القوى الأدنى وإدارة الأزمة بين مصر والسعودية
مرسل: الأربعاء يوليو 11, 2012 5:59 am
د. معتز سلامة
عكست زيارة الوفد البرلماني الشعبي المصري للسعودية، في سياق مواجهة أزمة الجيزاوي وقرار المملكة استدعاء سفيرها للتشاور، الكثير من الملامح بشأن تشكل نهج جديد لإدارة الأزمات المصرية بعد الثورة. منذ البداية جاءت ردود الفعل المصرية على قرار المملكة لتشير إلى التخلي عن الرسمية والبروتوكولية المعتادة، وهو ما كان موضع استحسان بعض المصريين، ونقد من بعض آخر، لما رأوه أنه عكس تواضع مكانة القاهرة قبالة ما اعتبروه استعلاءً سعودياً، وتعبيراً عن شعور المملكة بالقيادة في الإقليم بعد الثورة المصرية.
بدا قرار استدعاء السفير -وفقاً لرؤية البعض في مصر- رد فعل مبالغاً فيه، لأنه قفز مرة واحدة على مستويات الرد الدبلوماسي الأدنى الأقل عنفاً، ومن ثم عكس سلوكاً غير متوقع من شقيق. وجاء رد الفعل المصري أيضا بحجم القرار السعودي، مبالغا في رد الفعل العاطفي ومتجاوزا أعراف وقواعد محددة منذ الخمسينيات بين دولتين تنافستا على قيادة العالم العربي، وبدا البلدان –ومصر تحديدا- إزاء حالة من التعبير تماهت فيها الرسمية باللارسمية. وعلى الجانب السعودي اتسم رد الفعل بالهدوء، ما تمثل في رد الملك عبد الله -خلال اتصال المشير طنطاوي به آملا أن تعيد المملكة النظر في قرارها- بالإجابة بأنه: "سينظر في الأمر خلال الأيام المقبلة وفقا للظروف ومصلحة البلدين"، وفي كلمته أمام الوفد المصري: "لن نسمح لهذه الأزمة العابرة أن تطول".
تعامل الجانب المصري مع الأزمة منذ البداية من منطلق الثقة في عمق علاقة البلدين؛ فأكد أكثر من مسؤول الثقة في عودة السفير خلال فترة وجيزة، وجرى التأكيد على أن العلاقات بين البلدين استراتيجية لا مجال فيها للقطيعة أو الانهيار، وحرصت أغلبية ردود الفعل في مصر على التأكيد على إبداء الأسف أو الاعتذار أحيانا للمملكة، وكان ما ورد في بيان المجلس العسكري من شعار "إلا السعودية" لافتا. واكتسبت ردود الفعل المصرية قدرا من الزخم والاحتشاد، حين قررت فوق الـ 120 شخصية من الشخصيات الرسمية وغير الرسمية من كل الأطياف السياسية في مصر الذهاب للمملكة (ضم الوفد رئيسي مجلسي الشعب والشورى، رؤساء الأحزاب منهم رئيسي حزبي الوفد السيد البدوي والغد أيمن نور، وممثلي القوى السياسية والنيابية وممثلو مشيخة الأزهر ودار الإفتاء والكنيسة الأرثوذكسية، وشخصيات عامة مثل د. يحيى الجمل ود. علي السلمي، وشخصيات فنية مثل نقيب الممثلين أشرف عبد الغفور والفنان محمود عبد العزيز والفنان محمد صبحي وهاني شاكر)، وتكررت خلال الزيارة عبارات "أزمة عابرة" أو "أحداث عابرة" من الجانبين بشأن تشخيص الأزمة، على نحو ما ورد بكلمة الملك عبد الله وكلمة د. الكتاتني. وكانت زيارة هؤلاء جميعا للرياض تعبيراً عن مستجدات في علاقات البلدين، التي لم تعد منحصرة في المسؤول السياسي الأول ممثلة في رئيس الدولة أو وزير الخارجية.
كشفت الأزمة عن مجموعة من الأمور، ليس من المعروف ما إن كانت تعكس ظروف وأوضاع المرحلة الانتقالية بمصر، أم مستجدات سوف تكون مستمرة في علاقات البلدين، وربما بين مصر ودول أخرى في حقبة ما بعد مبارك، لكن مهما كان، فإنها تشير إلى أمور جديدة أهمها ما يلي:
الدور الذي تلعبه القوى الأدنى: فقد أشارت الأزمة إلى الدور الذي لعبته "القوى الأدنى" كفاعل رئيسي، وهنا لا نقصد قبائل أو طوائف أو جماعات أدنى من الدولة، فذلك غير موجود في مصر، ولكن القوى المدنية، التي تتمثل بالأساس في الأحزاب والقوى السياسية وممثلي الطوائف الدينية وقيادات الأحزاب والشخصيات غير الرسمية، ومواقع التواصل الاجتماعي والإعلام والصحف، فضلا عن دخول الأزمة كمادة في تصريحات بعض مرشحي الرئاسة، ما يعكس المدخل الجديد في علاقات العالم العربي، بين دول الثورة ودول اللا ثورة، وهو ما يمكن أن يكون مشهدا دائما وجديدا على العلاقات العربية، حيث لم يعد من الممكن ضبط حركة وسلوكيات الفاعلين من قوى الداخل في دول الثورات تحديدا، وهو أمر يحتاج إلى فهم متبادل. ولا تعني الأدوار التي تلعبها القوى الأدنى النيل من مهابة وكرامة الدولة في ظل مرحلة الديمقراطية، لكن المهم أن تكون منسقة مع حركة وسياسة الدولة الرسمية، خصوصا إن كانت بالفعل بعض قواها يوجد بها تمثيل للجهاز الرسمي (رئيسا مجلسي الشعب والشورى). فلم يكن طبيعيا في السابق أن تتحرك وفود شعبية وبرلمانية لتفض أزمات سياسية، لكنها الآن ممكنة كحل مرحلي لغياب أو قصور الدبلوماسية الرسمية. لكن يجب الانتباه إلى حدود إسهامات الوفود البرلمانية والشعبية في مواجهة الأزمات، حيث أنها لا تذهب للتفاوض، وإنما تضفي أجواء من الدفء والود الذي يمكن أن يسكن الأزمات ويمهد للدبلوماسية الرسمية، أما حلها النهائي فيتطلب المستوى الرسمي الذي يقوم على التباحث حول الإجراءات. وباعتبار أن ما نشأ بين مصر والسعودية لا يشير إلى أزمة بقدر ما يتعلق بالأساس –وفق المفهوم السعودي- بما ألحقته يافطات الاحتجاجات بالذات الملكية، فإن إرسال وفد بهذا الحجم هو رد الفعل الطبيعي المناسب -وربما المفضل للمملكة- هذه المرة تحديدا، لما يحققه فيما يتعلق بهيبة الذات الملكية على الصعيد الداخلي هناك.
"الداخل" يتنافس على الخارج: كشفت إدارة الأزمة مع السعودية عن بعد جديد يتمثل في دخول الخارج كمادة في تفاعلات القوى والأجهزة في الداخل. فتعد زيارة الوفد المصري للمملكة أحد الدلائل التي تشير إلى بدء انعكاس التنافس بين قوى الداخل على السياسة الخارجية المصرية، وبدء ارتسام علامات جديدة عليها بعد الثورة، وبدء تطلع قوى جديدة -وخاصة الإخوان المسلمين- إلى عكس ثقلهم الداخلي على السياسة الخارجية، فلا يمكن إغفال حقيقة أن تكوين الوفد المصري من رئيسي مجلسي الشعب والشورى هي خطوة تخدم جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة. في الداخل تمثل رد فعل ربما على خطوة زيارة مفتي الجمهورية للقدس، وتشير إلى أنه إذا كان لجهاز آخر في الدولة أن يكون فاعلا في العلاقة مع إسرائيل ومسألة بحجم القدس فإن الإخوان والقوى الأخرى يمكنهم أن يحرزوا نتائج مهمة في مسألة بحجم الخليج والعلاقات مع السعودية. ويحرز الثقل الإخواني في الوفد مكاسب هائلة على صعيد تجسير علاقات الإخوان تحديدا مع السعودية ودول الخليج، التي ساءت بعيد أزمة الشيخ القرضاوي مع الإمارات، التي أعقبتها تصريحات د. محمود غزلان عضو مكتب الإرشاد، التي وضعت الجماعة وكأنها في صف قوى الثورة والتغيير في الخليج، وبالتالي تسهم تركيبة الوفد الزائر للسعودية في استعادة الإخوان ثقة الخليج. وتتضمن إشارة للسعودية بأنها يمكنها أن تعتمد مجددا على إخوان مصر في التعويض عن خسارتها لنظام مبارك، خصوصا مع ما للزيارة من صدى إيجابي على الداخل في السعودية.
الشعبية لا تغني عن الرسمية: مهما كان من تقدير للدبلوماسية الشعبية، إلا أن محصلتها على مصر بعد الثورة هو أمر ينبغي وضعه في حدوده، فدورها في هذا الأمر ليس أكثر من دور المسكنات، وإيجابيتها تعتمد على علاقات الدول ومدى عمق الرصيد العاطفي والسياسي والتاريخي، ولكنها لا يمكن أن ترتقي إلى دور المضاد الحيوي اللازم لدفع العرض والمرض. إنها قد تسهم في تلطيف الأجواء وتسكين الأزمات وليس حلها. فزيارة الوفود الشعبية تكون مناسبة لأحاديث الود، وليس لمباحثات بشأن أزمات العلاقات التي يعد أمرا طبيعيا أن تثور فيها مشكلات، لن يتم بحثها مع وفد شعبي، ومن ثم تترك الزيارات الشعبية القضايا الحقيقية من دون حل، ويكون حصادها ليس أكثر من أحاديث الود، وربما اختراق الآخر نفسيا للوفد الزائر بمجاملات قد يكون مردودها ضاغطا على صانع القرار هنا. كما أنها تزيد الضغوط على صانع القرار في مصر بإيهام حل المشكلات، فضلا عن ذلك قد تكون مجالا للابتزاز والتلاعب حين يسعى أطرافها لإحراز مكاسب سياسية في الداخل من جراء ذلك. ومهم جدا أن تستمر الدبلوماسية الشعبية، ولكن مع معرفة حدودها وضرورة تناغمها مع سياسة الدولة، وأن لا تمثل بديلا عن الدبلوماسية الرسمية، أو تنال من دور الأجهزة الدبلوماسية المصرية، وهي لها تجربة عريقة في إدارة العلاقات مع الخارج، ولكن تظل للدبلوماسية الشعبية دورا مهما في أنها بشكل عام تسهم في إزالة الصدأ الذي قد ينتج عن الإهمال أو الجفاء في الدبلوماسية الرسمية، وتمثل الدبلوماسية الشعبية مثل "قوى ناعمة" تتحرك بين بلدين وقت الأزمة.
لقد حققت زيارة الوفد الشعبي المستهدف منها على الجانب السعودي، وهو تغطية قرار الملك بعودة السفير من خلال غطاء من الوقار والمهابة تناظر حجم المطلوب لمعالجة الردود النفسية لما لحق بهيبة "الذات" على أسوار السفارة. وبالفعل عاد سفير المملكة مجددا، وبالتأكيد سيفرج عن الجيزاوي قريبا، ولكن يجب الاستفادة من دروس الأزمة في تعميق علاقات البلدين. وقد ينتقد البعض في مصر قرار المملكة استدعاء سفيرها على أنه شكل خطوة تصعيدية غير متوقعة، لكن ربما لم يكن من الممكن التعبير عن كل هذا الرصيد المكنون في علاقات البلدين من دون ردود مبالغة تدفع الناس لتذكر ذات البين، وربما بذلك وضع حد لمشهد الوقوف أمام السفارة وعرقلة أعمالها كمشهد دائم أمامها كل يوم
.
عكست زيارة الوفد البرلماني الشعبي المصري للسعودية، في سياق مواجهة أزمة الجيزاوي وقرار المملكة استدعاء سفيرها للتشاور، الكثير من الملامح بشأن تشكل نهج جديد لإدارة الأزمات المصرية بعد الثورة. منذ البداية جاءت ردود الفعل المصرية على قرار المملكة لتشير إلى التخلي عن الرسمية والبروتوكولية المعتادة، وهو ما كان موضع استحسان بعض المصريين، ونقد من بعض آخر، لما رأوه أنه عكس تواضع مكانة القاهرة قبالة ما اعتبروه استعلاءً سعودياً، وتعبيراً عن شعور المملكة بالقيادة في الإقليم بعد الثورة المصرية.
بدا قرار استدعاء السفير -وفقاً لرؤية البعض في مصر- رد فعل مبالغاً فيه، لأنه قفز مرة واحدة على مستويات الرد الدبلوماسي الأدنى الأقل عنفاً، ومن ثم عكس سلوكاً غير متوقع من شقيق. وجاء رد الفعل المصري أيضا بحجم القرار السعودي، مبالغا في رد الفعل العاطفي ومتجاوزا أعراف وقواعد محددة منذ الخمسينيات بين دولتين تنافستا على قيادة العالم العربي، وبدا البلدان –ومصر تحديدا- إزاء حالة من التعبير تماهت فيها الرسمية باللارسمية. وعلى الجانب السعودي اتسم رد الفعل بالهدوء، ما تمثل في رد الملك عبد الله -خلال اتصال المشير طنطاوي به آملا أن تعيد المملكة النظر في قرارها- بالإجابة بأنه: "سينظر في الأمر خلال الأيام المقبلة وفقا للظروف ومصلحة البلدين"، وفي كلمته أمام الوفد المصري: "لن نسمح لهذه الأزمة العابرة أن تطول".
تعامل الجانب المصري مع الأزمة منذ البداية من منطلق الثقة في عمق علاقة البلدين؛ فأكد أكثر من مسؤول الثقة في عودة السفير خلال فترة وجيزة، وجرى التأكيد على أن العلاقات بين البلدين استراتيجية لا مجال فيها للقطيعة أو الانهيار، وحرصت أغلبية ردود الفعل في مصر على التأكيد على إبداء الأسف أو الاعتذار أحيانا للمملكة، وكان ما ورد في بيان المجلس العسكري من شعار "إلا السعودية" لافتا. واكتسبت ردود الفعل المصرية قدرا من الزخم والاحتشاد، حين قررت فوق الـ 120 شخصية من الشخصيات الرسمية وغير الرسمية من كل الأطياف السياسية في مصر الذهاب للمملكة (ضم الوفد رئيسي مجلسي الشعب والشورى، رؤساء الأحزاب منهم رئيسي حزبي الوفد السيد البدوي والغد أيمن نور، وممثلي القوى السياسية والنيابية وممثلو مشيخة الأزهر ودار الإفتاء والكنيسة الأرثوذكسية، وشخصيات عامة مثل د. يحيى الجمل ود. علي السلمي، وشخصيات فنية مثل نقيب الممثلين أشرف عبد الغفور والفنان محمود عبد العزيز والفنان محمد صبحي وهاني شاكر)، وتكررت خلال الزيارة عبارات "أزمة عابرة" أو "أحداث عابرة" من الجانبين بشأن تشخيص الأزمة، على نحو ما ورد بكلمة الملك عبد الله وكلمة د. الكتاتني. وكانت زيارة هؤلاء جميعا للرياض تعبيراً عن مستجدات في علاقات البلدين، التي لم تعد منحصرة في المسؤول السياسي الأول ممثلة في رئيس الدولة أو وزير الخارجية.
كشفت الأزمة عن مجموعة من الأمور، ليس من المعروف ما إن كانت تعكس ظروف وأوضاع المرحلة الانتقالية بمصر، أم مستجدات سوف تكون مستمرة في علاقات البلدين، وربما بين مصر ودول أخرى في حقبة ما بعد مبارك، لكن مهما كان، فإنها تشير إلى أمور جديدة أهمها ما يلي:
الدور الذي تلعبه القوى الأدنى: فقد أشارت الأزمة إلى الدور الذي لعبته "القوى الأدنى" كفاعل رئيسي، وهنا لا نقصد قبائل أو طوائف أو جماعات أدنى من الدولة، فذلك غير موجود في مصر، ولكن القوى المدنية، التي تتمثل بالأساس في الأحزاب والقوى السياسية وممثلي الطوائف الدينية وقيادات الأحزاب والشخصيات غير الرسمية، ومواقع التواصل الاجتماعي والإعلام والصحف، فضلا عن دخول الأزمة كمادة في تصريحات بعض مرشحي الرئاسة، ما يعكس المدخل الجديد في علاقات العالم العربي، بين دول الثورة ودول اللا ثورة، وهو ما يمكن أن يكون مشهدا دائما وجديدا على العلاقات العربية، حيث لم يعد من الممكن ضبط حركة وسلوكيات الفاعلين من قوى الداخل في دول الثورات تحديدا، وهو أمر يحتاج إلى فهم متبادل. ولا تعني الأدوار التي تلعبها القوى الأدنى النيل من مهابة وكرامة الدولة في ظل مرحلة الديمقراطية، لكن المهم أن تكون منسقة مع حركة وسياسة الدولة الرسمية، خصوصا إن كانت بالفعل بعض قواها يوجد بها تمثيل للجهاز الرسمي (رئيسا مجلسي الشعب والشورى). فلم يكن طبيعيا في السابق أن تتحرك وفود شعبية وبرلمانية لتفض أزمات سياسية، لكنها الآن ممكنة كحل مرحلي لغياب أو قصور الدبلوماسية الرسمية. لكن يجب الانتباه إلى حدود إسهامات الوفود البرلمانية والشعبية في مواجهة الأزمات، حيث أنها لا تذهب للتفاوض، وإنما تضفي أجواء من الدفء والود الذي يمكن أن يسكن الأزمات ويمهد للدبلوماسية الرسمية، أما حلها النهائي فيتطلب المستوى الرسمي الذي يقوم على التباحث حول الإجراءات. وباعتبار أن ما نشأ بين مصر والسعودية لا يشير إلى أزمة بقدر ما يتعلق بالأساس –وفق المفهوم السعودي- بما ألحقته يافطات الاحتجاجات بالذات الملكية، فإن إرسال وفد بهذا الحجم هو رد الفعل الطبيعي المناسب -وربما المفضل للمملكة- هذه المرة تحديدا، لما يحققه فيما يتعلق بهيبة الذات الملكية على الصعيد الداخلي هناك.
"الداخل" يتنافس على الخارج: كشفت إدارة الأزمة مع السعودية عن بعد جديد يتمثل في دخول الخارج كمادة في تفاعلات القوى والأجهزة في الداخل. فتعد زيارة الوفد المصري للمملكة أحد الدلائل التي تشير إلى بدء انعكاس التنافس بين قوى الداخل على السياسة الخارجية المصرية، وبدء ارتسام علامات جديدة عليها بعد الثورة، وبدء تطلع قوى جديدة -وخاصة الإخوان المسلمين- إلى عكس ثقلهم الداخلي على السياسة الخارجية، فلا يمكن إغفال حقيقة أن تكوين الوفد المصري من رئيسي مجلسي الشعب والشورى هي خطوة تخدم جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة. في الداخل تمثل رد فعل ربما على خطوة زيارة مفتي الجمهورية للقدس، وتشير إلى أنه إذا كان لجهاز آخر في الدولة أن يكون فاعلا في العلاقة مع إسرائيل ومسألة بحجم القدس فإن الإخوان والقوى الأخرى يمكنهم أن يحرزوا نتائج مهمة في مسألة بحجم الخليج والعلاقات مع السعودية. ويحرز الثقل الإخواني في الوفد مكاسب هائلة على صعيد تجسير علاقات الإخوان تحديدا مع السعودية ودول الخليج، التي ساءت بعيد أزمة الشيخ القرضاوي مع الإمارات، التي أعقبتها تصريحات د. محمود غزلان عضو مكتب الإرشاد، التي وضعت الجماعة وكأنها في صف قوى الثورة والتغيير في الخليج، وبالتالي تسهم تركيبة الوفد الزائر للسعودية في استعادة الإخوان ثقة الخليج. وتتضمن إشارة للسعودية بأنها يمكنها أن تعتمد مجددا على إخوان مصر في التعويض عن خسارتها لنظام مبارك، خصوصا مع ما للزيارة من صدى إيجابي على الداخل في السعودية.
الشعبية لا تغني عن الرسمية: مهما كان من تقدير للدبلوماسية الشعبية، إلا أن محصلتها على مصر بعد الثورة هو أمر ينبغي وضعه في حدوده، فدورها في هذا الأمر ليس أكثر من دور المسكنات، وإيجابيتها تعتمد على علاقات الدول ومدى عمق الرصيد العاطفي والسياسي والتاريخي، ولكنها لا يمكن أن ترتقي إلى دور المضاد الحيوي اللازم لدفع العرض والمرض. إنها قد تسهم في تلطيف الأجواء وتسكين الأزمات وليس حلها. فزيارة الوفود الشعبية تكون مناسبة لأحاديث الود، وليس لمباحثات بشأن أزمات العلاقات التي يعد أمرا طبيعيا أن تثور فيها مشكلات، لن يتم بحثها مع وفد شعبي، ومن ثم تترك الزيارات الشعبية القضايا الحقيقية من دون حل، ويكون حصادها ليس أكثر من أحاديث الود، وربما اختراق الآخر نفسيا للوفد الزائر بمجاملات قد يكون مردودها ضاغطا على صانع القرار هنا. كما أنها تزيد الضغوط على صانع القرار في مصر بإيهام حل المشكلات، فضلا عن ذلك قد تكون مجالا للابتزاز والتلاعب حين يسعى أطرافها لإحراز مكاسب سياسية في الداخل من جراء ذلك. ومهم جدا أن تستمر الدبلوماسية الشعبية، ولكن مع معرفة حدودها وضرورة تناغمها مع سياسة الدولة، وأن لا تمثل بديلا عن الدبلوماسية الرسمية، أو تنال من دور الأجهزة الدبلوماسية المصرية، وهي لها تجربة عريقة في إدارة العلاقات مع الخارج، ولكن تظل للدبلوماسية الشعبية دورا مهما في أنها بشكل عام تسهم في إزالة الصدأ الذي قد ينتج عن الإهمال أو الجفاء في الدبلوماسية الرسمية، وتمثل الدبلوماسية الشعبية مثل "قوى ناعمة" تتحرك بين بلدين وقت الأزمة.
لقد حققت زيارة الوفد الشعبي المستهدف منها على الجانب السعودي، وهو تغطية قرار الملك بعودة السفير من خلال غطاء من الوقار والمهابة تناظر حجم المطلوب لمعالجة الردود النفسية لما لحق بهيبة "الذات" على أسوار السفارة. وبالفعل عاد سفير المملكة مجددا، وبالتأكيد سيفرج عن الجيزاوي قريبا، ولكن يجب الاستفادة من دروس الأزمة في تعميق علاقات البلدين. وقد ينتقد البعض في مصر قرار المملكة استدعاء سفيرها على أنه شكل خطوة تصعيدية غير متوقعة، لكن ربما لم يكن من الممكن التعبير عن كل هذا الرصيد المكنون في علاقات البلدين من دون ردود مبالغة تدفع الناس لتذكر ذات البين، وربما بذلك وضع حد لمشهد الوقوف أمام السفارة وعرقلة أعمالها كمشهد دائم أمامها كل يوم
.