منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#52561
لشورى: مصطلح إسلامي خالص وأصيل … وهو اسم – من "المشاورة" – التي تعني، في اصطلاح العربية: استخراج الرأي … فهي فعل إيجابي، لا يقف عند حدود "التطوع" بالرأي … بل يزيد على "التطوع" إلى درجة "العمل" على استخراج الرأي/ استخراجاً واستدعائه قصواً ؟

وإذا قلنا: أشار فلان على فلان بالرأي … فإن معناه – في اصطلاح العربية : أمره به! .. وليس مجرد إبراء الذمة بإلقاء الرأي فقط؟!…

والشورى، في الفكر السياسي الإسلامي، هي فلسفة نظام الحكم … والاجتماع … والأسرة … لأنها تعني إدارة أمر الاجتماع الإنساني، الخاص والعام ، بواسطة الائتمار المشترك والجماعي، الذي هو سبيل الإنسان للمشاركة في تغيير شئون هذا الاجتماع … فالشورى، أي الائتمار المشترك، هي السبيل إلى الإمارة، أي القيادة والنظام والسلطة والسلطان إمارة الإنسان في الأسرة … وفي المجتمع … وفي الدولة … أي في تنظيم المجتمع وحكمه، صغيراً كان المجتمع أو كبيراً …

ولما كان التصور الفلسفي الإسلامي لوجود الإنسان في هذه الحياة، ولوظيفته ومكانته فيها، ولعلاقته بالآخرين، قائم على حقيقة أن هذا الإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى، ومستخلف عنه في عمارة الكون … كانت مكانة الإنسان في العمران هي مكانة الخليفة عن الله … فهو ليس سيد الكون حتى تكون حريته مطلقة دون حدود، وشوراه وائتماره وإمارته وسلطته دون ضوابط وأطر … وفي ذات الوقت، فإن خلافته عن الله سبحانه تعني وتقتضي أن تكون له سلطة وإرادة وحرية وشورى وإمارة تمكنه من النهوض بتكليف العمران لهذا الوجود … فهو، لهذا ليس الكائن المجبر المسيَّر المهمش بإطلاق …
نه في المكانة الوسط … ليس سيد الكون … وليس العبد المجرد من الحرية والإرادة والاستقلال والمسئولية … وإنما هو الخليفة عن سيد الكون، وله في أطار عقد وعهد الاستخلاف السلطات التي تمكنه من النهوض بمهام هذا الاستخلاف.
" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
وانطلاقاً من هذه الفلسفة الإسلامية، في مكانة الإنسان في هذا الوجود، يتميز المذهب الإسلامي في "إطار الشورى" … فبنود عقد وعهد الاستخلاف الإلهي، التي هي قضاء الله الحتمي في كونه … وكذلك أحكامه التي جعلها إطاراً حاكماً لحرية الإنسان وسلطاته … هي "الوضع الإلهي"، الذي تظهر فيه عبودية المخلوق للخالق، وقضاء الله الذي لا شورى فيه ولا خيار ولا اختيار
هنا، وفيما يتعلق بهذا الإطار الحاكم، نحن أمام " سيادة الله … وحاكميته "، المتمثلة في قضائه الحتمي، وشرعيته الممثلة لبنود عقد وعهد الاستخلاف … على الخليفة – الإنسان – أن يجعلها الإطار الحاكم لحريته وشوراه ولسلطته وإمارته، ولحركته أثناء قيامه بالوكالة والنيابة والاستخلاف…
. فإن الله سبحانه وتعالى، إعانة منه للإنسان على أداء هذه الأمانة، قد ميزه بالاختيار والحرية، ودعاه إلى أن يمارس "حاكمية إنسانية" و "سلطة بشرية"، هي مُرادة لله سبحانه وتعالى، ومُفّوَّضه منه للإنسان كجزء من استخلافه لهذا الإنسان … وبعبارة الإمام ابن حزم الأندلسي { 384، 456هـ، 994 – 1064م } : " فإن من حكم الله أن يجعل الحكم لغير الله "، أي أن جعل للإنسان حاكمية السلطة التي ينفذ بها حاكمية شريعة الله، لينهض بالأمانة التي فوضها إليه الله
" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا "
وإذا كان الإنسان قد اختار - دون سائر المخلوقات- حمل أمانة الخلافة في عمران هذه الأرض
وهي سنة قرآنية، صدق عليها تاريخ الإنسان والنظم والحضارات … فان المنقذ للإنسان وللعمران البشري من هذا الطغيان هو نظام الشورى الإسلامية، الذي يكفل للإنسان –مطلق الإنسان- المشاركة في تدبير شئون العمران، صغيرها وكبيرها، فتنجو دنياه من الطغيان، وذلك دون أن يطغى هذا الإنسان على التدبير الإلهي المتمثل في الشريعة الإلهية،" كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى " والتي –هي الأخرى- مقوِّم من مقوِّمات العدل في هذا العمران وإذا كان الانفراد بالرأي والسلطة، في أي ميدان من ميادين الرأي والسلطة، هو المقدمة للاستبداد والاستفراد والطغيان
ولهذه الحقيقة – من حقائق مكانة الشورى – جعلها الإسلام " فريضة إلهية "، وليست مجرد "حق" من حقوق الإنسان … أي أنه لا يجوز للإنسان أن يتنازل عنها حتى بالرضا والاختيار إن هو أراد! … كما عمم الإسلام ميادينها لتشمل سائر ميادين الحياة الإنسانية، العام منها والخاص … من الأسرة … إلى المؤسسة إلى المجتمع … إلى الدولة … إلى الاجتماع الإنساني ونظامه الدولي وعلاقاته الدولية!… فهي ليست شأناً من شئون النظام السياسي للدولة لا تتعداه…
ففي " مجتمع الأسرة " يعتمد الإسلام الشورى فلسفة للتراضي والمشاركة في تدبير شئون الأسرة، لتتأسس عليها المودة والتراضي والانتظام " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
وفي شئون الدولة يفرض الإسلام ويوجب أن تكون الشورى شورى الجماعة ، هي الفلسفة والآلية لترتيب الأمور… سواء أكان ذالك في داخل مؤسسات الدولة، أو في العلاقة بين هذه المؤسسات وبين جمهور الآمة ،، ففي إدارة مؤسسات الدولة لشئونها يلفت القرآن الكريم أنظارنا إلى معنى عظيم عندما لا يرد فيه- القرآن- مصطلح "ولى الأمر" بصيغة المفرد التي تدل على " الانفراد والاستفراد" وإنما يرد فيه هذا المصطلح، فقط، بصيغة"الجمع"- {أولى الأمر}- إلى الجماعية" وتزكية للمشاركة والشورى" يا أيها الذين آمنوا وأطيعوا الله والرسول وأولى الأمرمنكم }-النساء59 ..{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}-النساء:83- كما يحرص القرآن الكريم على التنبيه على أن يكون {أولو الأمر} من الأمة " حتى تكون السلطة نابعة من الأمة وليست مفروضة عليها من خارج .. حتى لكأنه يشير إلى مبدأ " السيادة الوطنية.. والقومية.. والحضارية " للأمم والشعوب والمجتمعات؟؟"
أما في العلاقة بين الدولة " وبين جمهور "الأمة " فان القرآن يجعل الشورى والمشاركة في صنع القرار "فريضة إلهية" حتى ولو كانت "الدولة" يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }-آل عمران :159-..فالعزم " أي تنفيذ القرار "هو ثمرة للشورى أي المرحلة التالية لاشتراك الناس في إنضاج الرأي وصناعه القرار.هذا القرار الشورى الذي يضعه ولاة الأمر بالعزم في الممارسة والتنفيذ.وهذا المعني هو الذي جعل مفسري القرآن الكريم يقولون في تفسيرهم لهذه الآية نقلا عن المفسر الكبير "ابن عطية"(481 – 542 – 1088 – 1148 م)* :" إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الإحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وهذا مما لا خلاف فيه(1)"فالشورى من قواعد الشريعة ومن عزائم الإحكام.أما أهلها فالأمة لأنها فريضة علي الأمة ينهض بها كفريضة كفائيه_أهل الكفاءة بحسب موضوعاتها وميادينها لذلك جاء في عبارة المفسرين لا يأتها الإشارة لأهل "العلم" وأهل" الدين" وليس فقط أهل" الدين" وأيضا ليس فقط أهل" العلم" دون أهل" الدين".
وكون النهوض بفريضة الشورى من الفرائض الكفائية التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين يجعلها أهم وأكد من الفرائض الفردية لأن الإثم في التخلف عن أداء الفريضة الفردية يقف عند الفرد وحده بينما الإثم في التخلف عن إقامة الفريضة الكفائية يلحق الأمة بأسرها.
ويؤكد هذه الحقيقة حقيقة توجه التكليف الإسلامي بالشورى إلي الأمة جميعا أنها قد جاءت _أي الشورى _في القرآن الكريم صفة من صفات الأمة المؤمنة وليست وقفا علي فريق دون فريق (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) _الشورى:38… فهي ليست امتيازا" للأحرار ..الإشراف..الملاك..الفرسان" كما كان حال "الديمقراطية"عند الإغريق والرومان وهي ليست مجرد"حق"من حقوق الإنسان حتى يجوز له التنازل عنه بالرضا والاختيار ..وإنما هي فريضة إلهية وتكليف سماوي علي الكافة ..وضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني صغيرة أو كبيرة دائرة هذا الاجتماع . بل لقد بلغ الإسلام في تزكيه الشورى إلي الحد الذي جعل "العصمة" للأمة ومن ثم للرأي والقرار المؤسس علي شوراها فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إن أمتي لا تجتمع علي ضلالة".رواه ابن ماجه.وذلك لتطمئن القلوب إلي حكمه الرأي وصواب القرار إذا كانا مؤسسين علي شوري الأمة في أمورها بواسطة أهل العلم والدين من أبنائها ..
ولقد جاءت السنة النبوية العملية والقولية البيان النبوي للبلاغ القرآني في الشورى ..وكانت السابقة الدستورية التي تمثل النموذج والأسوة للنظام الإسلامي في المشاركة بصنع القرار ..فحتي المعصوم صلي الله عليه وسلم كان التزامه بالشورى علي النحو الذي يروى أبو هريرة فيقول :" ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله …"_رواه الترمذي_.. وكان صحابته رضوان الله عليهم حريصين في زمن البعثة علي التمييز بين منطقه " السيادة الإلهية وفيها السمع والطاعة و إسلام الوجه لله " وبين منطقة السلطة البشرية " ليمارسوا فيها الشورى المؤسسة والمثمرة لصنع القرار فكانوا يسالون رسول الله صلي الله عليه وسلم في المواطن التي لا تتمايز فيها هاتان المنطقتان بذاتهما فيقولون :يا رسول الله اهو الوحي ؟ أم الرأي والمشورة ) ).
فاذا كان المقام من مقامات الرأي والمشورة "السلطة البشرية"شاركوا في إنضاج الرأي وصناعة القرار والتزموا به عند العزم علي وضعه في الممارسة والتطبيق , حدث ذلك في مواطن كثيرة من أشهرها تحديد المكان الذي ينزل به جيش المسلمين في موقعة بدر والموقف من مصالحة بعض المشركين في موقعه"الخندق"بل إن الالتزام بثمرات الشورى وقراراتها لم يكن وقفا علي الصحابة وحدهم, وإنما شمل رسول الله صلي الله عليه وسلم أيضا لأنه في غير التبليغ عن الله سبحانه وتعالي "مجتهد" والاجتهاد إبداع بشرى غير معصوم ومن ثم فهو من مواطن الشورى بل هو واحد من مستوياتها العليا ..وفي هذا المعني وعلي ضوء هذه الحقيقة نقرأ حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه لأبي بكر الصديق (51 ق هـ، 13 هـ 573-634 م) ولعمر بن الخطاب (40 ق هـ-23هـ584-644م) رضي الله عنهما: " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما "- رواه الإمام احمد - … وفيه تشريع لقاعدة الأكثرية والأقلية في القرارات الشورية، واعتماد رأي الأغلبية عند اتخاذ القرار، حتى ولو كانت الأقلية فيها رئيس الدولة، رسول الله صلى الله عليه وسلم!… ونقرأ – كذلك - حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه " لو كنتُ مُؤمَّراً أحدا دون مشورة المؤمنين لأمَّرتُ ابن أم عبد " { عبد الله بن مسعود} – رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد … فتعيين أمير للجيش، هو اجتهاد في الشئون السياسة والعسكرية، ولذلك كانت الشورى هي السبيل لاتخاذ القرار فيه، ولا يجوز لرئيس الدولة الإنفراد بتعيين أمراء الجيوش دون مشورة أهل الشورى، حتى ولو كان رئيس الدولة هو رسول الله صلى الله عليه وسلمَ

وعلي هذه السنة النبوية سارت الخلافة الراشدة … ففي عهد أبي بكر الصديق، كانت كل الأمور تبرم بالشورى، وجميع القرارات تتأسس على المشاركة الشورية … حتى القوانين التي يقضي بها بين الناس، إذا لم يرد بها نص في الكتاب أو السنة " فعن ميمون بن مهران، قال : " كان أبوبكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى، وإن لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء، فيقول أبوبكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به… "
أما عمر بن الخطاب، فهو القائل : " الخلافة شورى" … و " من بايع عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه "
ولقد شهد عهد سيدنا عمر بن الخطاب – الذي اتسعت فيه الدولة الإسلامية واكتملت الصورة المتعددة للشورى المؤسسة فكان هنالك مجلس للشورى من سبعين عضوا يجتمع في مكان محدد بأوقات محددة في مسجد المدينة – الذي كان دار الحكومة – والشورى هي التي بنت الحضارة بالمؤسسات الأهلية –مؤسسات الفقهاء والعلماء والمحدثين والمقرئين والنحويين واللغويين والأدباء والشعراء والصوفية والتجار والصناع … تلك التي أرخ لها من " الخطط " في التاريخ الإسلامي – كما أن " الأمة " هي التي حولت صناعة الحضارة، بواسطة "الأوقاف" … فكانت الحضارة الإسلامية صناعة أهلية، أقامتها "الأمة"، ولم يجن عليها انحراف "الدولة "" …
وفي هذه الحضارة الإسلامية، ظلت الأمة وفية لفريضة الشورى الإسلامية … بنت بها مذاهبها الفقهية والكلامية، وطبقتها في مؤسساتها الأهلية، التي أقامت النسيج الاجتماعي على العدل والشورى، بينما كانت "الدولة" – في كثير من الأحيان فريسة للاستفراد والطغيان !…
لكن "الدولة الحديثة "، التي قامت في المجتمعات الإسلامية عبر القرنين الماضيين، والتي جاءت إلى بلادنا من نمط " الدولة القومية " الأوربية، منذ عهد محمد علي باشا الكبير { 1184 – 1265هـ1770-1849م} قد مثلت نموذج الدولة الشمولية، متعاظمة النفوذ والسلطات، فمدت استبدادها – عندما استبدت – إلى مختلف ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي قلب المعادلة، فحل " تعظيم الدولة" محل "تحجيمها "، الأمر الذي أدى إلى "تحجيم الأمة" بدلاً من "تعظيمها" فحدث الخلل في العلاقة بين "الدولة" و "الأمة"، وتراجعت "الأمة" ومذاهب علمائها وسلطات أعلامها، وافترست " الدولة " أغلب حريات الإنسان !… ولقد كانت معركة دولة محمد علي باشا، في العقود الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي ضد عمر مكرم { 1168-1237هـ 1755-1822م} ومن ورائه الأزهر ومؤسسات المجتمع الأهلي، التجسيد لهذا التحول والانقلاب في هذا الميدان … وساعد على استحواذ " الدولة " على ذلك مخاطر الغزو الاستعماري الغربي الحديث، التي استدعت تعظيم سلطان " الدولة " لأنها الأقدر على حراسة الأمن الوطني والقومي والحضاري من ثغرات الاختراق الاستعماري لأوطان عالم الإسلام …
لذلك، كان من واجبات حركة الإحياء الإسلامي – الحديثة والمعاصرة – إقامة التوازن بين " الأمة " و "الدولة"، بجعل الشورى الإسلامية منهاج الحياة لمختلف الميادين، وبلورة إرادة الأمة وسلطاتها في " المؤسسات القادرة على تدبير أمور المجتمعات التي تعقدت شئونها على نحو لا تجدي معه شورى الأفراد … وعلى النحو الذي يجعل الشورى شاملة لمؤسسات " الدولة " و " الأمة " جميعاً، فتكون حراسة الأمن الوطني والقومي والحضاري " بالشورى "، وليس " بالاستبداد " قل هذا عن الشورى الإسلامية ، في " الفكر " … و " التطبيق " … و "التاريخ".

وإذا كانت هذه هي " الشورى الإسلامية " … الفريضة، التي لابد من تحويلها إلى فلسفة حياة للاجتماع والنظام الإسلامي … فإن هناك قضية برزت من خلال الاحتكاك الحضاري بين الإسلام وأمته وبين الفكر الغربي وتجاربه في العصر الحديث … وهي مشكلة موقف الشورى الإسلامية من الديمقراطية الغربية … التي تبنتها أحزاب ومدارس فكرية واجتماعية في العديد من البلاد الإسلامية … وهل بينهما – الشورى … والديمقراطية – تطابق كامل؟ أم تناقض مطلق؟ أم أوجه للشبه وأوجه للافتراق؟…
وبادئ ذي بدء، فلابد من التأكيد على حق الأمم والشعوب والحضارات في التمايز والاختلاف في النماذج والخيارات السياسية والثقافية والحضارية … فهذا هو منطق " الليبرالية " في الديمقراطية الغربية … ومنطق " التعددية " التي هي في الإسلام سنة كونية، وقانون حاكم وسائد في كل عوالم المخلوقات … فلا حرج ولا ضير إن اختلفت الشورى عن الديمقراطية، أو تمايزت الديمقراطية عن الشورى … المهم هو وفاء كل نموذج بتحقيق المقاصد الإنسانية التي تحددها رؤية الإنسان للكون في كل حضارة من الحضارات … وجدارة كل نموذج بتفجير طاقات الخلق والإبداع في هذا الإنسان …
وبعد الاتفاق على هذه " الحقيقة – الأولية "، لابد من التنبيه – في الحديث عن علاقة الشورى الإسلامية بالديمقراطية الغربية – ضرورة التمييز – في هذه الديمقراطية – بين "الفلسفة" وبين " الآليات … والخبرات … والمؤسسات "…
فالديمقراطية، نظام سياسي – اجتماعي، غربي النشأة … عرفته الحضارة الغربية في حقبتها اليونانية القديمة، وطورته نهضتها الحديثة والمعاصرة … وهو يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين في حقوق المواطنة وواجباتها، وعلى مشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة، وذلك استناداً إلى المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية … فالسلطة، في النظام الديمقراطي، هي للشعب، بواسطة الشعب، لتحقيق سيادة الشعب ومقاصده ومصالحه…
هذا عن فلسفة الديمقراطية الغربية …

أما "النظام النيابي "، الذي ينوب فيه نواب الأمة المنتخبون عن جمهور الأمة، للقيام بمهام سلطات التشريع، والرقابة والمحاسبة لسلطات التنفيذ في " الدولة" فهو من " آليات" الديمقراطية، وتراث مؤسساتها، وبه توسلت تجاربها عندما تعذرت "الديمقراطية المباشرة "، التي تمارس فيها الأمة كلها، وبشكل مباشر، هذه المهام والسلطات … توسلت الديمقراطية الحديثة بهذه " الآلية" إلى تحقيق مقاصدها وفلسفاتها …
وإذا كان البعض يضع الشورى الإسلامية في مقابلة الديمقراطية –سواء بالتسوية التامة بينهما … أو بالتناقص الكامل بينهما – فإن هذا الموقف ليس بالصحيح إسلامياً … فليس هناك تطابق بينهما بإطلاق … ولا تناقص بينهما بإطلاق … وإنما هناك تمايز بين الشورى وبين الديمقراطية، يكشف مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما.
فمن حيث الآليات والسبل والنظم والمؤسسات والخبرات "التي تحقق المقاصد والغايات من كل الديمقراطية والشورى، فإنها تجارب وخبرات إنسانية ليس فيها "ثوابت مقدسة " … وهي قد عرفت التطور في التجارب الديمقراطية، ومن ثم فإن تطورها وارد في تجارب الشورى الإسلامية، وفق الزمان والمكان والمصالح والملابسات … والخبرات التي حققتها تجارب الديمقراطية في تطور الحضارة الغربية، والتي أفرزت النظام الدستوري، والتمثيل النيابي عبر الانتخابات، هي خبرات غنية وثروة إنسانية، لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أنها تعتبر خلافة لما عرفته حضارتنا الإسلامية، مبكرا، من أشكال أولية وضنينة في " البيعة" و "المؤسسات""…
أما الجزئية التي تفترق فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية، فهي خاصة "بمصدر السيادة في التشريع الابتدائي "
فالديمقراطية تجعل "السيادة" في التشريع ابتداء للشعب والأمة، إما صراحة، وإما في صورة ما أسماه بعض مفكريها بـ " القانون الطبيعي " الذي يمثل بنظرهم- أصول الفطرة الإنسانية … ومن ثم، فإن "السيادة"، وكذلك "السلطة" في الديمقراطية، هما للإنسان … للشعب والأمة …
أما في الشورى الإسلامية، فإن " السيادة" في التشريع ابتداء، هي لله، سبحانه وتعالى، تجسدت في " الشريعة" التي هي " وضع إلهي " وليست إفرازاً بشرياً ولا طبيعياً … وما للإنسان في " التشريع" إلا سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، والتفصيل لمجملها، والاستنباط من نصوصها وقواعدها وأصولها ومبادئها، والتفريع لكلياتها والتقنين لنظرياتها … وكذلك، لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل "السلطة البشرية" محكومة بإطار معايير الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع …

ولذلك كان الله سبحانه وتعالى في التصور الإسلامي، هو " الشارع" لا الإنسان… وكان الإنسان هو "الفقيه"، لا الله … فأصول الشريعة ومبادئها وثوابتها وفلسفتها إلهية، يتمثل فيها "حكم الله وحاكميته "…
أما البناء عليها، تفصيلاً وتنمية وتفريعا وتطويراً واجتهاداً للمستجدات ولمناطق "العفو" التي هي المساحة الأوسع في المتغيرات الدنيوية، فهو فقه وتقنين، تتمثل فيهما سلطات الإنسان، المحكومة بحاكمية الله … وفي هذا الجانب يتمثل الفارق الجوهري والاختلاف الأساسي بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية …
ولهذا التمايز والاختلاف – بين الشورى والديمقراطية - صلة وثيقة بنظرة كل من الحضارتين – الإسلامية – والغربية - للكون، ولحدود نطاق عمل وتدبير الذات الإلهية … وحدود تدبير الإنسان، ولمكانته في الكون … وللعلاقة بين الإنسان وبين الله …
ففي النظرة اليونانية القديمة، وخاصة عند "أرسطو" { 384-322 ق م } وهي التي مثلت تراث النهضة الغربية الحديثة – نجد أن الله قد خلق العالم، وحركه، ثم تركه يعمل وفق طبائعه وقوانينه والأسباب الذاتية المودعة فيه، دونما تدخل أو رعاية أو تدبير إلهي لحركة هذا العالم … فالعالم هنا، وفي هذه الفلسفة، مستقل بذاته … بعد الخلق عن تدبير الله، وحاكمية شرائعه السماوية …
وهذه النظرة لحدود التدبير الإلهي، وجدناها في النهضة العلمانية الغربية الحديثة تعتمد على المبدأ الإنجيلي الذي يجعل مالقيصر لقيصر ومالله لله، فيفصل بين إطار التدبير الإلهي الذي وقف عند "الخلق" وعند خلاص الروح ومملكة السماء – وبين إطار التدبير الإنساني – الذي أعطاه السيادة في تدبير العمران الإنساني، والملكوت الدنيوي، دونما قيود من الحاكمية الإلهية على هذه السيادة والسلطة البشرية فكلما أن العالم في هذه الفلسفة الغربية للديمقراطية – مستقل بذاته عن تدبير خالقه تديره الأسباب والقوى الذاتية المودعة فيه … فكذلك الإنسان في هذه الفلسفة مستقل بذاته، يدير الدولة والمجتمع بالعقل والتجربة، دونما حاكمية إلهية ولا رعاية شرعية سماوية … فهو " سيد الكون "، الحر والمختار بإطلاق … ومن هنا كانت له "السيادة" في التشريع، مع "السلطة" في التنفيذ، بتعميم وإطلاق … بل إن له هذا الاستقلال والحرية المطلقة في العلمانية الشاملة، منظومة للقيم والأخلاق
هذا عن البعد الفلسفي للرؤية الكونية … ونطاق عمل الذات الإلهية … ومكانة الإنسان في الكون … وحريته وسيادته، في الأساس الفلسفي للديمقراطية الغربية … والتي كانت، لذلك، علمانية – في النشأة والتطبيقات …
أما في النظرة الإسلامية، فإن الله سبحانه وتعالى، ليس مجرد "خالق" وفقط … وإنما هو " خالق … ومدبر " وكما أن خلقه دائم أبدا، فان تدبيره دائم أبدا، وله "حاكمية" في التكوين وفي التشريع معا، ورعاية لكل عوام المخلوقات. ونحن نقرأ، في القرآن الكريم عن نطاق عمل الذات الإلهية ": " ألا له الخلق والأمر", " قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " وإذا كان الله سبحانه وتعالى، قد استخلف الإنسان لعمران هذه الأرض " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " … فإن هذا الاستخلاف قد جعل الإنسان – في التصور الإسلامي- بالمرتبة الوسط … فهو نائب … ووكيل وحر .. وقادر … ومستطيع … ومبدع، لكن في حدود الشريعة الإلهية، التي هي بنود عقد وعهد الاستخلاف … نعم، إنه ليس الفاني في الذات الإلهية … لكنه، أيضا، ليس "سيد الكون" وإنما خليفة لسيد الكون … وبعبارة الإمام محمد عبده { 1265-1323 هـ 1849-1905م } فإن هذا الإنسان " عبدا لله وحده، وسيد لكل شيء بعده "
إنه الإنسان خلقه الله … واستخلافه عن الله لا يخرجه من مظلة التدبير الإلهي، بل يجب أن يظل دائماً وأبدا في إطار هذه الرعاية وهذا التدبير، حتى أن عبوديته لله هي قمة حريته، لأنها هي التي تحرره من العبودية لكل الطواغيت … " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له " وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " ولذلك، كانت شهادة أن لا إله إلا الله، جامعة لحرية الإنسان وتحرره، ولعبوديته لله وحده، حتى لكأنها وجهان لعملة واحدة
تلك هي على وجه الحصر والتحديد، الجزئية الفلسفية التي تتمايز فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية
أما ما عدا ذلك، من تأسيس الحكم والسلطة على رضا الأمة ورأي الجمهور واتجاه الرأي العام … وجعل السلطة في اختيار الحكام، وفي مراقبتهم ومحاسبتهم، وفي عزلهم، هي للأمة … وكذلك لك اختيار الآليات والنظم النيابية لتكوين المؤسسات الممثلة لسلطات التقنين والتنفيذ والرقابة والقضاء … فإنها على وجه الإجمال مساحة اتفاق بين الديمقراطية الغربية وبين الشورى الإسلامية
وكذلك الحال مع مبدأ ونظام الفصل بين السلطات –سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء … وهو المبدأ الذي تعارفت عليه الديمقراطية الغربية … فإنه مما تقبله وتحتاجه الشورى الإسلامية … بل ربما ذهبت فيه تجربة الحضارة الإسلامية أبعد وأعمق وأفضل مما ذهبت التجارب الديمقراطية الغربية، ذلك أن تمييز سلطة الاجتهاد الفقهي في النظام الشورى الإسلامي عن السلطات الرقابية والتنفيذية والقضائية، يجعل السلطات – في النظام الإسلامي … أربعا بدلاً من ثلاث … كما يجعل سلطة التشريع فوق الدولة، بسبب إلهية الشريعة، الأمر الذي يحرر القانون من سلطان الاستبداد البشري والأهواء البشرية …
ويحقق النظام الإسلامي الفصل الحقيقي بين السلطات , ذلك أن التجربة العملية في الديمقراطية الغربية قد آلت سلطة التشريع وسلطة التنفيذ متماهيتان في الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبية الحاكم .
لأمر الذي جعل الفصل الحقيقي بين سلطتي التشريع والتنفيذ باهتاً إلى حد كبير … أما استقلال سلطة خاصة بالاجتهاد والتقنين، مع التزامها بحاكمية الشريعة الإلهية، فهو الأقرب إلى تحقيق مبدأ فصل السلطات، والأكثر تحقيقا لسيادة القانون على باقي السلطات …
ولقد أدرك هذه الحقيقة – حقيقة هذا التمايز بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية … في عصور القانون بكل منهما – لعلماء الغربيون الذين خبروا وتخصصوا في الشريعة الإسلامية وفي القانون الروماني، وقارنوا بين الفقه الإسلامي وبين المدونات القانونية في الحضارة الغربية … أدركوا هذه الحقيقة،ولفتوا إليها الأنظار وسلطوا عليها الأضواء ..
لقد كتب المستشرق " دافيد دي سانتيلانا " {1845 – 1931م } عن فلسفة التشريع في القانون الوضعي الغربي " إن معنى الفقه والقانون بالنسبة إلينا وإلى الأسلاف : مجموعة من القواعد السائدة التي اقرها الشعب، إما رأساً أو عن طريق ممثليه و سلطانه مستمد من الإرادة والإدراك وأخلاق البشر وعاداتهم فهو قانون "دنيوي" أي "علماني" خالص الدنيوية
ثم استطرد " سانتيلانا "، مقارنا هذه الفلسفة العلمانية للقانون في الديمقراطية الغربية، بالفلسفة الإسلامية في التشريع والفقه الإسلامي، فقال " إلا أن التفسير الإسلامي للقانون هو خلاف ذلك … فالخضوع للقانون الإسلامي هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، ومن ينتهك حرمته لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي فقط، بل يقترف خطيئة دينية أيضا … فالنظام القضائي والدين، والقانون والأخلاق، هما شكلان لا ثالث لها لتلك الإرادة التي استمد منها المجتمع الإسلامي وجوده وتعاليمه، فكل مسألة قانونية إنما هي مسألة ضمير … والصبغة الأخلاقية تسود القانون … فالشريعة الإسلامية شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلا
وذات هذه الحقيقة – حقيقة اختلاف فلسفة الشورى وقانونها الإسلامي عن الديمقراطية وقانونها الوضعي العلماني يؤكد عليها المستشرق السويسري " مارسيل بوازار " … فيقول –عن اختلاف المصدر والمقاصد بينهما … ( ومن المفيد أن نذكر فرقاً جوهرياً بين الشريعة الإسلامية والتشريع الأدبي الحديث ، سواء في مصدريهما المتخالفين، أو في أهدافهما النهائية … فمصدر القانون في الديمقراطية الغربية هو : إرادة الشعب، وهدفه: النظام والعدل داخل المجتمع أما الإسلام، فالقانون صادر عن الله، وبناء عليه يصير الهدف الأساسي الذي ينشده المؤمن هو البحث عن التقرب إلى الله، باحترام الوحي والتقيد به … فالسلطة يجب في الإسلام تفرض عدداً من المعايير الأخلاقية … بينما تسمح في الطابع الغربي أن يختار الناس المعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصرهم …
هكذا شهد العلماء الخبراء الغربيون بالتمايز –في البعد الفلسفي- بين الشورى الإسلامية وفقهها وبين الديمقراطية الغربية وقانونها …
إن الشورى في حقيقتها- هي اسم من "المشاورة" … والمشاورة هي استخراج الرأي فهي –في حد ذاتها- أدخل في "الآليات" … آليات استخراج الرأي … وهي – بهذا الاعتبار- لا يمكن أن تكون نقيضاً لآليات الديمقراطية … أما التمايز بينهما فإنه يأتي في الموضوع الذي تعمل فيه هذه الآليات … وفي نطاق عمل هذه الآليات … فعلى حين لا تعرف الديمقراطية حدودا إلهية لسلطات عمل وإعمال آلياتها، تميز الشورى الإسلامية بين نطاقين من "الأمر" … أمر هو لله .. أي تدبيره الذي يختص به سبحانه … "وأمر"، اي تدبير، هو في مقدور الإنسان، وفيه تكون شوراه … وفي القرآن الكريم عن "الأمر" الأول ( ألا له الخلق والأمر ) – وعن " الأمر " الثاني " ( أمره … وتدبيره ) … وبحكم خلافة الإنسان لله، سبحانه وتعالى، فان " أمره … وتدبيره " أي حاكميته الإنسانية محكومة بإطار و ( أمر الله وتدبيره ) التي هي حاكمية الله وحدود شريعته الإلهية
ففي المرجعية … وفي الفلسفة … وفي الحدود … وفي المقاصد يرد التمايز بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية … وليس في الآليات … والمؤسسات … والنظم … والخبرات
لديمقراطية كفكر وضعي وفلسفة دنيوية لا تمد بصرها إلى ما هو ابعد من صلاح دنيا الإنسان، بالمقاييس الدنيوية لهذا الصلاح … على حين نجد الشورى كفريضة إلهية تربط بين صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فتعطي الصلاح الدنيوي بعدا دينيا، يتمثل في المعيار الديني لهذا الصلاح
مع ضرورة التنبيه والتأكيد على أن الاستبداد مفسد للدنيا والآخرة جميعا، ذلك أن " نظام الدين كما يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي {450-505هـ 1058 – 1111م } لا يحصل إلا بنظام الدنيا … فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات، من: الكسوة والمسكن والأقوات والأمن … فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية … فنظام الدنيا شرط النظام الدين "
فحتى لو وقفت فوائد الديمقراطية عند صلاح الدنيا، فيجب عدم الاستهانة بذلك، وخاصة إذا كان البديل هو الاستبداد، المفسد للفرد والمجموع، وللدين والدنيا جميعا
وأخيراً … فسواء أكان أمر الشورى الإسلامية، أو أمر الديمقراطية الغربية، فان هناك فارقاً بين " المثال " وبين " الواقع " عند الممارسة والتطبيق … وإنها لحكمة إلهية أن تظل التطبيقات لكل المبادئ والفلسفات دون " المثال " الذي يصوره الفكر لهذه المبادئ والفلسفات، وذلك حتى يظل السعي الإنساني دائباً ودائماً على طريق الاقتراب "بالواقع" من " المثال " فينفسح الأمل دائماً وأبداً أمام التسابق الإنساني على طريق التقدم والارتقاء … وإلا فلو حقق الإنسان كامل المثال لانتهى " جدول أعمال " الحياة الإنسانية، وحل القنوط محل التطلع لتحقيق المزيد من الآمال
قد كانت تطبيقات الشورى الإسلامية، في تاريخ الأمة والحضارة الإسلامية، أدني بكثير جداً من " مثال " هذه الشورى في الفكر الإسلامي … وكذلك حال التطبيقات الغربية للديمقراطية، لم تمنع هذه الحضارة الديمقراطية من إنتاج العنصرية … والحروب الدينية … والقومية … والاستعمارية والنظم الفاشية … والحروب الكونية التي جعلت هذه المجتمعات الديمقراطية تتفوق على وحشية الإنسان البدائي في الإبادة والتدمير!… ولم تمنعها من أثرة الرأسمالية المتوحشة، التي جعلت وتجعل 20% من البشر _ هم سكان الشمال الديمقراطي – يستأثرون بـ 86% من خيرات العالم، تاركين 14% من ثروات العالم لـ 80% من السكان !! … ناهيكم عن أن هذه التطبيقات الغربية للديمقراطية لم تمنع من أن تكون التجارة الأولى للدول الديمقراطية هي تجارة السلاح … تليها تجارة المخدرات … تليها تجارة الدعارة!! … ولم تمنعها من أن يكون ما ينفق على القطط والكلاب والخمور والترف المستفز أضعاف ما ينفق على الصحة والغذاء والتعليم

فلا الشورى تمثل الوصفة السحرية للتقدم والإصلاح … ولا الديمقراطية هي الحل السحري لمشكلات المجتمعات المعاصرة … وإنما الحل هو الكدح الإنساني كي تكون التطبيقات للشورى … أو الديمقراطية – اقرب ما تكون إلى تحقيق إنسانية الإنسان