إلى السل فإن الأزمات التي تصيب الجنوب الفقير هي الأمراض الاستوائية التي يعاني منها مليار ونصف مليار من البشر، أي ما يعادل ربع سكان العالم.

ومن المفارقات الغريبة هنا أنه في الوقت الذي تكثر فيه أعداد الدراسات، والأبحاث، والمؤلفات التي تعالج قضايا التنمية فإن صمتاً ثقيلاً يلفّ قضية الأمراض الاستوائية مثل: (حمى المستنقعات) و (الملاريا) و (البلهارسيا) و (الجذام) ومرض (النوم)، وبالرغم من أن منظمة الصحة العالمية تملك برنامجاً لمكافحة هذه الأمراض، إلا أن الموازنة المخصصة لهذه الغاية ضئيلة إلى حد أن أكثر من نصفها تلتهمه القضايا الإدارية للمنظمة ذاتها.

وفي الواقع فإنه في مواجه ضخامة مشكلة هذه الأمراض تبدو منظمة الصحة العالمية عاجزة تماماً، وإذا كانت هنالك أبحاث جدية حول هذه الأمراض، فهي من قبل شركات صناعة الأدوية التي تريد بيع أدويتها، بدل مساعدة المحتاجين.. هذا بالإضافة إلى أن شركات صناعة الأدوية إنما تهتم بالأمراض المنتشرة في المجتمع الاستهلاكي الغني، فالذي يهمها هو ما يعاني منه الشمال من الأمراض، للحصول على أرباح في صناعة الأدوية وبيعها عليه.

وفي خطوة أخرى أكثر خطورة، فإن هذه الشركات الصانعة للأدوية غالباً ما تبيع أدويتها الفاسدة -التي تمنعها حكومات الشمال الغني والدول الصناعية الكبرى لما تحدثه من أضرار لمواطنيها- تبيعها إلى دول العالم الثالث بأسعار باهضة وبالنقد الأجنبي.

إن المشكلة الرئيسة تكمن في أن الشمال الغني لا يهتم حسب تعبير (رينيه باسميه) في كتابه (الاقتصاد والأحياء) إلا بما هو ميّت، أو كما يقول: «إن علم الاقتصاد المستند إلى قانون السوق قام على البضاعة، والأشياء المادية الأخرى، وهي أشياء ميتة، وتجاهل ما هو حي وهو الإنسان في المقام الأول، وهدف هذا العلم ومبتغاه ليس الإنسان، بل النتاج الداخلي الأولي».

إن النظرة الضيقة للشمال، والأنانية المبتلى بها في تقييمه للشعوب وللمشاكل في العالم الثالث، وإهماله لمعالجة هذه المشاكل، لن يمنع انتقال الأوبئة والأمراض والمشاكل من العالم الثالث الفقير إلى دول الشمال الغني بأي شكل من الأشكال، ولذلك رأينا كيف أن الملاريا التي هي من أمراض الجنوب الفقير، والتي كان الشمال الغني يعتبرها مشكلة هامشية، لأنها ثمرة الفقر، وتباطؤ التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الجنوب، كما كانوا ينظرون إليه، رأينا كيف أنه انتقل إلى بعض بلدان الشمال مثل فرنسا، حيث إنه انتشر في (كاماراغ) بجنوب فرنسا ومن ثم تبدلت النظرة، التي تصدر عن أنانية مفرطة ومثيرة حيال تلك الأمراض الجنوبية الوافدة، مما حدا بفرنسا إلى الاهتمام بهذا المرض، ليس باعتباره فتَّاكاً بالنسبة للبشرية بشكل عام، بل باعتباره قابلاً للانتقال إلى دول الشمال.

وانتقال الأمراض والأوبئة من هنا إلى هناك يجعلنا نتساءل: كيف يريد العالم الصناعي ودول الشمال الغنية، أن تتعامل مع مشاكل العالم الثالث؟

هل تنتظر أن تنتقل تلك المشاكل والأمراض إليها فتعالجها؟.

أم أن العقل يدعوها إلى معالجة ذلك، عبر المساهمة في حل مشاكل العالم الثالث في بيئتها الأولية؟.

هل هنالك أساساً جدية لدى دول الشمال لمعالجة مشاكل الجنوب، أم أنهم لا يزالون يتصرفون تصرف المحتلين والاستعماريين لهذه الدول؟.

أحياناً نجد أن دول الشمال تبدي الاهتمام بمشكلة هنا أو مشكلة هناك، ومجاعة هنا ومجاعة هناك، ومرض هنا ومرض هناك، إلا أن التدقيق في هذا الاهتمام والمساعدات التي ترافقها، التي عادة ما تأتي مضخَّمة في وسائل الإعلام، كل ذلك يكشف عن فضائح وكوارث يرتكبها الشمال بحق الجنوب، فمثلاً: في عام 1990م عندما كان السودان يواجه الحرب الأهلية والمجاعة، تبرعت له شركات الأدوية الغربية بإرساليات طبية تحتوي على (عدسات لاصقة) وأدوية (محفزة على الشهية للطعام) وعقاقير لعلاج (الكولسترول) الذي يصيب الناس بسبب الإفراط في تناول الأطعمة الغنية بالدهون، وأثار ذلك السخرية. لأن المشكلة في السودان كانت تتمثل في المجاعة وقلة الأطعمة وليس كثرتها، ولم تكن هنالك مشكلة عدم وجود الشهية للطعام، حتى يحتاج الناس هناك لأدوية محفزة للشهية، ولا كانت هناك مشكلة عدم وجود «العدسات اللاصقة» للعين لكي يستبدلها السودانيون بنظاراتهم الطبية، ولا كانت المشكلة في ارتفاع نسبة (الكولسترول) في دماء السودانيين، ولذلك فإن هذه المساعدات أثارت السخرية، بدل الامتنان لدى السودانيين.

وهناك واحدة أخرى من الفضائح التي وردت في تقارير طبية أمريكية وأوروبية كشفت أن شركات صناعة الأدوية تحقق أرباحاً بملايين الدولارات عن طريق التخلص من أدوية تالفة على حساب صحة الناس في بلدان العالم الثالث.

وأوردت التقارير أسماء شركات كبرى قامت بإرسال مضادات حيوية انتهى مفعولها، وأدوية لعلاج الحيوانات أدت إلى حوادث عمى بين الناس، وكشفت تقارير ساهمت في إعدادها جامعة (بوسطن و هارفرد) فضائح مثيرة، مثل إرسال أجهزة طبية من مخلفات الحرب العالمية الثانية إلى إحدى جمهوريات يوغسلافيا السابقة، وذكرت التقارير أن البلدان المحتاجة التي تتلقى التبرعات، تواجه غالباً مشكلة التخلص من المعدات والأدوية الفاسدة التي تحتاج إلى محارق وأفران ووسائل متقدمة لا تتوافر عادة لديها، مقابل ذلك تحصل الشركات المصدرة للأدوية على إعفاءات ضريبية بملايين الدولارات، باعتبار أن ما تقدمه إلى تلك البلدان هي تبرعات لمحتاجين، وهبات إنسانية لأهل الجنوب.

وأورد تقرير أعده الدكتور (ريتشارد دلينف) أستاذ الصحة العامة العالمية في جامعة (بوسطن) أمثلة عن قيام شركات أدوية كبرى مثل شركة: (ELI..LILLY) بإرسال مضادات حيوية غير مجازة من قبل السلطات الصحية الأمريكية إلى رواندا، وقيام شركة (JANSSEN PHARMACETICA) بإرسال أدوية بيطرية خالية من الإرشادات حول استخدامها، مما أدى إلى إصابة إحدى عشرة امرأة في (لتوانيا) بالعمى الكامل.

ونشرت المجلة الطبية الأمريكية المعروفة: (NEW ENGLAND JORNAL MEDICINE ) تقريراً فاضحاً عن تبرعات الأدوية، الفاسدة والمستهلكة، إلى جمهوريات يوغسلافيا السابقة. وأيضاً ذكر التقرير الذي أعده الاتحاد الأوروبي للصحة والتنمية، أن جمهورية البوسنة والهرسك تلقت تجهيزات طبية عسكرية يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية، وأرسلت لها أدوية لعلاج مرض «الجذام» الذي لا وجود له في البلاد. وكشف التقرير عن تراكم سبعة عشر ألف طن متري من الأدوية غير النافعة، والتي لا يمكن استخدامها، في المستودعات والعيادات في البوسنة والهرسك، ويمثل هذا الرقم نحو 60% من مجموع تبرعات الأدوية لهذه البلاد، التي لا تملك اليوم وسائل للتخلص منها.

وتعترف بعض شركات الأدوية بأن التبرعات هذه إنما هي طريقة للتخلص من مخزونات أدويتها القديمة، وبخاصة تلك التي اقترب أجلها أو انتهى، وحسب المجلة السابقة الذكر فإن التبرعات تمثل حافزاً اقتصاديًّا قويًّا لشركات الأدوية، وأوردت مثلاً على ذلك مجموعة شركات (BERCK MAN) التي حققت ربحاً يتجاوز (خمسة وعشرين مليون دولار) عن طريق إرسال الأدوية إلى البلدان المحتاجة، بدلاً من التخلص منها في مواطنها، وأقرت الشركة: أن المتبرع يستفيد أيضاً من التخفيضات الضرائبية، لأن التبرعات تعتبر منحاً إنسانية، ولقد كانت هذه الأدوية فاسدة إلى درجة أن منظمة الصحة العالمية، وضعت تعليمات خاصة حول تبرعات الأدوية وإفهام الشركات قائلة: إن التبرع بأي دواء لا يعني دائماً أفضل من لا دواء.

وكما تفعل دول الشمال الغنية مع العالم الثالث الفقير، فيما يرتبط بإرسال الأدوية في صورة تبرعات للتخلص منها، كذلك فإن بلدان العالم الصناعي تنظر إلى العالم الثالث بوصفه مخزن نفايات لمخلفات تقنياتها النووية، حيث تدفن تلك النفايات في بلدان العالم الثالث.

وكان آخر ما اكتشفته شركة (GREEN PEACE) المدافعة عن البيئة، مجموعة براميل لنفايات نووية أرسلت إلى لبنان أيام الحرب الأهلية. وتم إرجاعها إلى هولندا البلد المرسل.

أما في مجال الصناعة، فإن التقدم الصناعي يظل في الواقع بمثابة الأحلام الممنوعة التحقيق لدى سكان العالم الثالث، ويعود ذلك إلى منطق النظام الدولي الذي يمنع كل تقدم في الجنوب للاقتصاد التنافسي لكيلا يصبح هذا العالم منافساً لمصالحها في بلدانها، ومن هنا فإن المثلث الصناعي الذهبي، الذي يتشكل من أوروبا وأمريكا واليابان، يحاول بكل قوة أن يحافظ على تفوقه الساحق في مجال الإنتاج، فمثلاً بالرغم من أن أجر العامل الصيني يقل بأربعين ضعفاً عن أجر العامل الفرنسي، إلا أن إنتاج العامل الفرنسي يزيد بعشرة أضعاف عن إنتاج العامل الصيني.

ومع أن المراكز التقليدية للصناعة اضطرت تحت عوامل اقتصادية إلى ترحيل صناعتها إلى البلدان التي تكون الأيدي العاملة فيها رخيصة، إلا أنها تمنع انتقال التكنولوجيا والصناعة المتقدمة إلى تلك البلدان، ففي مجال إنتاج السيارات نجد أن اليابانيين نقلوا صناعتهم إلى البلدان الفقيرة، وهم ينتجون اليوم عشرين بالمائة من معدّاتهم الإلكترونية وثمانية عشر بالمائة من سياراتهم خارج اليابان. وقد أنتجت المصانع اليابانية في الخارج ثلاثة ملايين ومائة وخمسة وسبعين ألف سيارة في العام 1996م. وكذلك أيضاً فعلت المانيا، ولكن تلك البلدان تبدي حرصاً شديداً على التمسك بما يسمى بالحاجز التكنولوجي، فهي تحتكر لنفسها القطاعات الأكثر تقدماً في الصناعة، وتعمل باستمرار على تبعيد الحد التكنولوجي الذي يفصل بينها وبين البلدان الملتحقة حديثاً بالثورة الصناعية، ففي صناعة الطائرات على سبيل المثال -وهي واحدة من أولى الصناعات التي ينطبق عليها مفهوم الحاجز التكنولوجي- فإن هذه الصناعة كانت ولا تزال حكراً أمريكيًّا في المقام الأول وأوروبيًّا في المقام الثاني، فالولايات المتحدة تؤمن بمفردها نصف الإنتاج العالمي من الطائرات، ومقابل كل أربع من الطائرات الأمريكية، فإن الشركات الأوروبية لا تنتج سوى طائرة واحدة، وفي مجال الطائرات العملاقة أنتجت معامل (بوينج) الأمريكية أربعة آلاف ومائتين وخمسة وثمانين طائرة، في الفترة ما بين 1981م و1995م، في حين لم يتعدَّ إنتاج معامل (أيرباص) الأوروبية المشتركة خلال الفترة نفسها ألف ومائتين وثمانية عشرة طائرة فقط، أما في البلدان الأخرى فلا إنتاج للطائرات أصلاً!

وفي مجال صناعة الفضاء يتقاسم الأوروبيون والأمريكيون بالمناصفة هذه الصناعة التي لم يكن لها وجود قبل عام 1970م، ويسيطر الأمريكيون على نحو 60% من فضائيات الاتصال المدني، كما يسيطر الأوروبيون على نحو 34%، في حين تعود حصّة 6% إلى اليابانيين والروس والصينيين..

وكذلك فإن الأمريكيين والأوروبيين واليابانيين يسيطرون على 80% من الصناعة الأكثر أهمية في العالم وهي صناعة الإلكترونيات، في حين تتراكم في بلدان العالم الثالث الصناعات الاستخراجية، مما يعني أن دور الصناعة فيها لا يتعدى إنتاج المواد الأولية برسم التصدير إلى البلدان المصنّعة.

هذا بالإضافة إلى ضمور القطاع الصناعي في هذه البلدان، وإن النشاط الصناعي الغالب فيها هو النشاط الصناعي الخفيف الذي يعتمد على تكنولوجيا سهلة، ويد عاملة غزيرة وغير ماهرة، وكثافة رأسمالية ضعيفة، واستراتيجية تصنيعية إحلالية، تتركز على إنتاج السلع الاستهلاكية غير المعمّرة ولا تعتمد على الصناعات التصنيعية، ولهذا فإنه حتى بعد سقوط فرضية حتمية التخلف بعد صعود النمور الآسيوية، فإن الجنوب يبقى مرشحاً لأن يبقى جنوباً ومتخلفاً في القرن الحادي والعشرين في مجال الصناعة، وذلك بسبب فرض الدول الصناعية الكبرى حاجزاً تكنولوجيًّا أمام صناعاتها.

أمّا في مجال السياسة، فإن الكارثة تبدو أكبر مما هي في مجالات الاقتصاد والزراعة والصناعة، ذلك أن بلدان العالم الثالث تعاني من استبداد سياسي مقيت، وحكومات شمولية بلا حدود، وغالباً ما تكون متحالفة مع الدول الصناعية الكبرى، أو مفروضة من قبلها على تلك البلدان.

ولاشك في أن تصدير الاستبداد من قبل دول الشمال إلى الجنوب، هو من أجل استمرار سيطرتها، ولاستمرار استنزاف الطاقات والمواد الأولية من هذه البلدان.

فالسياسة الفاسدة هي حليفة فساد الاقتصاد في هذه البلدان، ولكن لاشك في أن نتائج الاستبداد في العالم الثالث لن تبقى محصورة فيها، ولابد أن تنتقل إلى الدول الأخرى بما في ذلك الدول الصناعية.

ولنا في تجربة احتلال الكويت من قبل صدام حسين في العام 1991م خير دليل على ما نقول. فلقد قرر دكتاتور العراق، بعد انتهاء حربه مع إيران، أن يغزو جارته الكويت، ويلغيها من الجغرافيا، مبرراً ذلك بأنها كانت، في يوم من الأيام، جزءاً من العراق، ثم وجدنا كيف أن هذه القضية أصبحت مشكلة عالمية استدعت تحالف ثلاثين دولة من الدول العظمى والصغرى، والدخول في حرب مدمرة، ليس ضد حاكم العراق، وإنما ضد البنية التحتية في العراق.. وبعد إخراج القوات العراقية من الكويت تم فرض حصار اقتصادي شامل على هذا البلد الذي لازال يعاني منه.

وأتذكر أنني اشتركت في مؤتمر الجمعيات الإسلامية في كل من أمريكا الشمالية واللاتينية في مدينة (ساوباولو) في البرازيل، وعلى المنصة كان إلى جانبي رئيس مجلس النواب البرازيلي، وكان الاقتصاد البرازيلي يعاني بسبب غزو الكويت من ارتفاع في أسعار البترول، وفي كلمته أشار رئيس مجلس النواب إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية في البرازيل بسبب ذلك، وبعد انتهاء كلمته جاء دوري لإلقاء كلمتي فعلّقت على هذا الكلام في خطابي قائلا: إن آثار الطغيان لا يمكن أن تقتصر على دولة في العالم الثالث، بحيث لا تنتقل إلى الدول الأخرى، وذكرت أن صدام حسين حينما قام بالتعاون مع أحمد حسن البكر بانقلابه العسكري، واستلم الحكم في بغداد وبدأ يمارس الطغيان بحق الشعب العراقي، واعتقل الأبرياء، وعذّبهم، وقتلهم، وفرض حكماً شموليًّا على العراق، ظن جيران العراق أن هذا الأمر لا يخصهم، باعتبار أن تلك هي مشكلة داخلية، تخص العراقيين فحسب، ولكن لم يمر زمن طويل حتى انتقل طغيان الرجل إلى إيران، فشنَّ حرباً طاحنة سببت دماراً شاملاً في كلا البلدين، وأدت إلى تدمير أكثر من ألف قرية، ومائتي مدينة، وقُتل فيها ما لا يقل عن مليون من البشر، وتجاوز عدد الجرحى والمعاقين المليونين.

وإبّان تلك الحرب، كان حكام الدول المحيطة بكل من العراق وإيران، ينظرون إلى الحرب وكأنها لا تخصهم، بل إن بعض تلك الحكومات زودت صدام حسين في تلك الحرب بالمال والسلاح، إلا أن مشكلة صدام حسين لم تقتصر على العراق وإيران، بل إن طغيانه شمل بعد ذلك الكويت أيضاً، كما طال بقية الدول وحوّل دول الخليج الغنية، إلى دول مدينة تعاني من عجز في ميزانياتها.. وأتذكر أن مندوب الكويت في مؤتمر البرازيل أشار في كلمته إلى أنه يتمنى أن يُبنى جدار بارتفاع عشرين متراً بين الكويت والعراق، وكان تعليقي على كلامه أن مثل هذا الجدار لن يمنع انتقال شرور صدام حسين، في أيّ يوم من الأيام، إلى دول الجوار، كما أنه لا داعي إلى مثله إذا سقط صدام وأصبح الوضع في العراق يحكمه الخير لا الشر، والحكمة لا الطيش، والصلاح لا الفساد، والشورى لا الاستبداد.

وكما في مسألة العراق كذلك في قضايا العالم الثالث كله، وفي الحقيقة فإن ما لا يقل عن 80% من مشاكل العالم الثالث في المجال السياسي هي ألغام تم زرعها من قبل الدول الصناعية لإثارة الحروب والأزمات في تلك البلاد، ففي كل مكان حكمه الاستعمار، ترك (دمّلة) قابلة للانفجار ونشر القيح في محيطها.

وعلى كل حال فإن مشاكل العالم الثالث في عصر العولمة والقرية الواحدة، لا يمكن أن تنحصر في بلد دون بلد، أو تنحصر على البلدان المتخلفة، ولا شك في أن العلاقات البشرية تبقى مترابطة ومتشابكة، وكذلك مصالحها.

ومن هنا فإن نظرية أن عالم الأغنياء يجب أن يبقى غنياً، وعالم الفقراء يجب أن يبقى فقيراً، وعالم الأصحاء يجب أن يبقى صحيحاً، وعالم المرضى يجب أن يبقى مريضاً، هذه النظرية لا يمكن أن تستمر.. وإن أولئك الذين يجلسون في أبراج عاجية ويتكئون على الأرائك في قصورهم، غاضّين الطرف عن مشاكل العالم الثالث يخطئون مرتين:

مرة حين لا يساهمون في حل تلك المشاكل التي هي في مجملها من صناعة أيديهم.

ومرة حينما يظنون أن تلك المشاكل ستبقى مختصرة على شعوبها، ولا تنتقل إليهم البتة.

ومن هنا فإن من الضروري جدًّا أن يكون هنالك اهتمام دولي بالعالم الثالث -بدل الإهمال الدولي لهذا العالم- اهتماماً صادقاً وجديًّا، والتعاون مع شعوب هذا العالم لتجاوز محنه ومشاكله.

ولابد هنا من تذكير المسؤولين في العالم الصناعي بأن الكرة الأرضية، تدور ليس فقط حول محورها، وإنما هي تدور في واقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضاً. فالبشر يدورون في دولاب، فمن يعيش اليوم في المقصورة الصاعدة، فإنه سينزل منها في يوم من الأيام لينتقل إلى المقصورة النازلة، وربّ العباد يمتحن الناس بالغنى والفقر ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فالرب ينظر اليوم نظرة عطف إلى منطقة معينة فإذا لم تكن تستحق ذلك العطف، وظلم سكانها غيرهم، ولم يلتزموا بقيم السماء، فإن الله يسلب منهم عطفه، ويسوقه إلى غيرهم.. ذلك ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

وبكلمة فإن مصلحة العالم تكمن بلا تردد في المساهمة في حل مشاكل (أهل المشاكل)، ففي ذلك خدمة لهم، ووقاية من انتقالها إلى الآخرين.

وإلاّ فإن سكان سفينة الأرض لن ينجو منهم أحد إذا غرقت السفينة بسبب مشاكل أهل الجنوب وجشع أهل الشمال 1