صفحة 1 من 1

تطور مفاهيم استراتيجيات أمن القومي

مرسل: الأحد يوليو 15, 2012 11:42 pm
بواسطة محمد الغامدي (٣)
تطور مفاهيم استراتيجيات أمن القومي

كان الإلحاح على ضرورة قيام مجلس أمن قومي لمصر، بالمعايير العلمية المجردة، مدفوعاً بقدرة الدولة على التعامل مع العالم الخارجي، بعد ثورة 25 يناير، خاصة ما كان عليه حال مصر، في عهد النظام السابق الذي كان يحكم منفرداً، بلا استراتيجية أمن قومي، أو حتى مستشار أمن قومي يعاون الرئيس، والنتيجة تدني الأوضاع في الداخل، وتراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع دور مصر الإقليمي، في محيطها العربي، وفي عمقها الاستراتيجي في إفريقيا .

وبعد أن عرضت في الأسبوع الماضي، لأقدم نماذج هذه المجالس في أمريكا، فإنني أتطرق إلى التجربة البريطانية، وكيف تطور الآن فكرها الاستراتيجي، وعمل مجلس أمنها القومي .

بريطانيا  بدأت أخيراً، وبعد شهور من الانتخابات العامة، في وضع استراتيجية جديدة عنوانها: بريطانيا في عصر من عدم اليقين: استراتيجية للأمن القومي، حددت فيها المخاطر قبل وقوعها، وتجهيز آليات التعامل معها، مع الوضع في الحسبان، أن أي استراتيجية، لا تتعامل مع الوضع القائم فقط، لكنها تراعي تغير الزمن وظروفه المستجدة .

الاستراتيجية البريطانية الجديدة، صدرت في وثيقة من 37 ورقة، مقسمة إلى أربعة أجزاء، وتطرح المبادئ الآتية:

(1) توقع اتساع دائرة القوس الدولية التي بيدها صناعة القرار السياسي في العالم، مع ظهور قوى دولية جديدة، واحتمال حصول البعض منها على عضوية دائمة بمجلس الأمن، من بينها الهند والبرازيل .

وتدرك بريطانيا أن هذا التوسع يمكن أن يقلل من نفوذها، كواحدة من الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن، إلا أنها تفهم أن هذا تطور لا مفر منه، وأنه يحدث في إطار تحوّل مركز التأثير الاقتصادي العالمي، من الغرب، إلى آسيا وأمريكا اللاتينية، وصعود الصين والهند كقوى عالمية مؤثرة .

(2) تحدد الاستراتيجية الجديدة، هدفين واضحين لها هما: (أ) ضمان أمن بريطانيا، وقدراتها على حماية شعبها، واقتصادها، وأراضيها . (ب) صياغة عالم مستقر، بالعمل مع غيرها، لخفض المخاطر المحتملة التي تؤثر عليها، وعلى مصالحها في ما وراء البحار .

(3) وتقول الوثيقة: إن استراتيجية الأمن القومي ليست وصفة طبية، أو روشتة، تملي علينا أسلوب ردنا على أي حدث، وإن كانت الوثيقة تلاحظ أن طريقة الروشتة، استخدمت في حالة تعامل الحكومة البريطانية مع ثورات الربيع العربي، وأن استراتيجية الأمن القومي الجديدة، يمكن أن تكون فعالة، إذا تضمنت خيارات، يتم الاختيار من بينها، وأن تقوم على التفكير للمدى البعيد .

(4) تطرح الوثيقة مجموعة من التهديدات القائمة بما فيها  التجسس، والإرهاب، والانتشار النووي، والتهديدات العارضة كالأوبئة، وكيفية التفكير في ما قد يأتي به المستقبل، ودور بريطانيا فيه .

(5) إن ترتيب أولويات الأمن القومي، لابد أن تضع في حسابها، أننا دخلنا عصر ندرة الموارد وهو وضع يعانيه المجتمع الدولي كله . وضمن الأفكار الخاصة بالتعامل مع هذه الندرة، إقامة مشاركة أوسع مع دول مختلفة في العالم، في آسيا، وأمريكا اللاتينية، بمعنى عدم الاكتفاء بالتحرك في إطار الاتحاد الأوروبي، بل الانطلاق في اتجاهات أخرى مكملة .

(6) يعدّ مجلس الأمن القومي، محور عمل السياسة الخارجية، وله دوره الحيوي في طريقة التعامل مع الأوضاع المتغيرة في العالم .

ويباشر المجلس عمله من خلال تكوينه من نخبة من العقول ذات الخيال والمعرفة والخبرة، تعاونهم لجان من المتخصصين الذين يعهد إليهم، بعمل الدراسات والتحليلات، في الموضوعات ذات الأولوية . على أن توضع أمام المجلس ولجانه المتخصصة، جميع التفاصيل والمعلومات عن القضايا التي تخص الأمن القومي .

(7) تتحدث إحدى نقاط الوثيقة عن تعزيز نفوذ بريطانيا في الخارج، لكون النفوذ هو سند الأمن القومي، وحماية المصالح في الداخل، وأن لدى بريطانيا أرصدة تستثمرها في هذا الاتجاه مثل القدرة العسكرية والدبلوماسية، والمساعدات، ومراكز الإبداع الثقافي والأدبي والفني .

(8) تؤكد الوثيقة أهمية القوة الناعمة، بوصفها واحدة من مكونات النفوذ، وأن من بين صور القوة الناعمة  الميراث الثقافي البريطاني التقليدي، إضافة إلى الصور الحديثة للإنتاج الثقافي المتنوع، والاستفادة من دور الأعداد الكبيرة من البريطانيين الذين يعيشون ويعملون وراء البحار، وقطاعات أجنبية منها عشرات الألوف من الصينيين يدرسون في بريطانيا، والاستفادة من وضع بريطانيا المتميز، بعضويتها في شبكة واسعة النطاق من الكيانات، مثل مجلس الأمن، وحلف الأطلنطي، والكومنولث، والاتحاد الأوروبي وغيرها، إضافة إلى تنويع تحركاتها في مجالات أخرى جديدة، بمشاركة أمنية ثنائية مع دول مثل تركيا، والهند، واليابان، وغيرها، وتنظيمها حوارات سياسية، وأمنية مع الصين وروسيا، وعلاقات تتسع اقتصادياً مع البرازيل .

هذه نماذج لها تاريخ وتجارب متنوعة، لكنها تغيّر وتطوّر من فكرها وآليات عملها، لأنها فهمت أن العالم يتغير، ولابد لها من اللحاق به والتوافق معه . ولما كانت استراتيجيتها العابرة للحدود، تغريها على اقتحام المجالات الحيوية للآخرين، كلما صادفت فراغاً استراتيجياً، وهو ما كان عليه الحال عندنا، ومن ثم كان لابد لمصر من الإسراع بسد الفراغ الذي كان قد نشأ بسبب عدم وجود هذه الاستراتيجية، وعدم أخذنا بنظام مجالس الأمن القومي التي يراعى في تكوينها معايير الخبرة، والمعرفة والتخصص . . وبمراعاة أن تلك مسألة تخص الأمن القومي للدولة، على المدى الطويل .