انشاء لجنه الحقيقه المصريه اولى خطوات العداله الغائبه
مرسل: الأربعاء يوليو 11, 2012 5:54 am
أمل مختار
صدر حكم القضاء المصري في قضية قتل المتظاهرين المتهم فيها مبارك والعادلى وستة من كبار معاونيه، بالإضافة إلى قضيتي التربح وتصدير الغاز المتهم فيها مبارك ونجليه ورجل الأعمال حسين سالم، وهى ما عرفت إعلاميا ودوليا بـ "محاكمة القرن"، ومنذ ذلك التاريخ والمظاهرات تتوالى في كافة ميادين التحرير في أنحاء الجمهورية. وقد كانت آمال الكثير من المصريين متعلقة بهذه المحاكمة فجاءت مخيبة لكل آمالهم على الرغم من الحكم بالمؤبد على كل من الرئيس السابق ووزير داخليته، وذلك بسبب تأكيد معظم القانونين على سهولة حصولهما على البراءة من خلال النقض، بالإضافة إلى براءة كافة مساعدين الوزير وهم من يمكن اعتبارهم المسئولين المباشرين عن قتل المتظاهرين، بل وأيضا المسئولين عن ممارسات جهاز الشرطة وانتهاكاته الجسيمة والتي كانت سببا رئيسيا في اندلاع ثورة يناير.
ويمكن قراءة حالة الشارع المصري عقب صدور الحكم، على النحو التالي:
أولا:
لم يكن الغضب الشديد غضبا من الحكم الأخير فقط، بل كان تعبيرا عن غضب تراكم خلال عام ونصف شهدت فيه مصر أحكام متتالية من البراءة، حيث لم يصدر حكم قضائي بإدانة اى من أفراد أو قيادات جهاز الشرطة إلا باستثناءات بسيطة جدا. ومن ثم يمكن تفسير هذه الأحداث على أنها احتجاج ورفض لكافة الأحكام القضائية السابقة، وكذلك القادمة التي من المتوقع أن تسير في هذا الاتجاه وذلك بسبب عدم وجود أدلة كما أشار القاضي في حيثيات حكمه. وهو ما يعنى براءة جماعية لكل جهاز الشرطة بل والنظام السابق بكامله. وهذا الأمر أثار غضب تيار كبير يتمثل في أهالي الشهداء والمصابين وكافة المشاركين والمؤيدين والمتعاطفين مع ثورة يناير. ومع التسليم بأن هذا التيار لا يمكن أن يمثل حسابيا مجمل الشعب المصري، لكن لا يمكن إغفال انه بلا شك يمثل شريحة تقدر بالملايين.
ثانيا:
لا يمكن فهم كل هذا الغضب من الحكم القضائي بمعزل عن عملية الانتخابات الرئاسية، حيث انه مما لا شك فيه هناك تيارات تتواجد في قلب هذه المظاهرات بهدف محدد وهو كسب تأييد شعبي لمرشحها الرئاسي. لكن بشكل عام هناك تيار اكبر يضم فئات أخرى لا تهدف لمصلحة مباشرة لأي من مرشحي الرئاسة، ربطت بين المحاكمة ونتيجة الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية من منطلق أن المحاكمة مثلت احد صور "العدالة الغائبة" في الفترة الانتقالية الأولى والتي من المقرر أن تنتهي بانتخاب الرئيس، ومن ثم إذا ما جاءت نتيجة الانتخابات بشفيق رئيسا فهذا بلا شك يعنى استمرار أحكام البراءة لكافة رموز وأركان النظام السابق، وهو الأمر الذي يفسر حالة الغضب الشديد ضده شخصيا داخل ميادين التحرير بصورة اكبر من الغضب ضد القضاء أو النيابة أو حتى الرئيس السابق نفسه، لان هؤلاء الغاضبين يريدون الحيلولة دون وصول شفيق إلى سدة الرئاسة حتى تكون هناك فرصة لإدانة رموز النظام السابق وقيادات جهازه الأمني. وخاصة وانه ليس فقط احد رموز النظام السابق ورئيس الوزراء في وقت موقعة الجمل، ولكن أيضا لان برنامجه الانتخابي تضمن دعوى للمصالحة وإشارة إلى إمكانية التصالح في قضايا الفساد المالي ولم يشر إطلاقا إلى إعادة المحاكمات وهو الأمر الذي اجتمع عليه معظم مرشحين الرئاسة الآخرين.
ثالثا:
كذلك أيضا جاء الحكم ليزيد من حالة المشاحنات الشديدة التي يعيشها المجتمع المصري خلال الفترة الانتقالية والتي ارتفعت حدتها منذ بداية الدعاية في الانتخابات الرئاسية حتى وصلت ذروتها بعد إعلان النتيجة، تلك المشاحنات والاتهامات المتبادلة بالخيانة والعمالة التي تجتاح المجتمع المصري من قمته المتمثلة في مؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية أو النخب والأحزاب والقوى السياسية، وحتى قاعدته العريضة على مستوى المواطنين في العمل ووسائل المواصلات والشوارع والميادين والبيوت.
والسبب الرئيسي في هذه الحالة ليس "غياب العدالة" وإنما "غياب الحقيقة"، حيث أن غياب العدالة يؤدى إلى الغضب والتظاهر وربما الثورة كما سبق الإشارة، ولكن غياب الحقيقة يؤدى إلى هذه الحالة المنتشرة بصورة مخيفة في المجتمع المصري والتي يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، ويساهم في تأجيجها واستفحالها الآلة الإعلامية التي يعمل نجومها وفقا لتوجهات وتمويلات متباينة. فخلال عام ونصف لم تقدم التحقيقات اى إدانات واضحة للأطراف المتسببة في اى من الأحداث الدامية العديدة بداية من موقعة الجمل الأولى والتي وقعت في التحرير في الثاني من فبراير 2011 أو في اى موقعة جمل أخرى بعد ذلك. ولكنه دوما ما تنتهي الواقعة بقائمة جديدة من الأسماء تضاف إلى قوائم الشهداء والمصابين دون تحديد الفاعل الأصلي والمحرك والممول لتلك الجريمة، والمحصلة الأخيرة تكون مزيد من الغموض وعدم الوضوح والحديث عن الطرف الثالث، الذي يفسره البعض على انه فلول النظام السابق بالتعاون مع بقايا امن الدولة، ويفسره البعض الآخر انه أجهزة مخابرات غربية بالتعاون مع بعض الائتلافات الشبابية المغرر بها، ويفسرها آخرون انه عناصر إرهابية يحركها حزب الله وحماس بالتعاون مع عناصر جهادية إسلامية في مصر مع إشارة خاصة جدا لجماعة الإخوان المسلمين. وهنا تكمن خطورة الطرف الثالث غير الواضح لأنه السبب الرئيسي في ذلك المناخ السائد من التناحر والتشاحن.
مما سبق يتضح أن المخرج الحقيقي من هذا المأزق الذي تعيشه مصر في هذه الفترة الانتقالية الحرجة هو إعلان الحقيقة، وهو أمر لا يتحقق من خلال خطبة يقولها القاضي في بداية نطقه بالحكم من أن النظام السابق كان فاسدا وان الثورة كانت سلمية وطاهرة، ولا يكون من خلال إشارة من مرشح رئاسي بتقديره للثورة وتعهده بعدم العودة إلى النظام السابق، ولا تكون بتحية عسكرية من احد قيادات المجلس العسكري لشهداء الثورة. وإنما تكون بكتابة حقيقة ما جرى في مصر خلال ثورة يناير بل وطوال الثلاثة عقود الماضية.
إذاً فالمشهد المصري اليوم ينقصه وبشدة تشكيل "لجنة الحقيقة المصرية"، وقد شهد العالم إنشاء نحو عشرون لجنة للحقيقة في شتى دول العالم وبمسميات مختلفة وبأهداف فيها قدر طفيف من التباين وقدر كبير من التشابه، حيث تتشابه جميعها في كونها هيئات حكومية تنشأ بالأساس لتسجيل وتوثيق حقيقة انتهاكات الماضي، بهدف إعادة الوحدة الوطنية دون إهدار لحقوق ضحايا النظام السابق ولا حرمان النظام السابق من فرصة إعادة تأهيله واستيعابه مرة أخرى في المجتمع والدولة الجديدة.
ولكن كيف تشكل مصر لجنة للحقيقة؟
1. يجب أن تتوفر أولا رغبة حقيقية وإرادة لدى القيادة الجديدة لإنشائها، فعلى سبيل المثال تشكلت "لجنة الحقيقة والمصالحة الوطنية" في شيلي في 1990 بقرار من الرئيس "باتريثيو الوين" وهو أول رئيس مدني منتخب بعد نهاية النظام العسكري القمعي. أما "لجنة الحقيقة والمصالحة" في جنوب إفريقيا وهى الأشهر على مستوى العالم فقد جاء تشكيلها في 1995 بقرار من البرلمان وذلك بعد خروج مانديلا من السجن الذي قضى فيه 27 عاما وانتخابه رئيسا للبلاد في 1994 وانتهاء فترة حكم الابارتيد العنصري في البلاد. وفى الأرجنتين تشكلت "اللجنة الوطنية للمفقودين" بقرار من الرئيس "الفونسين" في 1983 باعتباره أول رئيس مدني منتخب بعد انتهاء ست سنوات قاسية من حكم العسكر في البلاد. ومما سبق يتضح انه من الضروري أن تنشأ لجنة الحقيقة بقرار من قيادة غير متورطة في انتهاكات وتجاوزات وجرائم النظام السابق بأي حال من الأحوال.
2. من الضروري أن تكون هناك رؤية واضحة للهدف من إنشاء اللجنة، بمعنى أن يتحدد مسبقا ما هي القضايا التي ستبحث فيها اللجنة وما هو الهدف من وراء هذه التحقيقات وهذا العمل، وغالبا ما يذكر هذا في قرار إنشاءها ويكون واضحا في تسميتها. ففي جنوب إفريقيا كان الغرض الأساسي من تكوين هذه اللجنة هو تضميد جراح ملايين من السود وهم السكان الأصليون وغالبية المواطنون من انتهاكات حقوقية جسيمة تعرضوا لها لعقود طويلة على يد التمييز العنصرى للطبقة البيضاء، ولكنه في نفس الوقت كان هناك هدف واضح وهو تحقيق المصالحة بين عنصري المجتمع، حيث أن الأقلية البيضاء يبلغ عددها نحو خمس ملايين نسمة لا يمكن معاقبتها بالكامل أو حتى نبذها في المجتمع، وكان لابد من إيجاد طريقة ما لاستيعاب الجميع، وقد كانت لجنة الحقيقة والمصالحة هي السبيل لذلك. أما في الأرجنتين كما سبق الإشارة فيظهر من اسمها أنها كانت مكلفة فقط بكشف الحقيقة حول اختفاء نحو 9000 مواطن ارجنتينى في ظل النظام العسكري القمعي، ومن ثم كان عملها منصب على هذا، واستطاعت أن تحدد الفاعلين والمسئولين عن هذه الجرائم تمهيدا لمقاضاتهم ومحاسبتهم قانونيا. والنماذج عديدة ومختلفة أما ما يخص الحالة المصرية فيجب أن تكون هناك رؤية واضحة للهدف من هذه اللجنة، لأنه إذا سلمنا بأن الأوضاع الاقتصادية المتردية والانتهاكات الحقوقية الصارخة التي عاشها المجتمع المصري في العقود الماضية كانت سببا في اندلاع الثورة، إذا يجب أن تكون هناك لجنة لكتابة كافة التجاوزات وكافة الانتهاكات التي لا تقتصر فقط على قتل الثوار أو ضحايا قانون الطوارئ، بل أيضا هناك إهدار المال العام والتربح وسرقة الثروات الطبيعية أو التاريخية التي هي ليست فقط انتهاك لحق هذا الجيل الذي قام بالثورة بل أيضا لأجيال لاحقة أخرى. إن لجنة الحقيقة المصرية تحتاج أن تكون لجنة ذات طبيعة خاصة جدا لأنها منوطة بكشف حقيقة انتهاكات حقوقية ومالية وأيضا تاريخية.
3. من جانب يعد من المهم جدا أن يكون أعضاء اللجنة من خارج النظام السابق، لضمان نزاهة عملها، ومن جانب آخر لا يصح أن تتشكل اللجنة من أعضاء منتمين إلى أحزاب أو قوى سياسية فاعلة في النظام الجديد، بل يجب أن تكون لجنة محايدة يغلب عليها الطابع القانوني. ففي شيلي تشكلت اللجنة من ثمانية أعضاء ستة من الرجال وامرأتين من أعمار مختلفة وهم إما محامون أو رجال قضاء أو أساتذة قانون في الجامعة مشهود لهم بأنهم جميعا لم يكونوا يوما جزءا من النظام السابق أو مستفيدين منه بأي حال من الأحوال. وفى جنوب إفريقيا تشكلت اللجنة من مجموعة من القانونيين والحقوقيين ورجال المجتمع المدني من رجال ونساء وبرئاسة كبير الأساقفة والحاصل على جائزة نوبل للسلام القس (ديزموند توتو).
4. وفى النهاية يجب أن ينتهي عمل اللجنة بإصدار تقرير نهائي مفصل يتم نشره على الجميع، لأنه من أهم أهداف اللجنة بالأساس هو إعلان الحقيقة، حتى تنتهي حالة اللبس والغموض وتبادل الاتهامات الباطلة، بالإضافة إلى هذا تقدم اللجنة وفقا لما توصلت له من حقائق مجموعة من التوصيات بشأن المحاكمات والتعويضات وإصلاح المؤسسات. وعلى سبيل المثال قدمت لجنة الحقيقة في شيلي تقريرا تفصيليا اشتمل على توثيق حقيقة انتهاكات الحكم السابق، والذي أصاب المجتمع عقب نشره بحالة من الصدمة، لكنه كان سببا في إنهاء الجدل الدائر حول حكم مدني أم عسكري والوصول إلى إرادة شعبية تتلخص في عدم العودة إلى الحكم القمعي مهما كانت المخاوف. وفى جنوب إفريقيا مثل تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة فرصة وحيدة أمام المجتمع الذي شهد اشد أنواع العنصرية والتمييز ضد الغالبية السوداء للخروج من الماضي عن طريق الاعتراف بالخطأ وفى المقابل تعافى الضحايا من خلال الحصول على أهم حقوقهم وهو إعلان حقيقة ما جرى لهم وتعويضهم ومعاقبة المرتكبين للجرائم، حتى أن المتابع لعملية المصالحة الوطنية فيها يجد أن كثيرا من الضحايا كان يوافق بنفسه على العفو عن جلاده لأنه يكتفي فقط بإعلان الحقيقة وتوثيقها وإعادة حقوقه المسلوبة إن أمكن وإلحاق العار بالمنتهك للحقوق. بعد كتابة الحقيقة في جنوب إفريقيا لم يعد يستطيع احد داخل الدولة أن يشكك في أن هؤلاء الضحايا كانوا مناضلين وليس كما كان سائدا بأنهم خارجين عن القانون. ونحن نحتاج في الحالة المصرية كثيرا إلى استجلاء الحقيقة وتوثيقها، حتى لا نقع فريسة لمشادات متبادلة بين القوى السياسية وحالة من السيولة الشديدة للمعلومات الغير مؤكدة التي أصبحت هي الحال السائد الآن.
ومن المهم التأكيد على أن كتابة الحقيقة وإعلانها ليس عملا انتقاميا أو تعطيلا لمسيرة التقدم وبناء المستقبل، بل هو السبيل الوحيدة لتعافى المجتمع والخروج من حالة التناحر السائدة، وأيضا مساعدة القضاء على إتمام العدالة الناجزة، وأخيرا معرفة أهم نقاط الخلل في آليات النظام السابق ومؤسساته وقوانينه، والتي أدت إلى حدوث تلك الانتهاكات الحقوقية والمالية والتاريخية الجسيمة، من اجل الاستفادة من هذا في تطهير المؤسسات وإصلاح القوانين، لضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات في اى نظام يختاره وينتخبه المصريون في المستقبل.
.
صدر حكم القضاء المصري في قضية قتل المتظاهرين المتهم فيها مبارك والعادلى وستة من كبار معاونيه، بالإضافة إلى قضيتي التربح وتصدير الغاز المتهم فيها مبارك ونجليه ورجل الأعمال حسين سالم، وهى ما عرفت إعلاميا ودوليا بـ "محاكمة القرن"، ومنذ ذلك التاريخ والمظاهرات تتوالى في كافة ميادين التحرير في أنحاء الجمهورية. وقد كانت آمال الكثير من المصريين متعلقة بهذه المحاكمة فجاءت مخيبة لكل آمالهم على الرغم من الحكم بالمؤبد على كل من الرئيس السابق ووزير داخليته، وذلك بسبب تأكيد معظم القانونين على سهولة حصولهما على البراءة من خلال النقض، بالإضافة إلى براءة كافة مساعدين الوزير وهم من يمكن اعتبارهم المسئولين المباشرين عن قتل المتظاهرين، بل وأيضا المسئولين عن ممارسات جهاز الشرطة وانتهاكاته الجسيمة والتي كانت سببا رئيسيا في اندلاع ثورة يناير.
ويمكن قراءة حالة الشارع المصري عقب صدور الحكم، على النحو التالي:
أولا:
لم يكن الغضب الشديد غضبا من الحكم الأخير فقط، بل كان تعبيرا عن غضب تراكم خلال عام ونصف شهدت فيه مصر أحكام متتالية من البراءة، حيث لم يصدر حكم قضائي بإدانة اى من أفراد أو قيادات جهاز الشرطة إلا باستثناءات بسيطة جدا. ومن ثم يمكن تفسير هذه الأحداث على أنها احتجاج ورفض لكافة الأحكام القضائية السابقة، وكذلك القادمة التي من المتوقع أن تسير في هذا الاتجاه وذلك بسبب عدم وجود أدلة كما أشار القاضي في حيثيات حكمه. وهو ما يعنى براءة جماعية لكل جهاز الشرطة بل والنظام السابق بكامله. وهذا الأمر أثار غضب تيار كبير يتمثل في أهالي الشهداء والمصابين وكافة المشاركين والمؤيدين والمتعاطفين مع ثورة يناير. ومع التسليم بأن هذا التيار لا يمكن أن يمثل حسابيا مجمل الشعب المصري، لكن لا يمكن إغفال انه بلا شك يمثل شريحة تقدر بالملايين.
ثانيا:
لا يمكن فهم كل هذا الغضب من الحكم القضائي بمعزل عن عملية الانتخابات الرئاسية، حيث انه مما لا شك فيه هناك تيارات تتواجد في قلب هذه المظاهرات بهدف محدد وهو كسب تأييد شعبي لمرشحها الرئاسي. لكن بشكل عام هناك تيار اكبر يضم فئات أخرى لا تهدف لمصلحة مباشرة لأي من مرشحي الرئاسة، ربطت بين المحاكمة ونتيجة الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية من منطلق أن المحاكمة مثلت احد صور "العدالة الغائبة" في الفترة الانتقالية الأولى والتي من المقرر أن تنتهي بانتخاب الرئيس، ومن ثم إذا ما جاءت نتيجة الانتخابات بشفيق رئيسا فهذا بلا شك يعنى استمرار أحكام البراءة لكافة رموز وأركان النظام السابق، وهو الأمر الذي يفسر حالة الغضب الشديد ضده شخصيا داخل ميادين التحرير بصورة اكبر من الغضب ضد القضاء أو النيابة أو حتى الرئيس السابق نفسه، لان هؤلاء الغاضبين يريدون الحيلولة دون وصول شفيق إلى سدة الرئاسة حتى تكون هناك فرصة لإدانة رموز النظام السابق وقيادات جهازه الأمني. وخاصة وانه ليس فقط احد رموز النظام السابق ورئيس الوزراء في وقت موقعة الجمل، ولكن أيضا لان برنامجه الانتخابي تضمن دعوى للمصالحة وإشارة إلى إمكانية التصالح في قضايا الفساد المالي ولم يشر إطلاقا إلى إعادة المحاكمات وهو الأمر الذي اجتمع عليه معظم مرشحين الرئاسة الآخرين.
ثالثا:
كذلك أيضا جاء الحكم ليزيد من حالة المشاحنات الشديدة التي يعيشها المجتمع المصري خلال الفترة الانتقالية والتي ارتفعت حدتها منذ بداية الدعاية في الانتخابات الرئاسية حتى وصلت ذروتها بعد إعلان النتيجة، تلك المشاحنات والاتهامات المتبادلة بالخيانة والعمالة التي تجتاح المجتمع المصري من قمته المتمثلة في مؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية أو النخب والأحزاب والقوى السياسية، وحتى قاعدته العريضة على مستوى المواطنين في العمل ووسائل المواصلات والشوارع والميادين والبيوت.
والسبب الرئيسي في هذه الحالة ليس "غياب العدالة" وإنما "غياب الحقيقة"، حيث أن غياب العدالة يؤدى إلى الغضب والتظاهر وربما الثورة كما سبق الإشارة، ولكن غياب الحقيقة يؤدى إلى هذه الحالة المنتشرة بصورة مخيفة في المجتمع المصري والتي يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، ويساهم في تأجيجها واستفحالها الآلة الإعلامية التي يعمل نجومها وفقا لتوجهات وتمويلات متباينة. فخلال عام ونصف لم تقدم التحقيقات اى إدانات واضحة للأطراف المتسببة في اى من الأحداث الدامية العديدة بداية من موقعة الجمل الأولى والتي وقعت في التحرير في الثاني من فبراير 2011 أو في اى موقعة جمل أخرى بعد ذلك. ولكنه دوما ما تنتهي الواقعة بقائمة جديدة من الأسماء تضاف إلى قوائم الشهداء والمصابين دون تحديد الفاعل الأصلي والمحرك والممول لتلك الجريمة، والمحصلة الأخيرة تكون مزيد من الغموض وعدم الوضوح والحديث عن الطرف الثالث، الذي يفسره البعض على انه فلول النظام السابق بالتعاون مع بقايا امن الدولة، ويفسره البعض الآخر انه أجهزة مخابرات غربية بالتعاون مع بعض الائتلافات الشبابية المغرر بها، ويفسرها آخرون انه عناصر إرهابية يحركها حزب الله وحماس بالتعاون مع عناصر جهادية إسلامية في مصر مع إشارة خاصة جدا لجماعة الإخوان المسلمين. وهنا تكمن خطورة الطرف الثالث غير الواضح لأنه السبب الرئيسي في ذلك المناخ السائد من التناحر والتشاحن.
مما سبق يتضح أن المخرج الحقيقي من هذا المأزق الذي تعيشه مصر في هذه الفترة الانتقالية الحرجة هو إعلان الحقيقة، وهو أمر لا يتحقق من خلال خطبة يقولها القاضي في بداية نطقه بالحكم من أن النظام السابق كان فاسدا وان الثورة كانت سلمية وطاهرة، ولا يكون من خلال إشارة من مرشح رئاسي بتقديره للثورة وتعهده بعدم العودة إلى النظام السابق، ولا تكون بتحية عسكرية من احد قيادات المجلس العسكري لشهداء الثورة. وإنما تكون بكتابة حقيقة ما جرى في مصر خلال ثورة يناير بل وطوال الثلاثة عقود الماضية.
إذاً فالمشهد المصري اليوم ينقصه وبشدة تشكيل "لجنة الحقيقة المصرية"، وقد شهد العالم إنشاء نحو عشرون لجنة للحقيقة في شتى دول العالم وبمسميات مختلفة وبأهداف فيها قدر طفيف من التباين وقدر كبير من التشابه، حيث تتشابه جميعها في كونها هيئات حكومية تنشأ بالأساس لتسجيل وتوثيق حقيقة انتهاكات الماضي، بهدف إعادة الوحدة الوطنية دون إهدار لحقوق ضحايا النظام السابق ولا حرمان النظام السابق من فرصة إعادة تأهيله واستيعابه مرة أخرى في المجتمع والدولة الجديدة.
ولكن كيف تشكل مصر لجنة للحقيقة؟
1. يجب أن تتوفر أولا رغبة حقيقية وإرادة لدى القيادة الجديدة لإنشائها، فعلى سبيل المثال تشكلت "لجنة الحقيقة والمصالحة الوطنية" في شيلي في 1990 بقرار من الرئيس "باتريثيو الوين" وهو أول رئيس مدني منتخب بعد نهاية النظام العسكري القمعي. أما "لجنة الحقيقة والمصالحة" في جنوب إفريقيا وهى الأشهر على مستوى العالم فقد جاء تشكيلها في 1995 بقرار من البرلمان وذلك بعد خروج مانديلا من السجن الذي قضى فيه 27 عاما وانتخابه رئيسا للبلاد في 1994 وانتهاء فترة حكم الابارتيد العنصري في البلاد. وفى الأرجنتين تشكلت "اللجنة الوطنية للمفقودين" بقرار من الرئيس "الفونسين" في 1983 باعتباره أول رئيس مدني منتخب بعد انتهاء ست سنوات قاسية من حكم العسكر في البلاد. ومما سبق يتضح انه من الضروري أن تنشأ لجنة الحقيقة بقرار من قيادة غير متورطة في انتهاكات وتجاوزات وجرائم النظام السابق بأي حال من الأحوال.
2. من الضروري أن تكون هناك رؤية واضحة للهدف من إنشاء اللجنة، بمعنى أن يتحدد مسبقا ما هي القضايا التي ستبحث فيها اللجنة وما هو الهدف من وراء هذه التحقيقات وهذا العمل، وغالبا ما يذكر هذا في قرار إنشاءها ويكون واضحا في تسميتها. ففي جنوب إفريقيا كان الغرض الأساسي من تكوين هذه اللجنة هو تضميد جراح ملايين من السود وهم السكان الأصليون وغالبية المواطنون من انتهاكات حقوقية جسيمة تعرضوا لها لعقود طويلة على يد التمييز العنصرى للطبقة البيضاء، ولكنه في نفس الوقت كان هناك هدف واضح وهو تحقيق المصالحة بين عنصري المجتمع، حيث أن الأقلية البيضاء يبلغ عددها نحو خمس ملايين نسمة لا يمكن معاقبتها بالكامل أو حتى نبذها في المجتمع، وكان لابد من إيجاد طريقة ما لاستيعاب الجميع، وقد كانت لجنة الحقيقة والمصالحة هي السبيل لذلك. أما في الأرجنتين كما سبق الإشارة فيظهر من اسمها أنها كانت مكلفة فقط بكشف الحقيقة حول اختفاء نحو 9000 مواطن ارجنتينى في ظل النظام العسكري القمعي، ومن ثم كان عملها منصب على هذا، واستطاعت أن تحدد الفاعلين والمسئولين عن هذه الجرائم تمهيدا لمقاضاتهم ومحاسبتهم قانونيا. والنماذج عديدة ومختلفة أما ما يخص الحالة المصرية فيجب أن تكون هناك رؤية واضحة للهدف من هذه اللجنة، لأنه إذا سلمنا بأن الأوضاع الاقتصادية المتردية والانتهاكات الحقوقية الصارخة التي عاشها المجتمع المصري في العقود الماضية كانت سببا في اندلاع الثورة، إذا يجب أن تكون هناك لجنة لكتابة كافة التجاوزات وكافة الانتهاكات التي لا تقتصر فقط على قتل الثوار أو ضحايا قانون الطوارئ، بل أيضا هناك إهدار المال العام والتربح وسرقة الثروات الطبيعية أو التاريخية التي هي ليست فقط انتهاك لحق هذا الجيل الذي قام بالثورة بل أيضا لأجيال لاحقة أخرى. إن لجنة الحقيقة المصرية تحتاج أن تكون لجنة ذات طبيعة خاصة جدا لأنها منوطة بكشف حقيقة انتهاكات حقوقية ومالية وأيضا تاريخية.
3. من جانب يعد من المهم جدا أن يكون أعضاء اللجنة من خارج النظام السابق، لضمان نزاهة عملها، ومن جانب آخر لا يصح أن تتشكل اللجنة من أعضاء منتمين إلى أحزاب أو قوى سياسية فاعلة في النظام الجديد، بل يجب أن تكون لجنة محايدة يغلب عليها الطابع القانوني. ففي شيلي تشكلت اللجنة من ثمانية أعضاء ستة من الرجال وامرأتين من أعمار مختلفة وهم إما محامون أو رجال قضاء أو أساتذة قانون في الجامعة مشهود لهم بأنهم جميعا لم يكونوا يوما جزءا من النظام السابق أو مستفيدين منه بأي حال من الأحوال. وفى جنوب إفريقيا تشكلت اللجنة من مجموعة من القانونيين والحقوقيين ورجال المجتمع المدني من رجال ونساء وبرئاسة كبير الأساقفة والحاصل على جائزة نوبل للسلام القس (ديزموند توتو).
4. وفى النهاية يجب أن ينتهي عمل اللجنة بإصدار تقرير نهائي مفصل يتم نشره على الجميع، لأنه من أهم أهداف اللجنة بالأساس هو إعلان الحقيقة، حتى تنتهي حالة اللبس والغموض وتبادل الاتهامات الباطلة، بالإضافة إلى هذا تقدم اللجنة وفقا لما توصلت له من حقائق مجموعة من التوصيات بشأن المحاكمات والتعويضات وإصلاح المؤسسات. وعلى سبيل المثال قدمت لجنة الحقيقة في شيلي تقريرا تفصيليا اشتمل على توثيق حقيقة انتهاكات الحكم السابق، والذي أصاب المجتمع عقب نشره بحالة من الصدمة، لكنه كان سببا في إنهاء الجدل الدائر حول حكم مدني أم عسكري والوصول إلى إرادة شعبية تتلخص في عدم العودة إلى الحكم القمعي مهما كانت المخاوف. وفى جنوب إفريقيا مثل تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة فرصة وحيدة أمام المجتمع الذي شهد اشد أنواع العنصرية والتمييز ضد الغالبية السوداء للخروج من الماضي عن طريق الاعتراف بالخطأ وفى المقابل تعافى الضحايا من خلال الحصول على أهم حقوقهم وهو إعلان حقيقة ما جرى لهم وتعويضهم ومعاقبة المرتكبين للجرائم، حتى أن المتابع لعملية المصالحة الوطنية فيها يجد أن كثيرا من الضحايا كان يوافق بنفسه على العفو عن جلاده لأنه يكتفي فقط بإعلان الحقيقة وتوثيقها وإعادة حقوقه المسلوبة إن أمكن وإلحاق العار بالمنتهك للحقوق. بعد كتابة الحقيقة في جنوب إفريقيا لم يعد يستطيع احد داخل الدولة أن يشكك في أن هؤلاء الضحايا كانوا مناضلين وليس كما كان سائدا بأنهم خارجين عن القانون. ونحن نحتاج في الحالة المصرية كثيرا إلى استجلاء الحقيقة وتوثيقها، حتى لا نقع فريسة لمشادات متبادلة بين القوى السياسية وحالة من السيولة الشديدة للمعلومات الغير مؤكدة التي أصبحت هي الحال السائد الآن.
ومن المهم التأكيد على أن كتابة الحقيقة وإعلانها ليس عملا انتقاميا أو تعطيلا لمسيرة التقدم وبناء المستقبل، بل هو السبيل الوحيدة لتعافى المجتمع والخروج من حالة التناحر السائدة، وأيضا مساعدة القضاء على إتمام العدالة الناجزة، وأخيرا معرفة أهم نقاط الخلل في آليات النظام السابق ومؤسساته وقوانينه، والتي أدت إلى حدوث تلك الانتهاكات الحقوقية والمالية والتاريخية الجسيمة، من اجل الاستفادة من هذا في تطهير المؤسسات وإصلاح القوانين، لضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات في اى نظام يختاره وينتخبه المصريون في المستقبل.
.