- الاثنين يوليو 16, 2012 11:22 am
#52634
يستمد النمط التوافقي من الديمقراطية أهميته كنموذج عملي ملموس من المساهمات التي يقدمها لفهم الديمقراطيات الغربية. وهو مستلهم من تصنيف غابريال أ.ألموند الكلاسيكي للأنظمة السياسية، الذي بسطه للمرة الأولى سنة (1956م)، والذي يُعدُّ المحاولة الحديثة الكبرى لتحديد مختلف أنماط الديمقراطيات(1). ونظراً إلى أن النموذج التوافقي يمثل جهداً بنّاءً لتهذيب تصنيف ألموند العميق الأثر وإثرائه، فلا بد من النظر عن كثب إلى أفكار ألموند. وثمة سبب إضافي هام للقيام بذلك, وهو أن ألموند لا يقتصر على إيراد عدد من المتغيرات والعلاقات الهامة التي تحدد مباشرة أنماط تصنيفه، بل يدمج في تصنيفه عدة نظريات ومفاهيم ذات صلة: العضويات المتداخلة والمتشابكة، الأنظمة الحزبية، فصل السلطات، والتنمية السياسية. ولهذه العوامل أهمية حيوية في تحليل الديمقراطية التوافقية أيضاً.
تصنّف الأنظمة السياسية في الصياغة الأقدم عهداً لتصنيف ألموند في أربع فئات أساسية: أنكلو- أميركية، أوروبية قارية، قبل صناعية أو صناعية جزئياً، وتوتاليتارية. الفئتان الأوليان هما نمطان من الأنظمة الديمقراطية، وتتميز هذه استناداً إلى معايير الثقافة السياسية وهيكلية الأدوار. فالأنظمة الأنكلو- أميركية تتسم (بثقافة سياسية متجانسة، وعلمانية، وهيكلية أدوار متمايزة تمايزاً كبيراً) -بينما الأنظمة الأوروبية القارية تتسم (بتفتت الثقافة السياسية)، أي أن فيها عدة (ثقافات فرعية سياسية) منفصلة بعضها عن بعض، وبهيكلية أدوار متجذرة في الثقافات الفرعية مع الميل إلى تشكيل نظم فرعية للأدوار قائمة بذاتها. بعبارة أخرى، إن الأنظمة الأوروبية القارية هي مجتمعات تعددية. وهكذا، فإن بريطانيا والولايات المتحدة تعدان مثالاً على النمط الأول غير التعددي، كما تعد ألمانيا أيام جمهورية فايمار، وفرنسا، وإيطاليا ما بعد الحرب مثالاً على النمط الثاني. وقد استمر هذا التمييز بين هذين النمطين من الديمقراطية في التصنيف اللاحق (1966) للأنظمة السياسية الذي قدمه ألموند بالتعاون مع ج. بنغهام باول(2) بصورة أكثر بلورة.
يجدر بنا قبل المُضِيّ في مناقشة تصنيف ألموند، أن نورد ملحوظتين تحذيريتين. أولاً، على الرغم من مصطلحاته المستمدة من الجغرافيا، فإنّ ألموند لا يستعمل الموقع الجغرافي كمعيار أساسي أو إضافي للتمييز بين النمط الأنكلو- أميركي من الديمقراطية والنمط الأوروبي القاري. وبالفعل، ففي المقالة نفسها التي يعرض فيها هذا التصنيف، يرفض على وجه التحديد أي تصنيف إقليمي لأنه (لا يستند على خصائص الأنظمة السياسية، بل على تجاورها في المكان) ويعدّه معياراً غير ذي صلة بالموضـوع(3). ثانياً، إن الحالات التي يصنفها في مقالته عام (1956م) وكتاباته اللاحقة هي الأنظمة السياسية التي كانت قائمةً حتى الخمسينات وأوائل الستينات ولا تعبر بالضرورة عن الوضع القائم في السبعينات. وينطبق هذا التحذير بقوة خاصة على الحالتين البريطانية والأميركية. وعلاوةً على ذلك، فإنّ فرنسا تعني بالدرجة الأولى الجمهورية الفرنسية الثالثة والرابعة.
في كلتا صياغتي ألموند، ترتبط أنماط الثقافات السياسية وهيكليات الأدوار بالاستقرار السياسي في البلدان المنظور فيها. فالنمط الأنكلو –أميركي- بثقافته السياسية المتجانسة وأحزابه المستقلة ذاتياً، وجماعات المصالح، ووسائل الإعلام والاتصال -يتّسمُ بالاستقرار، أما النمط الأوروبي القاري - بثقافته السياسية المفتتة والاعتماد المتبادل بين الأحزاب والجماعات- فيرتبط بعدم الاستقرار. وتُذكِر العلاقة عينها بصورة ضمنية في (المقاربة الوظيفية للسياسة المقارنة) التي يقدمها ألموند. ويحتج وليام ت. بلوم بأنها تحتوي على (نظرية في أكثر الأنظمة فعالية (أي استقراراً)) ويعلّق بأن (سمات التنظيم الأكثر فعالية... تبدو بصورة مدهشة شبيهة بسمات الديمقراطية البرلمانية الحديثة ولاسيما في تجسيدها البريطاني)، أو بعبارة أخرى النمط الأنكلو- أميركي(4). فالنمط الأوروبي القاري، بحسب تعبير ألموند نفسه يرتبط (بالجمود) والخطر الدائم لما يسمى غالباً (بالاحتراق القيصري). ولا يمكن لهذا النمط غير المستقر من الحكم أن يديم الديمقراطية فربما أفضى إلى الحكم الديكتاتوري, وربما انطوى في جوهره على (احتمال التوتاليتارية). ويذهب ألموند في كتاباته اللاحقة إلى أن سمة الجمود الملازمة للنمط الأوروبي القاري من الديمقراطية تستجرُّ (عواقب هامة (وربما غير مؤاتية) لاستقراره وبقائه). وبالمقابل، فإن النظام البريطاني يوصف بأنه (طليق الحركة)، يعني أنه (يمكن أن يتجاوب بقدر من المرونة حيال المطالب الداخلية والخارجية أكبر من كثير من الأنظمة الأخرى، وربما من معظمها)(5).
فصل السلطات والعضويات المتداخلة
ثمة أوجه شبه متقاربة بين منظومة ألموند ومذهب فصل السلطات، التي تُعنى أيضاً بالاستقرار الديمقراطي, ولاسيما إمكانية أن يحافظ نظام ديمقراطي أصلاً على طبيعته الديمقراطية الحقيقية. ففي الكلمة التي ألقاها عند توليه رئاسة الرابطة الأميركية للعلوم السياسية سنة (1966م)، قابل ألموند بين نظرية فصل السلطات ونظرية الأنظمة، ووصف الأولى بأنها (المثال السائد) للعلوم السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأن هذا المثال قد استعيض عنه اليوم بمثال الأنظمة. من جهة ثانية ركز ألموند أيضاً على الصلة الوثيقة بين الاثنين إذ وصف المؤلفين الذين وضعوا الأوراق الفيدرالية بأنهم من (منظري الأنظمة)(6). يكتسي هذا الترابط بين فصل السلطات ومقاربة ألموند الوظيفية أهميةً خاصةً في هذا السياق؛ لأن أحد المعايير التي تميز أنماط ألموند الأنكلو -أميركية والأوروبية القارية هو معيار هيكلية الأدوار: إلى أي درجة تعتبر الأدوار مستقلة ذاتياً- أو منفصلة بعضها عن بعض.
الفرق الأساسي بين مذهب فصل السلطات ومنظومة ألموند هو أن ألموند يوسع فكرة فصل السلطات من مجرد فروع الحكم الرسمية الثلاثة (التشريعي، والتنفيذي، والقضائي) بحيث تشمل الهيكليات الفرعية السياسية غير الرسمية (الأحزاب، جماعات المصلحة، ووسائل الإعلام)، وأنه يولي مزيداً من الأهمية للأواخر (هيكليات التزويد) أكثر مما يولي للأوائل (هيكليات الإنتاج). أما الاختلافات الأخرى فهي في معظمها تتعلق بالمصطلحات. يترجم ألموند السلطات إلى وظائف، بحيث يصبح الفصـل (حفاظاً على الحدود). لا الفصل بين السلطات، وفقاً للأوراق الفيدرالية، والحفاظ على الحدود بين الوظائف السياسية يساهمان في استقرار الأنظمة الديمقراطية. ففي بريطانيا، وهي مثال على النمط الأنكلو- أميركي، ثمة (حفاظ فعّال على الحدود بين الأنظمة الفرعية في الجسم السياسي)، بينما في فرنسا -وهي مثال من النمط الأوروبي القاري- يجد المرء حفاظاً ضعيفاً على الحدود بين مختلف أجزاء النظام السياسي. فالأحزاب الفرنسية وجماعات المصلحة (لا تشكل أنظمة فرعية سياسية مستقلة ذاتياً ومتمايزة. بل هي تتداخل الواحدة منها في الأخرى) ولاسيما داخل الثقافات الفرعية الكاثوليكية، والاشتراكية، والشيوعية. وبالمثل فإن الأنماط الأنكلو- أميركية والأوروبية القارية تتمايز من حيث درجة استقلال وسائل إعلامها. فالولايات المتحدة، وبريطانيا، وأمم الكومنولث القديم (تتمتع وسائل إعلامها بأقصى حد من التمايز والاستقلال الذاتي) بينما في فرنسا وإيطاليا (تميل (الصحافة) إلى أن تكون خاضعة لجماعات المصلحة والأحزاب السياسية)(7).
وكما أن مذهب فصل السلطات تكمّله فكرة الضوابط والتوازنات، فإن مذهب الحفاظ على الحدود يكمله مفهوما (تعدد الوظائف) و(الدور التنظيمي). الحفاظ التام على الحدود بين الأدوار والوظائف لا يحدث أبداً، على قول ألموند. فالفروع الرسمية للحكم، والأحزاب، وجماعات المصلحة، وما إليها تقوم باستمرار بأكثر من مجرد وظيفة واحدة: (كل بنية سياسية، مهما كان تخصصها متعددة الوظائف). ولذلك، فما يهمّ ليس كون الأحزاب السياسية –مثلاً- مجرد تجميع لمصالح الناس المختلفة أنها لا تقوم بأي وظيفة أخرى غير عملية تكتيل المصالح، بل إن هذه الوظيفة تصبح مسؤوليتها الخاصة. ففي الأنظمة المتخصصة الحديثة التي تمثل الديمقراطيات الأنكلو- أميركية نموذجها الأصلي، توجد بعض الهيكليات (التي تمتاز بمزية وظيفيـة خاصة، والتي تميل إلى القيام بما يمكن أن نسميه دوراً تنظيمياً بالنسبة إلى تلك الوظيفة داخل النظام السياسي ككل)(8).
علاوةً على التلاقي بين المعيار الأول في تصنيف ألموند، وهو هيكلية الأدوار، ومذهب فصل السلطات، ثمة أيضاً صلة وثيقة بين المعيار الثاني، وهو الثقافة السياسية، وقضية (العضويات المتداخلة) التي قدمها المنظِّران أرثر ف. بنتلي وديفيد ب. ترومان، وقضية الانقسامات المتقاطعة التي اقترحها سيمور مارتن ليبسيت. وحاصل هاتين القضيتين أنه عندما ينتمي الأفراد إلى عدد من المجموعات المنظمة أو غير المنظمة ذات المصالح والمنظورات المتنوعة، فإن مواقفهم تميل إلى الاعتدال نتيجة هذه الضغوط النفسية المتقاطعة. يضاف إلى ذلك أن قادة المنظمات ذات العضويات غير المتجانسة سوف يخضعون للضغوط السياسية المتقاطعة الناتجة عن هذا الوضع وسوف يميلون أيضاً إلى اتخاذ مواقف وسطية معتدلة. ولا بد من اعتدال كهذا للاستقرار السياسي. وبالعكس، فعندما يكون المجتمع ممزقاً بالانقسامات الحادة، ولا تتداخل العضويات والولاءات بل تتركز بصورة حصرية داخل كل قطاع من قطاعات المجتمع، تنعدم الضغوط المتقاطعة التي لا بد منها للاعتدال والاستقرار السياسيين. ويلاحظ ترومان أنه إذا استطاع مجتمع مركب أن يتحاشى (الثورة، والانحطاط، والفساد، ويحافظ على استقراره فهو قد يقوم بذلك إلى حد بعيد جراء وجود عضويات متعددة)(9). ويذهب ليبسيت إلى أن (فرص استقرار الديمقراطية تتعزز بقدر ما يكون للجماعات والأفراد عدد من الانتماءات المتقاطعة والهامة سياسياً)(10). ويطلق بينتلي اسم الحل الوسط على (عملية تقاطع الجماعات أثناء العمل).
في تعابير الثقافة السياسية، تعتبر العضويات المتداخلة سمةً مميِّزةً للثقافة السياسية المتجانسة، بينما الثقافة المتفتتة لا تتسم بأي تداخل يُذكر بين ثقافاتها الفرعية المتمايزة. وفي تصنيف ألموند تتسم الأنظمة الأنكلو- أميركية المستقرة بثقافة متجانسة بينما الأنظمة الأوروبية القارية غير المستقرة تتسم بانقسامات عميقة بين الثقافات الفرعية. ويكتب الموند قائلاً: (إن جمودها وعدم استقرارها ناتجان عن وضع الثقافة السياسية). من ذلك، أن ألموند وباول يصفان النظام الفرنسي في ظل الجمهورية الرابعة باعتباره منقسماً إلى ثلاث عائلات إيديولوجية، أو ثقافات فرعية مع كون الأحزاب الرئيسية، وجماعات المصلحة، ووسائل الإعلام (منسقة ضمن عائلات أيديولوجية). وكان من نتيجة ذلك أن تراكمت (المطالب ولم تتحول إلى خيارات سياسية بديلة ولا سُنَّت في شأنها قوانين)، وإن مرّت فترات (طويلة من الجمود مع فترة وجيزة من تصفية الأزمات). ويتبنى ألموند وباول أحياناً لغة نظرية العضويات المتداخلة فيقولان: (إن الفرد، في أمة كفرنسا، قد لا يتعرض إلا إلى القليل من الضغوط المتقاطعة التي من شأنها أن تليِّن مواقفه السياسية الصلبة). وينص ألموند وسيدني فيربا في كتاب (The Civic Culture ) (الثقافة المدنية) على أن (أنماط العضوية تختلف من بلد إلى آخر. ففي البلدان الأوروبية الكاثوليكية، مثلاً، يميل النمط إلى أن يكون تراكمياً من حيث الأيديولوجية. فالأسرة، والكنيسة، وجماعة المصلحة، والعضوية الحزبية تميل إلى التطابق في سماتها الأيديولوجية والسياسية وإلى التعزيز المتبادل لتأثيراتها في تكوين الرأي. أما في الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن النمط المتداخل يبدو أكثر شيوعاً).
المجتمعات التعددية والأنظمة الحزبية
إن تصنيف ألموند لا يتميز بصلات وثيقة بنظريتي فصل السلطات والعضويات المتداخلة فحسب بل هو يتلاقى أيضاً مع القسمة الثنائية التقليدية للأنظمة الديمقراطية وفقاً لعدد الأحزاب العاملة ضمن النظام: نظام الحزبين مقابل نظام تعدد الأحزاب. وينبغي التشديد على أن هذا التصنيف كثيراً ما يستعمل للتمييز لا بين الأنظمة الحزبية فحسب بل بين الأنظمة السياسية كلها أيضاً. من ذلك أن سيغموند نويمان يذهب إلى أن (لهذه الأنظمة الحزبية المختلفة عواقب بعيدة المدى بالنسبة إلى عملية الانتخاب وبنسبة أكبر إلى عملية صنع القرارات الحكومية. فالتصنيف على مقتضى هذا الخط (أي وفق عدد الأحزاب)، إنما هو غني بالفوائد وجوهري)(11). ويخلص موريس دوفيرجيه إلى أن (التمييز بين أنظمة الحزب الواحد، والحزبين، والأحزاب المتعددة يميل إلى أن يكون الطريقة الأساسية لتصنيف أنظمة الحكم المعاصرة)(12).
يشدد كل من دوفيرجيه ونويمان على أن ثمة علاقةً وثيقةً بين عدد الأحزاب والاستقرار الديمقراطي. ويعتقد دوفيرجيه أن نظام الحزبين لا (يبدو مطابقاً لطبيعة الأشياء فحسب)، إذ يستطيع أن يعكس بدقة الثنائية الطبيعية في الرأي العام، بل يميل أيضاً إلى أن يكون أكثر استقراراً من نظام الأحزاب المتعددة لأنه أكثر اعتدالاً. ففي الأول يجد المرء (انخفاضاً في درجة الانقسامات السياسية) يعمل على تقييد ديماغوجية الأحزاب، بينما نجد في الثاني (تفاقماً للانقسامات السياسية وتكثيفاً للخلافات) يتطابق مع (تطرِّف عام في الآراء)(13). وبالمثل، يذهب نويمان إلى أن نظام الأحزاب المتعددة يخالف نظام الحزبين في أنه لا (يمتلك تنظيماً موحِّداً ومُمركزاً) ولا يحتوي تالياً (على وعد كبير بأن يكون صانعاً فعالاً للسياسات)(14).
ويرى ألموند أنه في الأنظمة السياسية الحديثة المتطورة ذات الصيانة الواضحة للحدود (أي النمط الأنكلو- أميركي)، يعتبر تكتيل المصالح الوظيفة الأبرز والأكثر تمييزاً للأحزاب السياسية، وأن هذه الوظيفة هي في (المدى الأوسط للمعالجة) ومن المفترض فيها أن تحول المصالح المعبر عنها بوضوح (إلى عدد محدود نسبياً من الخيارات). وقد يبدو نظام الحزبين في وضع مثالي لهذا، كما قد تبدو أنظمة الأحزاب المتعددة أقل فعالية من حيث تكتيل المصالح. ومع ذلك، فإن ألموند يرفض مبدئياً الفكرة القائلة إن نمطه الأنكلو- أميركي يتسق مع نظام الحزبين وأن نمطه الأوروبي القاري يتسق مع نظام الأحزاب المتعددة : (التمييزات الشائعة الاستعمال بين نظام الحزب الواحد، ونظام الحزبين، ونظام الأحزاب المتعددة لا تصل إلى شيء في تمييز الخصائص الجوهرية للأنظمة السياسية التوتاليتارية، والأنكلو- أميركية، والأوروبية القارية).
غير أن ألموند يرضى ضمناً في كتاباته اللاحقة بالاتساق بين تصنيفه الخاص (على الأقل ذلك القسم من التصنيف الذي يُعني بالأنظمة الديمقراطية) والتصنيف القائم على عدد الأحزاب: (بعض أنظمة الأحزاب تكتِّل المصالح بفعالية أفضل من غيرها). إن عدد الأحزاب عامل هام. فأنظمة الحزبين المسؤولة أمام قاعدة انتخابية واسعة تضطر عادة إلى اعتماد سياسات تكتيلية للمصالح. من ناحية ثانية، (إن وجود عدد كبير من الأحزاب الصغيرة إلى حد ما يزيد من احتمالات اقتصار كل حزب على نقل مصالح ثقافة فرعية خاصة أو زبائن مخصوصين مع الحد الأدنى من التكتيل). أنظمة الحزبين ليست أفضل تكتيلاً للمصالح فحسب بل هي تساهم في صيانة فعالة للحدود. ومن المرغوب فيه، وفقاً لألموند، أن تكون الهيكليات التكتيلية متمايزة عن الهيكليات التي تصنع القرارات وتلك التي تعبر عن المصالح، كما أن نظام الحزبين التنافسي ربما كان الأقدر على تأمين هذا التمايز وصيانته. إن التكتيل الفعال للمصالح والصيانة الجيدة للحدود يرتبطان مباشرة بالاستقرار الديمقراطي، وكلاهما من سمات النمط الأنكلو- أميركي من الديمقراطية.
حالات شاذة
تصنيف ألموند ثري نظرياً، حسن التكامل، وجيد الصياغة، إلا أنه يشكو من عيب أساسي واحد، وهو أنه لا يعالج حالة الديمقراطيات الأوروبية الصغرى معالجةً مُرْضية. ففي المقالة التي يطرح فيها النمطين الأنكلو- أميركي والأوروبي القاري مع خصائصهما المميزة، تُستثنى البلدان الاسكندينافية والبلدان الواطئة (النيذرلاندز) تخصيصاً من فئة الأنظمة السياسية الأوروبية القارية، كما تغفل النمسا وسويسرا إغفالاً تاماً. وهو يقيم للبلدان الاسكندينافية والبلدان الواطئة فئةً منفصلةً لا يُقْدمُ على بلورة تفاصيلها. بل إن ألموند يكتفي بالقول إن هذه الأنظمة السياسية (تمزج بعض سمات الأنظمة الأوروبية القارية والأنكلو- أميركية)، وإنها (تقف في مكان ما بين النمط الأوروبي القاري والنمط الأنكلو- أميركي)، ويحدد ألموند في كتاباته اللاحقة -بمزيد من التفصيل- الجوانب التي يختلف فيها هذا النمط عن النمطين الآخرين. فهو يميز -معتمداً لغة التصنيف بحسب عدد الأحزاب- بين نظامي الأزمة أو الجمود المتعدد الأحزاب في فرنسا وإيطاليا والأنظمة المتعددة الأحزاب العاملة في البلدان الاسكندينافية والبلدان الواطئة. فثمة في الأواخر بعض الأحزاب، على الأقل، التي تتصف بصفة التكتيل كالأحزاب الاشتراكية الاسكندينافية، والأحزاب الاشتراكية البلجيكية والكاثوليكية. وهذا المعيار ليس مرضياً تماماً، لأنه لا ينطبق بوضوح على الأحزاب الهولندية، بينما لا يلائم الحزب المسيحي الديمقراطي الإيطالي.
المعيار الثاني لتمييز نظام الأحزاب المتعددة العامل/ الفعال عن نظام الجمود أقرب إلى الإرضاء، على الأقل بالنسبة إلى البلدان الاسكندينافية: (فثقافتها السياسية أكثر تجانساً وصهراً للعناصر العلمانية والتقليدية). وبالفعل، فإن البلدان الاسكندينافية لا تختلف كثيراً عن النمط الأنكلو- أميركي في هذا المجال. ففي كتاب (The Civic Culture )، يذكر ألموند وفيربا البلدان الاسكندينافية إلى جانب إنكلترا وبلدان الكومنولث القديم، والولايات المتحدة الأميركية باعتبارها تمتلك (ثقافات سياسية متجانسة).
ولكن الثقافة السياسية المتجانسة ليست من خصائص أنظمة الأحزاب المتعددة العاملة في سويسرا والبلدان الواطئة ولا نظام الحزبين النمساوي. وعلى وجه التخصيص، فإن الحزب الكاثوليكي، والاشتراكي، والعائلات الروحية الليبرالية في بلجيكا ولوكسمبورغ، والحزب الكاثوليكي، والكالفيني، والاشتراكي، والأعمدة (المجموعات العمودية) الليبرالية في الأراضي الواطئة/ النيذرلاندز، والحزب الكاثوليكي، والاشتراكي، والليبرالي القومي في النمسا، إنما هي ثقافات فرعية مشابهة جداً للثقافات الفرعية المميزة لنمط ألموند الأوروبي القاري. وبالفعل، فإن هذه البلدان تتسم بثقافات سياسية أكثر تفتتاً من فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا أيام جمهورية فايمار، مقرونة بشبكة متينة من الجماعات المتداخلة ووسائل الإعلام داخل كل ثقافة فرعية ومرونة أقل وتداخل أقل في العضوية بين مختلف الثقافات الفرعية. ويؤكد تصنيف لوروين للديمقراطيات الغربية وفقاً لدرجة التعددية المقطّعة هذا الوصف: فالنمسا، وبلجيكا، ولوكسمبورغ، والأراضي الواطئة/ النيذرلاندز تقع في أعلى فئة من التقطيع, أما البلدان الأوروبية القارية (حسب تصنيف ألموند، أي فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا) إضافة إلى سويسرا والولايات المتحدة فتقع ضمن الفئة المتوسطة؛ كما أن بريطانيا، والجمهورية الإيرلندية، والدول الاسكندينافية، وفنلندا، وأيسلندا تنصف بدرجة متدنية من التعددية المقطّعة(15).
يجب أن نفسر الاستقرار السياسي في الديمقراطيات التوافقية اعتماداً على علاقتها بعامل إضافي هو تعاون زعماء الجماعات المختلفة الذي يتخطى الانقسامات القطاعية أو الثقافية الفرعية على مستوى الجماهير بدلاً من حشر علاقتها بمتغير تفسيري آخر هو الثقافة السياسية. ولهذا السبب كانت تجربة الديمقراطيات التوافقية الأوروبية على هذا القدر من الأهمية المعيارية بالنسبة إلى المجتمعات التعددية في العالم الثالث: فهي ديمقراطيات مستقرة لا لأن مجتمعاتها تعددية بصورة ملطّفة، بل على الرغم من الانقسامات القطاعية العميقة في مجتمعاتها.
المجتمعات التعددية والديمقراطية في العالم الثالث
يعاني الكثير من الدول النامية -ولاسيما الآسيوية والأفريقية منها، وأيضاً الأميركية الجنوبية، كغويانا، وسورينام، وترينيداد- من مشاكل سياسية ناجمة عن الانقسامات العميقة بين قطاعات من سكانها وغياب الإجماع الموحِّد لها. وتتعامل الأدبيات النظرية حول التنمية السياسية، وبناء الأمة، والتحول الديمقراطي في الدول الجديدة مع هذا الواقع بطريقة ملتبسة لافتة. فمن جهة، يرفض كثير من الكتاب ضمناً الاعتراف بأهميتها. ويذهب واكر كونور إلى أن معظم المنظرين البارزين لبناء الأمة قد (مالوا إلى التقليل من شأن المشاكل المتعلقة بالتنوع العرقي، إن لم يتجاهلوا هذه المشاكل أصلاً)(16). ومن جهة ثانية، فإن المؤلفين الذين يعالجون المسألة معالجة جادة يميلون إلى إيلائها أهمية غالبة. من ذلك، أنها تشكل المشكلة الأولى إطلاقاً لمتلازمة لوسيان باي (Pye) المشهورة المتكونة من سبع عشرة سمة تسم مجتمعةً العملية السياسية غير الغربية. ويذكر باي أن المجال السياسي ليس منفصلاً بوضوح عن المجال الاجتماعي والعلاقات الشخصية في المجتمعات غير الغربية: (إن الإطار الأساسي للسياسة غير الغربية هو الإطار الطائفي، ويتلوَّن السلوك السياسي كله تلويناً واضحاً باعتبارات ذات علاقة بالانتماء الطائفي)(17).
وهذه الانتماءات الطائفية هي ما يطلق عليه كليفورد غيرتز (الولاءات الأوليـة)، التي ربما كانت تستند إلى اللغـة، أو الدين، أو العرف، أو المنطقة، أو العرق، أو الروابط الدموية المفترضة(18). فالثقافات الفرعية للديمقراطيات التوافقية الأوروبية، التي هي دينية وإيديولوجية في طبيعتها، والتي تنضاف إليها في اثنين من هذه البلدان الانقسامات اللغوية، ربما اعتبرت جماعات أولية، إذا ما كان المرء مستعداً لاعتبار الإيديولوجية نوعاً من الدين. وسوف نشير هنا إلى كافة هذه المجتمعات، الغربية وغير الغربية، بأنها مجتمعات تعددية. ويقارب تعريف هذا اللفظ، الذي قدمناه في موضع سابق من هذا الفصل، المعنى الذي استعمله فيه ج. س. فرنيفال. ومن الجدير بالملاحظة أن الإطارين النظريين لكل من ألموند وفرنيفال (Furnivall) يشتملان صراحةً على الاختلافات الثقافية باعتبارها من سمات المجتمعات التعددية: (كل جماعة تتمسك بديانتها، وثقافتها، ولغتها، وأفكارها، وطرائقها). وهو يعرف المجتمع التعددي بأنه المجتمع الذي تعيش ضمنه (مختلف قطاعات المجتمع جنباً إلى جنب، ولكن بانفصال، داخل الوحدة السياسية الواحدة). وهذا المفهوم أضيق نوعاً ما من مفهوم غيرتز لأنه لا يتضمن التمايزات الإقليمية. أما مجتمع فرنيفال التعددي فهو مجتمع فيه اختلاط جغرافي واجتناب اجتماعي متبادل: (إنه بالمعنى الأدق خليط من (الشعوب)؛ لأنهم يتخالطون ولكن من دون تداخل وتضام (اندماج))(19). وسوف نعتمد التعريف الأوسع هنا؛ لأنه يناسب أغراض هذه الدراسة في المقارنة العامة، على الرغم من الانتقاد المتواتر بأن مفهوم المجتمع التعددي مفهوم واسع جداً ويتضمن الكثير(20). ولا بد -في الوقت نفسه- من التنبّه إلى الفروق النوعية والكمية داخل فئة المجتمعات التعددية الواسعة: فهناك فوارق بين مختلف أنواع الانقسامات القطاعية وفوارق في درجة كون المجتمع تعددياً.
السمة البارزة الثانية من سمات السياسة غير الغربية هي انهيار الديمقراطية. فبعد التفاؤل الأولي في الآفاق الديمقراطية للبلدان الحديثة الاستقلال، والمستند في معظمه إلى الطموحات الديمقراطية التي أعرب عنها قادتها السياسيون، حلّ مزاج من الخيبة. وثمة -في رأي العديد من المراقبين- صلة مباشرة بين السمتين الأساسيتين للسياسة غير الغربية: المجتمع التعددي عاجز عن الحفاظ على الحكم الديمقراطي. وقد كانت هذه العلاقة مضمرة أصلاً في أعمال فرنيفال. فهو قد طبق مفهوم المجتمع التعددي على المستعمرات وحجّته أن وحدتها إنما كانت تصان بالوسائل غير الديمقراطية التي تعتمدها السيطرة الاستعمارية. وهذا ينسجم مع تقويم جون ستيوارت ميل المتشائم لفرص الديمقراطية البرلمانية التمثيلية في المجتمعات التعددية: (المؤسسات الحرة تقارب المحال في بلد متكون من قوميات مختلفة. إذ لا يمكن للرأي العام الموحد الضروري لعمل الحكم البرلماني أن يوجد في صفوف أناس لا تربطهم رابطة من شعور الزمالة، ولاسيما إذا كانوا يقرأون وينطقون بلغات مختلفة)(21).
وترد هذه القضية في الصيغة الأبعد عن الالتباس عند م. ج. سميث. فسيطرة أحد قطاعات المجتمع جزءٌ من تعريفه للمجتمع التعددي. ولكن الأمر لا يقتصر على التعريف. ففي نظر سميث، تستجرُّ التعددية صيانة النظام السياسي بالسيطرة والقوة: (إن التنوع الثقافي أو التعددية يفرض آلياً في هيكلية الدولة ضرورة سيطرة أحد القطاعات الثقافية. وهو يستلزم التنظيم غير الديمقراطي لعلاقات الجماعات). وينطوي هذا المفهوم، تضميناً، على تصنيف ثنائي يشابه تصنيف ألموند للأنظمة السياسية الأوروبية مشابهة وثيقة؛ إذ يتكون صنف من (مجتمعات مندمجة تتسم بإجماع الرأي والتجانس الثقافي), ويتكوّن الصنف الثاني من (مجتمعات منظمة تتسم بافتراق الرأي والتعدد الثقافي). ويستلزم هذا أن يكون التجانس شرطاً مسبقاً للحكم الديمقراطي، ويحتوي على التنبؤ الملموس بأن (دولاً كثيرة حديثة الاستقلال معرّضة للتفكك إلى عدة قطاعات ثقافية منفصلة، أو للمحافظة على هويتها، ولكن في ظل ظروف من السيطرة والإخضاع في العلاقات بين الجماعات)(22).
ولهذه الأفكار أيضاً مكانة مرموقة في أدبيات التنمية السياسية. إن مفهوم التنمية السياسية مفهوم عديم الشكل إجمالاً وقد نسبت إليه تشكيلة من التعريفات، ولكنه احتوى عادة (حتى حلول المزاج المتشائم بالديمقراطية على الأقل) على بعدي التحول الديمقراطي والاندماج الوطني أو بناء الوطن بالإضافة إلى تطوير وظائف متمايزة وهيكليات متخصصة فعالة. ولا بد من ذكر ثلاثة أوجه هامة في مفهوم التنمية السياسية. ففي المقام الأول، يعتبر عادة أن التحول الديمقراطي وسواه من أبعاد التنمية تابع للاندماج الوطني. من ذلك أن باي ( Pye) يذهب إلى أن التنمية السياسية لا يمكن أن تتقدم كثيراً على وجه الإجمال من دون إحساس بالتماهي مع النظام الكلي. إن أهمية الاندماج الوطني في عملية التنمية تؤدي أحياناً إلى المعادلة التامة بين المفهومين: فالتنمية السياسية هي بناء الأمة. ثانياً، والنصيحة الخاصة بوضع السياسات المترتبة على هذه القضية هي أن بناء الأمة ينبغي أن يولى الأولوية وأن يكون المهمة الأولى المتوجبة على زعماء الدول النامية. ثالثاً، النظرة المعتادة هي أن يناء الأمة يستتبع استئصال الولاءات الأولية الأدنى من الأمة والاستعاضة عنها بولاء للأمة. ويذهب ليونارد بايندر إلى أن (الاندماج الوطني يستلزم خلق إجماع ثقافي - إيديولوجي على درجة من الشمول لم يشاهد مثلها في هذه البلدان (النامية))(23). وهذا ما ينطوي عليه تضميناً قول صموئيل ب. هنتينغتون بأن التحديث السياسي يعني الاندماج الوطني وأنه يستلزم (الاستعاضة عن عدد كبير من السلطات السياسية التقليدية، والدينية، والعائلية، والعرقية بسلطة سياسية وطنية علمانية واحدة)(24).
ومن المقاربات البديلة لدراسة التنمية السياسية إطار المركز - الأطراف، غير أن هذه المقاربة لا توفر تفسيراً بديلاً لعملية بناء الأمة. والإسهام التجديدي الذي تقدمه هو تركيزها على الدور الجوهري للنُخب. ففي الصياغة المرجعية لمقارنة المركز - الأطراف التي طرحها إدوارد شيلز (Shils )، يعتبر المركز ذلك الجزء من المجتمع (الذي يمتلك السلطة)، والأطراف هي (الأرياف التي تمارس عليها السلطة). والمركز هو أيضاً (ظاهرة من عالم القيم والاعتقادات). ومنظومة القيم المركزية هذه إنما هي مركزية، وفقاً لتعريف دائري؛ لأن (السلطات الحاكمة في المجتمع تعتنقها). منظومة القيم في المركز هي موضع إجماع، ولكن التعلق بها يضعف في الأطراف - التي ربما كانت غير متجانسة ومنقسمة من حيث قيمها. وما يترتب على هذا النموذج بالنسبة إلى المجتمعات التعددية هو وجوب بسط سيطرة مركز مؤلف من أحد قطاعات المجتمع أو -بدلاً من ذلك- خلق إجماع وطني بمعنى (إدماج جماهير الشعب في المؤسسات ومنظومات القيم المركزية)(25). وهذه النتائج تُماهي نتائج نظريات أخرى في التنمية السياسية.
من ناحية ثانية، إذا لم تكن هذه النتائج من تضمينات هذه النظرية فإن سلسلة من الأسئلة المربكة ستنشأ بالنسبة إلى تطبيق إطار المركز - الأطراف على المجتمعات التعددية. ففي مؤتمر اليونسكو سنة (1970م) حول بناء الأمة، وافق المشاركون على أن هذه المقاربة مفيدة كأداة وصفية وكشّافة غير أنهم انتقدوا افتقارها إلى الوضوح في التعامل مع المجتمعات المنقسمة إقليمياً وثقافياً. وقد أوجز المقرِّر هذه النقاط بما يلي:
ما هي التضمينات الإقليمية لهذا النموذج؟ فإذا كان (المركز) مفهوماً إقليمياً، فهل يوجد مركز واحد أم من الممكن أن يوجد أكثر من مركز؟ ما هي درجة التجانس الاجتماعي والثقافي المطلوبة لقبول (المركز) كموقع شرعي للسلطة والولاء؟ فبقدر ما لا يكون هذا التجانس قائماً أو بقدر ما تنهض مقاومة للمركز المسيطر في المراكز الإقليمية (المناطقية) التي يمكن أن تنظر إلى ذواتها باعتبارها مراكز منافسة أو (مراكز مضادة)، هل يجب الاستمرار في اعتبار الأول (مركزاً)؟(26).
إن هذه الأسئلة إذا ما تركت فعلاً بلا إجابة من قبل مقاربة المركز - الأطراف، فلا بد من اعتبار هذه المقاربة غير ذات صلة بدراسة المجتمعات التعددية. غير أن ما يوضحه شيلز إيضاحاً لا لبس فيه هو أن مفهومه عن المركز يستبعد أي نوع من التحالف النخبوي البراغماتي. فمنظومة القيم المركزية لا تحتاج إلى أن تكون موضع إجماع كامل ونقي، كما أن الطبقة الحاكمة قد تكون (قطاعية نسبياً)، ولكن ثمة دائماً إحساس بالتناسب يستند إلى (علاقة مشتركة بمنظومة القيم المركزية) التي توحد مختلف القطاعات، لا مجرد (إدراك المصلحة التلاحمية). لذلك كان من غير الممكن الإجابة عن الأسئلة السابقة بواسطة التفسير التوافقي.
التباينات المبالغ فيها بين العالمين: الأول والثالث
الخطأ الأساسي الذي يرتكب في الكثير من الأدبيات النظرية حول التنمية السياسية هو المبالغة في درجة التجانس في الدول الديمقراطية الغربية. فالتنمية ينظر إليها إجمالاً باعتبارها التحرك من الوضع الحالي للدول غير الغربية أو وضعها عند الاستقلال نحو هدف مرغوب أو ممكن. وهذا الهدف هو النموذج المثالي لمجتمع غربي متجانس إلى درجة عالية. كان فرنيفال قد التزم في تحليله للمجتمعات التعددية بمثل هذه القسمة الثنائية للمجتمعات إلى غربية وغير غربية. ففي دراسته المبكرة للمستعمرات الهولندية في أمريكا الجنوبية، صرح بأن التعددية في المجتمع لا تقتصر على المناطق المدارية وضرب أمثلة من الانقسام العنصري في الولايات المتحدة، والثقافي في كندا، والديني في إيرلندا. ولكنه في أعماله المتأخرة رسم تقابلاً (حاداً ببين المجتمع التعددي في المستعمرات المدارية والمجتمع الموحد الذي يعتبره الغربيون أمراً مفروغاً منه)(27). غير أن نموذج فرنيفال (للدول الغربية السوية المتجانسة) لا ينطبق على المجتمعات الغربية بعامة. وهو يقارب نموذج ألموند الأنكلو- أميركي أو -وعلى وجه أخص- صيغة مثالية للمجتمع البريطاني. وينتقد جايمس س. كولمن المنظور المعتاد للتنمية السياسية الذي يفترض مسبقاً أن غاية ما تتوصل إليه التنمية سيكون تنظيماً سياسياً (حديثاً). وهو يرى أن هذا المنظور ينمّ عن (انحياز معياري استعراقي غربي ضيق الأفق)(28). إن موطن الضعف الأبلغ في هذا المنظور هو أنه لا ينم فعلياً عن انحياز غربي ضيق الأفق فحسب، بل عن انحياز بريطاني ضيق الأفق أيضاً.
أما تصور ألموند للتنمية السياسية، المقرون بتصنيفه الثنائي للديمقراطيات الغربية فيمكِّنه من اجتناب هذا الخطأ. فهو ينص على أن مستوى التنمية السياسية ينبغي أن يقاس بدرجة تمايز الأدوار، والاستقلال الذاتي للأنظمة الفرعية، والعلمنة(29). فهذه خصائص هيكلية الأدوار والثقافة السياسية، وهي فعلياً المفاهيم ذاتها المستعملة في تعريف صنفي الديمقراطيات الغربية. فالنموذج الأوروبي القاري المتصف بالثقافة السياسية المفتتة (أي غير المتجانسة والعلمانية) وبالاستقلال الذاتي المتدني الذي تتمتع به الأنظمة الفرعية فيه، ينبغي أن يعدَّ متخلفاً نسبياً إذا ما قيس بالنموذج الأنكلو-أميركي.
ويتفق فرنيفال والكتاب اللاحقون مع حجة ألموند المتعلقة بالعواقب السياسية للتجانس الثقافي أو التعددية غير أنهم يتجاهلون كون العديد من المجتمعات الغربية، أي الأنظمة الأوربية القارية عند ألموند، تنتمي إلى النمط التعددي. وقد لفت مراقب واحد على الأقل بقوة إلى هذه الخطأ. إذ يعترض ألفرد ديامانت على تقسيم باي للتنظيمات السياسية إلى نمطين غربي وغير غربي: فهناك عدة سمات من السمات التي يستعملها باي في وصف السياسات غير الغربية يمكن، على ما يرى ديامانت، (أن تستعمل من دون تغيير في وصف السياسات النمساوية في فترة ما بين الحربين). ويرى ديامانت، بصورة أعم، أن النمط الغربي المثالي المستند أساساً إلى السياسات البريطانية الإجماعية ينبغي أن يُطرَح: (ففي وسع المرء أن يستمد هذا النمط المثالي بنجاح أكبر من المفهوم الذي أطلق عليه ألموند اسم النظام السياسي القاري مع ثقافاته الفرعية المتعددة. فالأنظمة السياسية غير الغربية قد تصبح أقرب إلى الفهم وأقل بعداً إذا ما استعملنا هذا النمط القاري المستند إلى مجتمع متعدد الأعراق (متعدد القوميات)، والمفتقر إلى الإجماع القوي)(30). غير أن تحذير ديامانت ذهب إلى حد بعيد من دون أن يُلتفت إليه.
الخطأ الثاني الخطير الشأن الذي استمر منظرو التنمية السياسية في ارتكابه هو تجاهل كون العديد من المجتمعات التعددية في أوروبا قد توصلت إلى ديمقراطية مستقرة من خلال طرائق توافقية. يذهب فرنيفال إلى أن التجربة الغربية لا توفر نموذجاً معيارياً للمجتمعات التعددية، التي (تستدعي مشكلتها تقنية مناسبة خارج إطار العلم السياسي في الغرب. فالمشكلة الأساسية لعلم السياسة التطبيقي في الغرب، تكمن في معرفة أفضل الطرق للتأكد من الإرادة الاجتماعية العامة ومنحها مجال التنفيذ العملي). وهو لا يعتقد بأن اعتماد أشكال جديدة للحكم سوف يحقق الديمقراطية ويصونها، ويرفض تحديداً أمثال هذه الطريقة التوافقية كأداة للتمثيل الشعبي لأنها (تميل إلى إضعاف الإرادة الاجتماعية ولا تقويها، وتعمل على خلق الانقسام الفئوي وليس الوحدة الاجتماعية). وتقوده هذه النظرة المتشائمة بالضرورة إلى الاستنتاج، الذي ما يزال سائداً في أدبيات التنمية السياسية، بأن صُنْع الإجماع الوطني ليس شرطاً مسبقاً للديمقراطية فحسب بل هو المهمة الأولى التي يجب على الزعماء السياسيين غير الغربيين أن ينهضوا بها، إذ لا يكفي الاقتصار على إنشاء آلية جديدة؛ بل لا بد أولاً من تغيير المجتمع. إن وظائف الحكم هي خلق الإرادة الاجتماعية المشتركة كأساس للحكم الذي يمثل الشعب ككل. إن تغيير المجتمع شرط مسبق للتغييرات في شكل الحكم(31).
وتشكل هذه النصيحة الخطأ الفادح الثالث في المقاربة السائدة لمسألة التنمية السياسية، وهي الخطأ المفضي إلى أخطر العواقب العملية. فمع أن الاستعاضة عن الولاءات القطاعية بالولاء للأمة تبدو جواباً منطقياً للمشكلة التي يطرحها المجتمع التعددي، فإن محاولة تطبيقها أمر في غاية الخطورة. ذلك لأن الولاءات الأولية لما كانت شديدة الصلابة، فمن المستبعد أن تنجح أية محاولة لاستئصالها، لا بُدَّ أنّ من شأن محاولة كهذه أن تؤدي إلى نتائج عكسية وربما نشطت التماسك القطاعي الداخلي والعنف بين القطاعات بدلاً من التماسك الوطني(32). إن البديل التوافقي يتحاشى هذا الخطر ويقدِّم طريقة واعدة أكثر لتحقيق الديمقراطية المقرونة بقدر كبير من الوحدة السياسية.
تصنّف الأنظمة السياسية في الصياغة الأقدم عهداً لتصنيف ألموند في أربع فئات أساسية: أنكلو- أميركية، أوروبية قارية، قبل صناعية أو صناعية جزئياً، وتوتاليتارية. الفئتان الأوليان هما نمطان من الأنظمة الديمقراطية، وتتميز هذه استناداً إلى معايير الثقافة السياسية وهيكلية الأدوار. فالأنظمة الأنكلو- أميركية تتسم (بثقافة سياسية متجانسة، وعلمانية، وهيكلية أدوار متمايزة تمايزاً كبيراً) -بينما الأنظمة الأوروبية القارية تتسم (بتفتت الثقافة السياسية)، أي أن فيها عدة (ثقافات فرعية سياسية) منفصلة بعضها عن بعض، وبهيكلية أدوار متجذرة في الثقافات الفرعية مع الميل إلى تشكيل نظم فرعية للأدوار قائمة بذاتها. بعبارة أخرى، إن الأنظمة الأوروبية القارية هي مجتمعات تعددية. وهكذا، فإن بريطانيا والولايات المتحدة تعدان مثالاً على النمط الأول غير التعددي، كما تعد ألمانيا أيام جمهورية فايمار، وفرنسا، وإيطاليا ما بعد الحرب مثالاً على النمط الثاني. وقد استمر هذا التمييز بين هذين النمطين من الديمقراطية في التصنيف اللاحق (1966) للأنظمة السياسية الذي قدمه ألموند بالتعاون مع ج. بنغهام باول(2) بصورة أكثر بلورة.
يجدر بنا قبل المُضِيّ في مناقشة تصنيف ألموند، أن نورد ملحوظتين تحذيريتين. أولاً، على الرغم من مصطلحاته المستمدة من الجغرافيا، فإنّ ألموند لا يستعمل الموقع الجغرافي كمعيار أساسي أو إضافي للتمييز بين النمط الأنكلو- أميركي من الديمقراطية والنمط الأوروبي القاري. وبالفعل، ففي المقالة نفسها التي يعرض فيها هذا التصنيف، يرفض على وجه التحديد أي تصنيف إقليمي لأنه (لا يستند على خصائص الأنظمة السياسية، بل على تجاورها في المكان) ويعدّه معياراً غير ذي صلة بالموضـوع(3). ثانياً، إن الحالات التي يصنفها في مقالته عام (1956م) وكتاباته اللاحقة هي الأنظمة السياسية التي كانت قائمةً حتى الخمسينات وأوائل الستينات ولا تعبر بالضرورة عن الوضع القائم في السبعينات. وينطبق هذا التحذير بقوة خاصة على الحالتين البريطانية والأميركية. وعلاوةً على ذلك، فإنّ فرنسا تعني بالدرجة الأولى الجمهورية الفرنسية الثالثة والرابعة.
في كلتا صياغتي ألموند، ترتبط أنماط الثقافات السياسية وهيكليات الأدوار بالاستقرار السياسي في البلدان المنظور فيها. فالنمط الأنكلو –أميركي- بثقافته السياسية المتجانسة وأحزابه المستقلة ذاتياً، وجماعات المصالح، ووسائل الإعلام والاتصال -يتّسمُ بالاستقرار، أما النمط الأوروبي القاري - بثقافته السياسية المفتتة والاعتماد المتبادل بين الأحزاب والجماعات- فيرتبط بعدم الاستقرار. وتُذكِر العلاقة عينها بصورة ضمنية في (المقاربة الوظيفية للسياسة المقارنة) التي يقدمها ألموند. ويحتج وليام ت. بلوم بأنها تحتوي على (نظرية في أكثر الأنظمة فعالية (أي استقراراً)) ويعلّق بأن (سمات التنظيم الأكثر فعالية... تبدو بصورة مدهشة شبيهة بسمات الديمقراطية البرلمانية الحديثة ولاسيما في تجسيدها البريطاني)، أو بعبارة أخرى النمط الأنكلو- أميركي(4). فالنمط الأوروبي القاري، بحسب تعبير ألموند نفسه يرتبط (بالجمود) والخطر الدائم لما يسمى غالباً (بالاحتراق القيصري). ولا يمكن لهذا النمط غير المستقر من الحكم أن يديم الديمقراطية فربما أفضى إلى الحكم الديكتاتوري, وربما انطوى في جوهره على (احتمال التوتاليتارية). ويذهب ألموند في كتاباته اللاحقة إلى أن سمة الجمود الملازمة للنمط الأوروبي القاري من الديمقراطية تستجرُّ (عواقب هامة (وربما غير مؤاتية) لاستقراره وبقائه). وبالمقابل، فإن النظام البريطاني يوصف بأنه (طليق الحركة)، يعني أنه (يمكن أن يتجاوب بقدر من المرونة حيال المطالب الداخلية والخارجية أكبر من كثير من الأنظمة الأخرى، وربما من معظمها)(5).
فصل السلطات والعضويات المتداخلة
ثمة أوجه شبه متقاربة بين منظومة ألموند ومذهب فصل السلطات، التي تُعنى أيضاً بالاستقرار الديمقراطي, ولاسيما إمكانية أن يحافظ نظام ديمقراطي أصلاً على طبيعته الديمقراطية الحقيقية. ففي الكلمة التي ألقاها عند توليه رئاسة الرابطة الأميركية للعلوم السياسية سنة (1966م)، قابل ألموند بين نظرية فصل السلطات ونظرية الأنظمة، ووصف الأولى بأنها (المثال السائد) للعلوم السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأن هذا المثال قد استعيض عنه اليوم بمثال الأنظمة. من جهة ثانية ركز ألموند أيضاً على الصلة الوثيقة بين الاثنين إذ وصف المؤلفين الذين وضعوا الأوراق الفيدرالية بأنهم من (منظري الأنظمة)(6). يكتسي هذا الترابط بين فصل السلطات ومقاربة ألموند الوظيفية أهميةً خاصةً في هذا السياق؛ لأن أحد المعايير التي تميز أنماط ألموند الأنكلو -أميركية والأوروبية القارية هو معيار هيكلية الأدوار: إلى أي درجة تعتبر الأدوار مستقلة ذاتياً- أو منفصلة بعضها عن بعض.
الفرق الأساسي بين مذهب فصل السلطات ومنظومة ألموند هو أن ألموند يوسع فكرة فصل السلطات من مجرد فروع الحكم الرسمية الثلاثة (التشريعي، والتنفيذي، والقضائي) بحيث تشمل الهيكليات الفرعية السياسية غير الرسمية (الأحزاب، جماعات المصلحة، ووسائل الإعلام)، وأنه يولي مزيداً من الأهمية للأواخر (هيكليات التزويد) أكثر مما يولي للأوائل (هيكليات الإنتاج). أما الاختلافات الأخرى فهي في معظمها تتعلق بالمصطلحات. يترجم ألموند السلطات إلى وظائف، بحيث يصبح الفصـل (حفاظاً على الحدود). لا الفصل بين السلطات، وفقاً للأوراق الفيدرالية، والحفاظ على الحدود بين الوظائف السياسية يساهمان في استقرار الأنظمة الديمقراطية. ففي بريطانيا، وهي مثال على النمط الأنكلو- أميركي، ثمة (حفاظ فعّال على الحدود بين الأنظمة الفرعية في الجسم السياسي)، بينما في فرنسا -وهي مثال من النمط الأوروبي القاري- يجد المرء حفاظاً ضعيفاً على الحدود بين مختلف أجزاء النظام السياسي. فالأحزاب الفرنسية وجماعات المصلحة (لا تشكل أنظمة فرعية سياسية مستقلة ذاتياً ومتمايزة. بل هي تتداخل الواحدة منها في الأخرى) ولاسيما داخل الثقافات الفرعية الكاثوليكية، والاشتراكية، والشيوعية. وبالمثل فإن الأنماط الأنكلو- أميركية والأوروبية القارية تتمايز من حيث درجة استقلال وسائل إعلامها. فالولايات المتحدة، وبريطانيا، وأمم الكومنولث القديم (تتمتع وسائل إعلامها بأقصى حد من التمايز والاستقلال الذاتي) بينما في فرنسا وإيطاليا (تميل (الصحافة) إلى أن تكون خاضعة لجماعات المصلحة والأحزاب السياسية)(7).
وكما أن مذهب فصل السلطات تكمّله فكرة الضوابط والتوازنات، فإن مذهب الحفاظ على الحدود يكمله مفهوما (تعدد الوظائف) و(الدور التنظيمي). الحفاظ التام على الحدود بين الأدوار والوظائف لا يحدث أبداً، على قول ألموند. فالفروع الرسمية للحكم، والأحزاب، وجماعات المصلحة، وما إليها تقوم باستمرار بأكثر من مجرد وظيفة واحدة: (كل بنية سياسية، مهما كان تخصصها متعددة الوظائف). ولذلك، فما يهمّ ليس كون الأحزاب السياسية –مثلاً- مجرد تجميع لمصالح الناس المختلفة أنها لا تقوم بأي وظيفة أخرى غير عملية تكتيل المصالح، بل إن هذه الوظيفة تصبح مسؤوليتها الخاصة. ففي الأنظمة المتخصصة الحديثة التي تمثل الديمقراطيات الأنكلو- أميركية نموذجها الأصلي، توجد بعض الهيكليات (التي تمتاز بمزية وظيفيـة خاصة، والتي تميل إلى القيام بما يمكن أن نسميه دوراً تنظيمياً بالنسبة إلى تلك الوظيفة داخل النظام السياسي ككل)(8).
علاوةً على التلاقي بين المعيار الأول في تصنيف ألموند، وهو هيكلية الأدوار، ومذهب فصل السلطات، ثمة أيضاً صلة وثيقة بين المعيار الثاني، وهو الثقافة السياسية، وقضية (العضويات المتداخلة) التي قدمها المنظِّران أرثر ف. بنتلي وديفيد ب. ترومان، وقضية الانقسامات المتقاطعة التي اقترحها سيمور مارتن ليبسيت. وحاصل هاتين القضيتين أنه عندما ينتمي الأفراد إلى عدد من المجموعات المنظمة أو غير المنظمة ذات المصالح والمنظورات المتنوعة، فإن مواقفهم تميل إلى الاعتدال نتيجة هذه الضغوط النفسية المتقاطعة. يضاف إلى ذلك أن قادة المنظمات ذات العضويات غير المتجانسة سوف يخضعون للضغوط السياسية المتقاطعة الناتجة عن هذا الوضع وسوف يميلون أيضاً إلى اتخاذ مواقف وسطية معتدلة. ولا بد من اعتدال كهذا للاستقرار السياسي. وبالعكس، فعندما يكون المجتمع ممزقاً بالانقسامات الحادة، ولا تتداخل العضويات والولاءات بل تتركز بصورة حصرية داخل كل قطاع من قطاعات المجتمع، تنعدم الضغوط المتقاطعة التي لا بد منها للاعتدال والاستقرار السياسيين. ويلاحظ ترومان أنه إذا استطاع مجتمع مركب أن يتحاشى (الثورة، والانحطاط، والفساد، ويحافظ على استقراره فهو قد يقوم بذلك إلى حد بعيد جراء وجود عضويات متعددة)(9). ويذهب ليبسيت إلى أن (فرص استقرار الديمقراطية تتعزز بقدر ما يكون للجماعات والأفراد عدد من الانتماءات المتقاطعة والهامة سياسياً)(10). ويطلق بينتلي اسم الحل الوسط على (عملية تقاطع الجماعات أثناء العمل).
في تعابير الثقافة السياسية، تعتبر العضويات المتداخلة سمةً مميِّزةً للثقافة السياسية المتجانسة، بينما الثقافة المتفتتة لا تتسم بأي تداخل يُذكر بين ثقافاتها الفرعية المتمايزة. وفي تصنيف ألموند تتسم الأنظمة الأنكلو- أميركية المستقرة بثقافة متجانسة بينما الأنظمة الأوروبية القارية غير المستقرة تتسم بانقسامات عميقة بين الثقافات الفرعية. ويكتب الموند قائلاً: (إن جمودها وعدم استقرارها ناتجان عن وضع الثقافة السياسية). من ذلك، أن ألموند وباول يصفان النظام الفرنسي في ظل الجمهورية الرابعة باعتباره منقسماً إلى ثلاث عائلات إيديولوجية، أو ثقافات فرعية مع كون الأحزاب الرئيسية، وجماعات المصلحة، ووسائل الإعلام (منسقة ضمن عائلات أيديولوجية). وكان من نتيجة ذلك أن تراكمت (المطالب ولم تتحول إلى خيارات سياسية بديلة ولا سُنَّت في شأنها قوانين)، وإن مرّت فترات (طويلة من الجمود مع فترة وجيزة من تصفية الأزمات). ويتبنى ألموند وباول أحياناً لغة نظرية العضويات المتداخلة فيقولان: (إن الفرد، في أمة كفرنسا، قد لا يتعرض إلا إلى القليل من الضغوط المتقاطعة التي من شأنها أن تليِّن مواقفه السياسية الصلبة). وينص ألموند وسيدني فيربا في كتاب (The Civic Culture ) (الثقافة المدنية) على أن (أنماط العضوية تختلف من بلد إلى آخر. ففي البلدان الأوروبية الكاثوليكية، مثلاً، يميل النمط إلى أن يكون تراكمياً من حيث الأيديولوجية. فالأسرة، والكنيسة، وجماعة المصلحة، والعضوية الحزبية تميل إلى التطابق في سماتها الأيديولوجية والسياسية وإلى التعزيز المتبادل لتأثيراتها في تكوين الرأي. أما في الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن النمط المتداخل يبدو أكثر شيوعاً).
المجتمعات التعددية والأنظمة الحزبية
إن تصنيف ألموند لا يتميز بصلات وثيقة بنظريتي فصل السلطات والعضويات المتداخلة فحسب بل هو يتلاقى أيضاً مع القسمة الثنائية التقليدية للأنظمة الديمقراطية وفقاً لعدد الأحزاب العاملة ضمن النظام: نظام الحزبين مقابل نظام تعدد الأحزاب. وينبغي التشديد على أن هذا التصنيف كثيراً ما يستعمل للتمييز لا بين الأنظمة الحزبية فحسب بل بين الأنظمة السياسية كلها أيضاً. من ذلك أن سيغموند نويمان يذهب إلى أن (لهذه الأنظمة الحزبية المختلفة عواقب بعيدة المدى بالنسبة إلى عملية الانتخاب وبنسبة أكبر إلى عملية صنع القرارات الحكومية. فالتصنيف على مقتضى هذا الخط (أي وفق عدد الأحزاب)، إنما هو غني بالفوائد وجوهري)(11). ويخلص موريس دوفيرجيه إلى أن (التمييز بين أنظمة الحزب الواحد، والحزبين، والأحزاب المتعددة يميل إلى أن يكون الطريقة الأساسية لتصنيف أنظمة الحكم المعاصرة)(12).
يشدد كل من دوفيرجيه ونويمان على أن ثمة علاقةً وثيقةً بين عدد الأحزاب والاستقرار الديمقراطي. ويعتقد دوفيرجيه أن نظام الحزبين لا (يبدو مطابقاً لطبيعة الأشياء فحسب)، إذ يستطيع أن يعكس بدقة الثنائية الطبيعية في الرأي العام، بل يميل أيضاً إلى أن يكون أكثر استقراراً من نظام الأحزاب المتعددة لأنه أكثر اعتدالاً. ففي الأول يجد المرء (انخفاضاً في درجة الانقسامات السياسية) يعمل على تقييد ديماغوجية الأحزاب، بينما نجد في الثاني (تفاقماً للانقسامات السياسية وتكثيفاً للخلافات) يتطابق مع (تطرِّف عام في الآراء)(13). وبالمثل، يذهب نويمان إلى أن نظام الأحزاب المتعددة يخالف نظام الحزبين في أنه لا (يمتلك تنظيماً موحِّداً ومُمركزاً) ولا يحتوي تالياً (على وعد كبير بأن يكون صانعاً فعالاً للسياسات)(14).
ويرى ألموند أنه في الأنظمة السياسية الحديثة المتطورة ذات الصيانة الواضحة للحدود (أي النمط الأنكلو- أميركي)، يعتبر تكتيل المصالح الوظيفة الأبرز والأكثر تمييزاً للأحزاب السياسية، وأن هذه الوظيفة هي في (المدى الأوسط للمعالجة) ومن المفترض فيها أن تحول المصالح المعبر عنها بوضوح (إلى عدد محدود نسبياً من الخيارات). وقد يبدو نظام الحزبين في وضع مثالي لهذا، كما قد تبدو أنظمة الأحزاب المتعددة أقل فعالية من حيث تكتيل المصالح. ومع ذلك، فإن ألموند يرفض مبدئياً الفكرة القائلة إن نمطه الأنكلو- أميركي يتسق مع نظام الحزبين وأن نمطه الأوروبي القاري يتسق مع نظام الأحزاب المتعددة : (التمييزات الشائعة الاستعمال بين نظام الحزب الواحد، ونظام الحزبين، ونظام الأحزاب المتعددة لا تصل إلى شيء في تمييز الخصائص الجوهرية للأنظمة السياسية التوتاليتارية، والأنكلو- أميركية، والأوروبية القارية).
غير أن ألموند يرضى ضمناً في كتاباته اللاحقة بالاتساق بين تصنيفه الخاص (على الأقل ذلك القسم من التصنيف الذي يُعني بالأنظمة الديمقراطية) والتصنيف القائم على عدد الأحزاب: (بعض أنظمة الأحزاب تكتِّل المصالح بفعالية أفضل من غيرها). إن عدد الأحزاب عامل هام. فأنظمة الحزبين المسؤولة أمام قاعدة انتخابية واسعة تضطر عادة إلى اعتماد سياسات تكتيلية للمصالح. من ناحية ثانية، (إن وجود عدد كبير من الأحزاب الصغيرة إلى حد ما يزيد من احتمالات اقتصار كل حزب على نقل مصالح ثقافة فرعية خاصة أو زبائن مخصوصين مع الحد الأدنى من التكتيل). أنظمة الحزبين ليست أفضل تكتيلاً للمصالح فحسب بل هي تساهم في صيانة فعالة للحدود. ومن المرغوب فيه، وفقاً لألموند، أن تكون الهيكليات التكتيلية متمايزة عن الهيكليات التي تصنع القرارات وتلك التي تعبر عن المصالح، كما أن نظام الحزبين التنافسي ربما كان الأقدر على تأمين هذا التمايز وصيانته. إن التكتيل الفعال للمصالح والصيانة الجيدة للحدود يرتبطان مباشرة بالاستقرار الديمقراطي، وكلاهما من سمات النمط الأنكلو- أميركي من الديمقراطية.
حالات شاذة
تصنيف ألموند ثري نظرياً، حسن التكامل، وجيد الصياغة، إلا أنه يشكو من عيب أساسي واحد، وهو أنه لا يعالج حالة الديمقراطيات الأوروبية الصغرى معالجةً مُرْضية. ففي المقالة التي يطرح فيها النمطين الأنكلو- أميركي والأوروبي القاري مع خصائصهما المميزة، تُستثنى البلدان الاسكندينافية والبلدان الواطئة (النيذرلاندز) تخصيصاً من فئة الأنظمة السياسية الأوروبية القارية، كما تغفل النمسا وسويسرا إغفالاً تاماً. وهو يقيم للبلدان الاسكندينافية والبلدان الواطئة فئةً منفصلةً لا يُقْدمُ على بلورة تفاصيلها. بل إن ألموند يكتفي بالقول إن هذه الأنظمة السياسية (تمزج بعض سمات الأنظمة الأوروبية القارية والأنكلو- أميركية)، وإنها (تقف في مكان ما بين النمط الأوروبي القاري والنمط الأنكلو- أميركي)، ويحدد ألموند في كتاباته اللاحقة -بمزيد من التفصيل- الجوانب التي يختلف فيها هذا النمط عن النمطين الآخرين. فهو يميز -معتمداً لغة التصنيف بحسب عدد الأحزاب- بين نظامي الأزمة أو الجمود المتعدد الأحزاب في فرنسا وإيطاليا والأنظمة المتعددة الأحزاب العاملة في البلدان الاسكندينافية والبلدان الواطئة. فثمة في الأواخر بعض الأحزاب، على الأقل، التي تتصف بصفة التكتيل كالأحزاب الاشتراكية الاسكندينافية، والأحزاب الاشتراكية البلجيكية والكاثوليكية. وهذا المعيار ليس مرضياً تماماً، لأنه لا ينطبق بوضوح على الأحزاب الهولندية، بينما لا يلائم الحزب المسيحي الديمقراطي الإيطالي.
المعيار الثاني لتمييز نظام الأحزاب المتعددة العامل/ الفعال عن نظام الجمود أقرب إلى الإرضاء، على الأقل بالنسبة إلى البلدان الاسكندينافية: (فثقافتها السياسية أكثر تجانساً وصهراً للعناصر العلمانية والتقليدية). وبالفعل، فإن البلدان الاسكندينافية لا تختلف كثيراً عن النمط الأنكلو- أميركي في هذا المجال. ففي كتاب (The Civic Culture )، يذكر ألموند وفيربا البلدان الاسكندينافية إلى جانب إنكلترا وبلدان الكومنولث القديم، والولايات المتحدة الأميركية باعتبارها تمتلك (ثقافات سياسية متجانسة).
ولكن الثقافة السياسية المتجانسة ليست من خصائص أنظمة الأحزاب المتعددة العاملة في سويسرا والبلدان الواطئة ولا نظام الحزبين النمساوي. وعلى وجه التخصيص، فإن الحزب الكاثوليكي، والاشتراكي، والعائلات الروحية الليبرالية في بلجيكا ولوكسمبورغ، والحزب الكاثوليكي، والكالفيني، والاشتراكي، والأعمدة (المجموعات العمودية) الليبرالية في الأراضي الواطئة/ النيذرلاندز، والحزب الكاثوليكي، والاشتراكي، والليبرالي القومي في النمسا، إنما هي ثقافات فرعية مشابهة جداً للثقافات الفرعية المميزة لنمط ألموند الأوروبي القاري. وبالفعل، فإن هذه البلدان تتسم بثقافات سياسية أكثر تفتتاً من فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا أيام جمهورية فايمار، مقرونة بشبكة متينة من الجماعات المتداخلة ووسائل الإعلام داخل كل ثقافة فرعية ومرونة أقل وتداخل أقل في العضوية بين مختلف الثقافات الفرعية. ويؤكد تصنيف لوروين للديمقراطيات الغربية وفقاً لدرجة التعددية المقطّعة هذا الوصف: فالنمسا، وبلجيكا، ولوكسمبورغ، والأراضي الواطئة/ النيذرلاندز تقع في أعلى فئة من التقطيع, أما البلدان الأوروبية القارية (حسب تصنيف ألموند، أي فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا) إضافة إلى سويسرا والولايات المتحدة فتقع ضمن الفئة المتوسطة؛ كما أن بريطانيا، والجمهورية الإيرلندية، والدول الاسكندينافية، وفنلندا، وأيسلندا تنصف بدرجة متدنية من التعددية المقطّعة(15).
يجب أن نفسر الاستقرار السياسي في الديمقراطيات التوافقية اعتماداً على علاقتها بعامل إضافي هو تعاون زعماء الجماعات المختلفة الذي يتخطى الانقسامات القطاعية أو الثقافية الفرعية على مستوى الجماهير بدلاً من حشر علاقتها بمتغير تفسيري آخر هو الثقافة السياسية. ولهذا السبب كانت تجربة الديمقراطيات التوافقية الأوروبية على هذا القدر من الأهمية المعيارية بالنسبة إلى المجتمعات التعددية في العالم الثالث: فهي ديمقراطيات مستقرة لا لأن مجتمعاتها تعددية بصورة ملطّفة، بل على الرغم من الانقسامات القطاعية العميقة في مجتمعاتها.
المجتمعات التعددية والديمقراطية في العالم الثالث
يعاني الكثير من الدول النامية -ولاسيما الآسيوية والأفريقية منها، وأيضاً الأميركية الجنوبية، كغويانا، وسورينام، وترينيداد- من مشاكل سياسية ناجمة عن الانقسامات العميقة بين قطاعات من سكانها وغياب الإجماع الموحِّد لها. وتتعامل الأدبيات النظرية حول التنمية السياسية، وبناء الأمة، والتحول الديمقراطي في الدول الجديدة مع هذا الواقع بطريقة ملتبسة لافتة. فمن جهة، يرفض كثير من الكتاب ضمناً الاعتراف بأهميتها. ويذهب واكر كونور إلى أن معظم المنظرين البارزين لبناء الأمة قد (مالوا إلى التقليل من شأن المشاكل المتعلقة بالتنوع العرقي، إن لم يتجاهلوا هذه المشاكل أصلاً)(16). ومن جهة ثانية، فإن المؤلفين الذين يعالجون المسألة معالجة جادة يميلون إلى إيلائها أهمية غالبة. من ذلك، أنها تشكل المشكلة الأولى إطلاقاً لمتلازمة لوسيان باي (Pye) المشهورة المتكونة من سبع عشرة سمة تسم مجتمعةً العملية السياسية غير الغربية. ويذكر باي أن المجال السياسي ليس منفصلاً بوضوح عن المجال الاجتماعي والعلاقات الشخصية في المجتمعات غير الغربية: (إن الإطار الأساسي للسياسة غير الغربية هو الإطار الطائفي، ويتلوَّن السلوك السياسي كله تلويناً واضحاً باعتبارات ذات علاقة بالانتماء الطائفي)(17).
وهذه الانتماءات الطائفية هي ما يطلق عليه كليفورد غيرتز (الولاءات الأوليـة)، التي ربما كانت تستند إلى اللغـة، أو الدين، أو العرف، أو المنطقة، أو العرق، أو الروابط الدموية المفترضة(18). فالثقافات الفرعية للديمقراطيات التوافقية الأوروبية، التي هي دينية وإيديولوجية في طبيعتها، والتي تنضاف إليها في اثنين من هذه البلدان الانقسامات اللغوية، ربما اعتبرت جماعات أولية، إذا ما كان المرء مستعداً لاعتبار الإيديولوجية نوعاً من الدين. وسوف نشير هنا إلى كافة هذه المجتمعات، الغربية وغير الغربية، بأنها مجتمعات تعددية. ويقارب تعريف هذا اللفظ، الذي قدمناه في موضع سابق من هذا الفصل، المعنى الذي استعمله فيه ج. س. فرنيفال. ومن الجدير بالملاحظة أن الإطارين النظريين لكل من ألموند وفرنيفال (Furnivall) يشتملان صراحةً على الاختلافات الثقافية باعتبارها من سمات المجتمعات التعددية: (كل جماعة تتمسك بديانتها، وثقافتها، ولغتها، وأفكارها، وطرائقها). وهو يعرف المجتمع التعددي بأنه المجتمع الذي تعيش ضمنه (مختلف قطاعات المجتمع جنباً إلى جنب، ولكن بانفصال، داخل الوحدة السياسية الواحدة). وهذا المفهوم أضيق نوعاً ما من مفهوم غيرتز لأنه لا يتضمن التمايزات الإقليمية. أما مجتمع فرنيفال التعددي فهو مجتمع فيه اختلاط جغرافي واجتناب اجتماعي متبادل: (إنه بالمعنى الأدق خليط من (الشعوب)؛ لأنهم يتخالطون ولكن من دون تداخل وتضام (اندماج))(19). وسوف نعتمد التعريف الأوسع هنا؛ لأنه يناسب أغراض هذه الدراسة في المقارنة العامة، على الرغم من الانتقاد المتواتر بأن مفهوم المجتمع التعددي مفهوم واسع جداً ويتضمن الكثير(20). ولا بد -في الوقت نفسه- من التنبّه إلى الفروق النوعية والكمية داخل فئة المجتمعات التعددية الواسعة: فهناك فوارق بين مختلف أنواع الانقسامات القطاعية وفوارق في درجة كون المجتمع تعددياً.
السمة البارزة الثانية من سمات السياسة غير الغربية هي انهيار الديمقراطية. فبعد التفاؤل الأولي في الآفاق الديمقراطية للبلدان الحديثة الاستقلال، والمستند في معظمه إلى الطموحات الديمقراطية التي أعرب عنها قادتها السياسيون، حلّ مزاج من الخيبة. وثمة -في رأي العديد من المراقبين- صلة مباشرة بين السمتين الأساسيتين للسياسة غير الغربية: المجتمع التعددي عاجز عن الحفاظ على الحكم الديمقراطي. وقد كانت هذه العلاقة مضمرة أصلاً في أعمال فرنيفال. فهو قد طبق مفهوم المجتمع التعددي على المستعمرات وحجّته أن وحدتها إنما كانت تصان بالوسائل غير الديمقراطية التي تعتمدها السيطرة الاستعمارية. وهذا ينسجم مع تقويم جون ستيوارت ميل المتشائم لفرص الديمقراطية البرلمانية التمثيلية في المجتمعات التعددية: (المؤسسات الحرة تقارب المحال في بلد متكون من قوميات مختلفة. إذ لا يمكن للرأي العام الموحد الضروري لعمل الحكم البرلماني أن يوجد في صفوف أناس لا تربطهم رابطة من شعور الزمالة، ولاسيما إذا كانوا يقرأون وينطقون بلغات مختلفة)(21).
وترد هذه القضية في الصيغة الأبعد عن الالتباس عند م. ج. سميث. فسيطرة أحد قطاعات المجتمع جزءٌ من تعريفه للمجتمع التعددي. ولكن الأمر لا يقتصر على التعريف. ففي نظر سميث، تستجرُّ التعددية صيانة النظام السياسي بالسيطرة والقوة: (إن التنوع الثقافي أو التعددية يفرض آلياً في هيكلية الدولة ضرورة سيطرة أحد القطاعات الثقافية. وهو يستلزم التنظيم غير الديمقراطي لعلاقات الجماعات). وينطوي هذا المفهوم، تضميناً، على تصنيف ثنائي يشابه تصنيف ألموند للأنظمة السياسية الأوروبية مشابهة وثيقة؛ إذ يتكون صنف من (مجتمعات مندمجة تتسم بإجماع الرأي والتجانس الثقافي), ويتكوّن الصنف الثاني من (مجتمعات منظمة تتسم بافتراق الرأي والتعدد الثقافي). ويستلزم هذا أن يكون التجانس شرطاً مسبقاً للحكم الديمقراطي، ويحتوي على التنبؤ الملموس بأن (دولاً كثيرة حديثة الاستقلال معرّضة للتفكك إلى عدة قطاعات ثقافية منفصلة، أو للمحافظة على هويتها، ولكن في ظل ظروف من السيطرة والإخضاع في العلاقات بين الجماعات)(22).
ولهذه الأفكار أيضاً مكانة مرموقة في أدبيات التنمية السياسية. إن مفهوم التنمية السياسية مفهوم عديم الشكل إجمالاً وقد نسبت إليه تشكيلة من التعريفات، ولكنه احتوى عادة (حتى حلول المزاج المتشائم بالديمقراطية على الأقل) على بعدي التحول الديمقراطي والاندماج الوطني أو بناء الوطن بالإضافة إلى تطوير وظائف متمايزة وهيكليات متخصصة فعالة. ولا بد من ذكر ثلاثة أوجه هامة في مفهوم التنمية السياسية. ففي المقام الأول، يعتبر عادة أن التحول الديمقراطي وسواه من أبعاد التنمية تابع للاندماج الوطني. من ذلك أن باي ( Pye) يذهب إلى أن التنمية السياسية لا يمكن أن تتقدم كثيراً على وجه الإجمال من دون إحساس بالتماهي مع النظام الكلي. إن أهمية الاندماج الوطني في عملية التنمية تؤدي أحياناً إلى المعادلة التامة بين المفهومين: فالتنمية السياسية هي بناء الأمة. ثانياً، والنصيحة الخاصة بوضع السياسات المترتبة على هذه القضية هي أن بناء الأمة ينبغي أن يولى الأولوية وأن يكون المهمة الأولى المتوجبة على زعماء الدول النامية. ثالثاً، النظرة المعتادة هي أن يناء الأمة يستتبع استئصال الولاءات الأولية الأدنى من الأمة والاستعاضة عنها بولاء للأمة. ويذهب ليونارد بايندر إلى أن (الاندماج الوطني يستلزم خلق إجماع ثقافي - إيديولوجي على درجة من الشمول لم يشاهد مثلها في هذه البلدان (النامية))(23). وهذا ما ينطوي عليه تضميناً قول صموئيل ب. هنتينغتون بأن التحديث السياسي يعني الاندماج الوطني وأنه يستلزم (الاستعاضة عن عدد كبير من السلطات السياسية التقليدية، والدينية، والعائلية، والعرقية بسلطة سياسية وطنية علمانية واحدة)(24).
ومن المقاربات البديلة لدراسة التنمية السياسية إطار المركز - الأطراف، غير أن هذه المقاربة لا توفر تفسيراً بديلاً لعملية بناء الأمة. والإسهام التجديدي الذي تقدمه هو تركيزها على الدور الجوهري للنُخب. ففي الصياغة المرجعية لمقارنة المركز - الأطراف التي طرحها إدوارد شيلز (Shils )، يعتبر المركز ذلك الجزء من المجتمع (الذي يمتلك السلطة)، والأطراف هي (الأرياف التي تمارس عليها السلطة). والمركز هو أيضاً (ظاهرة من عالم القيم والاعتقادات). ومنظومة القيم المركزية هذه إنما هي مركزية، وفقاً لتعريف دائري؛ لأن (السلطات الحاكمة في المجتمع تعتنقها). منظومة القيم في المركز هي موضع إجماع، ولكن التعلق بها يضعف في الأطراف - التي ربما كانت غير متجانسة ومنقسمة من حيث قيمها. وما يترتب على هذا النموذج بالنسبة إلى المجتمعات التعددية هو وجوب بسط سيطرة مركز مؤلف من أحد قطاعات المجتمع أو -بدلاً من ذلك- خلق إجماع وطني بمعنى (إدماج جماهير الشعب في المؤسسات ومنظومات القيم المركزية)(25). وهذه النتائج تُماهي نتائج نظريات أخرى في التنمية السياسية.
من ناحية ثانية، إذا لم تكن هذه النتائج من تضمينات هذه النظرية فإن سلسلة من الأسئلة المربكة ستنشأ بالنسبة إلى تطبيق إطار المركز - الأطراف على المجتمعات التعددية. ففي مؤتمر اليونسكو سنة (1970م) حول بناء الأمة، وافق المشاركون على أن هذه المقاربة مفيدة كأداة وصفية وكشّافة غير أنهم انتقدوا افتقارها إلى الوضوح في التعامل مع المجتمعات المنقسمة إقليمياً وثقافياً. وقد أوجز المقرِّر هذه النقاط بما يلي:
ما هي التضمينات الإقليمية لهذا النموذج؟ فإذا كان (المركز) مفهوماً إقليمياً، فهل يوجد مركز واحد أم من الممكن أن يوجد أكثر من مركز؟ ما هي درجة التجانس الاجتماعي والثقافي المطلوبة لقبول (المركز) كموقع شرعي للسلطة والولاء؟ فبقدر ما لا يكون هذا التجانس قائماً أو بقدر ما تنهض مقاومة للمركز المسيطر في المراكز الإقليمية (المناطقية) التي يمكن أن تنظر إلى ذواتها باعتبارها مراكز منافسة أو (مراكز مضادة)، هل يجب الاستمرار في اعتبار الأول (مركزاً)؟(26).
إن هذه الأسئلة إذا ما تركت فعلاً بلا إجابة من قبل مقاربة المركز - الأطراف، فلا بد من اعتبار هذه المقاربة غير ذات صلة بدراسة المجتمعات التعددية. غير أن ما يوضحه شيلز إيضاحاً لا لبس فيه هو أن مفهومه عن المركز يستبعد أي نوع من التحالف النخبوي البراغماتي. فمنظومة القيم المركزية لا تحتاج إلى أن تكون موضع إجماع كامل ونقي، كما أن الطبقة الحاكمة قد تكون (قطاعية نسبياً)، ولكن ثمة دائماً إحساس بالتناسب يستند إلى (علاقة مشتركة بمنظومة القيم المركزية) التي توحد مختلف القطاعات، لا مجرد (إدراك المصلحة التلاحمية). لذلك كان من غير الممكن الإجابة عن الأسئلة السابقة بواسطة التفسير التوافقي.
التباينات المبالغ فيها بين العالمين: الأول والثالث
الخطأ الأساسي الذي يرتكب في الكثير من الأدبيات النظرية حول التنمية السياسية هو المبالغة في درجة التجانس في الدول الديمقراطية الغربية. فالتنمية ينظر إليها إجمالاً باعتبارها التحرك من الوضع الحالي للدول غير الغربية أو وضعها عند الاستقلال نحو هدف مرغوب أو ممكن. وهذا الهدف هو النموذج المثالي لمجتمع غربي متجانس إلى درجة عالية. كان فرنيفال قد التزم في تحليله للمجتمعات التعددية بمثل هذه القسمة الثنائية للمجتمعات إلى غربية وغير غربية. ففي دراسته المبكرة للمستعمرات الهولندية في أمريكا الجنوبية، صرح بأن التعددية في المجتمع لا تقتصر على المناطق المدارية وضرب أمثلة من الانقسام العنصري في الولايات المتحدة، والثقافي في كندا، والديني في إيرلندا. ولكنه في أعماله المتأخرة رسم تقابلاً (حاداً ببين المجتمع التعددي في المستعمرات المدارية والمجتمع الموحد الذي يعتبره الغربيون أمراً مفروغاً منه)(27). غير أن نموذج فرنيفال (للدول الغربية السوية المتجانسة) لا ينطبق على المجتمعات الغربية بعامة. وهو يقارب نموذج ألموند الأنكلو- أميركي أو -وعلى وجه أخص- صيغة مثالية للمجتمع البريطاني. وينتقد جايمس س. كولمن المنظور المعتاد للتنمية السياسية الذي يفترض مسبقاً أن غاية ما تتوصل إليه التنمية سيكون تنظيماً سياسياً (حديثاً). وهو يرى أن هذا المنظور ينمّ عن (انحياز معياري استعراقي غربي ضيق الأفق)(28). إن موطن الضعف الأبلغ في هذا المنظور هو أنه لا ينم فعلياً عن انحياز غربي ضيق الأفق فحسب، بل عن انحياز بريطاني ضيق الأفق أيضاً.
أما تصور ألموند للتنمية السياسية، المقرون بتصنيفه الثنائي للديمقراطيات الغربية فيمكِّنه من اجتناب هذا الخطأ. فهو ينص على أن مستوى التنمية السياسية ينبغي أن يقاس بدرجة تمايز الأدوار، والاستقلال الذاتي للأنظمة الفرعية، والعلمنة(29). فهذه خصائص هيكلية الأدوار والثقافة السياسية، وهي فعلياً المفاهيم ذاتها المستعملة في تعريف صنفي الديمقراطيات الغربية. فالنموذج الأوروبي القاري المتصف بالثقافة السياسية المفتتة (أي غير المتجانسة والعلمانية) وبالاستقلال الذاتي المتدني الذي تتمتع به الأنظمة الفرعية فيه، ينبغي أن يعدَّ متخلفاً نسبياً إذا ما قيس بالنموذج الأنكلو-أميركي.
ويتفق فرنيفال والكتاب اللاحقون مع حجة ألموند المتعلقة بالعواقب السياسية للتجانس الثقافي أو التعددية غير أنهم يتجاهلون كون العديد من المجتمعات الغربية، أي الأنظمة الأوربية القارية عند ألموند، تنتمي إلى النمط التعددي. وقد لفت مراقب واحد على الأقل بقوة إلى هذه الخطأ. إذ يعترض ألفرد ديامانت على تقسيم باي للتنظيمات السياسية إلى نمطين غربي وغير غربي: فهناك عدة سمات من السمات التي يستعملها باي في وصف السياسات غير الغربية يمكن، على ما يرى ديامانت، (أن تستعمل من دون تغيير في وصف السياسات النمساوية في فترة ما بين الحربين). ويرى ديامانت، بصورة أعم، أن النمط الغربي المثالي المستند أساساً إلى السياسات البريطانية الإجماعية ينبغي أن يُطرَح: (ففي وسع المرء أن يستمد هذا النمط المثالي بنجاح أكبر من المفهوم الذي أطلق عليه ألموند اسم النظام السياسي القاري مع ثقافاته الفرعية المتعددة. فالأنظمة السياسية غير الغربية قد تصبح أقرب إلى الفهم وأقل بعداً إذا ما استعملنا هذا النمط القاري المستند إلى مجتمع متعدد الأعراق (متعدد القوميات)، والمفتقر إلى الإجماع القوي)(30). غير أن تحذير ديامانت ذهب إلى حد بعيد من دون أن يُلتفت إليه.
الخطأ الثاني الخطير الشأن الذي استمر منظرو التنمية السياسية في ارتكابه هو تجاهل كون العديد من المجتمعات التعددية في أوروبا قد توصلت إلى ديمقراطية مستقرة من خلال طرائق توافقية. يذهب فرنيفال إلى أن التجربة الغربية لا توفر نموذجاً معيارياً للمجتمعات التعددية، التي (تستدعي مشكلتها تقنية مناسبة خارج إطار العلم السياسي في الغرب. فالمشكلة الأساسية لعلم السياسة التطبيقي في الغرب، تكمن في معرفة أفضل الطرق للتأكد من الإرادة الاجتماعية العامة ومنحها مجال التنفيذ العملي). وهو لا يعتقد بأن اعتماد أشكال جديدة للحكم سوف يحقق الديمقراطية ويصونها، ويرفض تحديداً أمثال هذه الطريقة التوافقية كأداة للتمثيل الشعبي لأنها (تميل إلى إضعاف الإرادة الاجتماعية ولا تقويها، وتعمل على خلق الانقسام الفئوي وليس الوحدة الاجتماعية). وتقوده هذه النظرة المتشائمة بالضرورة إلى الاستنتاج، الذي ما يزال سائداً في أدبيات التنمية السياسية، بأن صُنْع الإجماع الوطني ليس شرطاً مسبقاً للديمقراطية فحسب بل هو المهمة الأولى التي يجب على الزعماء السياسيين غير الغربيين أن ينهضوا بها، إذ لا يكفي الاقتصار على إنشاء آلية جديدة؛ بل لا بد أولاً من تغيير المجتمع. إن وظائف الحكم هي خلق الإرادة الاجتماعية المشتركة كأساس للحكم الذي يمثل الشعب ككل. إن تغيير المجتمع شرط مسبق للتغييرات في شكل الحكم(31).
وتشكل هذه النصيحة الخطأ الفادح الثالث في المقاربة السائدة لمسألة التنمية السياسية، وهي الخطأ المفضي إلى أخطر العواقب العملية. فمع أن الاستعاضة عن الولاءات القطاعية بالولاء للأمة تبدو جواباً منطقياً للمشكلة التي يطرحها المجتمع التعددي، فإن محاولة تطبيقها أمر في غاية الخطورة. ذلك لأن الولاءات الأولية لما كانت شديدة الصلابة، فمن المستبعد أن تنجح أية محاولة لاستئصالها، لا بُدَّ أنّ من شأن محاولة كهذه أن تؤدي إلى نتائج عكسية وربما نشطت التماسك القطاعي الداخلي والعنف بين القطاعات بدلاً من التماسك الوطني(32). إن البديل التوافقي يتحاشى هذا الخطر ويقدِّم طريقة واعدة أكثر لتحقيق الديمقراطية المقرونة بقدر كبير من الوحدة السياسية.