الفيدرالية في ليبيا: بين الشرعية والمناورة السياسية
مرسل: الأربعاء يوليو 11, 2012 6:09 am
زياد عقل موسى
منذ وفاة معمر القذافي في أغسطس الماضي، خرجت ليبيا من حيز الاهتمام الدولي الذي شغلته طوال أشهر الثورة، لكن إعلان تأسيس إقليم برقة الفيدرالي منذ فترة وجيزة أعاد ليبيا إلى بؤرة الاهتمام الدولي مرة أخرى من خلال بوادر توتر سياسي في دولة غنية بالنفط. ولكن في واقع الأمر، هناك الكثير من المبالغة في تقدير الأثر الملموس لهذا الإعلان، حيث ذهب البعض لاستنتاج أن سيناريو تقسيم ليبيا قد بدأ بالفعل وأن بنغازي وسائر مدن شرق ليبيا استقلوا عن مدن غربها وجنوبها تحت راية الحكم الفيدرالي. الواقع الميداني في ليبيا يدل على أن إقليم برقة الفيدرالي لم يتعد مرحلة التهديد السياسي، وبالرغم من أن إعلان الفيدرالية يشير لولادة تيار سياسي جديد (التكتل الفيدرالي) بدأ يكتسب قوة وتأييد، لا زال النظام الفيدرالي في ليبيا بعيداً جداً عن حيز التنفيذ.
التطلعات الفيدرالية في ليبيا ليست شيئا جديداً، فكانت هناك دائماً محاولات ومطالبات بإعادة إحياء النظام الفيدرالي الذي كان مطبقاً في منتصف القرن العشرين تحت حكم الملك إدريس السنوسي عندما كانت ليبيا مقسمة لثلاثة أقاليم، طرابلس وبرقة وفزان. ولكن أسلوب إعلان الفيدرالية هذه المرة كان في حد ذاته تصعيدياً، فكان من الأجدر بالتكتل الفيدرالي أن يعلن عن تشكيله وعن أجندته السياسية بدلاً من إعلان إقامة الفيدرالي في مؤتمر لم يتعدى الحضور فيه ثلاثة آلاف شخص. هذا الأسلوب الاستفزازي يعكس أبعادا مختلفة في المشهد السياسي الحالي في ليبيا. أولاً، يعبر هذا الأسلوب عن ضعف المجلس الانتقالي ككيان سياسي وعدم قدرته على الحفاظ على المكانة التي احتلتها خلال الحرب مع القذافي وخلال الأشهر القليلة التي تلت وفاته. وقد شوهت الصورة البطولية للمجلس الانتقالي خلال الثورة بأخطاء إدارية قاتلة وتوقعات كثيرة لم تلب. وثانياً، يعكس الأسلوب التصعيدي بعداً آخر وهو عدم وجود إطار قانوني شرعي لتكوين المؤسسات السياسية والحزبية في ليبيا، فبالرغم من مبادئ التعددية الحزبية التي تبناها المجلس الوطني الانتقالي منذ يومه الأول، تظل ليبيا إلى الآن دون قوانين حاكمة تضع معايير لتشكيل الأحزاب السياسية. ثالثاً، يعبر الإعلان عن الفيدرالية بالطريقة التي تم بها عن التطور السياسي لعدم قدرة الدولة ممثلة في المجلس الوطني الانتقالي على احتكار القوة ومواجهة انتشار السلاح وظاهرة الميليشيات. فبالرغم من تأكيدات التكتل الفيدرالي أن إقليم برقة لن يكون له جيشه الخاص، ظهرت بالفعل ميليشيات مسلحة تحت لواء "جيش إقليم برقة".
في جوهرها، تنطوي الدعوة للفيدرالية على قضيتين رئيسيتين، الشرعية والمناورة السياسية. في الأساس، إعلان تأسيس إقليم فيدرالي ينم عن سقوط الشرعية عن المجلس الوطني الانتقالي ورؤيته السياسية، على الأقل في أعين التكتل الفيدرالي. وقد جاء هذا الوضع كنتاج لأخطاء ارتكبها المجلس الوطني الانتقالي في صياغة العملية السياسية في ليبيا.فنجد أن هناك تفاوتاً ملحوظاً في نصيب مدن الغرب من الميزانية الجديدة للدولة مقارنة بمدن الشرق والجنوب، فاستحوذ الغرب على الحصة الأكبر من الموازنة.و بطريقة مماثلة، أعطى المجلس الوطني الانتقالي لمدن غرب ليبيا 51% من تشكيل المؤتمر الوطني الذي تعقد انتخاباته بعد شهرين (102 مقعد من إجمالي 200) في مقابل 48% من المقاعد لمدن الشرق والجنوب. كان هذا التوزيع بمثابة ناقوس خطر لأهالي شرق ليبيا حين أعاد للأذهان ما عانوه من تهميش وغياب العدالة في توزيع الموارد بين الشرق والغرب تحت حكم القذافي، وهو ما أضعف من شرعية المجلس الوطني الانتقالي. فالمجلس الانتقالي يربط التمثيل بالكثافة السكانية، في حين يرى التكتل الفيدرالي ضرورة تكافؤ الفرص بين مدن شرق وغرب وجنوب ليبيا، آخذاً في عين الاعتبار التجارب السابقة من التهميش والإقصاء. ومما لا شك فيه أن ربط التمثيل النيابي بالكثافة السكانية في ليبيا سيفتح الباب لديكتاتورية أغلبية على أساس جهوي ومن ثم قبلي، وسيكون له تأثير سلبي على مدن الجنوب التي تحتوي على أقليات عرقية أكثر من تأثيره على مدن الشرق. وفي سياق الصراع على الشرعية بين التكتل الفيدرالي والمجلس الوطني الانتقالي، قام التكتل الفيدرالي باللجوء لدستور 1951 الذي ينص على نظام الحكم الفيدرالي، طاعناً بذلك على شرعية المجلس الثورية وشرعية الإعلان الدستوري المؤقت الصادر عنه، وبهذا انتقل التيار الفيدرالي من خانة رفض شرعية المجلس الانتقالي إلى خانة طرح شرعية بديلة.
وفي نفس الوقت، يدرك التكتل الفيدرالي حجم الصعوبات التي من الممكن أن يواجهها مع المجلس الوطني الانتقالي بعد إعلان برقة إقليم فيدرالي، ويدرك أيضاً أنه لا يمتلك المقومات التي تسمح له بتطبيق النظام الفيدرالي على أرض الواقع، ولذلك فالمناورة السياسية جزء لا يتجزأ من إعلان الفيدرالية في إقليم برقة. فبالرغم من فشل التكتل الفيدرالي في تطبيق أجندته السياسية على أرض الواقع، فهو حقق مكاسب ملموسة من أسلوبه التصعيدي من خلال إجبار المجلس الانتقالي على تقديم تنازلات سياسية تمثلت في تعديل الإعلان الدستوري ليمنح تمثيل متكافئ لمناطق ليبيا الثلاث في لجنة صياغة الدستور،ومزيد من الضغط قد يؤدي إلى المساواة في التمثيل في المؤتمر الوطني.
لا زالت الفيدرالية في ليبيا منصة نخبوية تضم المثقفين والنشطاء السياسيين من دون دعم قوي من الجماهير. ووجهة النظر الشائعة في ليبيا ترى في المناداة بالفيدرالية دعوة للتقسيم وليس لنظام سياسي ذو مبادئ حكم مختلفة. مما لا شك فيه أن مواطني بنغازي وسائر مدن شرق ليبيا عازمون على التصدي لأية محاولة لإقصاء أو تهميش شرق ليبيا، ولكن تتمحور مطالبهم حول المطالبة باللامركزية وليس الفيدرالية.
وفي النهاية، من الممكن أن تتفاقم حدة التوتر بين التكتل الفيدرالي والمجلس الانتقالي خاصة بعد ظهور ميليشيات مسلحة على أرضية سياسية، ولكن لا زال المجلس الانتقالي يمتلك الوقت الكافي والدعم الشعبي المناسب للمضي قدماً في العملية السياسية المنصوص عليها في الإعلان الدستوري، وتطبيق نظام فعال من اللامركزية لحين إقرار نظام سياسي بصورة شرعية من قبل لجنة كتابة الدستور. على أي حال، استطاع التكتل الفيدرالي أن يفرض نفسه على المشهد السياسي الليبي كنخبة سياسية تكتسب قوة سواء تم إقرار نظام فيدرالي أم لا.
.
منذ وفاة معمر القذافي في أغسطس الماضي، خرجت ليبيا من حيز الاهتمام الدولي الذي شغلته طوال أشهر الثورة، لكن إعلان تأسيس إقليم برقة الفيدرالي منذ فترة وجيزة أعاد ليبيا إلى بؤرة الاهتمام الدولي مرة أخرى من خلال بوادر توتر سياسي في دولة غنية بالنفط. ولكن في واقع الأمر، هناك الكثير من المبالغة في تقدير الأثر الملموس لهذا الإعلان، حيث ذهب البعض لاستنتاج أن سيناريو تقسيم ليبيا قد بدأ بالفعل وأن بنغازي وسائر مدن شرق ليبيا استقلوا عن مدن غربها وجنوبها تحت راية الحكم الفيدرالي. الواقع الميداني في ليبيا يدل على أن إقليم برقة الفيدرالي لم يتعد مرحلة التهديد السياسي، وبالرغم من أن إعلان الفيدرالية يشير لولادة تيار سياسي جديد (التكتل الفيدرالي) بدأ يكتسب قوة وتأييد، لا زال النظام الفيدرالي في ليبيا بعيداً جداً عن حيز التنفيذ.
التطلعات الفيدرالية في ليبيا ليست شيئا جديداً، فكانت هناك دائماً محاولات ومطالبات بإعادة إحياء النظام الفيدرالي الذي كان مطبقاً في منتصف القرن العشرين تحت حكم الملك إدريس السنوسي عندما كانت ليبيا مقسمة لثلاثة أقاليم، طرابلس وبرقة وفزان. ولكن أسلوب إعلان الفيدرالية هذه المرة كان في حد ذاته تصعيدياً، فكان من الأجدر بالتكتل الفيدرالي أن يعلن عن تشكيله وعن أجندته السياسية بدلاً من إعلان إقامة الفيدرالي في مؤتمر لم يتعدى الحضور فيه ثلاثة آلاف شخص. هذا الأسلوب الاستفزازي يعكس أبعادا مختلفة في المشهد السياسي الحالي في ليبيا. أولاً، يعبر هذا الأسلوب عن ضعف المجلس الانتقالي ككيان سياسي وعدم قدرته على الحفاظ على المكانة التي احتلتها خلال الحرب مع القذافي وخلال الأشهر القليلة التي تلت وفاته. وقد شوهت الصورة البطولية للمجلس الانتقالي خلال الثورة بأخطاء إدارية قاتلة وتوقعات كثيرة لم تلب. وثانياً، يعكس الأسلوب التصعيدي بعداً آخر وهو عدم وجود إطار قانوني شرعي لتكوين المؤسسات السياسية والحزبية في ليبيا، فبالرغم من مبادئ التعددية الحزبية التي تبناها المجلس الوطني الانتقالي منذ يومه الأول، تظل ليبيا إلى الآن دون قوانين حاكمة تضع معايير لتشكيل الأحزاب السياسية. ثالثاً، يعبر الإعلان عن الفيدرالية بالطريقة التي تم بها عن التطور السياسي لعدم قدرة الدولة ممثلة في المجلس الوطني الانتقالي على احتكار القوة ومواجهة انتشار السلاح وظاهرة الميليشيات. فبالرغم من تأكيدات التكتل الفيدرالي أن إقليم برقة لن يكون له جيشه الخاص، ظهرت بالفعل ميليشيات مسلحة تحت لواء "جيش إقليم برقة".
في جوهرها، تنطوي الدعوة للفيدرالية على قضيتين رئيسيتين، الشرعية والمناورة السياسية. في الأساس، إعلان تأسيس إقليم فيدرالي ينم عن سقوط الشرعية عن المجلس الوطني الانتقالي ورؤيته السياسية، على الأقل في أعين التكتل الفيدرالي. وقد جاء هذا الوضع كنتاج لأخطاء ارتكبها المجلس الوطني الانتقالي في صياغة العملية السياسية في ليبيا.فنجد أن هناك تفاوتاً ملحوظاً في نصيب مدن الغرب من الميزانية الجديدة للدولة مقارنة بمدن الشرق والجنوب، فاستحوذ الغرب على الحصة الأكبر من الموازنة.و بطريقة مماثلة، أعطى المجلس الوطني الانتقالي لمدن غرب ليبيا 51% من تشكيل المؤتمر الوطني الذي تعقد انتخاباته بعد شهرين (102 مقعد من إجمالي 200) في مقابل 48% من المقاعد لمدن الشرق والجنوب. كان هذا التوزيع بمثابة ناقوس خطر لأهالي شرق ليبيا حين أعاد للأذهان ما عانوه من تهميش وغياب العدالة في توزيع الموارد بين الشرق والغرب تحت حكم القذافي، وهو ما أضعف من شرعية المجلس الوطني الانتقالي. فالمجلس الانتقالي يربط التمثيل بالكثافة السكانية، في حين يرى التكتل الفيدرالي ضرورة تكافؤ الفرص بين مدن شرق وغرب وجنوب ليبيا، آخذاً في عين الاعتبار التجارب السابقة من التهميش والإقصاء. ومما لا شك فيه أن ربط التمثيل النيابي بالكثافة السكانية في ليبيا سيفتح الباب لديكتاتورية أغلبية على أساس جهوي ومن ثم قبلي، وسيكون له تأثير سلبي على مدن الجنوب التي تحتوي على أقليات عرقية أكثر من تأثيره على مدن الشرق. وفي سياق الصراع على الشرعية بين التكتل الفيدرالي والمجلس الوطني الانتقالي، قام التكتل الفيدرالي باللجوء لدستور 1951 الذي ينص على نظام الحكم الفيدرالي، طاعناً بذلك على شرعية المجلس الثورية وشرعية الإعلان الدستوري المؤقت الصادر عنه، وبهذا انتقل التيار الفيدرالي من خانة رفض شرعية المجلس الانتقالي إلى خانة طرح شرعية بديلة.
وفي نفس الوقت، يدرك التكتل الفيدرالي حجم الصعوبات التي من الممكن أن يواجهها مع المجلس الوطني الانتقالي بعد إعلان برقة إقليم فيدرالي، ويدرك أيضاً أنه لا يمتلك المقومات التي تسمح له بتطبيق النظام الفيدرالي على أرض الواقع، ولذلك فالمناورة السياسية جزء لا يتجزأ من إعلان الفيدرالية في إقليم برقة. فبالرغم من فشل التكتل الفيدرالي في تطبيق أجندته السياسية على أرض الواقع، فهو حقق مكاسب ملموسة من أسلوبه التصعيدي من خلال إجبار المجلس الانتقالي على تقديم تنازلات سياسية تمثلت في تعديل الإعلان الدستوري ليمنح تمثيل متكافئ لمناطق ليبيا الثلاث في لجنة صياغة الدستور،ومزيد من الضغط قد يؤدي إلى المساواة في التمثيل في المؤتمر الوطني.
لا زالت الفيدرالية في ليبيا منصة نخبوية تضم المثقفين والنشطاء السياسيين من دون دعم قوي من الجماهير. ووجهة النظر الشائعة في ليبيا ترى في المناداة بالفيدرالية دعوة للتقسيم وليس لنظام سياسي ذو مبادئ حكم مختلفة. مما لا شك فيه أن مواطني بنغازي وسائر مدن شرق ليبيا عازمون على التصدي لأية محاولة لإقصاء أو تهميش شرق ليبيا، ولكن تتمحور مطالبهم حول المطالبة باللامركزية وليس الفيدرالية.
وفي النهاية، من الممكن أن تتفاقم حدة التوتر بين التكتل الفيدرالي والمجلس الانتقالي خاصة بعد ظهور ميليشيات مسلحة على أرضية سياسية، ولكن لا زال المجلس الانتقالي يمتلك الوقت الكافي والدعم الشعبي المناسب للمضي قدماً في العملية السياسية المنصوص عليها في الإعلان الدستوري، وتطبيق نظام فعال من اللامركزية لحين إقرار نظام سياسي بصورة شرعية من قبل لجنة كتابة الدستور. على أي حال، استطاع التكتل الفيدرالي أن يفرض نفسه على المشهد السياسي الليبي كنخبة سياسية تكتسب قوة سواء تم إقرار نظام فيدرالي أم لا.
.