صفحة 1 من 1

الهوية والقيم .. موت اللغة العربية نموذجاً 2-2

مرسل: السبت يوليو 14, 2012 9:08 pm
بواسطة نايف التمران313
هناك ما يُسمّى بأدوات تشكيل الثقافة ، فتضافر هذه الأدوات على مدى طويل مع حشد إعلامي مجاني هائل موجود في المنطقة العربية ويُروّج للثقافة الغربية ويُمجدّها ، فبالتالي سيكون هناك تحولات ثقافية في المجتمع نحو صورة ممسوخة من الثقافة الغربية ويظهر ذلك على الأمد الزمني البعيد .
فاللغة هي أساس أي تكوين حضاري ، وقوة اللغة من قوة الحضارة التي تمتلك تلك اللغة ، وإذا تحدّثنا عن القوة فهي نوعين :
- قوة صلبة ( معدات عسكرية وقتال مباشر )
-قوة ناعمة ( وهي القوة الفكرية وأن تغزو من تريد بأفكارك حتى يتبناها )
فالحديث عن المصطلحات الأجنبية هي استعمار فكري هادئ ولذيذ للمقابل ودون أن يشعر وإليك هذا المثال :
فقبل عام 1920م كان هناك أكثر من 75 لغة تكتب حروفها باللغة العربية ، ثم أتى الاستعمار ودائماً يأتي معه مركز للدراسات تبحث في كيفية إعلاء حضارتها على حضارة مستعمراتها لكي تهيمن وتسيطر عليها بشتى الطرق الممكنة ، تلك المراكز البحثية وجدت أن الطريقة الأقوى لفرض هيمنتها على العالم هو بفرض لغتها.
فبدأ المستعمرون في الدول العربية يضعفون من اللغة العربية ، في أفريقيا مثلا حولوا اللغة السواحيلية التي يتكلم بها قسم كبير من أفريقيا لكي تكتب بحروف لاتينية بالرغم من أن جميع الدراسات أكدت أن كتابة اللغة السواحيلية بحروف غير العربية ستضعف منها كثيرا إلا أن الهدف وقتها لم يكن إضعاف أو تقوية اللغة السواحيلية بقدر ما كان الهدف هو القضاء على اللغة العربية تمهيدا لإضعاف الكيان العربي بالكامل .

هل يمكن أن تنقرض اللغة العربية ؟
الأمر ليس مزاحاً ولا خوفاً من المستقبل دون مبرر ، إنما الضرر الذي يقع على اللغة ينعكس على الهوية ويشعر به الآخرون وينشروه في دراساتهم بينما نحن نائمون في العسل .
فقد أصدرت منظمة ”اليونسكو” في عام 2006م قائمة بحوالي 300 لغة انقرضت تماماً في القرن العشرين وأضافت إليها قائمة باللغات المتوقع انقراضها في القرن الواحد والعشرون وكان من بين اللغات في تلك القائمة اللغة العربية..!
ولكن كيف ذلك واللغة العربية تمثل أطول الآداب العالمية عمراً على الإطلاق ، فهي اللغة التي يستطيع أبناؤها قراءة خمسة عشر قرنا من الإبداع ، في حين أن تاريخ اللغات الأخرى لا يزيد علي خمسة قرون !
المنظومة القيمية لدى المجتمعات تشكّل هوية واضحة المعالم للحاضر والمستقبل فعندما تتزعزع هذه القيم ويتغير تشكيلها بفرض قيم ذات دلالة إعجاب بالآخر وانسلاخ من واقع وماضي يتكئ عليه الإنسان فهنا مكمن الخطر .

التقنية والهوية الاجتماعية :
هناك قانون اسمه قانون الفوضى يقول : التغير التكنولوجي يقود التغير الاقتصادي ، والتغير الاقتصادي يقود التغير الاجتماعي .
وكم أتمنى أن لا نجعل التقنية الحديثة مبررات لهذه الأخطاء بل نستطيع أن نقوّم حالنا وننطلق للعمل للاعتزاز باللغة العربية ، وليس شيء أدلَّ على هذا من واقع اللغة الإنجليزية ، فمنذ أن قررت الولايات المتحدة الأمريكية تبنيها لغة رسمية لها حتى سعت في نشرها, وربطها بالعلوم والمعارف , فحين كان أبناء هذه اللغة في بداية القرن التاسع عشر الميلادي واحداً وعشرين مليوناً فقط , أصبحوا في بداية القرن العشرين مائة وخمسة وعشرين مليوناً , وهم اليوم ضعف هذا العدد أو أكثر , ومن يتحدثون بها من غير أبنائها خلق كثير لا يكاد يُحصى , وهي لا تزال في اتساع وانتشار مستمر , ولا سيما في زمن العولمة , حيث تفرض نفسها اليوم لغة للناس كافة ، على الرغم من أن الذين يتحدثون بها باعتبارها لغة أصلية لهم لا يزيدون عن7.6 % من سكان العالم حسب إحصائيات عام 1992م, ومن المعلوم أن من أساسيات العولمة نشر اللغة الواحدة ، وجعلها لغة العالم الأولى , وإيهام البشر أن العلم والمعرفة والإبداع والاختراع والخير والحضارة والسبق والفوز لا يكون إلا لمن أتقن اللغة الإنجليزية , ودرَّس العلوم والاختراعات بلغتها دون سواها .

المستقبل إلى أين ؟
قد تؤدي هذه الظاهرة إلى ضعف التعبير العميق للناس عمّا لديهم باللغة العربية وتصبح تعابيرهم باللغات الأجنبية أسهل من اللغة العربية ، فتضحي اللغة العربية هي لغة المدارس والدوائر الرسمية فقط وليس لغة الواقع والشارع ، كما هو الحال في بعض دول شرق آسيا والهند بأن اللغة الإنجليزية هي اللغة السائدة ولغة البلد هي اسماً الرسمية ويتحدّث بها العاميين والبسطاء .
ولقد ثبت واقعياً أن اندثار اللغة لأمة ما: هو اندثار ذاتها وغياب شخصيتها وحقيقة وجودها، ولا أدلَّ على ذلك من حال الهنود الحمر في القارة الأمريكية حين غزاهم المهاجرون الأوروبيون ، فعملوا فيهم عسكرياً وثقافياً حتى أفقدوهم لغتهم وبالتالي ذاتيتهم وهويتهم الخاصة ، وكذلك ما حصل في أوروبا وأمريكا بحق الرقيق السُّود، المجلوبين من إفريقيا ، إذ لم يبق لهم من جميع أصولهم وخلفياتهم إلا ما تفرضه الوراثة من الأشكال والألوان.
وفي ندوة \"العربية في عصر العولمة\" التي عقدت في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة ، حذّر الدكتور : محمود حافظ رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، من خطورة هذا التوجه إلى المصطلحات الأجنبية حيث قال : \" إن هناك مؤامرات تحاك منذ سنوات للنيل من اللغة العربية ، وإن في مصر 250 مدرسة أجنبية تُعلّم علومها في غياب اللغة العربية تماماً ، إضافة إلى جامعات أجنبية ، وهذا الأمر سيؤدي بعد جيل أو جيلين إلى وجود طبقة اجتماعية لا تنتمي إلى مصر ولا إلى اللغة العربية ، بل تنتمي إلى لغات أجنبية وإلى بلدان تلك اللغات \"

من الحلول :
يقول ابن خلدون : ( إن قوة اللغة في أمة ما ، تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم ، لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم)
كل الدول تحرص بقوة على تجنيد كل الوسائل للحفاظ على لغتها الوطنية من أي تأثيرات ضارة والدفاع عنها في مواجهة تأثير اللغات الأخرى ، حتى لا يحدث لها مثلما حدث لباقي اللغات التي ماتت ، فهناك 25 لغة تموت سنوياً كما تشير الأبحاث العلمية من مجموع اللغات التي يقدرها الباحثون بحوالى 6000 لغة، والتي تتوقع الدراسات أن تختفي منها 3000 لغة مع انتهاء القرن الحادي والعشرين.
ولعل في التجربة اليابانية مع العلوم والمعارف الأجنبية من أقوى التجارب الحديثة على إمكانية المشاركة في صناعة النهضة الحضارية العالمية مع الإبقاء على الخصوصية الثقافية واللغوية للقومية اليابانية ، ففي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي زمن محمد علي ، حين قرر المصريون التدريس في المعاهد باللغة الإنجليزية : أصرَّ اليابانيون على ضرورة التدريس باللغة اليابانية ، وترجمة العلوم والمعارف الأجنبية إليها، فما إن حلَّ عام 1907م حتى كان 97% من الشعب الياباني متعلماً، وكانت نسبة الحاصلين على الشهادة الابتدائية عام 1910م مائة بالمائة، ثم تتابعت إنجازاتهم العلمية، ومشاريعهم الحضارية، ضمن سلسلة من النجاحات الباهرة، مقابل إخفاق عربي عام في جميع الميادين العلمية، وتدنٍّ واضح في نسب المتعلمين. ولم تكن – في كل ذلك– اللغة الأجنبية عاملاً في نهضة اليابان الحديثة، بل إن الثابت أن شعب اليابان – في العموم– يعاني ضعفاً في اللغة الإنجليزية، والمتعلم الياباني يتأخر ترتيبه بين طلاب الدول الآسيوية إلى المرتبة الثامنة عشرة في اختبارات مهارات اللغة الإنجليزية، ولم توضع قضية تعليمها للبحث والدراسة عند المختصين – باعتبارها لغة أجنبية– إلا ضمن مقترحات خطة اليابان للقرن الواحد والعشرين الميلادي، بعد ظهور مفهوم العولمة، وما ترتب عليه من الانفتاح الثقافي العالمي، وحاجة الياباني المثقف بصورة عاجلة في هذا الظرف الحضاري إلى كثير من المعلومات المتوافرة باللغة الإنجليزية.

من أهم الحلول لنهوض اللغة العربية من كبوتها هي الإغفال النسبي لكثير من القواعد الفرعية التي لم تعد تستخدمها العربية المعاصرة والتي تثقل مع ذلك كاهل الدارسين وتنفرهم من تعلم اللغة والإقبال عليها، فضلا عن محاولة إيجاد أو استحداث قواعد جديدة تتسم بالمرونة وإدراجها ضمن القواعد الحديثة المكتشفة في مناهج تعليم اللغة، دون المساس بالقواعد الرئيسية الجوهرية .